ويظل أياما وأياما «يختن»، وكلما اعتلى الشجرة ثم هبط عنها، وارتكن بجذعه إلى جذعها، كنت من بعيد أرقب شفتيه، وهي بشيء كالأغنية تترنم، ومزهوا يمشي إلى الترعة، حيث يغسل يديه ومطواته، ويصعد مرة أخرى إلى المصلى المفروش بقش الأرز، لا ليصلي، وإنما لينام وملء وجهه تلك الابتسامة الغامضة التي لا أدري لها سببا. وأتساءل وأنا من بعيد أرقبه: أهذا هو عمنا «الهادي» الذي يرعبنا دائما حضوره وبتكشيرته يجعلنا، دون أن يأمر أو يكشر، عن لعبنا أو صراخنا نتوقف.
ولكن الغريب أن فرع عمنا مات من تلقاء نفسه، بينما فرعنا إلى الآن لا يزال حيا. صحيح لم يعد يثمر ما يؤكل، فلم يعد أبي يقوى على طلوع الجميزة، وأولاده أصبحوا موظفين في البندر، ولكني ما زلت أذكر كيف مات فرع العم. شيئا فشيئا بدأنا وقد كبرنا نلحظ أن كثيرا من أغصانه تذبل والأوراق العريضة في الأفرع الحية تضمر، ثم يموت الغصن، وقد ماتت أوراقه، ثم إذا بالفرع كله يئوب إلى جفاف رغم أن ابنه طالب الزراعة فعل المستحيل، ورجع إلى مراجع، وناقش الأساتذة، ولكن الفرع يظل سادرا في ضموره وجفافه رغم استماتة ابن عمي في علاجه، ذلك أنه كان يعتبره شيئا من رائحة أبيه، عمنا الهادي، ذلك الذي كان قد مات. مات في ذلك العام الذي بلغ فيه فرعه منتهى ازدهاره، وثمره، حتى لقد شبعنا جميعا من ثمره، وباع عمنا منه عشرة أقفاص، حلاوة الثمرة منها تسكر.
في نهاية ذلك العام بالضبط مات عمي، وحين جاء العام التالي وجاء الربيع لم يحدث ما كان دائما يحدث، فلا الأغصان ازدهرت كما تعودت أن تفعل، ولا ثقل فرع عمي المرحوم بالثمر، وإنما الذبول والجفاف وتوقف الحياة، وفي العام الثالث مات الفرع مع أن الجميز عمره طويل جدا، وبالكاد لا يموت شجره. والحق أن منظره وهو جاف هكذا ميتا قد تحنطت أوراقه التي كانت ذات يوم ملعلعة الخضرة، كان يصيبنا باللوعة، ويصيب أبانا بالتعصب، وهو - الذي لم يبك عمي كثيرا حين مات - كان حين يرى الفرع يتمتم لا حول ولا قوة إلا بالله، وتحمر عيناه، وتهدد دموعه بالانبثاق.
وكانت مناحة من أولاده ومنا يوم قرروا بيع الفرع خشبا، ووقفنا جميعا نرى المنشار الضخم الغليظ وهو يقطع الفرع بكل حمله من أغصان ميتة.
وبقي فرعنا لم يمت، ضامر الأوراق، ضامر الثمر، حتى بعناه لأولاد عمنا الذين احترفوا مهنة الزراعة.
وفوجئنا ذات صيف أن فرعنا الواهن شبه الميت ذاك قد دبت الحياة في أوراقه وفروعه وثماره، وزالت دهشتنا حين وجدنا ابن عمنا محمد الذي سمي على اسم أبي، ولكنه ورث خصال أبيه، وقد كادت أوراق الجميزة تحجبه عنا، ولكن عيني أبدا لم يفتهما أن تلاحظا أنه كان تماما مثل أبيه قد خلع جلبابه «وشمر» سرواله الطويل، وحفل وجهه بسعادة، وهو برقة يمسك الثمرة الخضراء، ويعرف من أين بالضبط يختنها. وفي لمحة البرق وسرعة الساحر يمر بسيف مطواته قرن الغزال على مكان ختانها المضبوط، ثم يرنو إلى الجرح الباهر العميق الذي أحدثه، ويتأمل أعضاء تأنيثها الداخلية الحافلة بعذرية وبشحوب كشحوب البنات.
أبدا لم يفتني منظره، وفرعنا يستجيب له ويخضر ويمتد، ويمتلئ بعد هذا بالثمر الأحمر الناضج.
شجرة الجميز.
الرجل والنملة
بعيون فاغرة، رحنا نراقب الباب وهو بالعصبية الشديدة يفتح، والكتلة البشرية تدفع من خلاله لا نتبينها إلا حين فقط تستقر في ركن الزنزانة الفارغ، حتى السباب المعتاد الذي كان لا بد يصاحب الفتح والإغلاق والتكويم، من فرط الدهشة لم نتبينه، إذ قد حل الصمت لا تجرؤ على قطعه مخافة أن يجد جديد، وأن يكون وراء البداية ما وراءها.
Page inconnue