في ليلة من ليالي بيروت الممطرة جلس سليم أفندي دعيبس أمام منضدة فوقها أكداس من الكتب العتيقة، والأوراق المنثورة يقلب الأسفار، ويرفع رأسه بين الآونة، والأخرى مخرجا من بين شفتيه الغليظتين سحابة من دخان التبغ، وقد كان بين يديه إذ ذاك رسالة فلسفية أوحاها سقراط لتلميذه أفلاطون في «معرفة الذات».
كان سليم أفندي يتبصر آيات تلك الرسالة النفيسة مستحضرا إلى حافظته ما قاله الفلاسفة والمرشدون في موضوعها، حتى لم يبق شاردة لمفكر غربي إلا ولازمت فكرته، ولا واردة لمعلم شرقي إلا ولاحمت ذاكرته، حتى إذا ما غرقت ذاته في موضوع معرفة الذات نهض فجأة، ومد ذراعيه، وصرخ بأعلى صوته قائلا: «نعم، نعم إن معرفة الذات هي أم كل معرفة، أما أنا فعلي أن أعرف ذاتي، وأعرفها تماما، وأعرفها بتفاصيلهان ومعالمها، ودقائقها، وذراتها، علي أن أزيل النقاب عن أسرار نفسي، وأمحو الالتباس عن مكامن قلبي، بل علي أن أبين معاني كياني المعنوي لكياني الهيولي، وخفايا وجودي الهيولي لوجودي المعنوي».
قال هذا بحماسة غريبة، وفي عينيه تتقد شعلة «محبة المعرفة» معرفة الذات، ثم دخل إلى غرفة محاذية، وانتصب كالتمثال أمام مرآة كبيرة تصل أرض الغرفة بسقفها، ونظر محدقا بشبحه متفرسا وجهه، متأملا بشكل رأسه، وخطوط قامته، وإجمال هيأته.
ظل واقفا جامدا على هذه الحالة نصف ساعة، كأن الفكرة الأزلية قد أنزلت عليه أفكارا هائلة بسموها تجعله بواسطتها أن يكتشف بواطن روحه، ويملأ النور خلايا ذاته، ثم فتح شفتيه بهدوء، وقال مخاطبا نفسه: أنا قصير القامة وهكذا كان نابليون وفكتور هوغو.
أنا ضيق الجبهة وهكذا كان سقراط وسبينوزا.
أنا أصلع، وهكذا كان شكسبير.
أنفي كبير ومنحن إلى جهة واحدة، وهكذا كان سفنزوولا، وڨولتير، وجورج واشنطون.
في عيني سقم، وهكذا كان بولس الرسول، ونيتشة.
فمي غليظ، وشفتي السفلى ناتئة، وهكذا كان شيشرون، ولويس الرابع عشر.
عنقي غليظ، وهكذا كان هنيبال، ومرقص أنطونيوس.
Page inconnue