كان صعبا تماما أن يقولها، أو يتلفظ بها، ولكن الموت أمامه ويا روح ما بعدك روح، حاول أن يستجمع رجولته ويشخط أو يزأر أو حتى يسكت، ولو جزت الشرشرة رقبته، ولكن إرادته التي كانت قد تفتت منذ موقفه المتردد الأول، وتتابع تردداته، أبت أن تتجمع أو تقاوم أو حتى تأخذ قرارا بالمقاومة. وأشد ما أذهله أنه لم يقلها بتسليم أو خضوع للأمر الواقع، ولكنه قالها وكأنه يتنفس الصعداء راحة: أنا مرة.
وتهدجت صدور الجماعة الملتفة، وكأن السماء انطبقت على الأرض، أو كأن الأسد قد تحول أمام أعينهم إلى لبؤة، تهدج وأصوات همهمت قطعها أحمد الطحان بجبروت المنتصر قائلا: تفوه عليك.
وبصق الطحان في وجه السلطان، ثم بقفزة كان قد أصبح خارج الدائرة شاهرا شرشرته، مثيرا الرعب، وكان قد ولى الأدبار، بحيث حين أفاق الجميع لم يجدوا له أثرا، لا في بيته، ولا في بيت عمه، ولا في الحقول، ولا في الأرض، ولا في السماء.
11
وصحيح أن الشرشرة لم تجز رقبة السلطان، ولكنها كانت قد فصلت كبرياءه تماما عن جسده. وغادر القرية ولم يعد لها أبدا، حتى والموكب وقد صغر كثيرا يودعه، كانت جماعته تقول أشياء لا تقولها نطقا، أو حتى همسة إشاعة، وإنما تقولها بيديها، بتبادل نظراتها بالعيون التي لا تطرف أو ترتعش مطرقة كلما واجهت عينيه، إنها عيون الند للند، وكلمات الوداع الهشة التي ما كانت تقال إلا جبرا للخاطر.
الموت كان أرحم لهؤلاء الذين يفعلون مثله ويتصدون للزعامة والسطوة، يصبح الخيار بين الموت وهتك العرض، إذا كان لا بد من خيار، فالموت ولا شيء سواه يكون الخيار.
يأتيها من تلك الزاوية أو هذه، لم يجز شعر رأسه، ويصير أسدا أقرع له رأس اللبؤة، وإنما لم يعد ثمة ضرورة للكبرياء، أو حتى الكرامة، سيد الرجال قالها، وأعلن أنه امرأة، حتى لو كان إعلانه إنقاذا للحياة، فهو إعلان قد تم وحدث، غيره يموتون فعلا من أجل مواقف أقل، غيره ممن لا يزعمون أنهم أسياد رجال أو أصحاب سطوة أو زعماء، أناس عاديون يقتل الواحد فيهم أو يقتل بسبب أقل، يقتل أو يقتل ولا ينطقها.
تحييه - ذلك الإنسان - كلمة، وتميته كلمة، وإرادته هي الأخرى تصلبها كلمة وترخيها كلمة، ولا تتراخى الإرادة مرة، إنما إذا هي بدأت الطريق إلى التراخي لا تتوقف، فكل تراخ يقود إلى تراخ أكبر، حتى لتضيق نفسه مرة ويجد أنه يقول: لا بد أني لست بذلك الرجل الذي كنته، لا بد كان في
ما العيب أن يكون الإنسان طحانا؟
وفعلا يحس، حتى بجسده قد بدأ يتغير، حريص ألا يكشفه أمام أولاده الشباب الكبار، حتى لاحظ أن شعر ساقيه وصدره قد بدأ يقل، وينمحي تماما من أجزاء، ويحس كلما نظر إليه شاب وأطال النظر، أنه يرى فيه ما يخجل، فيخجل خجلا ليس مثلما كان يخجل حين كان السلطان، ولكنه خجل الخجلان من نفسه فعلا، الخائف على نفسه من الآخرين فعلا، الموشك أن يخفي كل قطعة من لحمه أو عضلاته كأنما ستفضح خجله، أو تفضح أنه لم يعد أبدا ذلك الرجل الذي كانه.
Page inconnue