وقد قال لي الطبيب بعد أن استأصل الضرس وتفحصه جيدا «لقد فعلت حسنا، فالعلة قد تحكمت بأصول ضرسك هذا حتى لم يبق رجاء بشفائه».
وقد نمت مرتاحا في تلك الليلة، ولم أزل في راحة، والحمد للخلع، والاستئصال، في فم الجامعة البشرية أضراس مسوسة، وقد نخرتها العلة حتى بلغت عظم الفك، غير أن الجامعة البشرية لا تستأصلها؛ لترتاح من أوجاعها؛ بل تكتفي بتمريضها، وتنظيف خارجها، وملء ثقوبها بالذهب اللماع.
وما أكثر الأطباء الذين يداون أضراس الإنسانية بالطلاء الجميل، والمواد البراقة، وما أكثر المرضاء الذين يستسلمون إلى مشيئة أولئك الأطباء المصلحين، فيتوجعون، ثم يموتون بعلتهم مخدوعين.
غير أن الأمة التي تعتل، ثم تموت لا تبعث ثانية لتظهر للملأ أسباب الأمراض المعنوية وماهية الأدواء الاجتماعية التي تؤول بالأمم إلى الانقراض والعدم. •••
وفي فم الأمة السورية أضراس بالية سوداء قذرة ذات رائحة كريهة، وقد حاول أطباؤنا تطهيرها، وحشوها بالمينا، وإلباس خارجها رقوق الذهب، ولكنها لا تشفى، ولن تشفى بغير الاستئصال، والأمة التي تكون أضراسها معتلة تكون معدتها ضعيفة، وكم أمة ذهبت شهيدة عسر الهضم.
ومن شاء أن يرى أضراس سورية المسوسة، فليذهب إلى المدرسة حيث يستظهر رجال الغد ما قاله الأخفش نقلا عن سيبويه، وسيبويه عن سائق الأظعان.
أو فليذهب إلى المحكمة حيث يتلاعب الذكاء البهلواني بالقضايا الشرعية، مثلما تلعب القطة بصيدها.
أو فليذهب إلى منازل الموسرين حيث التصنع، والكذب، والرياء.
أو فليذهب إلى بيوت الفقراء حيث الخوف، والجبانة، والجهالة.
وبعد ذلك فليذهب إلى أطباء الأسنان ذوي الأسنان، ذوي الأصابع الناعمة، والآلات الدقيقة، والمساحيق المخدرة، الذين يصرفون الأيام بإملاء ثقوب الأضراس المسوسة، وتطهير زواياها المعتلة، وإذا أراد محادثتهم والانتفاع بمواهبهم فهم النبهاء، الفصحاء، البلغاء الذين يؤلفون الجمعيات، ويعقدون المؤتمرات، ويخطبون في النوادي والساحات، ففي حديثهم نغمة أسمى من أناشيد حجر الرحى، وأنبل من أغاني الضفادع في ليالي تموز.
Page inconnue