مقدمة
1 - العصور الذهبية الشهيرة في التاريخ
2 - تحديد عصر السريان الذهبي
3 - مدارس السريان ومشاهير جهابذتهم في العصر الذهبي
4 - مكانة بطريركية السريان وعدد أبرشياتها في العصر الذهبي
5 - انتشار عقيدة السريان في شتى الشعوب والأقطار
6 - السريان والفرس
7 - السريان والخلفاء المسلمون والنهضة العلمية العربية
8 - السريان وقياصرة الروم
9 - السريان وملوك الصليبيين
10 - السريان وملوك السلجوقيين والتتر
11 - السريان والملوك الأرتقيون وملوك الكرج
12 - بعض ذخائر السريان وكنوزهم الثمينة في العصر الذهبي
13 - أبنية السريان الأثرية
14 - بعض كنائس السريان الكبرى في عصرهم الذهبي
15 - الفنون الجميلة عند السريان
16 - فن الهندسة عند السريان
17 - فن الموسيقى عند السريان
18 - الخط السرياني
19 - قدامة المخطوطات السريانية ونفائسها المصورة والمزخرفة
20 - مكتبات السريان في عصرهم الذهبي
21 - أشهر المكتبات السريانية في الزمان الحاضر، وعلاقة بعضها بالعصر الذهبي
22 - الغسانيون والسريان في عصرهم الذهبي
الخاتمة
مقدمة
1 - العصور الذهبية الشهيرة في التاريخ
2 - تحديد عصر السريان الذهبي
3 - مدارس السريان ومشاهير جهابذتهم في العصر الذهبي
4 - مكانة بطريركية السريان وعدد أبرشياتها في العصر الذهبي
5 - انتشار عقيدة السريان في شتى الشعوب والأقطار
6 - السريان والفرس
7 - السريان والخلفاء المسلمون والنهضة العلمية العربية
8 - السريان وقياصرة الروم
9 - السريان وملوك الصليبيين
10 - السريان وملوك السلجوقيين والتتر
11 - السريان والملوك الأرتقيون وملوك الكرج
12 - بعض ذخائر السريان وكنوزهم الثمينة في العصر الذهبي
13 - أبنية السريان الأثرية
14 - بعض كنائس السريان الكبرى في عصرهم الذهبي
15 - الفنون الجميلة عند السريان
16 - فن الهندسة عند السريان
17 - فن الموسيقى عند السريان
18 - الخط السرياني
19 - قدامة المخطوطات السريانية ونفائسها المصورة والمزخرفة
20 - مكتبات السريان في عصرهم الذهبي
21 - أشهر المكتبات السريانية في الزمان الحاضر، وعلاقة بعضها بالعصر الذهبي
22 - الغسانيون والسريان في عصرهم الذهبي
الخاتمة
عصر السريان الذهبي
عصر السريان الذهبي
بحث علمي تاريخي أثري
تأليف
فيليب دي طرازي
مؤلف الكتاب.
مقدمة
عنوان كل أمة راقية مكانتها الأدبية ومعالم حضارتها وعمرانها، فمن الأمم القديمة التي يحق لها أن تفاخر سائر الأمم وتنافسها في تلك المزايا الفريدة، الأمة السريانية ذات الإحسان العميم على العلوم والآداب والفنون، وما الآثار التي خلفتها في تلك المناحي إلا برهان لامع على ما أسدته من المنن الجمة للعالم قاطبة في الأجيال الخالية، وكفاها شرفا استنباطها صناعة الكتابة وتلقينها لسائر الشعوب التي أصبحت مديونة لصنيعها العظيم. وغير خاف أن الفونيقيين الذين أحدثوا صناعة الكتابة ليسوا إلا فئة من الأمة الآرامية السريانية استوطنت السواحل اللبنانية وروجت أسواق التجارة في أنحاء العالم القديم؛ ذلك ما حمل أساطين المؤرخين أن يطلقوا على الأمة السريانية بكل حق وصواب لقب «أميرة الثقافة» و«أم الحضارة».
ففي تواريخ البشر القديمة والحديثة لا نجد عصرا كعصر اشتهر فيه السريان باستنباطاتهم وآثارهم وتصانيفهم ونقولهم الطبية والفلسفية والتاريخية في كلتا اللغتين السريانية واليونانية، ثم لقنوها العرب، وهؤلاء بدورهم ألقوها إلى الشعوب المجاورة التي استفادت وأفادت؛ فكان ذلك كله من جملة الدواعي إلى النهضة الثقافية المنتشرة الآن شرقا وغربا. هكذا يتضح اتضاحا جليا ما قام به السريان من الخدم الجلى، لا للحضارة فقط بل للعلم والإنسانية معا.
مر على الأمة السريانية عصور ذهبية تألق فيها سناء فضلها وضياء عزها؛ فرأيت أن ألتقط طرفا من أخبارها في تلك الحقب السعيدة وأدونها في كتاب ينقل إلى الخلف مآثر الجدود ومفاخر السلف. هكذا تسنى لي أن أجمع من التعليقات والقيود ما رأيت أن أفضي به إلى عشاق التاريخ والآثار القديمة بعد تمحيصها، والتعمق في درسها، والتعليق عليها؛ لعل ذلك الماضي المجيد يبعث في هذه الأمة روح اليقظة والنهضة، فتجدد غابرها المزدان بشتى المحاسن الخالدات. وبعملي هذا أضيف حلقة جديدة إلى سلسلة تآليف وضعتها في سبيل الأمة السريانية التي أتباهى بالانتساب إليها؛ عسى يصادف ذلك بعض الاستحسان لدى أهل البحث والعرفان.
الفصل الأول
العصور الذهبية الشهيرة في التاريخ
لكل أمة من الأمم العريقة عصر مجيد لمع فيه كوكب سعدها، وخفق عليه لواء حضارتها، وراجت فيه أسواق نهضتها الأدبية، فدعا الكتاب والمفكرون ذلك العصر باسم «العصر الذهبي» تعظيما لقدر رجاله، وتمييزا له عن سائر عصور تلك الأمة. وقد تخلدت ذكرى العصور الذهبية بأسماء الملوك الذين عاشوا فيها ورفعوا شأن أمتهم بين سائر الممالك والشعوب.
أما أشهر العصور الذي ذكرها الكتاب وتغنى بها الشعراء قديما وحديثا فهي: عصر بريكليس (499-429ق .م ) عند اليونان، وعصر أوغسطس قيصر (63ق.م-14م) عند الرومان، وعصر كسرى (531-579م) عند الفرس، وعصر كرلس الكبير أي شرلمان (768-814) إمبراطور المغرب، وعصر الرشيد (786-809) وابنه المأمون (813-833) عند العرب، وعصر لاون العاشر (1513-1521) في إيطاليا، وعصر الملكة اليصابات (1558-1602) في إنكلترا، وعصر لويس الرابع عشر (1643-1715) في فرنسا، وعصر ماري تيريز (1717-1780) في النمسا، وعصر فريدريك الأكبر (1712-1786) في بروسيا، وعصر كاترينا الثانية (1729-1796) في روسيا إلخ. ولكل من تلك العصور الشهيرة في التاريخ مزايا خاصة أهلته أن يطلق عليه لقب «العصر الذهبي».
الفصل الثاني
تحديد عصر السريان الذهبي
لم يتخلف السريان عن مباراة سائر الشعوب الراقية في عصور نهضتها الأدبية، فكان لهم في تلك الحلبة المجيدة قسط وافر كما شهد بذلك أساطين المؤرخين، وجهابذة علماء المشرقيات. ومن طالع أخبارهم وأنعم فيها النظر تولاه الإعجاب من درجة الكمال التي بلغها أدباؤهم على اختلاف المذهب والانتساب في شتى الأمصار والأحقاب؛ فإنهم فتحوا منذ المائة الرابعة للتاريخ المسيحي عصرا سعيدا ذهبيا بما أنشئوه من المدارس الشهيرة، والمعاهد الفخمة، والمكتبات الزاهرة، وبمن أنجبوه من الكتاب الأعلام، وما أبرزوه من التآليف الخالدة، وخلفوه من الآثار الثمينة شرقا وغربا، وظل يسطع نور عصرهم الذهبي حتى القرن السابع،
1
بل امتد إلى القرن الثامن،
2
وتوسع بعضهم فقال إلى القرن التاسع.
ثم عادت فبزغت أنوار ذلك العصر الذهبي الميمون في القرنين الثاني عشر والثالث عشر
3
للميلاد، فبلغ كتبة السريان حينذاك أسمى ذروة في العلوم العقلية والنقلية على اختلافها، وملكوا فضلا عن سلامة الذوق ناصية البلاغة وأزمة البيان.
وتصرم العصر الذهبي عند السريان بانطفاء سراج المفريان غريغوريوس أبي الفرج الملطي المشهور بابن العبري (1226-1286)، وهو يعد في الطبقة العليا بين أئمة أمته وبين مشاهير كتابها، وأطلق عليه المؤرخون والمستشرقون لقب «دائرة معارف»؛ نظرا إلى ما خلفه من الثروة العلمية في كل فن ومطلب، وكان بكل حق وصواب «آية من آيات الله، وأعجوبة من أجل أعاجيب الدهر».
4
هوامش
الفصل الثالث
مدارس السريان ومشاهير جهابذتهم في العصر الذهبي
تعد الأمة الآرامية السريانية بين الأمم الراقية ذات التاريخ المجيد في العصور الغابرة. ذهب رهط من أهل البحث إلى أن السريان هم الذين استنبطوا الكتابة؛ لأن بلاد الفونيقيين الذين علموا الكتابة لليونان ليست إلا بقعة صغيرة من بلاد السريان، أشهر مدنها: صور، وصيدا، وبيروت، وجبيل. والفونيقيون كما هو ثابت كانوا أمة شامية
1
أي سريانية، وكانت لغتهم إما سريانية محضة، وإما قريبة إلى السريانية أكثر من سائر اللغات السامية.
2
أنشئت المدارس عند السريان منذ دخولهم في النصرانية، فانتشرت بينهم انتشارا عجيبا غريبا جعلتهم في طليعة شعوب الشرق بالثقافة والبلاغة، وناهيك بما أنجبته تلك المدارس البعيدة الصيت من العلماء الأعلام والمؤلفين العظام الذين ذاعت شهرتهم شرقا وغربا، وقد أطنب في وصفهم وتعداد مآثرهم المؤرخون والكتاب وعلماء المشرقيات.
إذا ضربنا صفحا عن علماء السريان ذوي الصبغة الدينية، فمن لم يسمع بيوحنا بن ماسويه (†857) رئيس أعظم مدرسة في بغداد ازدحم الطلاب على أبوابها،
3
وهل من يجهل اسم يعقوب الكندي (†861) فيلسوف العرب،
4
أو اسم حنين بن إسحاق (†876) شيخ تراجمة الإسلام ورئيس الفلاسفة والأطباء،
5
أو اسم موفق الملك بن التلميذ (1081-1164) الملقب بسلطان الحكماء
6
إلخ؛ فلا غرو إذا أطلق المؤرخون والأدباء على الأمة السريانية - كما سلف القول - لقب «أميرة الثقافة» و«أم الحضارة».
بعد هذه المقدمة الوجيزة، يطيب لي أن ألمع إلى بعض المعاهد السريانية التي كانت مراكز للتعليم في القرون الخالية. وفيما يلي أورد للقارئ أسماءها وأسماء فريق من الجهابذة الذين تعلموا أو علموا فيها، وهي: (1) مدرسة قطسفون أو المدائن
تعد هذه المدرسة في مقدمات المدارس السريانية الشهيرة. فيها نشأ ططيان الآشوري مؤلف كتاب «الدياطسرون» في القرن الثاني للميلاد. (2) مدرسة الرها
ازدهرت هذه المدرسة التي أنشأها ملوك الرها الأباجرة ازدهارا رائعا منذ القرن الثاني حتى القرن الخامس للميلاد، ونبغ فيها عدد وافر من الأئمة المشاهير، نذكر منهم: برديصان (154-202م)، والفيلسوف وافا، والعلالمة أسوانا. وفي القرن الرابع تولى رئاسة تلك المدرسة مار أفرام الكبير (†373م) نبي السريان، ثم ربولا أسقف الرها (†435م)، ثم خلفه يهيبا (†457م) ... إلخ. (3) مدرسة نصيبين
اشتهرت مدرسة نصيبين الكبرى في القرن الرابع وعاشت حتى القرن السابع، وفيها نبغ مار يعقوب الكبير (†338م) وخلفاؤه في كرسي نصيبين، وفي هذه المدرسة علم نرساي الشهير (†507م)، وباباي الكبير (†627م)، وغيرهما من مشاهير الأساتذة. (4) مدارس أنطاكية وجوارها
من مدارس السريان الزاهرة مدرسة أنطاكية الكبرى، ومدرسة دير مار بسوس الذي سكن فيه أيام عزه ستة آلاف وثلاثمائة راهب،
7
ثم مدرسة دير تلعدا الذي أنشئ في القرن الرابع، ومدرسة دير الجب الخارجي وغيرها. واشتهر في تلك المدارس إسحاق الأنطاكي الكبير (†460م)، والبطريركان بولس الثالث (†575م)، وبطرس الثالث (†591م)، ويعقوب الرهاوي (†708م) وغيرهم. (5) مدرسة قنسرين
قامت مدرسة قنسرين في القرن السادس بسعي مؤسسها يوحنا برافتونيا (†538م)، وعرف من جهابذتها البطريرك إثناسيوس الأول (†631م)، وتوما الحرقلي الذي نقل عام 616م العهد الجديد عن اليونانية إلى السريانية، والفيلسوف الكبير سويرا سابوخت في القرن السابع، وقد امتاز سويرا هذا بعلومه ومصنفاته الفلسفية والفلكية، وعلى يده وصلت الأرقام الهندية إلى العرب.
8 (6) مدرسة رأس العين
اشتهر أمر هذه المدرسة في العصر الذهبي، وكان مركزها على ضفة نهر الخابور بين رأس العين والحسجة بالقرب من قرية المجدل، وتفرد رهبان ديرها المعروف بدير «قرقفة» بضبط حركات ألفاظ الكتاب المقدس وتجويد قراءته. وعرف من رأس العين سرجيس الرأس عيني (†536م) إمام عصره في الطب والمنطق والفلسفة، وهو أول النقلة من اليوناني إلى السريانية، ومن أخباره أن البطريرك أفرام الأنطاكي (526-545م) وجهه في مسائل خطيرة إلى روما وإلى قسطنطينية، فنجحت مساعيه. (7) مدرسة قرتمين
تأسست هذه المدرسة في طور عبدين سنة 397 للميلاد، واشتهر رهبانها خصوصا بصنع الرقوق وتهيئتها لنسخ الكتب، وتفننوا بتجويد الخطوط وتجديد الكتابة السطرنجيلية على يد رئيسهم المطران يوحنا عام 988م.
ويروى أن عمنوئيل ابن أخي المطران المشار إليه نسخ على رق الغزال سبعين مجلدا من الكتاب المقدس طبقا للترجمة البسيطة والسبعينية والحرقلية، ووقفها لدير قرتمين،
9
وظل هذا الدير زاهرا حتى القرن الثاني عشر.
واشتهر من هذا الدير علماء وأحبار عديدون، نذكر منهم ثئودوسيوس البطريرك (887-895م) الذي برع في الطب، وألف فيه كتابا عرف باسمه. (8) مدرسة دير برصوما بملطية
أنجبت هذه المدرسة الزاهرة علماء مشاهير قام منهم بطاركة وأساقفة ومؤلفون عديدون، نذكر منهم يعقوب بن الصليبي مطران آمد (†1171م)، وثئودوروس بروهبون (†1193م)، وميخائيل الكبير (†1200)، والمفريان غريغوريوس بن العبري (†1286م). وفي هذه المدرسة راجت أسواق العلم من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر.
وحوت هذه المدرسة مكتبة عامرة حفلت بعدد وافر من المخطوطات السطرنجيلية، والصكوك، والفرمانات القديمة، وقد زينها البطريرك ميخائيل الكبير بكتب جمة نسخها أو نقحها بيده، نذكر منها نسخة بديعة من الإنجيل كتبها كلها بحروف ذهبية وفضية ودبجها بصور شتى، ثم جعل ذلك المصحف الثمين ضمن صندوق فضي مذهب.
10 (9) مدرسة دير البارد
موقع هذه المدرسة في أطراف ملطية وهنزيط، تأسست في العام 969 للميلاد، وظلت موطنا للتعليم والتأليف حتى السنة 1243، وقد اشتهر أمر رؤسائها وأساتذتها بإنشائهم بعض صلوات وأناشيد تفردوا باستعمالها، وأدخلوها في الطقس السرياني، تشهد لذلك مخطوطات عديدة حفظت إلى هذا اليوم.
11
نكتفي بهذا النزر اليسير من المدارس السريانية في مختلف الأقطار. وقد أسس السريان في كل مدينة أو قرية استوطنوها مدرسة أو أكثر، حتى بلغ عدد مدارسهم في بلاد ما بين النهرين وحدها زهاء خمسين مدرسة من أرقى المدارس وأوسعها. قال البحاثة السيد أحمد أمين: كان للسريان في ما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تعلم فيها العلوم السريانية واليونانية ... وكانت هذه المدارس يتبعها مكتبات ... وكان في الأديار السريانية شيء كثير لا من الكتب المترجمة في الآداب النصرانية وحدها، بل من الكتب المترجمة من مؤلفات أرسطو، وجالينوس، وأبقراط؛ لأن هؤلاء كانوا محور الدائرة العلمية في ذلك العصر، وكان السريان نقلة الثقافة اليونانية إلى الإمبراطورية الفارسية
12
ثم إلى الخلافة العباسية.
هكذا اتسع نطاق الثقافة عند السريان حتى أناف عدد مؤلفيهم في العصر الذهبي على أربعمائة كاتب أو مؤلف اتصلت بنا أسماؤهم، وبلغت تآليف بعضهم ثلاثين أو أربعين كتابا،
13
ولعل هناك كتبة كثيرين ضاعت أسماؤهم بضياع مؤلفاتهم
14
بسبب الحروب، والفتن، والزلازل، وما شاكلها من الفواجع والرزايا.
هوامش
الفصل الرابع
مكانة بطريركية السريان وعدد أبرشياتها في العصر الذهبي
انتشر السريان انتشارا عجيبا غريبا لا في أقطار سوريا وما بين النهرين والعراق وبلاد فارس وملبار فحسب، بل في الأنحاء اللبنانية أيضا، فإن بطريركيتهم الأنطاكية كانت إلى عهد الصليبيين أعظم وأهم من بطريركيات سائر الفرق النصرانية في الشرق دون جدال، وفاق عددهم يومئذ عدد سائر الملل النصرانية حتى في أنطاكية عاصمة الكرسي البطريركي.
فكان عدد أساقفة السريان في تلك الحقبة يربي على مائة وستين أسقفا، يخضعون قاطبة لبطريركهم الأنطاكي ولمفريان الشرق اللائذ به، وكان لكل من أولئك الأساقفة أبرشية خاصة برعايته؛ لأن القوانين البيعية حرمت تنصيب أسقف دون أبرشية شرعية، يتضح ذلك كله جليا من فهارس الأساقفة الملحقة بتاريخ ميخائيل الكبير، ومن التاريخ البيعي تأليف المفريان ابن العبري، ومن ثقات المؤرخين في العصور الغابرة.
وبالجملة فإن الكتبة المدققين سريانا وغير سريان، أجمعوا على أن عدد السريان في القرنين العاشر والحادي عشر ناهز المليونين من النفوس، أما عدد الملكيين في تلك الحقبة فلم يتجاوز النصف مليون، وكان عدد أبرشياتهم خمسين أبرشية،
1
وذكر الأب هنري لامنس أن غليلم الصوري في «تاريخ الصليبيين» أحصى الموارنة أربعين ألفا،
2
ذلك كله يثبت ما أحرزته بطريركية السريان في العصور السالفة من المكانة والاعتبار بين الشعوب المجاورة لها.
هوامش
الفصل الخامس
انتشار عقيدة السريان في شتى الشعوب والأقطار
علاوة على اتساع بطريركية السريان في مختلف الأصقاع، فإنهم أحرزوا في القرون الوسطى مكانة علمية وشهرة عالمية لدى أقطاب الدين وأرباب الدنيا، وبهذه الوسيلة عمت عقيدتهم بالطبيعة الواحدة شعوبا جمة غير شعبهم السرياني كالأقباط، والأحباش، والأرمن، والعرب، ونصارى الملبار وغيرهم، وهذا ما حمل جمهورا من الكتبة على أن يطلقوا على ذلك العصر «عصر السريان الذهبي». (1) السريان والأقباط
على أثر استقلال السريان استقلالا بيعيا استحكمت عرى العلاقات بينهم وبين الأقباط مشايعيهم في معتقدهم بالطبيعة الواحدة، وبتوالي الأيام ازدادت تلك العلاقات متانة، حتى إننا نشاهد في سلسلة بطاركة الأقباط في الكرسي الإسكندري أسماء أربعة منهم كانوا من عنصر سرياني، وهم: البطريرك دميانس الرهاوي في القرن السادس
1
والبطريرك سيمون الأول سنة 689 للميلاد،
2
والبطريرك أبرام أو أفرام (976-979)،
3
والبطريرك مرقس الثالث (1166-1189).
4
وقد نقل الأقباط عن السريان في نافورة قداسهم ميمر مار يعقوب السروجي و«رتبة كسر القربانة» تأليف ديونيسيوس يعقوب بن الصليبي (†1171م)،
5
وما برحوا يذكرون في قداسهم أسماء بعض أئمة السريان، كأفرام وسويرا البطريرك، والأنبا برصوما وماروثا،
6
ويحتفلون لسويرا البطريرك بأربعة أعياد في السنة.
7
ومما يبرهن على نفوذ اللغة السريانية في طقس الأقباط، استعمالهم كلمات سريانية في طقوسهم وليترجياتهم، كقولهم «طوبانيتين»، و«طوباني»، و«نيح»، و«لتأت ملكوتك»، و«الأخذ» أي التناول، و«ميمر»، و«رشم»، و«رشومات»، و«عتيد»، و«تنيحوا»، و«حياصة»
8 ... إلخ.
وانتشر السريان بين الأقباط في أنحاء القطر المصري انتشارا عظيما، فابتنوا في المدن والدساكر عشرات الكنائس، نذكر منها: كنيستين في الفسطاط،
9
وكنيسة قريبة من السد،
10
وكنيسة مار ماروثا بناحية شمسطا،
11
وكنيستين في الخندق،
12
وكنيسة في سنموطية،
13
وكنيسة مار بهنام في مصر العتيقة،
14
وقد زرناها عام 1899، وهي اليوم بيد الأقباط ... إلخ.
أما الأديار السريانية في القطر المصري، فلم يكن عددها بأقل من عدد الكنائس، وقد حفظت لنا الآثار التاريخية أسماء ثمانية عشر ديرا من أديار السريان الوافرة العدد، يرتقي عهد بعضها إلى القرن السادس للميلاد،
15
وكانت تلك الأديار حافلة بجماهير من الرهبان والزهاد والعلماء، انقطع فريق منهم إلى التأليف والنسخ، وانصرف الفريق الآخر إلى إنشاء مكتبات نفيسة أشهرها مكتبة دير والدة الله في وادي النطرون.
وكانت تلك المكتبة تحوي مخطوطات سريانية قديمة ثمينة، يرتقي عهد بعضها إلى القرن الخامس والسادس،
16
بينها زهاء ثلاثمائة كتاب مخطوطة على رق غزال،
17
وقد اشترى بعضها القس إلياس السمعاني والعلامة يوسف سمعان السمعاني، ثم ابتاع ما تبقى منها المستر تاتام سنة 1842، ونقلها إلى المتحف البريطاني في لندن كما سترى، ونشر علماء الإنكليز فهارسها في ثلاثة مجلدات.
وقد ازدانت مكتبات الفاتيكان ولندن وباريس وبرلين وميلانو وأكسفرد وكمبردج وغيرها بقسط وافر من تلك الكتب السريانية، كما يستفاد من فهارس مخطوطاتها. هذا ما عدا مخطوطات نسخت في ذلك الدير وحفظت إلى هذا العهد في مكتبات أخرى، كمكتبة دير الشرفة بلبنان، ودير مار مرقس بالقدس الشريف، ومكتبة الكلدان بماردين ... إلخ. (2) السريان والأحباش
للسريان فضل عظيم في تنصير الأحباش بسعي ثئودورا الملكة (527-548م) زوجة يسطينان الأول قيصر الروم (527-565م). وكانت ثئودورا سريانية المحتد، منبجية المولد، ناصرت القائلين بالطبيعة الواحدة، وقد سبقت فأوفدت إلى بلاد الحبشة القس يوليان السرياني؛ فأذاع فيها العقيدة المنوفيزينية، وظل هناك سنتين يقصد الصهاريج ويعمد الناس كل يوم من الساعة الثالثة حتى الساعة العاشرة؛ فتنصر الأحباش على يده وفي مقدمتهم ملك الحبشة وأرباب دولته.
18
وما قلناه عن الطقس القبطي يصدق في الطقس الحبشي أيضا، ولا يزال الأحباش يستعملون في قداسهم نافورة مار يعقوب السروجي السرياني (†521م)، فضلا عن صلوات كثيرة نقلوها إلى لغتهم عن السريانية وألحقوها بليترجياتهم.
19
وكانت تربط الشعبين السرياني والحبشي روابط العقيدة الواحدة، وما كانت الفوارق اللغوية أو الحواجز الجغرافية أو الاختلافات الجنسية لتقوى يوما على فصم عرى تلك الروابط التي نشأت عنها في مختلف العصور بعض العلاقات بين الأحباش والسريان؛ فالتاريخ يروي أن الأمير جرجس ابن نجاشي الحبشة انطلق سنة 836 إلى بغداد عاصمة العباسيين لتحية الخليفة المعتصم بالله؛ فاجتمع هناك في شهر آب بالبطريرك ديونيسيوس الأول التلمحوي، وبناء على رغبته ناوله هذا البطريرك السرياني القربان المقدس، ثم قدم له بعض الهدايا كذكرى لتلك المقابلة التاريخية.
20 (3) السريان والأرمن
كان الأرمن قبل استنباطهم الحروف الأرمنية يستعملون القلم السرياني في كتاباتهم، وأول من فكر منهم في وضع الحروف الأرمنية هو القديس مسروب في أوائل القرن الخامس، فإنه قصد مدينة الرها مع بعض تلامذته وتخرجوا قاطبة في مدرستها الشهيرة بالآداب السريانية على يد دانيال مطرانها العلامة،
21
وعني مسروب، وإسحاق جاثليق الأرمن (390-439) بنقل الأسفار المقدسة،
22
وترجم شرح مار فرام الملفان لكتاب «الدياطسرون» عن اللغة السريانية إلى اللغة الأرمنية، ثم نقل الأرمن تسع عشرة مقالة من كتاب «البراهين» تأليف القديس يعقوب أفرهاط وغير ذلك، عن اللغة السريانية إلى اللغة الأرمنية.
23
وابتنى السريان في أرمينيا كنائس عديدة وأديارا زاهرة، نذكر منها كنيستين فخمتين في سيس عاصمة ملوك الأرمن وكرسي بطريركيتهم، ثم ديرين كبيرين قرب طرسوس.
24
وكانت مدينة آطنة المجاورة لتلك العاصمة آهلة في القرن الثاني عشر بالسريان دون سواهم، يرعاهم مطران من جنسهم ومعتقدهم.
25
وكان للسريان في أرمينيا أبرشيات وافرة العدد ، تسلسل فيها الأساقفة جيلا بعد جيل حتى القرن الثالث عشر، وقد ذكرها ميخائيل الكبير في لائحة الأساقفة التي ألحقها بتاريخه كأبرشيات سيس، وطرسوس، وعين زربا، وخلاط، وآطنة ... إلخ.
ومما يستحق الذكر أن البطريرك أغناطيوس الرابع (1264-1283) احتفل احتفالا شائقا في كاتدرائية سيس السريانية بترقية غريغوريوس بن العبري إلى الرتبة المفريانية، بحضور أساقفة السريان والأرمن، وبعد الاحتفال رحب حاتم ملك قيليقيا الأرمني في بلاطه بالبطريرك والمفريان والأحبار والأعيان.
26 (4) السريان والعرب
مثلما نشر السريان عقيدتهم بالطبيعة الواحدة بين الأقباط والأحباش والأرمن، نشروها كذلك بين العرب جيرانهم بني غسان ونجران وتغلب ومعد وبني كلب وغيرهم، وكان بطاركة السريان ينصبون أسقفا أو أكثر لكل قبيلة من تلك القبائل العربية، ودعي بعضهم بأساقفة «المضارب»، فكانوا يرافقون القبائل العربية المتنقلة ويقيمون الرتب الدينية تحت الخيام.
27
ومن أساقفة العرب نذكر:
شمعون أسقف بيث أرشم،
28
وثئودور أسقف حيرة النعمان،
29
وقد وضع اليد عليه يعقوب البرادعي الأسقف المسكوني.
ثم إن البطريرك يوليان الثالث (688-709م) نصب أسقفا للعرب التغالبة يقال له يوسف،
30
ونصب قرياقس البطريرك (793-817م) ثلاثة أساقفة للعرب: أولهم الأسقف يوحنا للكوفة، ثانيهم الأسقف داود وقد وضع عليه اليد في «دقلا» عاصمة التغالبة،
31
وثالثهم الأسقف عثمان، وهو الخامس والأربعون في عداد أساقفته.
ونصب البطريرك ديونيسيوس الأول التلمحري (818-845م) خمسة أساقفة لقبائل العرب التغلبيين، ووضع يوحنا الخامس (847-894م) اليد على سبعة أساقفة للعرب بني معد وبني تغلب ونجران. وقس على من ذكرنا: البطاركة أغناطيوس الثاني، وثئودوسيوس، وديوليسيوس الثاني، ويوحنا السادس، وباسيل الثاني، منذ السنة 878 حتى السنة 935م.
وإلى السريان يعود الفضل في نقل الكتاب المقدس عن لغتهم إلى اللغة العربية على يد بطريركهم يوحنا الثالث (631-649م)،
32
وإليهم كذلك يرجع الفضل في نقلهم إلى اللغة العربية علومهم وعلوم اليونان خصوصا في عهد العباسيين؛ فإن أولئك الخلفاء استعانوا بنوابغ السريان واتخذوهم أساتذة لهم
33
فمهدوا للعرب سبل الثقافة ومرنوهم على اقتباس أصناف المعارف.
هوامش
الفصل السادس
السريان والفرس
في جملة الأمصار الخاضعة للكرسي الأنطاكي، نذكر بلاد فارس التي أينع فيها الأدب السرياني بجانب الأدب الفارسي، وبرز فيها أحبار أجلاء وعلماء أفاضل أنشئوا تصانيف سريانية تجلت فيها مواهبهم العقلية، نذكر في مقدمتهم يعقوب أفرهاط الحكيم الفارسي صاحب كتاب «البراهين» الذي أفرغه في قالب سرياني بأسلوب جزل بليغ، ثم الجاثليق شمعون برصباعي (329-341م)، وميلس أسقف شوشن (†341م)، ولسنا ننسى مار ماروثا (†420م) الواسع الشهرة الذي بعثه أرقاديوس قيصر (395-408م) في رسالة توصية إلى يزدجرد ملك الفرس (399-420م)، فارتحل القديس ماروثا ثلاث مرات إلى عاصمة الأكاسرة، وتوصل بمرونته وذكائه إلى كف الاضطهاد عن النصارى، ثم صنف عن الشهداء السريان في البلاد الفارسية كتابا امتاز بلهجته البليغة المؤثرة.
وبعد استقلال السريان بيعيا - كما تحدثنا قبل الآن - أخذ بطاركتهم أو مفارنتهم ينصبون مطارنة وأساقفة لكراسي الأبرشيات السريانية في بلاد فارس، نذكر منها: أبدقون، وسجستان، وأفرة، وجرجان، وخراسان، وهرات، ومراغا، وتبريز، وأذربيجان، وغيرها. وقد اطلعنا على جدول أساقفة تلك الأبرشيات منذ عهد البطريرك قرياقس (793-817م) حتى عهد البطريرك ميخائيل الكبير.
وروى المؤرخون أخبارا طريفة عن بعض علماء السريان وأطبائهم الذين كانت لهم صلات مع ملوك فارس، نذكر من ذلك ما أثبته ابن أبي أصيبعة،
1
وابن النديم
2
عن أبي الخير الحسن بن سوار بن بابا بن بهنام، المعروف بابن الخمار، قالا ما خلاصته: ولد ابن الخمار عام 942، وقرأ الحكمة على يحيى بن عدي التكريتي، وبرع في اللغتين السريانية والعربية، وحذق أصول صناعة الطب وفروعها، وتبحر في الحكمة، وتفرد بتواضعه للضعفاء وبتعاظمه على العظماء، فإذا دعاه السلطان ركب إليه في زي الملوك والعظماء، فكان يسير إليه في ثلاثمائة غلام بالخيول الجياد، وكان السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين صاحب بخارى يجله غاية الإجلال. وقد صنف ابن الخمار أربعة عشر كتابا، ونقل مصنفات كثيرة من السرياني إلى العربي وأجاد فيها. وتوفي ابن الخمار بعد السنة 997 للميلاد.
وكان المفريان ابن العبري يتردد إلى بلاد فارس ويتعهد مكتباتها الشهيرة،
3
ويتفقد أبرشياتها الخاضعة لكرسيه المفرياني، وحلت وفاته في مراغا ليلة الثلاثاء 30 تموز 1286، وصلى عليه إقليرس النساطرة، والملكيين، والأرمن، والسريان، وشيعوه بحفاوة عظمى.
4
هوامش
الفصل السابع
السريان والخلفاء المسلمون والنهضة العلمية العربية
احتظى السريان بالثقة والاحترام عند الخلفاء الراشدين (632-661م)، والخلفاء الأمويين (662-746م)، والعباسيين (750-1258م)، وأول من نال القربى لديهم حين الفتح العربي هو منصور بن يوحنا السرياني، الذي أصبح وزيرا للمالية في عهد الخلفاء الراشدين. أما ابنه سرجون، وحفيده يوحنا المشهور بالقديس يوحنا الدمشقي (†749م)، فقد توليا ديوان الأعمال والجبايات في عهد الخلفاء الأمويين.
وأثبت جميع مؤرخي السريان أن إثناسيوس برجوميا الرهاوي ولاه الخليفة عبد الملك بن مروان (685-705م) الإدارة المالية في القطر المصري، وكان عهده في تلك الوظيفة عهد خير وبركة وإقبال على الدولة الأموية،
1
وذكر ميخائيل الكبير أن مروان الخليفة (744-750م) لدى ارتحاله إلى حران ببلاد ما بين النهرين خف لاستقباله أيونيس الرابع بطريرك السريان (740-755) في هدايا وافرة وتحف نفيسة حملها على خمسين جملا؛ فرحب به الخليفة ترحيبا جميلا وكتب له فرمانا عام 746 للميلاد، خوله بموجبه الولاية على جميع الشئون البيعية
2
وهو أول فرمان أعطي لبطريرك سرياني من خليفة المسلمين.
وإذا انتقلنا إلى عهد الخلفاء العباسيين اتضحت لنا مكانة أئمة السريان وعلاقات علمائهم بكل من أولئك الخلفاء؛ فقد تفجرت ينابيع المعارف على يدهم، وسالت الصحف بأقلام مترجميهم ومصنفيهم وأطبائهم في طول البلاد وعرضها، وأغنوا العالم بنفائس الأسفار التي استخرجوها إلى العربية عن اللغات السريانية، واليونانية، والفارسية، والعبرية، والهندية؛ فبلغت دولة العلم أيام عز الخلافة العباسية شأوا بعيدا، قلما ذكر الكتاب مثله في العصور الخوالي.
وهذه كتب التاريخ طافحة بأخبار أولئك الجهابذة كالبطريرك ديونيسيوس التلمحري، وأخيه تاودوسيوس في عهد الخليفة المأمون (813-833م)، ومنهم العلامة حبيب أبو رائطة التكريتي في القرن التاسع، وروفيل وبنيامين الطبيبان اللذان قرأ عليهما مار ماري علم الطب،
3
والفيلسوف الكبير يحيى بن عدي (†974م) في عهد المطيع لله (946-974م)، وعيسى بن زرعة (943-1008م) في عهد القادر بالله (991-1031م)، والشيخ يحيى بن جرير التكريتي ، وأخوه أبو سعد الفضل التكريتي وغيرهم.
وفي السنة 1223 قتل الطبيب الكبير أمين الدولة أبو الكرم صاعد بن توما البغدادي اليعقوبي، كان ممتازا بسيرته وعلمه فأعزه الخليفة الناصر (1180-1225م) كل الإعزاز، وقربه وأمنه على جميع أسرار دولته، وعلى أبنائه وبناته ونسائه. واتفق أن الخليفة المذكور ضعف بصره، فكلف امرأة يقال لها: «ست نسيم» أن تنهض بكل ما يكتبه هو، وأطلعها على جميع أسرار الدولة، وكان إذا وصل خطها إلى الوزير الكبير اعتقد أنه هو خط الخليفة نفسه؛ فيقوم بإنجاز كل ما فيه من أوامر ونواه.
وبعد مدة من الزمان اتفق تاج الدين رشيق الخصي مع «ست نسيم»، فجعلا يكتبان ما يخطر لهما كأنه من فم الخليفة ويعرضانه على الوزير فيكمله، وما عتم أن اطلع الوزير على تلاعب «ست نسيم» والخصي؛ ذلك أنه استدعى أمين الدولة ابن توما المشار إليه وقرره، فصرح له بأن الخليفة ضعيف البصر، وأن امرأة تكتب له ما شاء من الأوامر، ولما شعرت نسيم بافتضاح أمرها بلغت ابني قمر الدين فكمنا للطبيب أمين الدولة ووثبا به وهو خارج من دار الخليفة وضرباه سكينتين، فصاح بهما الطبيب صيحة عظيمة، فاستأنفا وطعناه طعنة نجلاء وفتكا به وبحامل فانوسه، ثم شيع الطبيب إلى بيته ودفن فيه، وبعد تسعة أشهر نقل جثمانه إلى بيعة مار توما ولحد في ضريح آبائه، وخلف ثلاثة أبناء، وهم: شمس الدولة، وفخر الدولة، وتاج الدولة، امتازوا كأبيهم وارتقوا إلى أسمى المراتب.
4
وممن اشتهر بين السريان كذلك حسنون الطبيب الرهاوي، وجبرائيل الطبيب الرهاوي مصنف الكتب الفلسفية والطبية نحو السنة 1263 في اللغة السريانية، وشمعون الطبيب المشهور مجدد دير مار قرياقس، وأمين الدولة أبو الكرم صاعد بن توما البغدادي (†1223م)، والطبيب عيسى تلميذ حسنون المذكور الذي ابتنى في سيس كنيسة فخمة على اسم برصوما، والربان دانيال بن الحطاب المارديني
5 ... إلخ.
وكان أولئك العلماء والأطباء يلازمون الخلفاء في بلاطهم، ويجلسون إلى مائدة طعامهم، ويسامرونهم، ويعالجون مرضاهم، ويرافقونهم أحيانا في حروبهم وأسفارهم،
6
وكان الخلفاء بدورهم يجلون أطباءهم ويرحبون بهم، ويسنون لهم أعطيات سخية، ويعودونهم في منازلهم حين مرضهم ويراسلونهم، ويتسمحون معهم في قضايا دينهم، ويحضرون أحيانا الصلاة عليهم بالشمع والبخور في جنازاتهم.
7
ويؤثر عن بعض الخلفاء العباسيين أنهم كانوا يتعهدون أديار النصارى ومناسكهم، فيصادفون من الرهبان كل ترحيب وإجلال. وقد نزل يوما هارون الرشيد بدير مار زكي الذائع الصيت الواقع على ضفة نهر البليخ، فاستطابه الخليفة وبر أهله.
8
وغير خاف أن هذا الدير العظيم الذي كان يدعى «دير العمود» قد أسسته الملكة ثئودورا (†548م) السريانية المنبجية بجوار مدينة الرقة إحدى الأبرشيات السريانية، وعرفنا ممن تولى كرسيها المطراني سبعة عشر مطرانا سريانيا من السنة 793 حتى السنة 1200.
9
هوامش
الفصل الثامن
السريان وقياصرة الروم
شاءت العناية الربانية فاختارت من الأمة السريانية أشخاصا ارتقوا إلى عرش القياصرة في قسطنطينية، وتكللت مفارقهم بالتاج الملكي، نذكر منهم الملكة هيلانة والدة قسطنطين الكبير التي ولدت في «كفرفجي» بجوار الرها عاصمة الأباجرة ملوك السريان، ونضم إليها الملكة ثئودورا زوجة يسطنيان الأول (527-565م) قيصر الروم، وكانت تلك الملكة ابنة كاهن «سرياني» من مدينة منبج.
1
روى المؤرخ سعيد بن بطريق (†960م) أن موريق قيصر (582-602م) وهرقل قيصر (610-641م) ملكي الروم، استعملا منصورا المذكور في فصل سابق على الخراج في دمشق لثقتهما بأمانته وكفاءته، وكان منصور هذا سريانيا يعقوبيا،
2
واشتهر ولداه سرجيس وإيليا فنصبا بطريركين على بيت المقدس أحدهما تلو الآخر.
3
ولما انطلق هرقل إلى مدينة الرها الغاصة بالسريان، خرج إلى لقائه جماهير غفيرة من الشعب والكهنة والرهبان؛ فأدهشته وفرة عددهم، ولم يتمالك أن يصرح لوزرائه قائلا: «لا يجمل بنا أن نترك هذا الشعب المجيد منفصلا عنا!» ثم توجه صباح الأحد إلى كنيسة السريان وحضر القداس فيها.
4
ولما تولى نيقفور فوقا (963-969م) عرش القسطنطينية، أرسل فاستدعى إليه عام 969 يوحنا التاسع بطريرك السريان (965-986) للبحث في الاتحاد وقضايا المعتقد، فسار البطريرك يصحبه ثلاثة أساقفة وجملة من الرهبان، ولبثوا هناك ثمانية شهور يعالجون تلك المسائل دون جدوى، ثم عاد البطريرك وأساقفته إلى كراسيهم.
5
وعلى إثر جلوس رومانس الثالث (1028-1034م) على العرش القسطنطيني، ارتحل البطريرك يوحنا العاشر (1004-1030م) يرافقه ستة من أساقفته وعشرون راهبا وبعض رؤساء الأديار السريانية، فيمموا عاصمة قياصرة الروم ليهنئوا الملك الجديد، ثم أمر الملك فعقد مجمع في كنيسة آجيا صوفيا، حضره البطريرك المسكوني ومائتان من أساقفته، ويوحنا العاشر بطريرك السريان المشار إليه وأساقفته الستة، وبعد أخذ ورد كثير أبرز السريان مدرجين كتبوا أحدهما بالسريانية، والثاني باليونانية ضمنوهما شرح معتقدهم، وعلى إثر ذلك ارفض المجمع دون أن يتوفق الآباء إلى عقد الاتحاد المنشود.
6
هوامش
الفصل التاسع
السريان وملوك الصليبيين
مثلما كان لأئمة السريان في عصرهم الذهبي صلات مع ملوك الفرس، والخلفاء المسلمين، وقياصرة الروم، كان لهم كذلك علاقات مع ملوك الصليبيين في أثناء إقامتهم في بلاد المشرق.
وغير خاف أن أولئك الملوك عاملوا جماعات السريان وأحبارهم معاملة طيبة في الأمصار التي ملكوها؛ فشملوهم بعطفهم ولم يتعرضوا لهم في كنائسهم وأديارهم وجميع شئونهم على رغم مخالفتهم لهم في المعتقد. قال ميخائيل الكبير: «تمتع أساقفة السريان وكهنتهم بالراحة والسكينة في عهد دولة الصليبيين، فلم يلحقوا بنا أدنى أذى؛ لأنهم كانوا يعتبرون جميع الساجدين للصليب على حد سواء، لا يماحكونهم بالمسائل الدينية كما كان يماحكهم أساقفة الروم.»
1
وأول من جرت له صلات مع الصليبيين من السريان هو أثناسيوس السابع البطريرك الأنطاكي (1091-1129م)؛ فإنه زار غير مرة جوسلين ملك الصليبيين في «تل باشر»
2
عاصمته، وأقام في بلاطه عدة أيام محفوفا بالتوقير والإجلال.
3
ولما توفي البطريرك المشار إليه كتب جوسلين إلى أساقفة السريان في الحضور إلى تل باشر عاصمته لانتخاب بطريرك جديد، فلبوا طلبة الملك وعقدوا مجمعا في كنيسة الفرنج ترأسه المفريان ديونيسيوس موسى (1121-1142)، وأجمعت كلمتهم في 17 شباط 1129 على انتخاب الراهب موديانا رئيس دير «الدوائر» المجاور لأنطاكية بطريركا أنطاكيا، وسموه يوحنا الخامس عشر (1129-1137)، واحتفلوا في تلك الكنيسة برتبة التنصيب احتفالا عظيما، وسلموا إليه العكاز البطريركي بحضور الملك جوسلين ووزرائه وأرباب مملكته، وفي جملة أولئك الوزراء كان ميخائيل بن شومنا شقيق باسيل مطران الرها.
4
وأثبت ابن العبري أن جوسلين لما شعر بدنو أجله عام 1157 وهو في سجن حلب، استأذن الحاكم المسلم في الذهاب إلى كنيسة السريان، وهناك قام بفروضه الدينية لدى إغناطيوس مطرانها السرياني، وتناول الأسرار من يده،
5
وبعد ذلك عاد جوسلين إلى السجن وفيه توفاه الله تعالى، ثم أقيم له مأتم حافل اشترك فيه المسلمون والمسيحيون، وشيعوه قاطبة إلى تلك الكنيسة ودفنوه ضمنها في ضريح خاص.
وابتنى السريان كنيسة جديدة لأبناء جماعتهم في أنطاكية ما عدا كنيستيهم القديمتين، وقد باركها بأبهة عظيمة بطريركهم أثناسيوس الثامن (1139-1166)، وتصدرت تلك الحفلة الكبرى إيزابيل الملكة، يحف بها أركان البلاط الملكي، وجمهور غفير من الأحبار والقسان والرهبان الفرنج والسريان.
6
وفي السنة 1168 كتب إيمريك بطريرك أنطاكية اللاتيني (1157-1180م) رسالة إلى بطريرك السريان ميخائيل الكبير (1167-1200) يكلفه الحضور إلى أنطاكية، فأجاب البطريرك ميخائيل إلى دعوته، وما كاد يصل إلى أنطاكية حتى خرج إلى لقائه أقطاب الحكومة وأئمة الدين في ألوف من أهالي تلك العاصمة، ورافقوه باحتفال رائع إلى كنيسة «القسيان»، وهي كبرى كنائس أنطاكية، وأجلسوه على الكرسي البطرسي الذي كان من خشب النخل مصفحا بالفضة.
7
وفي السنة 1179 أقبل البطريرك ميخائيل عينه إلى أنطاكية مرة ثانية، ومنها ارتحل إلى بيت المقدس، وعند مروره بعكا زار الملك بغدوين الصغير، وأطلعه على رسالة بعث بها إليه البابا إسكندر الثالث (1159-1181) يدعوه إلى مجمع يعقد في روما، فرحب الملك بالبطريرك وبالغ في تكريمه، ثم حمله كتاب توصية إلى أورشليم.
ومن بطاركة السريان الذين جرت لهم علاقات مع الفرنج الصليبيين أغناطيوس الثالث (1222-1252) الذي انطلق إلى أنطاكية مصحوبا برهط من أساقفته، ومن هناك سار إلى فلسطين، ولما دخل إلى أورشليم خرج إلى استقباله سكانها، وفي طليعتهم الأخوة الهيكليون الذين حملوه على أيديهم وطافوا به من باب العمود إلى دير مريم المجدلية، فحل فيه البطريرك وأساقفته وحاشيته، وكان يقطنه يومئذ سبعون راهبا من الرهبان السريان.
8
واشتهر في تلك الحقبة الحكيم السرياني الأنطاكي الذي تعاطى مع بعض الملوك وتقرب إليهم، وأقطعه أحد ملوك الصليبيين فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا (1211-1250) مدينة كما هي بأعمالها.
9
وقد أشار بطريركنا مار أغناطيوس بطرس السادس (1678-1702) شهبادين إلى صلات السريان القديمة بالملوك الصليبيين وأمرائهم، فكتب إلى لويس الرابع عشر ملك فرنسا (1643-1715) في ذلك يقول: «ليكن معلوما لدى عظمتكم العالية ما صنع السريان القدماء مع الأمراء الفرنساوية في محروسة القدس الشريف والمحبة، والاتفاق بغاية المودة التي أبدوها أمام السلاطين العظام الذين حكموا عليها.»
10
وكان للسريان في عهد الإمارات الصليبية حظوة في أعين ولاة الأمور، وكان إقليرسهم متضلعا من الآداب السريانية والعربية واليونانية،
11
وانضم أطباؤهم وصيادلتهم إلى الجيوش والمعسكرات الصليبية، وانحصرت بيدهم أعمال الترجمة في الدوائر التي أعجبت ابن جبير بترتيبها وحسن معاملتها.
12
هوامش
الفصل العاشر
السريان وملوك السلجوقيين والتتر
كان للسريان شعب غفير في الأمصار التي دوخها السلجوقيون والمغول أي التتر في بلاد المشرق، وأصبح ذلك مدعاة إلى وجود علاقات بين أئمتهم وبين ملوك السلجوقيين والتتر، وقد انتهج أئمة السريان خطة رشيدة في عملهم استعطافا لخاطر أولئك الملوك؛ دفعا للرزايا لا عن السريان فقط، بل عن سائر الشعوب المجاورة لهم.
وممن اشتهر بين السريان يومئذ: الحكيم أبو سالم النصراني اليعقوبي الملطي المعروف بابن كرابا، خدم السلطان علاء الدين كيقباذ (1219-1236) وتقدم عنده، وكان أهلا لمجلسه لفصاحة لهجته في اللسان الرومي، ومعرفته بأيام الناس وسير السلاطين، وكان السلطان لا يصبر عنه ساعة.
1
وممن تعاطى من السريان مع الملوك السجلوقيين يوحنا التفليسي الذي نقل الإنجيل المقدس سنة 1221م إلى اللغة السريانية، وذلك إجابة إلى طلب السلطان علاء الدين كيقباذ المشار إليه، وكانت نسخة ذلك الإنجيل مصححة بخط البطريرك يوحنا بن شوشان، ومشروحة غوامضه بقلمه.
2
ويذكر بعد ذلك تقي الدين الراسعيني الطبيب المعروف بابن الخطاب الذي أتقن صناعة الطب غاية الإتقان علما وعملا، خدم السلطان غياث الدين وابنه عز الدين، وصار له منزلة عظيمة منهما، فرفعاه من حد الطب إلى المعاشرة والمسامرة، وأقطعاه إقطاعات جزيلة، وكان في خدمتهما بزي جميل وأمر صالح وغلمان وخدم، وصادف من دولتهما كل ما سره.
3
وذكر ابن العبري أن البطريرك أغناطيوس الثالث (1222-1252م) قابل السلطان عز الدين بن غياث الدين السلجوقي في ملطية حاملا إليه الهدايا والتحف النفيسة، وقد لفظ هذا البطريرك على مسامع السلطان خطابا بليغا باللغتين العربية والفارسية، ودعا له بالتأييد والنصر.
وذكر المؤرخون أن أغناطيوس الرابع بطريرك السريان (1264-1283) توجه إلى «الطاق» عاصمة التتر وزار هولاكو، ونال منه فرمانا يؤيده في البطريركية الأنطاكية، ثم سار البطريرك دفعة ثانية وزار الملك «أباقا» بن هولاكو وخليفته في تخت المملكة، فكتب له فرمانا ثانيا بالبطريركية.
4
وأثبت المؤرخون أيضا أن هولاكو لما سمع بشهرة الربان شمعون السرياني وبراعته في الطب، أرسل يستدعيه إليه، وعينه طبيبا خاصا في بلاطه الملكي؛ فنال الربان شمعون حظوة عظيمة عند ملوك التتر وملكاتهم، وعند أولاد العترة الملكية كافة. وصرف الربان جهوده ونفوذه في دفع الضيم عن أبناء ملته، وتعزيز شأنهم وصيانة كنائسهم في جميع الأمصار الخاضعة لحكم التتر.
5
وقد توثقت العلاقات الطيبة بين ملوك التتر وبين المفريان ابن العبري لما سمعوا عنه من غزارة المعارف وسمو الأخلاق. ولما جرى الاحتفال بتتويج أحمد خان ملكا على التتر سنة 1279، انطلق المفريان إلى «الطاق» لحضور ذلك المهرجان، واستصحب معه رهطا من أساقفته حاملين الهدايا والتحف إلى الملك الجديد؛ فرحب بهم الملك أحمد خان وتوسع في ضيافتهم، وقلد المفريان فرمانا شاهانيا.
6
وبعد هذا التاريخ غزا التتر دير مار بهنام بجوار الموصل عام 1295م، وسلبوه أمتعته وكنوزه، فقصد الربان يعقوب رئيس الدير ملك ملوك التتر واسترجعها، ثم وافى الملك نفسه في عظماء دولته وحرمه، فزار ضريح القديس بهنام، وأهدى إليه هدية، وسجد له وندم على ما صار، وأصدر الأمر بأن تنقش فوق قبته كتابة باللغة الإيغورية أي التترية إقرارا بفضل مار بهنام، وتأمينا لحياة رهبانه، وهاك تعريب الكتابة: «يحل سلام الخضر بهنام ولي الله ويستقر على القآن وعظمائه وخواتينه».
7
هوامش
الفصل الحادي عشر
السريان والملوك الأرتقيون وملوك الكرج
جرت صلات متينة بين الملوك بني أرتق في ماردين وبطاركة السريان؛ من ذلك أن الملك نجم الدين ألبي (1153-1176) حضر سنة 1170 في دير الزعفران الاحتفال العظيم بجلوس ميخائيل الكبير على الكرسي الأنطاكي.
وألقى ديونيسيوس ابن الصليبي مطران آمد العلامة خطبة سريانية في تقريظ فضائل البطريرك، ثم تطرق لوصف مناقب الملك نجم الدين الأرتقي، وأفاض في الدعاء له ولجنوده ولدولته.
1
ولما ابتلي نجم الدين المومأ إليه بمرض عضال، ظهر له مار آباي في الحلم وأوصاه بالنصارى، فلما نقه من مرضه أخذ يهتم بتشييد كنائسهم وترميم أديارهم وحقن دمائهم، وكان يجول في الأديار انتجاعا للصحة، حتى نال الشفاء التام بصلوات مار آباي وشفاعته.
2
ولما تولى البطريركية في دير الزعفران إغناطيوس الخامس (1293-1333) المعروف بابن وهيب، أحبه الملك المنصور الأرتقي (1285-1311) لمزيد علمه وفضله، وقد قربه إليه وخلع عليه ومنحه صكا ممتازا يؤيده في البطريركية.
أما ملوك الكرج فلم تكن علاقاتهم مع السريان بأقل من ملوك سائر الأمصار، وقد أثبت ابن العبري في تاريخه الكنسي أن جمال الدين وزير الموصل أوفد إغناطيوس الثاني (1143-1164) مفريان المشرق مصحوبا بأسقفين إلى جورجي ملك الكرج سنة 1161 لإطلاق الأسرى المسلمين، فخرج الملك إلى لقائهم واحتفى بهم بمجالي السرور والاستحسان، وأنجز مرغوبهم ودفع إليهم الأسرى، وكان المفريان والأسقفان يقيمون الحفلات الدينية في كنائس الكرج
3
مدة إقامتهم في تلك البلاد. هكذا توفق المفريان في مهمته نظرا إلى ما كان له من النفوذ والاحترام في بلاطي مملكة الموصل ومملكة الكرج.
هوامش
الفصل الثاني عشر
بعض ذخائر السريان وكنوزهم الثمينة في العصر الذهبي
(1) أقدم أثر نصراني إنما كتب بالسريانية
أقدم الآثار النصرانية الكتابية رسالة أبجر الخامس ملك الرها وجواب السيد المسيح له، فقد أثبتت التقاليد السريانية استنادا إلى أوسابيوس إمام المؤرخين البيعيين أن أبجر ملك الرها وجه رسالة إلى السيد المسيح يدعوه إلى عاصمته ليتخلص من غوائل اليهود، فأجابه السيد المسيح قائلا: «لا بد لي من أن أتمم في أورشليم ما لأجله انحدرت إلى الأرض، وبعد صعودي إلى السماء أرسل إليك أحد تلامذتي ليشفيك من علتك وينيرك بأنوار الإيمان.»
وصرح أوسابيوس في تاريخه أن رسالة السيد المسيح كانت محفوظة في المكتبة الملكية بالرها،
1
وقد تولى هو بنفسه نقل الرسالتين إلى اليونانية عن أصلهما السرياني،
2
وظلت هاتان الرسالتان الأثريتان محفوظتين في المكتبة الرهاوية حتى القرن الحادي عشر، فنقلهما رومانس الثالث ملك الروم (1028-1034) إلى القسطنطينية.
قال يحيى الأنطاكي: «في آخر السنة الثالثة من ملك رومانس سار إليه سليمان بن الكرجي صاحب الرها، واستصحب معه الكتاب الوارد من أبجر ملك الرها إلى السيد المسيح وجواب السيد له، وكان كل واحد منهما على ورق طومار مكتوبين بالسرياني، وخرج الملك والكسيوس البطريرك وجميع أهل المملكة لاستقبالهما، وتسلمهما الملك بخشوع وخضوع تعظيما لكتاب السيد المسيح، وأضافهما إلى الآثارات المقدسة التي في بلاط الملك، وعني رومانس الملك بترجمتهما من السرياني إلى اليوناني، وترجمهما لنا إلى العربي الناقل الذي تولى نقلهما إلى اليوناني على هيئتهما ونصهما.»
3 (2) منديل السيد المسيح
حفظ هذا المنديل المبارك في كنيسة مار قزما بمدينة الرها زمنا طويلا قبل أن يستولي عليها المسلمون، ولما تولى المتقي الخلافة العباسية (940-944) كتب إليه ملك الروم يطلب منه المنديل المذكور. قال ابن العبري: «في السنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة للهجرة (942م) أرسل ملك الروم إلى المتقي يطلب منه منديلا مسح بها المسيح وجهه، فصارت صورة وجهه فيها، وأنها في بيعة الرها، وذكر أنه إن أرسلها إليه أطلق عددا كثيرا من أسارى المسلمين، فاستفتى المتقي القضاة والفقهاء فأنكر بعضهم تسليمها، وأجاب بعضهم قائلا: إن خلاص المسلمين من الأسر والضر والضنك الذي هم فيه أوجب؛ فأمر المتقي بتسليم المنديل إلى الرسل، وأرسل معهم من يستلم الأسارى.»
4 (3) ذخائر كنيسة مار يوحنا الكبرى في الرها
ضمت هذه الكنيسة القاتوليقية ذخائر ثمينة وصفها المؤرخون السريان وغيرهم، وقد فقدت إذ تبعثرت عام 1145 للميلاد في معركة زنكي الطاغية، وكان بين تلك الذخائر صندوقة من الفضة الخالصة مرصعة بالذهب، احتوت على رفات أدي الرسول وأبجر ملك الرها
5
الذي يعد أول ملك مسيحي على الأرض.
6 (4) مائدة مذبح من الفضة في كنيسة الرها العتيقة
من أثمن الآثار القديمة التي خلفها السريان مائدة مذبح من الفضة الخالصة، ورد ذكرها في تاريخ الرها المعروف بعنوان «مختصر تاريخ الأحوال»، وهو من أدق التواريخ الواصلة إلينا وأقدمها، وكان العلامة يوسف شمعون السمعاني أول من نشره بالطبع في مكتبته الشرقية،
7
وهاك ما ورد فيه عن مائدة المذبح المذكور معربا عن السريانية: «في السنة 749 للإسكندر (438م)، في عهد يهيبا مطران الرها (435-457)، استحضر سنطور الرهاوي مائدة مذبح كبرى من الفضة تزن سبعمائة وعشرين رطلا، وزين بها كنيسة الرها العتيقة.» (5) كنوز أيونيس الرصافي في الرها
اشتهر أيونيس السرياني عام 608 للميلاد بنفوذه وجاهه وثروته في الرها، وكان في مقدمة من ولاهم ملوك الروم على تلك المدينة، وقد زاره في قصره كسرى ملك فارس، واطلع على ما حواه ذلك القصر من الكنوز الثمينة والآثار والمسكوكات القديمة.
وعلى إثر وفاة أيونيس طمرت تلك الكنوز في قلب أرض داره؛ خوفا من أن يستولي كسرى عليها، وبقيت مطمورة هناك مدة قرنين كاملين، ولما كانت السنة 802 انتقلت دار أيونيس إلى حوزة سلبسطر أحد أنسبائه، وذاع يومئذ وشاع أن في قلب الدار كنزا ثمينا جدا، فاستخرج منها أولاد سلبسطر دنانير وجواهر ذهبية وفضية وأواني ثمينة جدا.
ولما شعر هارون الرشيد (†808) بالأمر، وجه أحد خصيانه فقبض على أولئك الأولاد واضطر أمهم العجوز وبناتها أن يطلعنه على الكنز، فأحضرن له شيئا كثيرا من كئوس وصحون وملاعق ذهبية وفضية، وجرار وأكواز فضية ممتلئة دنانير رومانية، ومسكوكات عديدة نقشت عليها تماثيل حيات وعقارب ذهبية وفضية، واشتمل بعضها على مواد كيماوية ذهبية ظنها أصحابها ترابا فباعوها بأبخس الأثمان، وقد نقلت تلك الكنوز إلى هارون الرشيد فضمها إلى خزانة المملكة.
8 (6) ذخائر كنيسة ميافرقين
ميافرقين: قاعدة ديار بكر بين الجزيرة وأرمينيا ... وكانت تسمى قديما مدينة الشهداء لما جمعه بها القديس ماروثا من عظام شهداء الفرس الذين قتلهم كسرى، وأقام بها كنيسة على اسم الرسولين بطرس وبولس، وكانت من عجائب الكنائس. قال ياقوت: وكانت بها بيعة من عهد المسيح، وفي البيعة الكبرى جرن من رخام أسود فيه منطقة زجاج فيها دم يوشع بن نون (والصحيح أنه كان من بقايا دم المسيح) وهو شفاء من كل داء، وإذا طلي به على البرص أزاله، يقال إن ماروثا جاء به معه من رومية الكبرى عند عوده من عند الملك.
9 (7) تبعثر ذخائر السريان وكنوزهم القديمة
نضرب صفحا عن ذكر ما كانت تحويه خزائن بطاركة السريان ومطارنتهم وكنائسهم وأديارهم، من الآثار القديمة، والأواني القدسية الثمينة، والحلل الفاخرة التي لا مثيل لها إلا في خزائن الملوك والسلاطين، فقد أشار القس هارون الأرزنجاني إلى شيء من تلك الكنوز الوافرة التي تعد كنضاضة من ذلك التراث العظيم.
10
وفي تقاليد السريان بطور عبدين أن تيمور لنك الطاغية انتزع من كنائسهم وأديارهم كل ما كان فيها من حلي وحلل ومصاغات لا تقدر بثمن.
11
هوامش
الفصل الثالث عشر
أبنية السريان الأثرية
(1) آثار دير مار بهنام
من الأبنية الأثرية التي تجلى فيها الفن السرياني نقشا ونحتا وتصويرا كنيسة دير مار بهنام بجوار الموصل، وقد وصفها البطريرك أغناطيوس أفرام رحماني وصفا وافيا في مجلته «الآثار الشرقية»، قال ما خلاصته:
يرتقى عهد دير مار بهنام إلى القرن الرابع للميلاد، وتشتمل كنيسته على بابين كبيرين يتوسطهما رتاج محكم الفن، فعلى الباب الأيمن كتابات سطرنجيلية ونقوش بديعة تعلو هامة أسد فاغر فمه، وفي الوسط صليب، وإلى جانبيه حمامتان مشتبكتان فوق كل منهما نجم نافر، ويعلو الصليب والحمامتين ثعبانان مزدوجان فاغران فمهما، وبقربهما أسدان جاثمان فوق عضادتي الباب. وقد حفر تحت الأسد إلى الناحية اليمنى في السطرنجيلية ما تعريبه: «كل من أتى ووطئ عتبتك (يا مار بهنام) حصل على الأمن»، وحفر في الناحية اليسرى ما تعريبه: «أنت ميناء مملوء عطفا وغوثا»، وقس على ذلك كتابات على شاكلتها حفرت فوق قائمتي الباب.
وعلى عضادتي باب الكنيسة الأيسر وعلى حنيته وعلى الرتاج الخارجي كتابات سطرنجيلية أيضا ونقوش متقنة، توسع البطريرك رحماني العلامة في وصفها كتابة فكتابة وصورة فصورة ...
ويشاهد الزائر في حنية باب الدير الشمالي صورا جميلة، كصور الصليب الكريم وإلى يمينه مار بهنام وإلى يساره أخته سارة، وفوق الحنية صورة مار بطرس بيده المفاتيح، وتجاهها صورة مار بولس بيده سيف.
أما رتاج الباب الوسطاني فقد دبج ركناه بنقوش متقنة بديعة، يتوسطها صليب كبير تحدق به عضادتان منقوشتان أجمل نقش، ركزت عليهما حنية مطعمة بنقوش دقيقة أنيقة يتوسطها صليب تكتنفه شجرة فنواء باسقة، وفي أعلاه كتابة سطرنجيلية تعريبها: «كالشجرة الحاملة ثمارا، وكالينبوع الطافح بكل معونة».
وهناك حجر ظريف نقشت عليه ثلاثة غزلان تحف بها أغصان مورقة مطعمة في القاشان، وتحتها لوح رخام حفر عليه بحروف سريانية: «هذا دير مار بهنام بن سنحاريب الملك ... انبنى الدير بعون الله تعالى آمين».
وفي صحن الكنيسة يشاهد الزائر ساريتين؛ إحداهما ضخمة حفرت عليها صورة الشهيدة سارة، وصورة مار بهنام ممتطيا جوادا مطهما لاحقا في إثر إيل على ما ورد في سيرة حياته، ويعلو الشهيد مار بهنام تاج بديع يعقده على هامته ملاكان جميلان.
أما قدس الأقداس فهو مزدان بعدة صور جميلة وكتابات بديعة مطعمة في رخام لا مثيل لصلابته ولونه، وإلى يمين الواقف - أي إلى الناحية الجنوبية - باب بديع الصنع، دبجت حوله إحدى وعشرون صورة من أجمل الصور، تمثل مار بهنام وأخته سارة، ورؤساء الرهبان الأقدمين كمار أنطونيوس، والأنبا فاخوم، والأنبا مقاريس وغيرهم متوشحين بالإسكيم الرهباني، ويشاهد اسم كل منهم محفورا تحت صورته بالسطرنجيلية، وما بين تلك الصور المستبدعة نقوش رمزية تحير الأبصار دقة صناعتها ...
وإلى يسار المذبح صورة أسدين جاثمين قابضين بفمهما على حلقة من رخام فوقها هيئة نجم نافر.
وبالجملة فإن ما اشتملت عليه كنيسة دير مار بهنام الأثرية خارجها وداخلها، من النقوش والكتابات والتصاوير الكثيرة والآثار الرائعة، يجعلها في طليعة كنائس المشرق بأجمعها.
أما ضريح مار بهنام، فقد زينته قبة ظريفة دبجت أطرافها بأجمل النقوش وأصناف الكتابات السطرنجيلية والعربية والإيغورية، وفي شمالي الضريح لوحان من الرخام نقش على كل منهما صليب تكتنفه عناقيد عنب وأرغفة خبز وحمامتان مطوقتان. وهذا الضريح يحجه الزوار من مسيحيين ومسلمين ويزيديين في نذور وتقادم تبرهن عن إجلالهم واعتبارهم لولي الله صاحب هذا المزار الأثري.
1 (2) آثار كنيسة مار بطرس في أنطاكية
نقر معظم هذه الكنيسة في الصخر، وما برحت ناحيتها الشرقية صخرية أيضا، أما ناحيتها الغربية فقد قوضت ولم يسلم منها شيء على الإطلاق. ومن آثارها الباقية أرضها المرصوفة بالفسيفساء، وهي الآن في حوزة الرهبان الكبوشيين. (3) آثار كنيسة مار سرجيس ومار باخس في الرصافة
كانت الرصافة إحدى عواصم ملوك غسان، وكان المسيحيون يحجون كنيستها الكبرى المشيدة على اسم الشهيدين سرجيس وباخس، وهي كنيسة عظيمة في الجنوب الشرقي من الرصافة، اشتملت على سوق فسيحة يحف بها سماطان من القناطر ترتكز على أعمدة وردية اللون من الغرانيت المصري، وانطوت طبقتها العليا على سلسلة قناطر صغيرة محكمة الوضع، وما برحت تلك القناطر ظاهرة حتى الآن في أطلال الكنيسة التي رممت في القرن الحادي عشر، ثم تقوضت ولم يبق منها إلا الجدران والأعمدة.
2 (4) آثار كنيسة مار يعقوب الكبرى في نصيبين
أسسها مار يعقوب مطران نصيبين (309-338م) في القرن الرابع للميلاد، وكانت كنيسة عجيبة بنيت في مدة سبعة أعوام (313-320) على طراز كنائس السريان في ذلك العصر. وكانت واسعة الأرجاء، دبجت جوانبها الأربعة بزخارف مستبدعة، ومع تداول الزمان قوض نصفها وبقي نصفها الآخر حتى اليوم. ويشاهد الزائر على سواريها الباقية نقوشا كثيرة قلما شوهد نظيرها في بلاد المشرق،
3
وتحت مذبحها الشرقي سرداب مربع يحوي ضريحا من الرخام الأزرق المغبر، طوله نحو ثلاثة أذرع، وهو مغطى بحجر مقبب يقال إنه ضريح مار يعقوب مؤسس الكنيسة.
4 (5) كنيسة دير مار أوجين بجبل الأزل
موقع هذا الدير في قلب جبل الأزل، يطل على برية نصيبين الفسيحة. شيد في أواخر المائة الرابعة أو صدر الخامسة، وهو مستو بين جبلين يكتنفانه من نواحيه الثلاث على شكل هلال، فكأنه وكر نسور أو عش حمام. أما كنيسته البديعة الكبيرة فتحوي ضريح القديس أوجين منشئ الدير، وإلى جانبيه ضريحا أختيه تقلا وأسطرنطانيا، والأضرحة الثلاثة هي من الرخام الأسود المغبر.
5 (6) كنيسة دير قرتمين أو دير العمر
6
هذه الكنيسة الواسعة القديمة العهد لم تزل حتى اليوم، وهي تعد من أفخر كنائس طور عبدين وأقدمها وأبدعها، ويقرأ في سيرة المطران جبرائيل مجدد دير العمر إن الملك أنسطاس الأول (491-518) وجه أموالا وهدايا فضية وذهبية مع بنائين ونحاتين ماهرين؛ فابتنوا الكنيسة وجعلوا سماكة جدرانها سبع أذرع. وتشتمل الكنيسة على ثلاثة مذابح لجهة الشرق، وعلى ترونس من رخام طوله ستة أشبار في عرض عشرة أشبار توضع فوقه الكتب الفرضية، وقد نقر على هذا الترونس كتابة سطرنجيلية ضخمة تاريخها سنة 1080 للإسكندر (769م)، وجاء في سيرة المطران جبرائيل المشار إليها أن هذه الكنيسة زينت بصور إنسان وأسد وثور ونسر إشارة إلى الإنجيليين الأربعة، وكانت مزدانة بنحو ثلاثمائة صورة تمثل حياة السيد المسيح.
7
ويشاهد حتى اليوم في قبة قدس الأقداس آثار فسيفساء مطعمة بالفضة والذهب، على شكل جفنة عناقيدها سوداء وأوراقها خضراء، وأرض قدس الأقداس مرصوفة بالفسيفساء الملونة، وعند باب الكنيسة على شمال الداخل إليها حجر مكتوب بالسطرنجيلية، يتضمن أسماء أساقفة هذا الدير مدة 240 سنة، أعني من السنة 1160 للإسكندر (849م) فصاعدا.
8 (7) آثار كنيسة مار يعقوب الحبيس في صلح
بني دير مار يعقوب المصري الحبيس نحو السنة 730 للإسكندر (419م)، أما كنيسته فشيدت حول السنة 1080 للإسكندر (769م)، وهي من إبداع كنائس الشرق وأفخمها وأضخمها، يعلو بابها الخارجي صورة شمس نافرة، ويشاهد زائرها على الجدار الفاصل بين المذبح والكنيسة نقوشا ناتئة وسبع كتابات سطرنجيلية يرتقي أقدمها إلى السنة 1000 للإسكندر (689م)، تليها كتابة حفرت في السنة 1065 للإسكندر (754م) ... إلخ. وتعلو باب المذبح نقوش ظريفة مختلفة الأشكال وقبة شاهقة،
9
وسنلمع في فصل تابع إلى إنجيل بديع مصور حفظ في هذه الكنيسة حتى الحرب العظمى (1914-1918). (8) آثار أضرحة دير مار أدي الرسول في طور عبدين
حفظ من هذا الدير العظيم رواق قديم العهد، حفرت على حجاره كتابات سطرنجيلية محكمة تشير إلى أن هناك مقبرة لرهبان الدير، ويتصل أقدم تلك الكتابات بالسنة 1220 للإسكندر (909م)، تليها سنة 1300 للإسكندر، ثم سنة 1307 ... إلخ.
10 (9) آثار دير مار آباي في قلث
موقع هذا الدير شمالي قرية قلث بطور عبدين، وهو دير عظيم تأسس في القرن السادس، وعصف الدير برهبانه حوالي السنة 1700، وكان يقطنه ستون راهبا.
11
طول بنائه تسعون ذراعا في عرض ستين ذراعا، وعلى أحد أبوابه صورة أسد رابض، وهناك حجر ضخم شق شطرين، اشتمل أحدهما على ثمانية عشر سطرا، والثاني على اثني عشر سطرا مكتوبة كلها بحروف سطرنجيلية،
12
وقد زار هذا الدير نجم الدين الأرتقي ملك ماردين (1135-1176) في أثناء مرضه، ونال الشفاء من ولي الله صاحب هذا الدير.
13 (10) آثار دير مار سرجيس ومار باخس في حاح
هذا الدير موقعه في شمالي قرية حاح بطور عبدين، ويشاهد في رواقه الغربي اثنا عشر حجرا مكتوبة بالسطرنجيلية، يرقى أقدمها إلى شهر حزيران 1500 للإسكندر (1189م)، وعلى باب كنيسة الدير الشمالي صليب نقشت حوله في السطرنجيلية آية داود النبي: «انظروا إليه وترجوا ووجوهكم لا تخزى.» (مز 33 عدد 6).
14 (11) آثار كنيسة مار يوحنا في كفرزة
كفرزة هي إحدى قرى طور عبدين وكنيستها الكبرى مشيدة على اسم مار يوحنا، ويشاهد الزائر على جدارها صورة ثعبانين تعلوهما هيئة شمس وقمر، وإلى جانب البيعة رواق حوى حجارا مرقومة بالسطرنجيلية تصعب قراءتها؛ لأن الأمطار والرياح ذهبت برونقها.
15 (12) آثار كنيسة مار قرياقس الكبرى في أنحل
أنحل قرية قديمة في طور عبدين غربي مذيات، وكنيستها المبنية على اسم مار قرياقس الشهيد تحاكي في هندستها الكنائس الراقية إلى القرن السادس، وفي جدارها الشمالي ضريح المفريان عبد الأحد بن جندو، يحيط به إطار من حجر ارتفاعه نحو خمس أذرع، واتساعه ثلاث أذرع، وقد حفر على ذلك الإطار بالسطرنجيلية تاريخ هذا المفريان وسنة وفاته. (13) آثار مار يوليان الشرقي بجوار القريتين
لهذا القديس المعروف بيوليان الشيخ كرامة عظيمة في البيعة السريانية، وهو الذي وشح مار أفرام الكبير بالإسكيم الرهابني، وعلى إثر وفاته عام 367 للميلاد نقل تلامذته جثمانه إلى جوار بلدة القريتين الواقعة ببادية تدمر، وأودعوه ضريحا من حجر البازار لم يزل باقيا حتى اليوم
16
ويحجه الأهالي من كل صوب يوم عيد القديس الواقع في 9 أيلول. (14) آثار دير مار موسى الحبشي بجوار النبك
يرتقي عهد بناء هذا الدير إلى أوائل القرن السادس، وهو يبعد عن بلدة النبك مسير ساعتين، وكنيسته الأثرية محفوظة حتى اليوم يعلو مذبحها قبة خشبية مزركشة راكزة على أربعة أعمدة خشبية أيضا، وفي هذه الكنيسة صور الإنجيليين الأربعة مرسومة في أطراف قبتها، وبجانب كل منهم آية بالسريانية مقتبسة من إنجيله. (15) آثار كنيسة مار بطرس في العاقورة بلبنان
من أقدم كنائس السريان الأثرية كنيسة مار بطرس الرسول في العاقورة بلبنان، وهي تتفرد عن سائر الكنائس بكونها منقورة في الصخر، يبلغ طولها كعرضها نحوا من 15 ذراعا، أما ارتفاعها فلا يتجاوز أربع أذرع، وقد احتوت على أحد عشر ضريحا منحوتة بطول قامة الإنسان، وصفها بعض السياح وعلماء الآثار. ومما يؤيد أن هذه الكنيسة كانت للسريان قبل انتقالها إلى الطائفة المارونية سنكسار نسخ سنة 1726 للإسكندر (1415م) جاء فيه ما نصه:
هذا الكتاب السنكسار للآباء القديسين ... وقفا مؤبدا وحبسا مخلدا على كنيسة مار بطرس في قاسطرة عين قورا قريبا من يانوح، كتبه الخاطي ... ربان سركيس ولد شماس برصوم ولد الخوري شمعون، من بيت زوين، في يوم 25 آذار سنة 1726 للإسكندر المقدوني في أيام أبهاتنا أبونا وتاج رءوسنا المحترم موران ماري إيغناطيوس بهنام بطرك أنطاكية السريان، وماري ديوسقورس بهنام المفريان المشرق، وماري فيلو كسينوس أسقف قاسطرة حردين المباركة، أوقفه على روح أمه شموني مراة برصوم زوين، وليس لأحد أن يأخذه أو يمتلكه ... صح صح.
17 (16) آثار كنيسة دير والدة الله في وادي النطرون بمصر
يرتقي عهد هذه الكنيسة إلى القرن السادس أو السابع للميلاد، جدد مذبحها القس موسى النصيبيني في القرن العاشر، وحفر فوقه كتابة سطرنجيلية مؤداها: «تشييد هذا البناء في زمان القس موسى النصيبيني رئيس الدير». وقس عليها كتابات سطرنجيلية متعددة منقوشة في جدران الدير أيضا.
وتشتمل كنيسة والدة الله: (1)
على أيقونة قديمة جدا تمثل العذراء مريم وعليها رسم خروف. (2)
على جرن معمودية في وسطه صليب محفور كمألوف تقاليد السريان. (3)
على أيقونات عديدة من العاج مطعمة بخشب صنوبر، بينها أيقونة مار مرقس على حجاب الهيكل. (4)
على صور الاثني عشر رسولا. (5)
على صور السيد المسيح، والعذراء مريم، ومار مرقس وغيره. (6)
على حوض ماء في الخورس الداخلي وفيه أعمدة من رخام.
وهناك قصر فخم ملاصق لبوابة الدير الكبرى ارتفاعه 12 مترا، اشتمل في سالف العصور على مكتبة الدير الشهيرة، وفي أسفله طاحون،
18
وفي ساحة الدير البرانية شجرة عجيبة مشهورة بشجرة مار أفرام السرياني تظلل أغصانها أبنية الدير بأسرها، وتتخلل أوراقها عناقيد زهور جميلة، وما برح رهبان القبط يتلون تحت الشجرة الأفرامية صلواتهم الفرضية عند غروب الشمس.
19
هوامش
الفصل الرابع عشر
بعض كنائس السريان الكبرى في عصرهم الذهبي
أجمع المؤرخون وفي طليعتهم أوسابيوس القيصري (265-340م) أن النصرانية انتعشت خصوصا في عهد قسطنطين الكبير (306-337م)؛ فإن ذلك القيصر الظافر وأمه هيلانة الرهاوية السريانية أنفقا ما أنفقا من قناطير الفضة والذهب على تشييد الكنائس في أطراف مملكتهما الشاسعة، وإذا حصرنا الكلام بالبلاد السريانية، قلنا إن كلا الملكين ابتنيا في المدن والعواصم كنائس فخمة أطلق المسيحيون على بعضها اسم «قاثوليقية» أي جامعة، أو اسم «بازيليقا» أعني ملكية، لا يزال ذكرها أو أثرها باقيا حتى الآن. وإليك نبذة وجيزة عن كنائس السريان الكبرى في عصرهم الذهبي. (1) كنيسة القسيان الكبرى في أنطاكية
هي كنيسة ماربطرس مؤسس الكرسي الأنطاكي، دعيت «القسيان» فيما قيل تيمنا باسم الملك الذي نال ابنه الشفاء على يد بطرس رئيس الحواريين، وقد ابتناها قسطنطين الكبير، ووالدته الملكة هيلانة الرهاوية بطول مائة خطوة وعرض ثمانين خطوة.
1
وفي هذه الكنيسة الكبرى أقام البطاركة الأنطاكيون حفلاتهم البيعية، وفيها عقدوا المجامع، نخص بالذكر منها مجمع أنطاكية المعروف باسم «مجمع التدشين» الذي حضره سبعة وتسعون أسقفا، وعلى رأسهم البطريرك فلاقلس (342-346م).
2
ولما منيت البيعة الأنطاكية بالشقاق المؤلم الذي مزق وحدتها في القرن الخامس، استقلت الفرقة الملكية بكنيسة القسيان حتى السنة 1085م، وفيها استولى عليها السلطان أبو الفتح وحولها إلى جامع، ثم استرجعها الصليبيون لما فتحوا أنطاكية في 2 حزيران 1908، ونصبوا بطريركا لأنطاكية من جنسهم يقال له برنردس، وعثروا في تلك البيعة عينها على الحربة التي طعن بها جنب يسوع الفادي.
وفي ذلك العهد انطلق بعض بطاركة السريان إلى أنطاكية ليتفقدوا أبناء ملتهم، فخرج الفرنج الصليبيون إلى استقبالهم وأدخلوهم إلى كنيسة القسيان بأبهة عظيمة، وأجلسوهم على كرسي مار بطرس كما جلس عليه أسلافهم قبل عهد الشقاق المذكور. نذكر منهم البطريرك أثناسيوس السابع (1091-1129)، وميخائيل الكبير (1167-1200)، ويوحنا السادس عشر (1208-1220)، وأغناطيوس داود (1264-1283)، وغيرهم. (2) كنيسة والدة الله الكبرى في أنطاكية
هذه الكنيسة الكبرى المثمنة الزوايا، أسسها قسطنطين الكبير وأمه هيلانة في أنطاكية تيمنا باسم والدة الله مريم، وثابر العملة على الاشتغال في بنائها مدة خمس عشرة سنة، وجرى الاحتفال بتدشينها في 6 كانون الثاني صباح عيد ظهور السيد المسيح على نهر الأردن.
3 (3) كنيسة أبجر الكبرى في الرها
أسس السريان هذه الكنيسة الملكية الفخمة على أنقاض هيكل وثني ابتناه سلوقس الملك المقدوني في غربي الرها، وكان يشتمل على أسطوانات ضخمة من الرخام، فحوله السريان إلى كنيسة وشيدوا فيه مذبحا قدس عليه أدي الرسول أول قداس، وتقرب حين ذاك أبجر أول الملوك المسيحيين،
4
وجميع من تبعه في النصرانية. ثم أطلق على تلك الكنيسة اسم «كنيسة أبجر الكبرى» أو «كنيسة فاروقان»، وهو لفظ سرياني معناه في العربية «مخلصنا».
5
وتعتبر هذه الكنيسة الأبجرية الملكية أم جميع الكنائس وباكورتها في بلاد ما بين النهرين. (4) كنيسة آجيا صوفيا الكبرى في الرها
عنيت الملكة هيلانة بتأسيس هذه الكنيسة العظمى في وطنها، وبالغت في إتقان هندستها وزخرفتها، حتى عدت في جملة عجائب الدنيا،
6
وجرى ذلك في عهد إيثالاها مطران الرها (324-346م)، فأجزلت تلك الملكة لكنيسة وطنها تحفا ملكية، وأمرت أن يدبج داخلها بالذهب والزجاج والمرمر، وأن يرصع بيت القربان وأعمدة المذبح وسائر أعمدة الكنيسة ومنبرها بفضة خالصة، بلغ وزنها مائة واثني عشر ألف رطل.
7 (5) كنيسة الرسل وكنيسة مار سرجيس في الرها
على إثر وفاة مار ربولا مطران الرها (412-435م) خلفه المطران يهيبا (435-457م) الذي اشتهر برسائله وتصانيفه وشروحه، وهو الذي شيد في الرها كنيستين: أولاهما كنيسة الرسل التي كانت - كما صرح المؤرخ الرهاوي - من أبدع كنائس الدنيا وأفخمها، وثانيتهما كنيسة مار سرجيس الشهيد، شيدها عند الباب الشرقي على طراز كنيسة الرسل.
8 (6) كنيسة مار يوحنا المعمدان في الرها
ابتناها نونا مطران الرها (457-471م) في مطلع عهد مطرانيته على سوار عجيبة من الرخام الأحمر،
9
وكانت تشتمل على زهاء مائة نافذة مشبكة بقضبان حديدية، يدخلها شعاع الشمس ولا تدخلها الطير، وقد شغلها الفرنج الصليبيون عام 1098 ودبجوها بأجمل زينة، ومع تداول الزمان احتلها المسلمون وحولوها إلى جامع، أطلقوا عليه اسم «جامع عين الزلخة». (7) كنيسة والدة الله الكبرى في الرها
هي من أقدم كنائس الرها وأبدعها وأوسعها، وقد جدد بنيانها أثناس برجوميا الرهاوي في عهد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي (685-705م)، وكان أثناس قابضا على زمام الشئون المالية في أنحاء مصر من قبل الخليفة المذكور، فجمع فضة وذهبا كالتراب، واقتنى عبيدا ودورا وحدائق وافرة، وابتنى كنيستين للسريان في الفسطاط بمصر، وكان له في الرها مسقط رأسه ثلاثمائة حانوت وتسعة فنادق.
وشيد بالقرب من كنيسة والدة الله بيتا للمعمودية، أجرى المياه فيه ضمن أقنية خاصة، ثم زينه بمرمر مرصع ودبجه بذهب وفضة.
10 (8) سائر كنائس الرها
ما عدا الكنائس الكبرى السابقة الذكر، فقد أحصى المؤرخ الرهاوي كنائس أخرى عديدة شيدها السريان في الرها عاصمتهم.
11
أما البطريرك ميخائيل الكبير، فاقتصر على ذكر كنائس الرها التي دمرها العرب وهي:
12 (1) الكنيسة الكبرى. (2) كنيسة الرسل. (3) كنيسة مار توما. (4) كنيسة مار ميخائيل. (5) كنيسة مار قزما التي كان فيها المنديل المطبوع عليه وجه السيد المسيح. (6) كنيسة مار جرجس. (7) كنيسة الفاروق. (8) كنيسة والدة الله المعلقة. (9 و10) كنيستان أيضا باسم والدة الله. (11) كنيسة الأربعين شهيدا الكبرى. (12) كنيسة ثانية باسم الشهداء الأربعين. (13) كنيسة المعترفين غوريا وشمونا وحبيب، في باب الساعات. (14) كنيسة مار إسطفان. (15) كنيسة مار ثئودورس إزاء القلعة. أما كنيسة مار أفرام فلم يحتلها العرب لأنها خارج المدينة. (9) كنيسة مرتمريم القاثوليقية في دمشق
أطلق السريان عنوان «قاثوليقية» على عدة كنائس كبرى ابتنوها في المدن الشهيرة؛ لأنه كان يتقاطر إليها جمهور من شتى الشعوب النصرانية، كالروم واليونان والفرس والأرمن والأقباط والأحباش ... إلخ، فدعيت كنيسة مرتمريم لهذا السبب، قاثوليقية أي جامعة، ولفظ «مرتمريم» سرياني بحت، معناه «السيدة مريم»، وبهذا الاسم ذكر تلك الكنيسة يحيى الأنطاكي مكمل تاريخ سعيد بن بطريق، قال: «ثار المسلمون في دمشق؛ فهدموا كنيسة «مرتمريم» القاثوليقية، وكانت كنيسة عظيمة كبيرة حسنة، أنفق فيها مائتا ألف دينار، ونهب ما كان فيها ... من حلي وستور.»
13 (10) كنيسة حلب الكبرى
ظلت هذه الكنيسة الكبرى في حوزة السريان حتى القرن السادس، ثم استولى عليها الملكيون، وهي التي ابتنتها الملكة هيلانة الرهاوية، ووصفها ابن الشحنة مؤرخ حلب بقوله: كان موقعها بستانا للكنيسة العظمى في أيام الروم، وهي منسوبة إلى هيلانة أم قسطنطين. وقال أيضا: إن موقعها كان تجاه الجامع الغربي المعروف بالجامع الكبير، وكانت معظمة عند النصارى، حتى قيل إنه كان يقف على بابها يوم الأحد كذا وكذا بغلة لرؤساء النصارى من الكتاب والمتصرفين.
14 (11) كنيسة الرقة القاثوليقية
أطلق على هذه الكنيسة أيضا اسم «قاثوليقية» للسبب الذي ذكرناه آنفا، وبقيت عامرة زاهرة إلى ما بعد القرن التاسع، وفيها عقد أساقفة السريان مجمعا ورقوا إلى الكرامة البطريركية الراهب ديونيسيوس التلمحري (818-845م)، وكان عددهم ثمانية وأربعين أسقفا. وذكر غير واحد من مؤرخي السريان كنائس غيرها بهذا العنوان «قاثوليقية» دلالة على فخامتها وضخامتها.
15 (12) كنيسة أوسابيوس الشهيد في سميساط
سميساط مدينة كبرى على شط الفرات كانت عامرة بالسريان، لهم فيها مطران، واشتهر أوسابيوس مطرانها في القرن الرابع، وابتنى كنيستها العظمى طبقا لهندسة رسم له مساحتها ملاك سماوي، واستغرق بنيانها أربع عشرة سنة، وكان المؤمنون في تلك الأطراف يبعثون إليها بالأحجار والأخشاب والكلس في الزوارق دون أجرة، ولما اكتمل بناؤها حضر تدشينها أساقفة عديدون، في جملتهم مار يعقوب أسقف نصيبين.
16 (13) كنيسة والدة الله القاثوليقية في رومي قلعة
نضم إلى الكنائس القاثوليقية السابقة الذكر كنيسة والدة الله، شيدها البطريرك يوحنا السادس عشر (1208-1220) في بلدة رومي قلعة الواقعة على ضفة الفرات، قال ابن العبري ما تعريبه: «إن القس يشوع أخبر البطريرك يوحنا أن السريان ازداد عددهم في رومي قلعة، وأصبحوا المتقدمين بين سائر النصارى وأصحاب ثروة، وهم محتاجون إلى كنيسة تسعهم، فأوفد البطريرك من قبله مهندسين ووكلاء في أموال كافية، فابتنوا في مدة قصيرة كنيسة مجيدة لفخر السريان، وابتنى هذا البطريرك عينه جامعا للمسلمين استجلابا لخواطرهم، وانطلق إلى أنطاكية وأدهش الفرنج بعطاياه، واشترى حرشا فسيحا في الناحية العليا من تلك المدينة، وابتنى فيه كنيسة بديعة وقبة فاخرة لسكناه.
17 (14) كنيسة مار يوحنا الكبرى في ملطية
كانت ملطية إحدى حواضر السريان في القرون الوسطى، لهم فيها عشرات الكنائس، وقد أنشئوا هناك كنيسة كبرى أطلقوا عليها اسم مار يوحنا المعمدان «الساعي» قدام السيد المسيح، وأصبحت تلك البيعة «مباءة» للعلم الديني واللغوي في أوائل المائة الحادية عشرة، وخبا نجمها في أوائل المئة الثالثة عشرة.»
18 (15) كنيسة سيس الكبرى
قام بهندستها عيسى الرهاوي عام 1244، وتبرع بجميع نفقات بنيانها، وفيها رقي أبو الفرج ابن العبري المشهور إلى الرتبة المفريانية بتاريخ 19 كانون الثاني 1264 كما سلف القول، ودعي غريغوريوس، وشهد تلك الحفلة الرائعة حاتم ملك الأرمن وأولاده وعظماء المملكة، وأساقفة السريان والأرمن، ورهط من العلماء.
19 (16) الكنيسة الخضراء في تكريت
كانت كاتدرائية فخمة شيدها المفريان دنحا الثاني (688-728) تيمنا باسم سالفه أحودامه أول المفارنة الذين سكنوا تكريت، ثم أطلق عليها اسم «الكنيسة الخضراء» واتخذها المفارنة منذ القرن الثامن مركزا لهم، فبالغوا في تزيينها وتنميقها، إلا أنها نهبت في السنة 1089، ونزعت أملاكها وحللها الفاخرة واستحلها الفاتحون وملكوها، وما برحت أطلالها ماثلة إلى الآن.
20
الخلاصة
هذا نزر من الكنائس السريانية القديمة العهد التي ورد ذكرها تحت عنوان «كبرى» أو «قاثوليقية»، ولو شئنا التوسع في وصف سائر الكنائس المهمة التي ابتناها السريان في المدن والدساكر لطال بنا المجال، وفيما كتبناه مئونة كافية للدلالة على ما كان لهم في عصرهم الذهبي من المكانة والبسطة والثقافة، فضلا عن كثرة عددهم.
ولا نرى أن نغمض عن ذكر كنائس متعددة ابتناها السريان في مدينة واحدة أو قطر واحد، فما عدا بعض كنائس الرها التي أثبتنا أسماءها كنيسة فكنيسة، وما عدا كنائس طور عبدين وجبل الأزل الوافرة العدد، فإن السريان أنشئوا في مدينة ملطية وحدها ستا وخمسين كنيسة بقيت إلى القرن الحادي عشر، وبذلك شهد الأنبا ميخائيل القبطي أسقف تنيس الذي زار البطريرك يوحنا بن عبدون (1004-1030) في كرسيه بالمدينة المذكورة،
21
وعلى رغم ما تهدم من كنائس السريان بالزلازل والحروب ونوازل الدهر، فقد بقيت لهم عام 1236 عشرون ألف كنيسة كما كتب كيرلس الثالث البطريرك القبطي إلى البطريرك أغناطيوس الثالث السرياني في القرن الثالث عشر.
22
هوامش
الفصل الخامس عشر
الفنون الجميلة عند السريان
التطريز والتصوير والنقش
راجت عند السريان أسواق الفنون الجميلة كالنقش، والحفر، والتصوير، والزخرفة، والتطريز، والهندسة، والموسيقى، وتجويد الخط، فأتقنوها منذ أقدم العصور وبرعوا فيها، ولعلهم فاقوا غيرهم من الشعوب بما خلفوه من الآثار المستبدعة في الفنون المذكورة، وما برحت بعض معاهدهم القديمة فضلا عن متاحف الشرق والغرب تشتمل على طرائف من تلك الذخائر النفيسة مما يدهش العقول ويبهج الأبصار، وكلها تبرهن عما وهبهم الله - عز وجل - من الحذق والنباهة والإتقان في العمل، وهاك ما تيسر لنا الوقوف عليه من هذا القبيل في مطالعاتنا الكثيرة وأبحاثنا الدقيقة: (1) رداء سنعاري ملكي مطرز بالذهب
مما سطره الكتاب المقدس عن فنون السريان الآراميين رداء سنعاري نفيس ورد ذكره في سفر يشوع بن نون
1
وقال عنه يوسيفس المؤرخ: «هو رداء ملكي موشى بالذهب.»
2
أما سنعار فهي برية بلاد ما بين النهرين، منها خرج إبراهيم إلى أرض كنعان، وكان إبراهيم آراميا كما نص الكتاب المقدس.
3 (2) تصاوير وكتابات آرامية سريانية في كنيس دورا
خلف السريان القدماء آثارا جمة برهنت على براعتهم في التصوير والنقش، لا في أبنيتهم فقط بل في أبنية غيرهم من الشعوب، فمن أروع آثارهم الفنية ما حفظ في كنيس لليهود يرتقي عهد بنيانه إلى السنة 556 للإسكندر، وقد اكتشف ذلك الكنيس في مدينة دورا ونقل بأجمعه إلى دار الآثار بدمشق، فتعهدناه بنفسنا ودهشنا بما شاهدناه فيه من زخرف وجمال وإتقان، ولفتت نظرنا خصوصا تصاوير جميلة وكتابات آرامية قام بها مصور سرياني.
ومما رسمه ذلك المصور بريشته على جدران الكنيس صورة خروج بني إسرائيل من مصر، وصورة موسى الكليم والعليقة الملتهبة في حوريب، وصورة حلم يعقوب أبي الأسباط، وصورة زيارة ملكة سبأ لسليمان الملك. وقد لون المصور السرياني تلك الصور العجيبة بلون أحمر غامق، ونقش أيضا في سقف الكنيس على لوحتين كتابات آرامية سريانية.
4 (3) تصاوير السريان في كنائسهم اللبنانية
كنيسة مار شربيل في معاد:
كان للوثنيين في قرية معاد هيكل على اسم المشتري حوله أحد أغنياء السريان الرهاويين
5
المقيم في لبنان إلى بيعة مسيحية، وأطلق عليها اسم مار شربيل شهيد الرها وطنه. وعلى جدران هذه الكنيسة رسمت صور جميلة عدت طرفة من طرف الأيام، غير أن مرمميها الجهلة في الأعوام الأخيرة عبثوا بآثارها القديمة، ومحقوا صورها ونقوشها النفيسة.
6
كنيسة مار ثئودورس في بحديدات:
من أقدم كنائس السريان في لبنان كنيسة مار ثئودورس الشهيد في بحديدات، وهي مزدانة برسوم جميلة، وكتابات قديمة، منها صور الكاروبيين يحملون بين أيديهم تسبيحة التقاديس الثلاثة مكتوبة بحروف سطرنجيلية، وهناك صور غيرها تزينها كتابات سطرنجيلية أيضا تعرف أسماء الأشخاص المصورين فيها،
7
ولا حاجة إلى التصريح بأن هذه الكنيسة القديمة كانت في حوزة السريان قبل أن يتولاها الموارنة.
8
كنيسة مار جرجس في إهدن:
بنى السريان هذه الكنيسة في أوائل النصرانية في لبنان، وأطلقوا عليها اسم مار جرجس ومار إبحاي وستنا السيدة في إهدن،
9
وزينوها بصور جميلة تحاكي صور بيعة مار شربيل في معاد ومار ثئودورس في بحديدات ومار كور كيس في رشكيدا،
10
ولما أمتلكها الموارنة بتوالي الأزمان أطلقوا عليها اسم مار جرجس فقط.
كنيسة مار كوركيس في رشكيدا:
هاك كنيسة رابعة أنشأها السريان بلبنان في سالف الأيام، وهي كالكنائس الثلاث السابق ذكرها، نقشت على حيطانها صور لا تقل إتقانا وجمالا عن صور تلك الكنائس.
وقد شرحنا أخبار هذه الكنائس الأربع بالتفصيل الوافي في كتابنا «السريان في لبنان»،
11
وسننشره في وقت قريب إن شاء الله تعالى. (4) تصاوير السريان في كنائسهم بالعراق
تصاوير كنيسة المفارنة الكبرى في تكريت:
تكريت مدينة في العراق بين الموصل وبغداد، تعد إحدى عواصم السريان وقاعدة مفارنتهم، وكان لهم فيها شأن عظيم دون سائر المدن، فشيدوا فيها كنائس جمة، أكبرها وأفخمها كنيسة مار سرجيس ومار باخس التي قام بتأسيسها المفريان بريشوع (669-684)، وعني كثيرا بزخرفتها وزينها بتصاوير رائعة تبهر الأبصار حتى أصبحت - كما قال المفريان ابن العبري - من أظرف الكنائس وأبدعها، واحتوت على أضرحة بعض المفارنة، وقد حفر على كل منها في السطرنجيلية اسم المفريان المدفون فيه وتاريخ سيامته ووفاته، ولم يسمح المفارنة للنساطرة أن يشيدوا لهم كنيسة في تكريت حتى القرن الثامن ، فابتنوا عام 767 كنيسة على شاطيء دجلة خارج سور المدينة.
12
تصاوير كنيسة السريان في بغداد:
من الكنائس التي تجلت فيها براعة فن التصوير كنيسة بغداد السريانية الكبرى في عهد الخلفاء العباسيين، فإنها احتوت من عجائب الصور ما أدهش الناظرين، وقد قصدها الناس من الآفاق.
13
تصاوير كنيسة مار بهنام بالموصل:
سبق لنا في الفصل الثالث عشر وصف الصور البديعة الباقية حتى اليوم في كنيسة دير مار بهنام الشهيد المشيد في القرن الرابع بجوار الموصل، فنكتفي هنا بالإشارة إليها ونحيل القاريء إلى مطالعتها في مكانها. (5) تصاوير كنائس السريان في طور عبدين
تصاوير كنيسة دير قرتمين:
أوردنا في الفصل السابق وصف هذه الكنيسة النفيسة، وهنا نكرر القول إنها كانت تشتمل على صور الإنجيليين الأربعة ورموزهم، أعني الإنسان والأسد والثور والنسر، وكانت مزدانة أيضا بثلاثمائة صورة تمثلت فيها حياة السيد المسيح وأعماله ومعجزاته.
14
تصاوير كنيسة قلث:
هذه الكنيسة المشيدة على اسم الرسول مار سمعان القناني في قرية قلث بطور عبدين، اشتهرت بقدمها ولا سيما بالتصاوير المدبجة في جدارنها، ولم يزل بعضها واضحا والبعض الآخر طمسه الزمان.
15
تصاوير كنيسة والدة الله في حاح:
تعتبر هذه الكنيسة من أجمل كنائس طور عبدين وألطفها وأعرقها في القدم، يعلو سوقها قبة شاهقة فخمة يليها قدس الأقداس، وهي على شكل صليب مزدانة بصور كثيرة ونقوش وافرة، ووراء مذبحها كوى ثلاث رسمت عليها زخارف متنوعة.
16
تصاوير كنيسة مار شمعون في حبسناس:
يتقادم عهد بناء هذه الكنيسة إلى القرن السابع، ويعلو قدس الأقداس فيها رواق شاهق دبجت حجارته بنقوش بديعة تلفت الأنظار.
17
تصاوير كنيسة عرناس:
بنيت هذه الكنيسة الكبرى فوق رابية في بلدة عرناس، وتعرف بكنيسة والدة الله ومار بسوس، ومار قرياقس وأمه يوليطي، وهي تضارع كنيسة حبسناس بهندسة بنائها ونقوشها وزخارفها وتصاويرها.
18 (6) تصاوير ديري الكرسي البطريريكي ورخارفهما
تصاوير دير مار برصوم في ملطية وأمتعته:
من جملة الأديار التي أقام فيها بطاركة السريان دير مار برصوم بجوار ملطية، وهو دير عظيم أنشئ عام 790 للميلاد، وصار كرسيا بطريركيا في القرن الثامن حتى أواخر القرن الثالث عشر، وقد تفانى البطاركة بإتقان هندسة أبنيته وتجميله بالصور والزخارف،
19
نذكر منهم البطريركين ميخائيل الكبير (1167-1200)، وأغناطيوس الثالث (1222-1252)، ذلك فضلا عما حواه من مخطوطات وافرة وأمتعة وأوان بيعية ثمينة.
وكتب أغناطيوس الثالث في وصيته لدير مار برصوما صليبا كبيرا من الذهب، ومروحتين فضيتين، وحلة حبرية نفيسة، وثلاث حلل حبرية حريرية، وبطرشيلات فاخرة، ومصنفات بديعة، وكوز فضة للميرون، ورأس عكاز ذهبيا، وكتاب سيامات كهنوتية بخط سلفه ميخائيل الكبير، ذلك عدا ما كتبه من النقود لملك قيليقيا الأرمني وللكهنة وغيرهم.
تصاوير دير الزعفران:
أصبح دير الزعفران مركزا لبطاركة السريان منذ أوائل القرن الثاني عشر، غير أنهم لم يستقروا فيه إلا من عهد البطريرك أغناطيوس الخامس (1293-1333) المعروف بابن وهيب، ولم يزل كذلك على رغم اضطرار بعضهم إلى السكنى خارجا عنه لدواع استثنائية.
أما كنيسة الدير فتشتمل على بعض الصور، ولا سيما صورة مار حنانيا شفيعه. ومذبح الكنيسة خشبي مطعم بنقوش زاهية جميلة، وعلى بابها الغربي كتابات سطرنجيلية محبوكة بزخارف ملونة، وفي صدر الكرسي البطريركي أسماء جميع البطاركة مرسومة بالسريانية بشكل دوائر، منذ الرسول بطرس إلى هذا الزمان. وحوى دير الزعفران مذبحا جميلا نقشت على طرفيه بحروف سطرنجيلية ضخمة آيات من الإصحاح السادس عشر لإنجيل متى الرسول، ابتداء من قوله: «وجاء يسوع إلى نواحي قيسارية فيلبس»، حتى قوله «وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي». (7) تصاوير السريان في مصاحفهم
مثلما نبغ السريان في تنميق الأقمشة والأخشاب والجدران والعاج بالصور والزخارف، نبغوا كذلك في تزيين المصاحف بأروع الرسوم وأبدع الخطوط، وقد خلفوا منها عددا وافرا تتباهى به المتاحف والمكتبات شرقا وغربا، إنما اكتفينا هنا بالإلماع إليها فقط لأننا أفرزنا لها فصلا خاصا حوى وصفها وبيان مزاياها. (8) مشاهير المصورين السريان
منمق إنجيل ربولا ومصوره:
أقدم مصور سرياني وقفنا له على آثار في هذا الفن هو الربان ربولا، الذي عاش في النصف الثاني من القرن السادس، فإنه تولى رئاسة دير مار يوحنا في زغبة، ونمق سنة 586 ميلادية الإنجيل الرائع المعروف باسمه في مكتبة فلورنسا وزينه بالصور النفيسة، وسنذكر في فصل لاحق مزايا هذا الإنجيل وخبر منمقه العلامة.
سويرا سابوخت (†667م):
مهر في العلوم الفلكية، وصنف فيها كتابا زينه بصور البروج والكواكب.
20
منمق إنجيل قرقوش ومصوره:
هذا إنجيل سطرنجيلي ثان أمتعنا النظر برؤيته، وأعجبنا ببراعة الراهب مبارك بن داود البرطلي الذي أفرغ مواهبه في تنميق صحائفه ووشاها بالرسوم الباهرة، وسنتحدث بالتفصيل عن هذا الإنجيل النفيس، وعن براعة محبره في غير هذا الفصل.
سائر مشاهير المصورين السريان:
ما عدا الربان ربولا الزغبي، وسويرا سابخت، والراهب مبارك البرطلي، عثرنا على أسماء رهط من المصورين السريان خلفوا آثارا نفيسة دلت على نبوغهم في هذا الفن، نذكر منهم على سبيل المثل: الراهب شمعون، والراهب يشوع، والراهب يحيى في القرن التاسع،
21
والشماس يوسف الملطي (†997م) الذي تميز بفن النقش والتصوير المزوق، فضلا عن التفنن في الخط، وفي ذلك جاراه الراهب يحيى أو يعيش السبيريني في القرن الحادي عشر، والراهب سهدو الرهاوي سنة 1149م، ومثلهم الراهب القس بطرس ابن الشماس أبي الفرج سابا السبيريني، نسبة إلى باسبرينا في طور عبدين، ثم الراهب القس سهدو آل توما الطورعبديني، والمطران ديوسقورس ثئودورس امتاز بخطه السطرنجيلي النفيس، وأبدع خصوصا في التصاوير الملونة، ومن آثاره إنجيل مصور في الخزانة الزعفرانية.
22
وجاء بعد هؤلاء المصورين القس وسف العرناسي (1449) نسبة إلى عرناس إحدى قرى طور عبدين، والراهب دانيال القصوري (†1557) نسبة إلى قرية القصور الواقعة في جنوبي ماردين، والبطريرك أغناطيوس نعمة الله (1557-1576-1590) وغيرهم.
هوامش
الفصل السادس عشر
فن الهندسة عند السريان
بين الفنون الجميلة التي راجت سوقها عند السريان في عصرهم الذهبي فن الهندسة، فإنهم برعوا فيه براعتهم في فن التصوير والنقش والزخرفة، وهذه معاهدهم العلمية والدينية التي استعصت رسوم أطلالها على الدهر، تشهد لهم بطول الباع في تلك الحلبة، وهي مزية أهلتهم أن يكونوا بهندسة البناء في مستوى سائر الأمم القديمة الراقية. (1) إتقان الهندسة في المعاهد السريانية
حسبنا أن نذكر من آثار السريان الهندسية كنائس الرها، ولا سيما كنيسة آجيا صوفيا الملكية التي عدها مؤرخو النصارى وجغرافيو المسلمين من عجائب الدنيا .
1
وأثبت ابن عساكر عن الوليد الخليفة الأموي أنه لما أراد تجديد عمارة الجامع الأموي في دمشق، التجأ إلى ملك الروم ليوجه إليه مائة صانع، فاجتهد هؤلاء في بنيان الجامع وتزويقه وزخرفته، حتى عد مع كنيسة الرها ومنارة الإسكندرية من جملة عجائب الدنيا.
2
ونضيف إلى ذلك دير مار بهنام الشهيد بالموصل،
3
ودير مار برصوم بملطية، الذي تفانى البطاركة ولا سيما ميخائيل الكبير في هندسة أبنيته وزخرفتها.
4
وقس على ما سبق الأديار الشهيرة التي بالغ منشؤها في هندسة أبنيتها. نذكر منها: دير قنسرين الذي اختطه يوحنا برافتونيا (†538م)، ودير العمود الذي شيدته الملكة ثئودورا السريانية (†548م) بجانب مدينة الرقة، ودير البارد بجوار ملطية، وكان ديرا فخما فسيحا أسسه البطريرك يوحنا التاسع (965-986م)، ومنها دير مار دانيال في جبل المتينية شمالي ماردين، جدد أبنيته المهندس الشهير يوحنا مطران ماردين (†1165م)، ولا تزال رسومه العظيمة ماثلة حتى اليوم.
5 (2) وصف كتبة المسلمين لبعض أبنية السريان
إذا ألقينا نظرة عامة على أبنية السريان في العراق، وما بين النهرين، وشمالي سوريا، وجدناها مستوفاة أصول الهندسة والإتقان، فهناك شاعت طرائقهم الرهبانية شيوعها في وادي النطرون بمصر، وهناك كثرت المناسك والأديار التي تجاوز عدد المترهبين في بعضها المئات بل الآلاف، وهناك كثير من هذه الأديار التي عني بعمارتها الملوك والأمراء والأعيان وأهل الثراء، نخص منها بالذكر: «دير اللج» الذي شيده النعمان بن المنذر، ووصفه ياقوت الرومي بقوله: «لم يكن في ديارات الحيرة أحسن بناء منه.» ثم «دير الأعور» المنسوب إلى النعمان الذي تنصر وزهد في الدنيا، ودير «الجرعة» المنسوب إلى عبد المسيح بن بقيلة الغساني، ودير «هند الكبرى» شيدته أم عمرو بن هند «أمة المسيح وأم عبده وبنت عبيده»،
6
وكان جميع مؤسسي تلك الأديار من السريان.
ولا شك أن مشيدي تلك الأديار لم يدخروا وسعا في إتقان بنيانها وحسن هندستها؛ لأنهم كانوا من ذوي المكانة والغيرة واليسار، وفيما تبقى من آثارها حتى اليوم ما يشير إلى فخامتها وعظم شأنها. وذكر الكتاب عشرات الأديار نعتوا بعضها بأجمل النعوت، وهناك ما أثبته ياقوت عن دير الرصافة قال: إنه «من عجائب الدنيا حسنا وعمارة.»
7
وما قلناه عن أديار السريان يصدق بحذافيره على كنائسهم الوافرة العدد؛ فإنها كانت غالبا هياكل واسعة الأرجاء، شاهقة البنيان، ذات أسواق متعددة، جامعة بين المتانة وحسن الشكل، وقد وصف الكتبة والشعراء المسلمون كنائس النصارى ومحاربها وصلبانها وما ازدانت به من النقوش والزخارف، وخص الهمذاني بالذكر في كتابه جزيرة العرب «كنيسة الباعوثة في الحيرة»، وهي كرسي من الكراسي المطرانية عند السريان. (3) عناية المستشرقين وعلماء الآثار بدرس هندسة المعاهد السريانية
لا يزال بعض كنائس السريان باقيا حتى الآن على رغم كوارث الدهر، فأخذ المستشرقون وعلماء الآثار يدرسون هندستها ويبينون خواصها. منهم الكاتبة الإنكليزية الشهيرة المس بل
Miss Bell
التي صنفت كتابا ضخما في وصف كنائس ما بين النهرين السريانية، التي سبق عهد البعض منها فجر الإسلام، فترتقي إلى القرن الرابع والخامس والسادس للمسيح، وقد نشرت هذه الكاتبة صورا كثيرة من تلك الكنائس في كتابها المشار إليه. (4) مشاهير المهندسين السريان
أثبت التاريخ أسماء كثيرين من السريان الذين تجندوا لهندسة المعاهد العلمية والدينية، وخلفوا آثارا شهدت لهم بالبراعة في هذا الفن، وممن اتصلت بنا معرفتهم: (1)
الراهبان شموئيل وشمعون: اللذان شيدا سنة 397 للميلاد دير قرتمين المشهور في طور عبدين.
8 (2)
بطرس بن يوسف الحمصي: اختط سنة 480م دير مار بسوس، وشيده بين أفاميا وحمص، وقد بلغ عدد رهبانه أيام عزه ستة آلاف وثلاثمائة راهب.
9 (3)
علي بن الخمار (†977م): ابتنى قبة كنيسة القيامة في القدس الشريف، وجدد كثيرا من الكنائس.
10 (4)
يوحنا مطران ماردين والخابوو (1125-1165): تميز بفن الهندسة وأفنى عمره في عمارة المعاهد السريانية؛ فإنه شيد وجدد أربعة وعشرن ديرا وبيعة في أبرشيته الفسيحة الأرجاء، نذكر منها تجديده دير مار حنانيا المشهور بدير الزعفران، وجلبه إليه المياه من ينبوع بعيد كما جلبها إلى دير مار برصوم
11
فطمحت فطمحت الأبصار إلى هذا المهندس الخبير الذي سجل لنفسه ببيض أياديه ذكرا مخلدا، وذاع صيته عند ملوك ما بين النهرين، وأحرز بذلك شرفا عظيما وثروة واسعة أنفقها في وجوه البر.
12 (5)
الربان حبقوق: شيد في القرن الثاني عشر كنيسة دير فسقين على ضفة الفرات، قرب دير مار أبحاي ببلاد جرجر، وبالغ في هندستها وإحكام بنائها. (6)
القس يوسف وأبو الفضل وجبرائيل والأخ حسن: أتقنوا سنة 1470 للإسكندر (1159م) هندسة جانب من دير مار بهنام بجوار الموصل.
13 (7)
أبو سالم وإبراهيم أخوه: شيدا باب المصلى في دير مار بهنام المشار إليه.
14 (8)
عيسى الرهاوي: كان نابغة في فن هندسة البناء، وهو الذي تولى سنة 1244 عمارة كنيسة «سيس» الكبرى، وكانت من أفخم الكنائس وأروعها. (9)
المطران جبرائيل البرطلي (†1300): كان له حظ من فن الهندسة، وهو الذي تولى بناء دير الشهيدين يوحنا ابن النجارين وأخته سارا في برطلي سنة 1284.
15
هوامش
الفصل السابع عشر
فن الموسيقى عند السريان
(1) الموسيقى في الكتاب المقدس
يتقادم عهد استنباط آلات الطرب والأغاني الموسيقية في الأمصار الآرامية السريانية إلى أبعد العصور التاريخية، فقد ذكر الكتاب المقدس أن يوبال بن لامك «كان أبا لكل ضارب بالعود والمزمار»،
1
وجرى مجرى يوبال كثير من الأقدمين رجالا ونساء، كمريم أخت موسى الكليم التي أخذت دفا بيدها، وخرجت النساء كلهن خلفها بدفوف ورقص
2 ... إلخ.
ثم تجلت صناعة الموسيقى في عهد الملك والنبي داود بكل مظاهرها؛ فكان هذا الملك يدعو الإسرائيليين ويحضهم ليترنموا قدام الرب «بكل آلة عز وبالأغاني والعيدان والطبول والدفوف والصنوج والأبواق»،
3
وكثيرا ما حث بني قومه ليسبحوا الرب بصوت البوق والرباب والعود والدف والأوتار والمزمار والصنوج.
4
ونهج البابليون نهج الأجداد، فاستعملوا «القرن والناي والعود والونج والصنج والمزمار»،
5
وقس على ذلك سائر الأمم القديمة المتحضرة. (2) أصل الموسيقى عند السريان
أول سرياني بحت تعاطى نظم اللحون والأغاني هو وافا الفيلسوف الذي عاش قبل التاريخ الميلادي، وقد ذكره أنطون التكريتي الفصيح بما خلاصته معربا عن السريانية: «استعمل وافا الآرامي البحر الحادي عشر من الأبحر السريانية الستة عشرة، فأطلق عليه اسم «البحر الوافائي»، وأدمج فيه الناظم معاني غرامية وحربية جرى استعمالها في المآدب والأعراس، ولأجل ذلك أهمل أجدادنا هذا البحر ونبذوه ظهريا.»
6
ونسج السريان المسيحيون على منوال أجدادهم الأقدمين؛ فاتخذوا الأوزان الشعرية موقعة على آلات الطرب، واستعملوها في كنائسهم ومجالسهم، هكذا شاعت بينهم صناعة الألحان أو الموسيقى وذاعت في أنحاء بلادهم. قال يعقوب البرطلي: «تشبث المسيحيون بترنيم المزامير وترديدها لا في الكنائس فقط، بل في البيوت والساحات والطرق أيضا، واستعملوا في إنشادها الكنارات والقيثارات والدفوف والصنوج والأبواق.»
7
وذكر التاريخ أن برديصان الآرامي السرياني (154-222م)، نظم مائة وخمسين أغنية حاذيا فيها حذو المزامير الداودية ووقعها على ألحان شتى، فتمكن بتلك الوسيلة أن يجتذب قلوب سامعيها من أبناء وطنه الرهاويين ليذهبوا مذهبه في الشيعة الديصانية المنسوبة إليه.
عند ذلك هبت أئمة السريان المسيحيين وشعراؤهم العظام، فشحذوا قرائحهم ونظموا أشعارا أدبية وموشحات دينية عديدة، ووضعوا لها أوزانا محكمة وقياسات مضبوطة ناهضوا بها أهل البدع، وقضوا على أغانيهم الفاسدة. (3) ناظمو الترانيم السريانية وأساتذتها ومنشدوها
مار أفرام الكبير:
في طليعة من اشتهر بنظم الأنغام الموسيقية وتلحينها وتعليمها نذكر بالفخار مار أفرام، الذي أطلق عليه بكل جدارة لقب «صناجة الروح القدس»؛ فإنه أنشأ الشيء الكثير من الأغاني والترانيم التي استعملتها الكنائس السريانية شرقا وغربا، في أعيادها وتذكاراتها وحفلاتها منذ كان في قيد الحياة، وضمنها معاني سامية وتعاليم صافية بعبارات سلسة جزلة تدب في النفوس كالسلافة فتسكرها، وتهيم بها في العالم الروحاني.
وأشار هذا الإمام في كثير من منظوماته إلى استعمال آلات الطرب حين إنشاده قصائده الرائعة، فقال: «إن المشارق تعزف بالأبواق، والمغارب بالدفوف، وأنحاء الشمال بالقيثارات، وأطراف الجنوب بالكنارات.»
8
وإلى هذا العلامة الكبير نفسه يرجع نظم الأناشيد السريانية بأوزانها المختلفة الوافرة، وتعد مداريشه الرائعة في أول طبقة منها، وتليها الابتهالات (التخشفات) فالبواعيث ... إلخ، وسيأتي ذكرها.
وقد نظم الملفان مار يعقوب السروجي قصيدة عصماء عن النهضة المباركة التي قام بها مار أفرام المعظم في أناشيده العجيبة، قال ما مؤداه: «إن مار أفرام كنارة الروح القدس ضارع موسى الكليم وأخته مريم، بتلقينه العذارى والفتيات ولفيف المؤمنين أنغاما محكمة بث فيها تعاليم الكنيسة الحقة، وأحرز بواسطتها إكليل الظفر والانتصار على أعدائها.»
9
أسوانا:
نظم أسوانا أناشيد مؤثرة خصوصا بالبحر السداسي وأجاد فيها، نذكر منها مرثيتين بليغتين تترنم بهما الكنائس في جناز الموتى، وقد نشرهما البطريرك أفرام رحماني في كتابه «الدروس السريانية».
10
ربولا مطران الرها (†435م):
إلى هذا القديس الملفان ينسب نظم الابتهالات (التخشفات)، وقد أفرغها في قالب جزل وضمنها معاني سامية، وبلغ عددها ثلاثمائة ابتهال في أوسع كتب الأنغام وأقدمها.
11
واشتهر هذا القديس الجليل بمناهضته بدعة نسطور، حتى إن مار قرلس الإسكندري أطلق عليه لقب «عمود الحق»، هذا عدا رسائله وخطبه وقوانينه المحكمة.
مار إسحاق الأنطاكي (†460م):
امتاز هذا العلامة القديس بدقة أبحاثه وبلاغة معانيه، فنظم عدة قصائد سبكها بعبارات جزلة برهنت على رسوخ قدمه في شتى العلوم الدينية والفلسفية والبيانية والرياضية والطبية ... إلخ، وله قصيدة عامرة الأبيات عنوانها «التقاديس الثلاثة» بلغ مجموع أبياتها 2136 بيتا.
12
مار يعقوب السروجي (†521):
اقتدى هذا العلامة الكبير بمار أفرام الإمام، فنظم أناشيد جمة للأعياد السنوية، ولتذكارات الرسل والشهداء والأولياء، وشروح الكتاب المقدس ... إلخ، منها ميمره في تكوين الخليقة، وميمره في آلام السيد المسيح، فقد أناف عدد كل منهما على ثلاثة آلاف بيت تستعملها الكنيسة في الأسبوع الأول من الصوم، وفي أسبوع الآلام العظيم، وقد أطلق عليه جمهور الكتاب بكل حق نعوتا شريفة جمة، فسموه «إكليل الملافنة» و«فخر العلماء». ونشر الأب بولس بيجان خمسة مجلدات من ميامره البليغة، فضلا عما نشره له من الميامر في مجلدات غيرها.
يعقوب الرهاوي (†708م):
أطلق على هذا العلامة الهمام لقب «محب الأتعاب»، واشتهر بغيرته الوقادة على حفظ القوانين البيعية، وصنف كتبا في مواضيع شتى، ونقل عن اليونانية إلى السريانية تآليف جزيلة الفائدة، ونظم مداريش بديعة تنشد في أسبوع الآلام، وحوى مخطوط «بيتكاز الشيخ» مدراشا أبجديا من نظمه في الحكمة والفلسفة،
13
وليعقوب الرهاوي اليد الطولى في ترتيب الطقوس السريانية والحفلات البيعية.
سائر ناظمي الأنغام السريانية وأساتذتها وملحنيها:
ما عدا من سبق ذكرهم. قام عند السريان شعراء كثيرون نبغوا في نظم الترانيم وتعليمها، فحفظ لهم التاريخ ذكرا جميلا طيبا، نورد منهم أسماء قورلونا الرهاوي، وماروثا الميافرقيني (†421م)، وبالاي الحلبي، وشمعون القوقي وتلامذته، ويوحنا برافتونيا (†538م)، وفولا مطران الرها (†624م)، وجورجي أسقف الكوفة (†724م)، والبطريرك جرجي الأول (758-790م) ... إلخ. (4) أسماء الترانيم السريانية وتقاسيمها وعددها
تكملة للبحث الذي تحريناه في هذا الفصل عن فن الموسيقى عند السريان، نسرد ههنا أسماء ترانيمهم مع الإلماع إلى عددها ومزية كل منها، واعتمدنا في ذلك على مخطوطة دير الشرفة القديمة العهد الموسومة بعنوان «بيتكاز الشيخ»، وهي أغنى مخطوطة من نوعها.
المداريش:
هي أقدم الأغاني السريانية عهدا وأدقها معنى وأعذبها إيقاعا، نظمها مار أفرام الكبير ووشحها بفني البديع والطباق، يبلغ عددها مائة وستة وخمسين مدراشا
14
لكل مدراش نغمة خاصة.
التخشفات:
هي ابتهالات شجية خشوعية عددها ثلاثمائة ابتهال لكل منها نغمة خصوصية، تشتمل على تقريظ العذراء الجليلة والقديسين، وعلى التوبة، ومراثي الموتى ... إلخ. أنشأ بعضها مار ماروثا مطران ميافرقين (†421م)، وأغلبها مار ربولا مطران الرها (†435م)، وأضاف إليها يعقوب الرهاوي (†708م)، وغيره من الآباء.
المعبرانات:
المعبرانات ومعناها «المراحل»، هي ترانيم رثائية رخيمة تنشد في تشييع الموتى، وعددها مائة وسبع مراحل.
السهريات:
هي صنف من الترانيم العذبة يبلغ عددها في الصحف القديمة مائتين وخمس سهريات، لكل منها ثماني نغمات أو أكثر، أغلبها معروف اليوم ويترنم بها في الصلوات القانونية والاحتفالات البيعية.
البواعيث:
البواعيث أو الطلبات تقسم ثلاثة أقسام: أفرامية، ويعقوبية، وبالاثية؛ نسبة إلى أفرام الكبير، ويعقوب السروجي، وبالاي الحلبي، ولنغماتها الثماني فروع شتى، وعددها ثمانون نغمة، وهي بأجمعها معروفة لهذا الزمان عند السريان.
العنيانات:
العنيانات أو الأجوبة تشبه الأراجيز، وهي متساوية الوزن تنشد في الأيام الأسبوعية والأعياد الاحتفالية والسيامات الكهنوتية، عددها سبعة وثلاثون تستعمل حتى الآن ويتقدمها غالبا آية من المزامير.
العونيثات:
هذا الصنف من الترانيم له ردة خاصة يكررها الإكليرس والمؤمنون في نهاية كل بيت منها.
الغنيزات:
معناها «الحجاب»، تنشد حينما يسدل سجاف المذبح، ولها نغمات عذبة لذيذة، أحصاها بعضهم 72، وأحصاها غيرهم 83، وغيرهم 119، لكل منها نغمة خاصة.
الموربات:
تفسيرها «التعاظيم»، وهي مختصة بالعذراء مريم، سميت هكذا لورود لفظة «تعظم» في فاتحة تسبيحة العذراء المجيدة، وهي مرتبة على ثمانية ألحان، لكل منها خمس نغمات أو أكثر، يبلغ عدد أبياتها في بعض الصحف مائتين وسبعة أبيات.
القوانين:
نقلها السريان عن تآليف مار يوحنا الدمشقي والراهب قزما واندراوس الأقريطشي، وخصصوها بالأعياد السيدية والآحاد السنوية. عددها ثلاثة وأربعون قانونا، لكل منها ثماني نغمات مختلفة، وقد أضاف إليها بعض أئمة السريان كيعقوب الرهاوي (†708م)، وسعيد بن صابوني (†1095م)، وغيرهما.
المعانيث:
معناها «الأغاني»، صنفها البطريرك سويرا الأنطاكي (†538م)، ونقلها إلى اللغة السريانية يوحنا برافتونيا رئيس دير قنسرين (†538م)، ويوحنا خليفته، وفولا مطران الرها (†624م) يوم كان في جزيرة قبرس، وقد نقحها يعقوب الرهاوي سنة 675م على ما ورد في «بيتكاز الشيخ». ويبلغ عدد هذه المعانيث مائتين وخمسة وتسعين معنيثا، بينها معنيث يقال في أول القداس السرياني نسبه بعضهم إلى سويرا البطريرك، وبعضهم إلى يوسطنيان الملك زوج الملكة ثئودورا السريانية.
القاتسمات:
تفسيرها «المجالس»، وعددها مائة وسبعون قاتسما، أغلب نغماتها مفقود، وهي مقسمة للآحاد والمواسم على مدار السنة.
سائر الترانيم السريانية:
نضيف إلى ما سبق أغاني أخرى مشهورة عند السريان هاك أسماءها: الزومارات عددها 728 زومارا، الشوباحات أعني التماجيد، القوقليونات وهي آيات من المزامير تتخللها لفظة هللويه، العطور والمتون تنشد عند التبخير، المنادات تنشد في الأعياد الحافلة، المعيدات تتلى كذلك في المواسم، الأدوار تنشد بعد تلاوة المزامير في صلاة الليل، الملحقات تنشد بعد المزامير أو القوقليونات وتبدأ بالمجدلة أي المجد لله، ثم القصائد تنشد بين جوقتين على سبيل الخطاب والجواب، التهاليل لها عشر نغمات رخيمة تنشد قبل ترتيل الإنجيل، الأسطيخونات تسبق بآية من المزامير وتستعمل في طقس الميرون وسيامة الأحبار. (5) تباين الترانيم السريانية واختلافها بتوالي الأجيال
تسلسلت الألحان السريانية قديما من أفواه الأجداد إلى الأبناء والحفدة بطريقة التقليد، ولم تكن حين ذلك مقيدة بضوابط تصونها من التغيير والتلف، ولأجل ذلك طرأ عليها بعض الاختلاف في عرضها لا في جوهرها باختلاف اللهجات في البلدان والمدن والقرى. هكذا أصبح لبلاد ما بين النهرين نغمة غير نغمة بلاد الشام وبلاد آثور، فنبرة الرها مثلا غير نبرة نصيبين، ونبرة آمد (ديار بكر) وميافرقين غير نبرة جرجر، ونبرة ماردين غير نبرة طور عبدين، ونبرة تكريت غير نبرة الموصل وبغداد وقراهما، وقس على ذلك نبرة حلب، فهي تتفق مع نبرات حمص وحماة والنبك وصور وسواحل لبنان، وقد أنشد بعضهم قائلا:
بجرجر نبرة والشام أخرى
وآثور وميافارقينا
ونرى في المخطوطات القديمة بعض علامات مختلفة الألوان تنبه المنشد ليرفع صوته أو يخفضه، ولأغلب الألحان السريانية ولا سيما التخشفات والمراحل مدات في الصوت وليات ونبرات وعطفات يترنم بها أرباب الفن، فيستعذبها المستمعون وترسخ معانيها في ألبابهم. (6) آلات الموسيقى عند السريان
للسريان عدة آلات موسيقية استعملوها قديما في أناشيدهم وأنغامهم، منها آلات اتخذوها عن الكتاب المقدس، وقد سبق لنا سردها في مطلع هذا الفصل، ومنها آلات استنبطوها هم وتفردوا باستعمالها في عصورهم السالفة، وهاك أهمها: الكنارة المزدوجة، الدف المربع ، القيثارة المفردة، المشروق أو المشروقيث وهو نوع من الأبواق، الزرناية، الصفارة، الهدرول، الصافون وهو آلة موسيقية لها عدة أنابيب، الناقوس وقد استعمله السريان أولا من خشب ثم استعملوه من معدن.
فهذه الآلات الموسيقية يعثر القارئ على أسمائها في تآليف السريان وشروحهم ومعاجمهم، كمعجم ابن بهلول الذي اقتبسه عن معجم حنين بن إسحاق، ومنها معجم الربان أبدوكس الملطي ومعجم السروشي وغيرها.
ولما تسهلت المواصلات بين بلاد المشرق والمغرب، اطلع السريان على علوم الشعوب الأوروبية وآدابها وفنونها وعاداتها، فاقتبسوا أغلبها وفي جملتها فن الموسيقى، ولم يلبثوا أن استعملوا بعض آلات الموسيقى الإفرنجية في كنائسهم وبيوتهم ومحافلهم، نذكر منها كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد، وكنيستهم في حلب، ففي كل منهما تستعمل الآلات الموسيقية في القداديس الاحتفالية، والجمعيات التقوية، والتطوافات داخل الكنيسة وظاهرها. (7) الموسيقى المدنية عند السريان
تحدثنا حتى الآن عن الموسيقى الدينية عند السريان، أما الموسيقى المدنية فقد نبغ فيها عندهم جم وافر تفردوا برخامة الصوت، واستعمال آلات الطرب، وقد ذكر أبو الفرج الأصبهاني أسماء رهط من أهل الحيرة اشتهروا في صدر الإسلام بالأغاني الشجية والضرب على الأوتار، أخصهم برصوما المزمر
15
وعون الحيري،
16
ومنهم أيضا حنين الحيري الذي عاش في عصر بني أمية
17
وغيرهم. (8) المؤلفون في الموسيقى في عصر السريان الذهبي وبعده
سويرا سابخت (†667):
أقدم من تعرض للكتابة عن فن الموسيقى عن السريان هو سويرا سابخت النصيبيني أسقف دير قنسرين (638-667م)، فإنه وضع رسالة وافية بعث بها إلى إيثالاها أسقف نينوي، شرح فيها أصول الموسيقى وغيرها من الأبحاث.
18
أنطون التكريتي الفصيح:
اشتهر أنطون في الشطر الأول من القرن التاسع، وهو أول من ابتكر قواعد للفصاحة والخطابة عند السريان؛ فأطلقوا عليه بكل جدارة لقب «بليغ» أو «فصيح»، وقد أنشأ كتابا فريدا في هذه الصناعة قسمه خمسة أقسام، أفرد القسم الخامس منها للشعر والموسيقى، وهو القسم الذي نشره البطريرك أفرام الثاني رحماني في مطبعة الشرفة.
يعقوب بن الصليبي مطران آمد (†1171م):
خلف هذا المطران العلامة مؤلفات شتى أنافت على الثلاثين، بينها كتاب «شرح القداس»، ذكر فيه أن الكاهن السرياني قبل أن يرتل الإنجيل في القداس الاحتفالي يجب على الشمامسة أن يعزفوا بالأبواق والأعواد؛ اقتداء بأهالي المدن عندما يستقبلون الملوك والأمراء والولاة،
19
وألمع ابن الصليبي في كتابه «الفصول العشرة» إلى صناعة الألحان السريانية.
20
يعقوب البرطلي (†1241):
لهذا المؤلف الجليل كتاب عنوانه «الموسيقى البيعية» بحث فيه الألحان وفنونها ومؤلفيها وزمان استعمالها في الكنيسة، وله مثل ذلك في الفصل 38 من المقالة الثانية لكتابه المعنون «الكنوز»، وله فصل في كتابه «ديالوغو» تناول فيه البحث أيضا عن الموسيقى.
21
ابن العبري (†1286م):
ذكر هذا العالم الشهير في كتابه «الأيثيقون» مقالا ضافيا عن الأنغام السريانية الثمانية وفروعها، وكيفية الترنم بها في المواسم والآحاد، وأجاز استعمال الأرغن أحيانا في الكنائس السريانية،
22
واستنادا إلى ذلك اتخذ مجمع دير مار متى عام 1930 قرارا يجيز استعمال الأرغن في أثناء القداس، ولا سيما أيام الآحاد والأعياد الرسمية.
23
البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم:
نضم إلى هؤلاء الجهابذة الأعلام صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم الذي قضى معظم حياته بدرس العلوم والآداب السريانية، وقد كلف بفن الموسيقة، كما صرح في مقالة له عن يعقوب البرطلي، نشرها في المجلة البطريركية السريانية بالقدس، ثم أجاد كل الإجادة فيما حبره عن الموسيقى الكنسية وعن نشأتها ومشاهير المشتغلين بها، وأفاض في سرد الترانيم السريانية المختلفة الأوزان، فأربى عددها على الألفين والسبعمائة ترنيمة.
24 (9) المؤلفون في الموسيقى السريانية والمشتغلون بها في عصرنا
قام بين السريان في عصرنا من أغرموا بالأنغام البيعية، واستنفدوا الوسع في صيانتها ونشرها، فرأينا أن ندرج أسماءهم ونلمع إلى قسط كل منهم في هذه الصناعة:
المطران إقليميس يوسف داود (1879-1890):
أولع بالموسيقى البيعية، فنظم جوقة من أرباب الكهنوت وشبان الموصل وعلمهم الأنغام الطقسية، ثم ألف نشائد بديعة على قدود رخيمة لأغلب أعياد السنة، ورتب قداسا حبريا سريانيا على أصول الموسيقى الأوروبية، وقد عني بكل ذلك عندما كان قسا في الموصل مسقط رأسه.
25
وخلف المطران يوسف داود في ذلك مخطوطا ضخما، رفعه هدية بنوية إلى البطريرك أغناطيوس فيلبس الأول عركوس (1866-1874).
26
البطريرك أغناطيوس جرجس الخامس شلحت (1874-1891):
تفرد هذا الحبر الأنطاكي بصوته الرخيم وشغفه بالترانيم السريانية، فالتقفها عن أشهر أرباب الفن في حلب، والرها، وآمد، وماردين، وطور عبدين، والموصل وغيرها، ولقنها كهنة دير الشرفة وتلامذته، فنشروها بدورهم في أبرشيات الملة، ولولا جهوده المشكورة في هذا السبيل لقضي على كثير منها. وممن اقتبسوا عنه تلك الترانيم: المطران أغناطيوس نوري، والخوري فيلبس شقال، والقس أفرام مصري، والقس جبرائيل صالحاني، والخوري يوسف إسطنبولي، والخوري يوحنا حمصي، والقس حنا بنابيلي ... إلخ.
الرهبان البندكتيون الفرنسيون:
في السنة 1894 ارتحل البطريرك أغناطيوس بهنام الثاني (بني) إلى روما على إثر ارتقائه إلى العرش الأنطاكي، فزاره رئيس الرهبنة البندكتية العام وعرض عليه أن يقوم أحد أبناء رهبنته بجمع الأنغام السريانية وضبطها بالعلامات الموسيقية الفرنجية؛ ذلك ضنا بهذه الثروة الفنية الثمينة وصيانة لها من الضياع، فرحب ذلك الحبر الجليل باقتراح الرئيس، وأثنى على غيرته ومحبته للطقس السرياني.
وفي السنة 1896 كتب الخورفسقفوس يوسف هبرا الوكيل البطريركي في روما، يبشر البطريرك المشار إليه باتفاقه مع الأب جوليوس جنان البندكتي المشهور بتضلعه من فن الموسيقى للنهوض بالمشروع المار ذكره.
27
وفي السنة 1897 قدم الأب جنان إلى دير الشرفة، وباشر مهمته في التقاط الأنغام السريانية عن أشهر الأساتذة، كالشماس أنطون شبين، والقس ميخائيل بصال الحلبيين ودونها بالعلامات الفنية. وقد شاهدنا الأب جنان بعيننا ناهضا بهذه المهمة، فأثنينا على نشاطه وغيرته وعلمه.
بعد هذا يمم دير الشرفة عام 1909 الأب أنسلمس شيباس لاسال، والأب جوليان بوياد البندكتيان، وأكملا ما كان قد شرع به الأب جنان، ثم تولى الأب أنسلمس عام 1924 طبع الألحان السريانية بالعلامات الموسيقية، وعاونه في ذلك الخورفسقفوس زكريا ملكي رئيس دير الشرفة، ونجز طبع هذا الكتاب عام 1928 في 710 صفحات، ما عدا مقدمة علمية تاريخية أنشأها الأب جنان مؤسس المشروع ونشرها على حدة،
28
وقد اقتنينا نحن من هذا الكتاب النفيس نسخا عديدة وزعناها على معاهد شتى.
الخوري إسحاق أرملة:
نشر على صفحات مجلة الآثار الشرقية مقالا ضافيا عنوانه «لمعة في المنظومات والأغاني السريانية»، أتى فيه على ذكر أصلها وأشكالها وقواعدها وضوابطها وأوزانها وأسمائها وعددها ومشاهير ناظميها،
29
ثم وقف على طبع كتاب الموسيقى الذي نشره الآباتي أنسلمس المشار إليه، وضبط الألفاظ والحركات السريانية.
الخورفسقفوس زكريا ملكي رئيس دير الشرفة:
تلقى فن الموسيقى في الإكليريكية السريانية التي يديرها الآباء البندكتيون الفرنسيون بالقدس، وساعد رئيسها الآباتي أنسلمس في طبع كتاب الألحان السريانية كما ذكرنا، وما عدا ذلك فقد ضبط وربط بالعلامات الموسيقية ترانيم سريانية شجية لم تنشر بالطبع، التقطها من هواة هذا الفن في بلدان شتى، ثم لقنها تلامذة الإكليريكية المذكورة وإكليريكية الشرفة.
الخورفسقفوس جبرائيل حوري:
عين وكيلا بطريركيا في باريس عام 1933، وتولى خدمة كنيسة مار أفرام في شارع الكرم، وانصرف إلى ضبط ترانيم القداس السرياني بالعلامات الموسيقية، وكتب الألفاظ السريانية بحروف لاتينية تسهيلا لتعليمها لجوقة من الفتيان والفتيات المقيمين في باريس ليترنموا بها في الأعياد والمواسم الكبرى.
القس شمعون عبد الأحد:
امتاز القس شمعون بصوت شجي رخيم، فدرس الترانيم السريانية على خاله الخورفسقفوس زكريا ملكي فأحكمها غاية الإحكام، ثم علم الشبان والشابات بعضها، وألف منهم جوقة تقوم بترنيمها في الحفلات والمواسم. (10) مشاهير المرنمين ذوي الأصوات الرخيمة في عصر السريان الذهبي
نختتم هذا الفصل بذكر رهط ممن كلفوا بفن الألحان البيعية، وامتازوا بأصواتهم الرخيمة فبلغوا بها إلى أوج الكمال، ونعتقد أن أغلب ناظمي الترانيم منذ مار أفرام الكبير، ومار إسحاق، ومار ماروثا، ومار ربولا، ولا سيما شمعون القوقي وتلامذته، كانوا من أصحاب الأصوات الشجية، فلقنوها تلامذتهم وتلامذة تلامذتهم جيلا بعد جيل، في البيوت والمدارس ولا سيما في أديار الرهبان،
30
وهاك على سبيل المثال بعض من اشتهروا برخامة الصوت، وأثبت ابن العبري أسماءهم في تاريخه: (1)
إيليا مطران كيسوم (†1171): امتاز بنغماته الشجية وصوته العالي. (2)
البطريرك ميخائيل الكبير (†1200م): تفرد بقد رشيق، ووجه صبيح، وصوت جهوري، ونغمات شجية. (3)
ثئودورس مطران الرها: اشتهر بصوته الحسن، فأتقن نغمات القاتسمات. (4)
الربان أبو الفرج بن اليشع: عاش في أوائل القرن الثالث عشر، وكان ذا صوت رخيم ماهرا في صناعة الألحان، فأحكمها غاية الإحكام ولقنها الكثيرين حتى استحق أن يسمى رئيسا لصفوف المرتلين في عصره. (5)
المفريان صليبا الرهاوي (1252-1258م): وصفه ابن العبري الذي خلفه في الكرسي المفرياني أنه كان طيب المحادثة، فصيحا في السريانية والعربية، متضلعا من الطب والفلسفة، بهي الطلعة، رخيم الصوت. (11) مشاهير المرنمين السريان في العصر الحاضر
ما عدا البطريرك أغناطيوس جرجس الخامس شلحت الذي سبق لنا وصف صوته الرخيم، فقد تفرد أيضا فريق من أرباب الكهنوت بنغماتهم الشجية، منهم: البطريرك أغناطيوس أنطون سمحيري (†1864)، والمطران غريغوريوس متى نقار (†1868)، والمطران يعقوب متى أحمردقنه (†1908)، والخوري ميخائيل صائح (†1828)، والخوري أندراوس طرازي (†1859)، والخوري بطرس تفنكجي الآمدي (†1909)، والخوري إبراهيم معمار باشي (†1913)، والخوري فيلبس شقال (†1921)، والخوري جبرائيل دقماق (†1922)، والقس بطرس فرجو، والقس أنطون أرملة (†1929)، والقس جرجس الرهاوي (†1931)، والخوري يوسف إسطنبولي (†1934)، والقس إبراهيم حلوجي (†1938)، والقس حنا حسن، والقس ميخائيل هندو، والقندلفت ميخائيل بن فرج الله هندية (†1943) ... إلخ.
واشتهر رهط كبير من ذوي الأصوات الرخيمة عند السريان الأرثوذكس لم نتوفق إلى العثور على أسمائهم، إلا أننا عرفنا بينهم السيد ديونيسيوس بهنام سمرجي مطران الموصل (1867-1911)، الذي كان له صوت يحاكي صوت العندليب إذا ما غرد على أفنان الشجر،
31
ومنهم السيد غريغوريوس جبرائيل أنطو الذي ارتقى سنة 1923 إلى كرسي مطرانية أورشليم، وامتاز بنغمات شجية كان السامعون يذرفون الدموع لرقتها وجزالتها.
32
هوامش
الفصل الثامن عشر
الخط السرياني
(1) استنباط الكتابة
لا شك أن الذي استنبط صناعة الكتابة أولى الجنس البشري منة عظيمة استحق من أجلها الشكر المؤبد، والرأي السائد بين العلماء هو أن الكتابة استنبطتها الأمة الفونيقية التي سكنت في سواحل فونيقي المعروفة في يومنا بالسواحل اللبنانية، وهذا وحده كاف ليجعل للسريان حق الفخر باستنباط الكتابة؛ لأن بلاد فونيقي، كصور وصيدا وبيروت وجبيل ... إلخ، ليست إلا بقعة صغيرة من بلادهم.
1 (2) تلقين السريان صناعة الكتابة لسائر الأمم
قال البحاثة اللغوي المطران إقليميس يوسف داود ما نصه: «جاء في صحف اليونانيين القدماء أنه في نحو السنة 1590 قبل المسيح، وصلت إلى أرض اليونانيين من بلاد الفونيين التي يقال لها فونيقي، وهي أقصى أرض السريان غربا ... فئة من الشاميين في مقدامها رجل اسمه قدمو، وجلبت إلى هناك صناعة الكتابة، وصار اليونانيون منذ ذلك الزمان يكتبون بالحروف السريانية إلى يومنا هذا، وقد حفظوا إلى الآن أسماءها السريانية بعينها، وأبقوها على ترتيب السريان، بل إن اليونانيين حافظون أسماء الحروف السريانية بالصيغة السريانية دون سائر الأمم التي تعلمت الكتابة من السريان. ثم إن اليونانيين أبقوا الحروف على الصور التي كانت لها عند السريان يوم تعلموها منهم.
2 (3) العلماء وأصل الكتابة
أثبت العلماء أن الأمم العريقة في الحضارة اقتبست صناعة الخط عن السريان، وهاك ما يؤيد ذلك، قال ديودورس الصقلي المؤرخ الشهير في القرن السابق للميلاد: «إن استنباط الكتابة يعود فضله إلى السريان.» وكتب إقليميس الإسكندري في القرن الثاني للميلاد: «ذهب كثيرون من القدماء إلى أن السريان هم الذين استنبطوا الكتابة.»
3
وممن تناول هذا الموضوع الدكتور جايمس الإنكليزي، قال ما تعريبه: «كان كلما وصل إلى يد تاجر سرياني آجر محفور بالكتابة المسمارية، تناول قلمه وعلق على ذلك بالسريانية ما شاء تعليقه. أما في دوائر الحكومة، فإذا كان الكاتب سريانيا دون المحاضر بقلم الحبر على ملف البردي، وإذا كان الكاتب آثوريا دون كتابته بقلم قصب على الآجر. وبالجملة فإن الحضارة السريانية خلفت في جميع الأماكن الشاسعة التي انتشرت فيها آثارا خالدة.
4 (4) فروع الخط الفونيقي السرياني
أقدم الخطوط أو الأقلام المشتقة من الخط الفونيقي هو الخط الذي اصطلح عليه اليهود في عهد قورش ملك فارس (538-535ق.م)، وما زالوا مصطلحين عليه دون سواه في كتابة الأسفار المنزلة، وهم يسمونه «القلم المقدس». وفي تقاليد اليهود أن عزرا الكاتب الشهير لما قدم نحو السنة 457 ق.م من بلاد فارس إلى أورشليم، أدخل هذا الخط السرياني المربع في جميع أسفار الكتاب المقدس؛ لأن أمته كانت تفهم حين ذاك اللغة السريانية أكثر من العبرانية.
وهاك أسماء الأقلام أو الخطوط التي تتفرع من الخط الفونيقي السرياني: أبدعها وأجملها وأشهرها بعد القلم المربع المذكور هو الخط السطرنجيلي الذي خصصه السريان منذ بدء النصرانية بكتابة الإنجيل، ويشاهد منه عدة مخطوطات نفيسة ثمينة في مكتبات الفاتيكان، ولندن، وباريس، وبرلين، وأوكسفرد، وأميركا، وفلورنسا ... إلخ. ومن هذا الخط السطرنجيلي البديع الذي اشتهر خصوصا في عصر السريان الذهبي نشأ خط السريان الملكيين، ثم خط السريان المغاربة والموارنة، ثم خط الكلدان أو السريان المشارقة، وهناك خط آخر سرياني خص به أهل فلسطين، وله خواص تميزه عن سائر الخطوط السريانية.
ويطول بنا المجال لو شئنا نعدد أشكال الخطوط التي اشتقت من الخط السرياني الفنيقي الأصلي، إلا أننا اكتفينا هنا بتعداد الخطوط التي انبثقت منه، وهي: (1)
الخط اليهودي المربع. (2)
الخط الفونيقي أو الساحلي. (3)
الخط اليوناني. (4)
الخط اللاتيني. (5)
الخط البابلي. (6)
الخط النبطي. (7)
الخط المندوي. (8)
الخط التدمري. (9)
الخط السطرنجيلي. (10)
الخط الملكي. (11)
الخط الفلسطيني. (12)
الخط السرياني الغربي والماروني. (13)
الخط السرياني الشرقي أو الكلداني. (14)
الخط الحميري. (15)
الخط الكوفي. (16)
الخط النسخي العربي.
ومن المعلوم أن الفرس أيضا كانوا يكتبون بالخط السرياني، فإن خطيهم الزندي والبهلوي مأخوذان من الخط السرياني، وقس عليهم الأرمن، فإنهم إلى القرن السادس كانوا يكتبون بالخط السرياني، وكذا العرب فإنهم تعلموا الكتابة من السريان ... والخلاصة: أن جميع الأمم القديمة المشهورة تعلمت صناعة الخط الشريفة من الأمة السريانية.
5
تكفي إذن الأمة السريانية هذه المزية الفريدة ليسجل لها التاريخ في صفحاته المجيدة بأقلام ذهبية ذكرى منزلتها المثلى في الحضارة والثقافة، فقد أصبحت باستنباطها صناعة الخط مرجعا لكل الأمم المتحضرة، حتى لقبت بكل جدارة «أميرة الثقافة» و«أم الحضارة».
6 (5) الخطاطون والنساخ السريان
لو شاء أحد أن يدقق في البحث عن جماهير الخطاطين والنساخ السريان، لتعذر عليه الوقوف على أسمائهم فضلا عن مصنفاتهم، ونعتقد أن عددهم ينيف دون مبالغة على عشرات الآلاف، ولكن هي النوازل المتتابعة حلت ببلادهم، فذهبت بالقسم الأوفر من تلك الكنوز الكتابية التي أمسى فقدها وبالا على العلم والحضارة، غير أنه رغم تلك النوازل حفظ عدد غير يسير من مخطوطات السريان في خزائن الشرق والغرب.
وللبطريرك العلامة أفرام الأول برصوم جدول طريف ألحقه بكتابه «اللؤلؤ المنثور» عدد فيه أكثر من ثلاثمائة خطاط عاشوا منذ القرن الخامس حتى القرن العشرين، وقد اطلع بنفسه على آثار الكثيرين منهم.
7
وعثرنا نحن أيضا على طائفة من الخطاطين والنساخ اشتهروا في مختلف العصور قديما وحديثا، وعلى سبيل المثال نورد أسماء بعضهم فيما يلي: الربان ربولا في القرن السادس وهو منمق الإنجيل المصور المحفوظ في مكتبة فلورنسا، وماروثا مفريان تكريت في القرن السابع، وسابا الرأس عيني في القرن الثامن، وأفريم الكفرتوتي في القرن التاسع، ورومانس تلميذ البطريرك أثناسيوس في القرن العاشر، والبطريرك يوحنا بن شوشان في القرن الحادي عشر، وأغناطيوس رومانس مطران أورشليم، ويعقوب بن الصليبي مطران آمد، والبطريرك ميخائيل الكبير، وكريم بن حوشاب في القرن الثاني عشر، والبطريرك يوحنا السادس عشر، ومبارك بن داود البرطلي في القرن الثالث عشر.
وجاء بعدهم الربان صليبا بن خيرون الحاحي في القرن الرابع عشر، والبطريرك بهنام الحدلي، والبطريرك نوح البقوفاوي، وباسيليوس بن عبيد الصددي مطران حمص، وفيلكسين جرجس بن قرمان مطران حردين وحماة، وفيلكسين إبراهيم حديبان خليفته في الكرسي المذكور، والقس مبارك الآمدي في القرن الخامس عشر، والمطران قرلس بشارة، والمطران ديوسقورس ميخائيل، والقس سهدو الكركري، والقس اليان النبكي في القرن السادس عشر، والمفريان بهنام الباتي، والخوري أصلان بن مربي المارديني، والمفريان شمعون المانعمي في القرن السابع عشر، والقس عبد النور الآمدي، وأثناسيوس أصلان الآمدي مطران ديار بكر، والأسقف إقليميس إبراهيم اليازجي الصددي في القرن الثامن عشر، وغريغوريوس جرجس كساب مطران أورشليم، والمطران عبد النور حداد الأربوي، وغريغوريوس زيتون مطران مذيات في القرن التاسع عشر، والبطريرك عبد الله الثاني الصددي، والقس يعقوب ساكا البرطلي، والشماس متى بولس الموصلي في القرن العشرين ... إلخ. (6) نوابغ الخطاطين عند السريان الكاثوليك
نذكر في طليعتهم البطريرك أغناطيوس أندراوس الأول أخيجان (1662-1677)، وجاء بعده المطران ديونيسيوس رزق الله أمين خان (†1701)، والمطران غريغوريوس نعمة قدسي (†1745)، والقس عبد الأحد سفر الرهاوي (†1720)، والمطران أيونيس إيليا عتمة (†1889)، والمطران يعقوب متى أحمردقنه (†1908)، والقس إيليا نحيت (1825)، والخوري أفرام كرش مرش (†1888)، والقس طوبيا يونان (†1916)، والقس يوحنا قندلفت الرهاوي (†1915).
ومن نوابغ خطاطيهم أيضا القس أسطفان سفر (†1916)، وشقيقه القس أندراوس، والقس نعمان بطبوطة (†1917)، والشماس أنطون شبين، والقس بطرس سابا البرطلي، والخوري إسحاق أرملة الذي نسخ أكثر من أربعين مجلدا بخطه السرياني، فضلا عما نسخه بالخط العربي، وامتاز روفائيل ابن شقيقه عبد الجليل أرملة بخطه السطرنجيلي البديع، والمعلم جرجس الرهاوي المتفنن في أشكال الخطوط السطرنجيلية والسريانية، ورياض شدياق أحد تلامذة دير الشرفة ... إلخ.
هوامش
الفصل التاسع عشر
قدامة المخطوطات السريانية ونفائسها المصورة والمزخرفة
لا نبالغ إذا صرحنا بأن المخطوطات السريانية التي تحتفظ بها مكتبات الشرق والغرب هي من أقدم مخطوطات الدنيا وأثمنها، وقد أتيح لنا أن نشرف على الكثير منها في أثناء رحلاتنا المتكررة إلى ديار أوروبا، فتحققنا ذلك بنفسنا، وأكبرنا جهود القائمين بجمع تلك الذخائر النفيسة وتنظيمها وصيانتها. وليست تلك الكنوز على وفرتها أو قلتها إلا نزرا مما خلفه الأجداد، فلو تيسر استقصاء ما ضاع أو اندثر من المخطوطات على توالي الأعصار في شتى الأمصار، لفاق عددها حدة الكثرة.
كيف لا وهذه معاهد السريان الثقافية التي عدت بالمئات؟ دع كراسي أبرشياتهم وكنائسهم الوافرة وخزائن أدبائهم وعلمائهم، فهي أقوى دليل على صحة ما نقول، أضف إلى ذلك كله العدد العديد من خطاطيهم الذين واصلوا الليل والنهار في نساخة الكتب وضبطها وإتقانها وتنميقها وزخرفتها بأكمل ما يكون من الدقة وسلامة الذوق.
وكان السريان يكتبون مخطوطاتهم الضخمة العجيبة في قديم الزمان على البردي أو رق الغزال، ولأجل ذلك سبقوا فأنشئوا معامل للرقوق في أنحاء كثيرة من بلادهم، ولا سيما في مدينة جبيل (بيبلوس) إحدى عواصم الآراميين، وفي الرها حاضرة السريان الأباجرة
1
وفي قرتمين بطور عبدين
2
وغيرها؛ لأن الكاغد لم يعرف عندهم إلا منذ القرن الثامن أو التاسع للميلاد. وبعد هذا الإيضاح هاك وصفا وجيزا عن أقدم المخطوطات السريانية وعن نفائسها المصورة والمزخرفة: (1) أقدم مخطوطات الكتاب المقدس
أقدم نسخة مخطوطة من هذا المصحف الكريم في اللغة السريانية هي نسخة الإنجيل المعروفة باسم «النسخة السينائية» تمييزا لها عن سواها، وقد نشر المستشرق بيركيت سنة 1904 في كمبردج نصها مع ترجمة إنكليزية.
وفي المتحف البريطاني بلندن خمس نسخ سطرنجيلية
3
من الكتاب المقدس منسوخة منذ السنة 450 ميلادية، ثم نسخة في المكتبة الواتكانية مدونة في السنة 548 ميلادية، ونسخة مصورة في فلورنسا يرتقي عهدها إلى السنة 586م وسيأتي وصفها.
أحصى الأب بولان مرتين خمسا وخمسين نسخة سطرنجيلية من هذا المصحف الثمين مكتوبة في القرن الخامس فالسادس فالسابع، يقابلها في القدم اثنتان وعشرون نسخة لاتينية، وعشر نسخ يونانية فقط.
4
ونضرب صفحا عن «الدياطسرون» السرياني الذي أنشأه ططيان نحو السنة 170 للميلاد، وأدمج فيه آيات الأناجيل الأربعة وأفرغها في إنجيل واحد.
5 (2) بعض مخطوطات سريانية عريقة في القدم
ما عدا مخطوطات الكتاب المقدس، فقد احتوت المكتبات الكبرى بعض مخطوطات سطرنجيلية لا تقل عنها قدما، نذكر منها:
الكلندار:
هو تقويم للأعياد ولتذكارات الشهداء والقديسين على مدار السنة، منه في مكتبات الغرب والشرق نسخ جمة، أقدمها مخطوطة المتحف البريطاني
6
المنسوخة في السنة 722 للإسكندر، الموافقة للسنة 411 ميلادية.
تاريخ أوسابيوس القيصري (†340م):
نقل هذا التاريخ البيعي إلى اللغة السريانية في القرن الخامس، ومن هذا النقل نسخة جيدة نسخت في السنة 773 للإسكندر (462م)، وهي محفوظة في مكتبة بطرسبرج (ليننغراد).
7
سيرة مار سمعان العمودي الكبير (†460م):
هذه السيرة المعتبرة كتبها قزما تلميذ مار سمعان العمودي في السنة 785 للإسكندر (474م)، وهي تقع في أكثر من مائة صفحة.
8 (3) وصف إنجيل ربولا
سبق لنا كلام وجيز عن الربان ربولا محبر هذا المصحف الثمين ومصوره، والآن نرى أن نسترسل في وصف ذلك المصحف النادر المثال، بيانا لما تفرد به رهط من أئمة السريان في فني التصوير والنقش.
فهذا الإنجيل يعد تحفة من تحف الفن، وهو اليوم محفوظ بكل حرص في الخزانة الماديشية بفلورنسا، وقد أفاض في وصفه السيد أسطفان عواد السمعاني مطران أفاميا سنة 1742.
9
أما ناسخه وموشحه فهو الربان ربولا، ولأجل ذلك عرف عند العلماء والمستشرقين باسم «إنجيل ربولا»، وانتهت نساخته في 15 شباط 897 للإسكندر (586م) في دير مار يوحنا بزغبة.
اشتمل هذا المصحف البديع على ست وعشرين صورة ملونة تعد من أدق وأجمل ما رسمته ريشة مصور؛ فالصورة الأولى تمثل السيد المسيح محاطا برسله، وهناك أسماء بطرس ويعقوب وتوما مكتوبة بحروف سطرنجيلية. والصورة الثانية تمثل سيدتنا العذراء مريم منتصبة وحاملة يسوع ابنها على ذراعيها. وتمثل الصورة الثالثة أمونيوس الفيلسوف الإسكندري وأوسابيوس القيصري المؤرخ اللذين اشتغلا بدرس الكتاب المقدس وشرحه.
وتمثل الصورة الرابعة موسى الكليم، وهارون أخاه، ثم زكريا يبشره جبرائيل الملاك بميلاد يوحنا. وتمثل الصورة الخامسة يشوع بن نون، والنبي سموئيل قاضي إسرائيل، وبينهما صور العذراء مريم مع الآية الإنجيلية «ها أنا أمة للرب»، وصورة جبرائيل الملاك مع الآية «السلام لك يا ممتلئة نعمة»، وكلتا الآيتين مكتوبتان في السطرنجيلية.
أما الصورة السادسة فتمثل داود الملك وابنه سليمان، ثم صورة ميلاد يسوع المخلص وصورة قتل الأطفال ... إلخ، وقس على ذلك سائر الصور التي تمثل الأنبياء هوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونان، وميخا. ثم صورة مريم العذراء ويوسف خطيبها، وصورة مريم العذراء ونسيبتها اليشبع، ثم صور ناحوم وصفنيا، وأيوب وأشعيا، وحبقوق وحجاي، وزكريا وأرميا، وحزقيال ودانيال، وملاخي واليشع.
وبعد تلك الرسوم الرائعة صورة يوحنا الإنجيلي، وفي يديه كلتيهما درج حوى هذه الآية بالسطرنجيلية «في البدء كان الكلمة ...»، وهي الصورة السادسة عشرة. أما الصورة السابعة عشرة فتمثل مرقس ولوقا ... إلخ. وقس عليها صورة يسوع راكبا جحشا منطلقا إلى أورشليم، وهي بديعة جدا ... إلخ.
أما الصورة الثالثة والعشرون، فهي باكورة صور يسوع المصلوب في الكنيسة النصرانية، فقد أفرغها المصور السرياني في قالب لطيف جميل لم يسبقه إليه مصور على الإطلاق؛
10
ذلك أنه صور يسوع المخلص معلقا على الصليب، موشحا بثوب أرجواني مذهب، ورسم حوله آلات الصلب، وتعلو الصليب عبارة «يسوع الناصري ملك اليهود» في السطرنجيلية، ويلي ذلك صورة قيامة يسوع الفادي، وصورة صعوده إلى السماء، وصورة حلول الروح القدس على الرسل ... إلخ. (4) وصف إنجيل قرقوش
حفظ هذا المصحف النفيس مدة أجيال في بيعة السريان بقرقوش إحدى قرى الموصل الشهيرة، ثم نقل إلى خزانة القلاية المطرانية بالموصل. وفي السنة 1938 حمله السيد قرلس جرجس دلال مطران الموصل إلى روما، وأهداه إلى الحبر الأعظم بيوس الحادي عشر الذي أمر أن يحفظ في المكتبة الواتكانية، ثم تولت هذه المكتبة نشره بالطبع بيانا لمزاياه وتعميما لفوائده.
وينطوي هذا الإنجيل الفريد على 476 صفحة، طوله 44 سنتمترا، في عرض 33 سنتمترا، في سمك 11 سنتمترا، وقد كتبه الراهب مبارك بن داود البرطلي (1220-1239) بحروف سطرنجيلية مستبدعة، وزينه بأربع وخمسين صورة ملونة في غاية التأنق والاتقان.
افتتح الناسخ الإصحاح الأول بفصل الإنجيل الذي يرتل في أحد تقديس البيعة، فكتبه بحروف مذهبة طبقا لنص الترجمة البسيطة، وجرى هذا المجرى في جميع فصول الآحاد والأعياد السنوية.
أما الصورة الأولى فتمثل موسى الكليم بيده قلم، وفي أسفلها صورة يوحنا الإنجيلي، وإلى جانبها أرزة لطيفة هي من أبدع ما نمقته ريشة نقاش. والصورة الثانية تمثل زكريا الكاهن في مذبح البخور وجبرائيل رئيس الملائكة يبشره بميلاد يوحنا. والثالثة صورة العذراء والملاك جبرائيل. والرابعة صورة زيارة العذراء لاليشبع. والخامسة صورة زكريا بيده لوحة مكتوب عليها بالسطرنجيلية «يوحنا اسمه». والسادسة صورة يوسف خطيب مريم والملاك. والسابعة صورة ميلاد يسوع المخلص. وقس على ذلك صور قتل أطفال بيت لحم، وهرب يسوع إلى مصر، ورجم أسطفانس أول الشهداء ... ومار أنطونيوس رئيس الرهبان، وشمعون الشيخ، وعرس قانا الجليل، وابن أرملة نائين، والسامري، والمرأة الخاطئة ... وغسل أقدام الرسل، والعشاء السري، والقيامة، والصعود ...
وهناك صورة رائعة تمثل قسطنطين الملك وأمه هيلانة الرهاوية السريانية، يتوسطهما صليب قد أمسكه كل منهما بيمينه.
وجاء في آخر هذا المصحف البديع ما تعريبه: «انتهى الكتاب يوم السبت أول آيار سنة 1531 لليونان (1220م)، كتبه مبارك أحد رهبان دير مار متى بن صليبا بن يعقوب من قاسطرة برطلي ... ووقفه مع بعض أوان لمذبح دير مار متى، ومار زكي، ومار إبراهيم بجبل الفاف ...» (5) وصف أناجيل يوحنا مطران ماردين والخابور (†1165م)
أفرغ هذا المطران الهمام كل المساعي في تجديد دير الزعفران وتعزيز أرزاقه، وأضاف إلى ذلك اعتناءه بتجليد مخطوطات نفيسة صانها في المكتبة، ونسخ بيده أربع نسخ من كتاب الإنجيل الكريم، ورصعها بحروف ذهبية وفضية،
11
ونسخ إنجيلا ممتازا لدير الزعفران، واجتهد في مشترى أوان بيعية من كئوس وأطباق ومباخر وصلبان ومراوح وبيوت قربان، واستحضر من الإسكندرية ثلاث كئوس فاخرة منزلة بالميناء، لا مثيل لها إلا في قصور السلاطين والملوك. (6) وصف إنجيل بيعة السريان في صور
كان للسريان كنيسة في صور أطلقوا عليها اسم «بيعة مريم المجدلية وسمعان الفريسي»، وكانت تملك إنجيلا سطرنجيليا منسوخا عام 1460 للإسكندر (1149م) على رق الغزال، كتبه الراهب سهدو الرهاوي في عهد البطريرك أثناسيوس الثامن (1139-1166) ووشاه بصور أثرية رائعة، وهذا الإنجيل محفوظ في الخزانة المرقسية.
12 (7) وصف إنجيل البطريرك ميخائيل الكبير (†1200)
ممن تأنق في الخط والتصوير وأجاد فيهما كليهما البطريرك العلامة ميخائيل الكبير الملطي؛ فقد تفرغ لنسخ كتب جمة نذكر منها نسخة بديعة من كتاب الإنجيل موه حروفها بماء الذهب والفضة ودبجها بصور شتى، ثم جعل ذلك المصحف الشريف ضمن صندوقة فضية مذهبة.
13 (8) وصف إنجيل البطريرك يوحنا السادس عشر (1215-1220)
هو المعروف بيشوع الكاتب، نصب بطريركا عام 1208 مزاحما للبطريرك ميخائيل الثاني (1207-1215)، ثم تأيد بعد وفاة سالفه المشار إليه عام 1215 في الكرسي البطريركي. كان قصير القامة، ضعيف البنية، نحيف الجسم، كتب لما كان راهبا إنجيلا بديعا وشاه بماء الذهب، وظل هذا الإنجيل إلى عهد قريب محفوظا في دير الصليب بطور عبدين، ونسخ هذا البطريرك أيضا في عهد رهبنته ثمانية عشر إنجيلا، منها ثلاثة في حلب وفي باريس تحت رقم40.
14 (9) وصف إنجيل القس باخس الخديدي الطواف (1213-1257)
امتاز هذا القسيس بخطه الرائع ، وقد صانت لنا حوادث الدهر نسخة جميلة من إنجيل دبجه بصور ظريفة شتى، وهذا الإنجيل البديع محفوظ حتى اليوم في الخزانة المرقسية بأورشليم، وموسوم بالعدد 28. ولهذا القسيس إنجيل آخر بخط يده محفوظ في المكتبة الأهلية بباريس.
15 (10) وصف إنجيل البطريرك بطرس هداية (1598-1640)
من المصاحف التي تستحق وصفا مخصوصا إنجيل بديع ثمين مكتوب بحروف سطرنجيلية كلها ذهبية وفضية، شاهده الرحالة ديلافالة عند البطريرك أغناطيوس بطرس هداية في قلاية حلب، وصرح بأنه لم يشاهد إنجيلا مخطوطا بحروف أجمل وأبدع منه، بل لم يشاهد تذهيبا ونقشا أدق وأروع. وكان غلافه من مخمل مرصع بفضة وذهب، وقد استصنع البطريرك المذكور هذا الغلاف بدلا من الغلاف الأصلي الذي كان مرصعا بالجواهر الكريمة التي لا تقدر بثمن.
16
وهذا المصحف النفيس الراقي عهده إلى القرن الحادي عشر، قد التهمته النيران في حريق جرى بتاريخ 16 تشرين الأول 1850 في كنيسة حلب السريانية وقلايتها.
17 (11) وصف إنجيل صلح
نضم إلى ما سبق إنجيلا بديعا جدا طبقا للترجمة الحرقلية، كان محفوظا حتى الحرب العظمى (1914-1918) في دير مار يعقوب بقرية صلح بطور عبدين، وهو مصحف كبير الحجم نادر المثال، مخطوط بحروف سطرنجيلية رائعة على رق الغزال. واشتمل هذا المصحف على تصاوير ملونة نفيسة، في جملتها صورة ربنا يسوع يصعد إلى السماء، ويشاهد تحت الصورة المذكورة رسوم الرسل في وسطهم مار بطرس قد توشح دونهم بحلة الكهنوت.
18 (12) وصف إنجيل قلث
حوت كنيسة مار سمعان القناني في قلث بطور عبدين إنجيلا سطرنجيليا جميلا وفقا للترجمة الحرقلية، نسخه الشماس مسعود في دير الزعفران عام 1626 للإسكندر (1315م) في عهد البطريرك أغناطيوس الخامس الشهير بابن وهيب (1293-1333)، وقد زين الناسخ فصليه الأول والأخير بحروف ذهبية وملونة. أما الفصل الأول فهو من إنجيل متى الرسول (16: 13-19) حيث يقول يسوع لبطرس: «أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي.» وانطوى الفصل الأخير على الفصل الحادي والعشرين من إنجيل يوحنا، وفيه يقول يسوع المخلص لبطرس رأس الرسل: «ارع خرافي، ارع نعاجي، ارع كباشي.»
19 (13) وصف إنجيلين في خزانة دير الزعفران
ذكر العلامة البطريرك أغناطيوس أفرام برصوم نسختين من الإنجيل الكريم مزينتين بتصاوير جميلة، محفوظتين في خزانة دير الزعفران، إحداهما صورها ديوسقورس ثئودورس (†1273م)،
20
وكان هذا الإنجيل النفيس قد حفظ مدة من الزمان في كنيسة الأربعين بماردين على عهد المطران توما قصير، ثم أعيد إلى مكانه الأصلي في الخزانة المذكورة. (14) وصف أناجيل سريانية عند النساطرة
لدى السريان النساطرة بعض مصاحف مرصعة بصور فضية ومزينة كتابتها بنقوش بديعة تمثل أسرار حياة السيد المسيح من مولده إلى قيامته وصعوده. وفي قوجانس مقر جثالقتهم إنجيل مصور يعد من التحف الطريفة، وفي خزائن لندن وباريس أناجيل مثله اشتراها الإنكليز والفرنسيس من النساطرة.
21 (15) وصف مصاحف سريانية في بطريركية الكلدان
في المكتبة البطريركية الكلدانية بالموصل مخطوطات منسوخة على ورق أسمانجوني من صناعة القرن الحادي عشر، تترصع فيه الآيات الإنجيلية بمحلول الذهب كأنها النجوم متلالئة في القبة الزرقاء،
22
تلك مصاحف نادرة تدل على مكانة السريان قديما في إتقان الكتابات المزخرفة والتضلع من الفنون الجميلة. (16) وصف بيتكاز مصور في خزانة الشرفة
كتب هذا البيتكاز الجميل عام 1690 السيد ديونيسيوس رزق الله أمين خان (†1701) مطران حلب، الذي قضي شهيدا في قلعة أطنة
23
وقد دبجه ناسخه المفضال بأربعين صورة ملونة، الأولى صورة يسوع الفادي، فصورة العذراء مريم حاملة ابنها يسوع، ثم ألحق بهما صورة مار بطرس ومار بولس، فصورة موسى الكليم، فزكريا الكاهن، فبشارة العذراء، فزيارتها لاليشبع ... إلخ. وانتهى الناسخ بصورة مار يوليان الشيخ صاحب دير القريتين.
24 (17) وصف مخطوطات بالحرف الجرجري أو الكركري
كان للسريان في مقاطعة جرجر الواقعة شمالي الرها عدة أديار عامرة، امتاز رهبانها بخطوط دقيقة أنيقة غلب عليها اسم «الخط الجرجري»، ومن هذا الشكل مخطوطات شتى في مكتبات الشرق والغرب. وأشهر الخطاطين في هذا النوع من الكتابة غريغوريوس الونكي الذي تولى مطرانية الرها (1577-1607)، فقد كتب بخطه الدقيق المنمنم نحو عشرين مجلدا، بينها أناجيل ومزامير فريدة في بابها، وتمتاز بعض مخطوطات هذا المطران بكون طول الصفحة منها لا يتجاوز غالبا سبعة سنتمترات. ومن هذا الشكل الجميل نسخة في الخزانة المرقسية بالقدس، ونسخة في خزانة بوسطن في الولايات المتحدة.
25
وشاهدنا نحن في خزانة الشرفة بعض مخطوطات جرجرية قديمة تستحق الاعتبار. (18) وصف سوسطاثيقونات مزخرفة ومصورة في خزائن الشرفة
عني بطاركة السريان منذ أحقاب بعيدة بكتابة صك يسمونه «السوسطاثيقون» أي «كتاب العهد»، يدفعونه إلى الأسقف الجديد لدى تقليده الولاية على إحدى الأبرشيات، فيحمله ذلك الأسقف إلى أبرشيته، ثم يدفعه إلى كبير الكهنة كي يقرأه على أبناء الرعية عند دخوله أول مرة إلى الكنيسة. وقد يبلغ طول السوسطاثيقون أحيانا زهاء خمسين ذراعا في خمسة وعشرين سنتمترا، ويلف كالدرج حول خشبة مستديرة.
وفي خزائن الشرفة بعض سوسطاثيقونات بينها اثنان منمقان بضروب الصور والزخارف الرائعة وأشكال الخطوط السريانية، أحدهما سوسطاثيقون السيد ديونيسيوس ميخائيل جروة عندما تقلد كرسي أبرشية حلب عام 1766 ميلادية، فهو آية من آيات الإبداع بخطوطه السطرنجيلية المتنوعة وألوانها الزاهية والمذهبة.
26
أما السوسطاثيقون الثاني فيشتمل على صور ملونة تمثل بعض الملافنة والأحبار القديسين، وقد أهديناه نحن إلى خزانة الشرفة سنة 1926 ليحفظ بين ذخائرها الثمينة.
هوامش
الفصل العشرون
مكتبات السريان في عصرهم الذهبي
عديدة هي المخطوطات التي نمقتها قديما أيدي العلماء والمؤلفين والنساخ في اللسان السرياني؛ لأن سوق المعارف كانت رائجة بينهم رواجا عظيما كما أثبتنا في فصول سابقة، فكان ذلك داعيا إلى إنشاء المكتبات الوافرة وإقبال الخاصة والعامة على ارتيادها والانتفاع من كنوزها.
غير أن الرزايا الجسيمة التي حلت بديار الشرق في مختلف العصور أجهزت على كل ما فيها ومن فيها فلم تبق ولم تذر. وحسبنا أن نذكر أسماء الطغاة زنكي وهولاكو وجنكزخان وتيمورلنك وأشباههم ممن أعملوا السيف والنار في البلاد حتى جعلوها خرابا يبابا، هكذا تلفت تلك الذخائر العلمية التي صرف مؤلفوها وناسخوها والمولعون بها قرونا طويلة في وضعها وجمعها، فذهبت كالهباء المنثور.
وقد أحسنت صنعا دول الغرب في التقاط ما تيسر لها من المخطوطات السريانية القديمة، فحرصت عليها في الخزائن والمتاحف صيانة لها من التلف وخدمة للعلم الشريف. ودلالة على كثرة تلك المخطوطات، فقد أحصى منها الأب شابو المستشرق الفرنسي ثلاثة آلاف ونيفا في سبع خزائن فقط من مكتبات أوروبا.
1
ولما كان يتعذر الإلمام بمعظم مكتبات السريان في الأمصار الشرقية، وتدوين أخبارها مكتبة فمكتبة لوفرة عددها، اكتفينا أن نلمع إلى بعضها فيما يلي: (1) مكتبة الرها الملكية
بلغت مدينة الرها أوج المجد في عصر مدرستها الشهيرة الذي سماه العلماء «عصر الرها الذهبي»، واستمرت العلوم زاهرة في تلك المدرسة الذائعة الصيت حتى انطفأ سراجها الوهاج عام 486 بأمر زينون الملك. أما مكتبتها الملكية التي أنشأها الملوك الأباجرة، فكانت مرجعا يؤمه الكتبة والأئمة والأدباء من مختلف الأقطار الشرقية والغربية، وينقلون عن مخطوطاتها الثمينة ما احتاجوا إليه.
قال أوسابيوس القيصري (265-340م) إمام المؤرخين ما تعريبه: «نرى في مصاحف الرها بينات نقلت عن الوثائق المحفوظة هناك منذ أصبحت تلك المدينة عاصمة المملكة (الأبجرية)، وكانت تلك المصاحف تشتمل على أخبار الوقائع التي جرت من زمن الأسلاف حتى عهد الملك أبجر. وما برحت هذه المصاحف مصونة في الرها إلى زمننا الحاضر (أعني إلى القرن الرابع للميلاد)، وعليه فلا نرى مانعا يصدنا عن سرد هذه البينات التي نقلناها عن وثائق مكتبتها وترجمناها بالحرف الواحد من اللسان السرياني إلى اليوناني.»
2
وقد احتاج غير واحد من مشاهير الكتبة والمؤلفين إلى استنساخ الشيء الكثير من مخطوطات تلك المكتبة الملكية ومحفوظاتها، ولبثت المكتبة الرهاوية عامرة زاهرة في عصر السريان الذهبي يؤمها الطلاب ورواد الأدب من كل ناحية، ذلك ما حملنا على أن نتغنى بها في بيتين من الشعر نظمناهما، واستكتبناهما بحروف ضخمة مفضضة، وجعلناهما فوق مدخل دار الكتب اللبنانية التي أنشأناها في بيروت، وهما:
للكتب أنشئ مقدس أوحى لنا
عصر الرها ومآثر المأمون
في بابه ازدحمت أساطين النهى
سعيا وراء الجوهر المكنون
وبتوالي الأزمنة جدد السريان في الرها مكتبة حوت مخطوطات كثيرة نفيسة، نقلوا قسما صالحا منها من دير أبحاي المجاور لكركر الذي ظل عامرا حتى القرن الثامن عشر، وقد نسخ قسم من تلك المخطوطات على رق غزال، بينها «تاريخ الأزمنة» تأليف البطريرك ميخائيل الكبير، وواعظ يوحنا فم الذهب، ومار باسيليوس القيصري، وتصانيف أخرى نفيسة. وعندما أجلي السريان كسائر النصارى من مدينة الرها عام 1922 بأمر الحكومة التركية، نقلوا معهم تلك المخطوطات إلى حلب وإلى غيرها من المدن التي استوطنوها. (2) مكتبة المفارنة في تكريت
لم تكن مكتبة تكريت أقل شأنا من مكتبة الرها، بل اغتنت بثروة علمية بفضل المفارنة السريان الذين تسلسلوا في كرسيها. واشتهر في تلك المدينة من العلماء ماروثا المفريان (†649م)، وأنطون البليغ (820م)، ويحيى بن عدي (†974م)، ويحيى بن جرير وأخوه الفضل وهما من أعلام القرن الحادي عشر وغيرهم.
وكانت خزانة المفارنة غاصة بالمخطوطات النادرة القديمة العهد، وعلى رغم إجهاز الغزاة البرابرة عليها فقد تمكن أدباء تكريت أن يخفوا منها ما استطاعوا إليه سبيلا، وخيفة أن تلحق الرزايا بتلك البقية العلمية الأثرية نقلوا بعضها إلى دير مار متى الشيخ بجوار الموصل، وبعضها الآخر إلى دير والدة الله في وادي النطرون بمصر، وإلى غيرهما من الأديار. (3) مكتبة آمد (ديار بكر)
أزهرت النصرانية في آمد منذ أقدم عصورها، وعد كرسيها مطروبوليتيا في قيود الكنيسة السريانية. وجاء في أخبار مارا الثالث مطرانها (†529م) على ما صرح معاصره وابن وطنه يوحنا الآمدي المؤرخ
3
أنه جمع خزانة كتب نفيسة عديدة نقلها تلامذته بعد وفاته ووضعوها في كنيسة آمد. ولما اتخذ بطاركة السريان في القرون الوسطى تلك المدينة مركزا لهم، عززوا مكتبتها المشار إليها وأغنوها بالذخائر العلمية حتى أصبحت من أهم المكتبات، وممن صرف الهمة في ازدياد ثروة تلك المكتبة العلامة يعقوب الصليبي الذي تولى كرسي آمد من السنة 1167 حتى السنة 1171، فأغنى تلك المكتبة بتصانيفه وبما جمعه مدة حياته من مؤلفات مشاهير الكتبة. (4) مكتبة مذيات
للسريان في مذيات حاضرة طور عبدين كنيسة باسم الشهيدة شموني، اشتملت إحدى غرفها على مخطوطات قديمة العهد مرصوفة بانتظام، نقلت إليها من شتى الأديار المجاورة، بينها مخطوطات على رق الغزال نذكر منها كتاب «ديدسقالية الرسل»، وكتابا نادر المثار ذكره الرحالة باري قال: «من الذخائر النادرة التي لم يرو التاريخ مثلها، مخطوطة ثمينة للإنجيل كانت مصونة في مذيات، ويرتقي عهد كتابتها إلى القرن التاسع، وهذه المخطوطة الفريدة المنسوخة على رق الغزال تحوي نص الإنجيل باللغة اليونانية مكتوبا بحروف سطرنجيلية.»
4 (5) أشهر مكتبات السريان في أديارهم (5-1) مكتبة دير مار متى الشيخ
عدت مكتبة دير متى الشيخ من أقدم مكتبات الشرق عهدا وأوفرها ثروة، وكانت غنية بالمخطوطات النادرة التي ذاع أمرها في البلاد،
5
ومن أثمن ما انطوت عليه هذه المكتبة نسخة سطرنجيلية قديمة جليلة تدعى «هكسبلة» اشتملت على كتاب «العهد القديم»، ويوجد في كل صحيفة منها ستة أعمدة،
6
ولما سمع طيمثاوس جاثليق النساطرة (†823م) بأمرها، كتب إلى رئيس الدير
7
في استنساخها، ثم استعان الجاثليق بجبرائيل بن بختيشوع (†828) - كاتب ديوان الخليفة عبد الله المأمون وطبيبه - في استحضار هذه النسخة إلى بغداد واستكتابها، وكانت هكسبلة دير مار متى المشار إليها مكتوبة على رقوق بخط نصيبيني بديع، وما كاد يظفر بها الجاثليق حتى استدعى ستة نساخ ماهرين وكاتبين من جهابذة بغداد يمليان عليهم، فنسخوها كلها بالشكل الكامل، ونقل الجاثليق عينه ثلاث نسخ عنها بخط يده.
8
وتتابعت غوائل الأكراد على دير مار متى عام 1171، و1261، و1282، و1319، و1361، فقتلوا عددا عظيما من رهبانه، ونهبوا ذخائره وأمتعته ومصاحفه الخطية، فأمست أثرا بعد عين.
9 (5-2) مكتبة دير قرتمين
أسس هذا الدير الفخم مار جبرائيل القسطني في السنة 397 ميلادية، وكان طلاب العلم والصلاح يتقاطرون إليه من شتى الأطراف، وبتوالي الأزمنة حشد فيه رهبانه البالغ عددهم مائة وخمسين راهبا مكتبة ثمينة عظيمة أصبحت آية بغرائبها وعجائبها، وأضاف إليها المطران شمعون الزيتوني (†734م) مائة وثمانين مجلدا، ثم نسج على منواله داود ابن أخته ويوحنا مطران الدير (998-1034م) الذي جدد الكتابة السطرنجيلية بعدما أهملت نحو مائة سنة، ثم الراهب عمنوئيل ابن أخي المطران يوحنا، فقد كتب بخط يده على رق الغزال سبعين مجلدا من ترجمة الكتاب المقدس البسيطة والسبعينية والحرقلية، ومن فناقيث الصلوات القانونية والميامر وغير ذلك من «المخطوطات التي لا مثيل لها في الدنيا».
10
وفي السنة 1169 أضاف جبرائيل بن بطريق، واليشع أخوه، وموسى الكفرسلطي مائتين وسبعين مجلدا إلى ثورة ذلك الدير الكتابية، وممن ساعد أولئك النساخ على تعزيز تلك الثروة سكان قرية قرتمين الذين كانوا يهيئون الجلود أو رقوق الغزال لنسخ المخطوطات. وقد حلت بهذه المكتبة العامرة نوائب شتى عام 580م و1075، ولا سيما عام 1089، فإن الفرس نهبوها وأحرقوا الدير، ومكثوا أربعة وعشرين يوما يعيثون فيه، وتركوه قاعا صفصفا.
11 (5-3) مكتبة دير والدة الله في وادي النطرون بمصر
أنشأ السريان في وادي النطرون ثمانية عشر ديرا، عددها الخوري إسحاق أرملة نقلا عن أوثق المصادر.
12
وجمعوا في أغلب تلك الأديار مكتبات حوت كنوزا ثمينة جدا، ولولا غارات البربر الذين نهبوا جميع ممتلكات الرهبان، وهدموا كنائسهم وأحرقوا مساكنهم،
13
لتألف من تلك المخطوطات عشرات الآلاف بلا أقل مبالغة.
غير أن العناية الربانية شاءت أن تصان من تلك الذخائر النفيسة بقية في دير والدة الله المعروف بدير السريان بوادي النطرون، وهذا الدير تأسس قبل السنة 603 للميلاد، وأخذ رهبانه يجمعون فيه مخطوطات قديمة العهد، ألفوا منها مكتبة أصبحت كما وصفها بعضهم «أشهر خزائن الكتب السريانية، بل أقدم مكاتب الدنيا».
14
وظل أولئك الرهبان يعتنون بتلك المكتبة ويضيفون إليها ما عز وجل من المخطوطات، يوما بعد يوم وعاما بعد عام.
وفي السنة 927م سافر القس موسى النصيبيني رئيس الدير إلى بلاد سوريا وما بين النهرين، فجمع مائتين وخمسين مجلدا من أنفس المخطوطات وأندرها وأعتقها، ثم نقلها إلى ديره عام 932، وهناك ابتنى لها قاعة خصوصية ونظمها تنظيما محكما. ويرتقي عهد بعض تلك المخطوطات إلى القرن الخامس والسادس للميلاد مما يندر وجوده اليوم في أعظم دور الكتب وأهمها.
وجاء في بعض الحواشي: أنه بعدما نهبت الرها وآمد وملطية وغيرها من المدن الآهلة بالسريان، جمع بعض ما سلم من مخطوطات خزائنها، ثم نقلت إلى دير والدة الله بوادي النطرون على خمسة عشر حمل بعير.
15
ظلت هذه المكتبة الثمينة في نمو وازدياد حتى أربى عدد مخطوطاتها في ذلك العهد على ألف مجلد.
16
وذكر القس توما المارديني أنه شاهد عام 1624 في تلك المكتبة «صحفا كثيرة مكومة بلا حساب ولا عدد».
17
وفي السنة 1707 ارتحل القس إلياس السمعاني إلى دير والدة الله المشار إليه، واشترى من الرهبان بعض مخطوطات سريانية نقلها إلى المكتبة الواتكانية، ونحا نحوه العلامة يوسف شمعون السمعاني، فتوجه عام 1715 وتعهد مكتبة ذلك الدير واشترى منها ما اشترى، واستنسخ كتبا تعذر عليه اشتراؤها؛ لأن الرهبان لم يكونوا يستغنون عنها ولو بوزنها ذهبا.
18
ثم شحن السمعاني ثلاث سفن من المخطوطات، يقدر ما غرق منها بعشرة آلاف مجلد.
19
وفي السنة 1842 قصد تلك المكتبة عينها المستر تاتام السائح الإنكليزي، «فأخذ ثلاثمائة قطعة من الخطوط اليدوية المكتوبة على رق غزال، خلاف عدد عظيم من الكتب المهمة التي لا تقدر قيمتها ... ونقلها إلى إنكلترا».
20
هكذا اغتنت خزانة المتحف البريطاني بتلك الثروة العلمية السريانية، وأصبحت تباهي بها سائر خزائن الدنيا على الإطلاق، وما عدا ذلك فقد نقل من مكتبة دير والدة الله الغنية العجيبة مخطوطات جمة إلى مكتبات الفاتيكان، وباريس، وأوكسفرد، وكمبردج، وبرلين، وميلانو، وإلى بعض مكتبات الشرق.
وروى لنا مرارا العلامة البطريرك أفرام رحماني أن الإنكليز ابتاعوا من مخطوطات دير والدة الله ما يوازي ثقلها ذهبا، فكان الرهبان يضعون كل مخطوط منها في كفة الميزان، وكان المستر تاتام يضع ذهبا في كفة الميزان الأخرى! (5-4) مكتبة دير سرجيسية
أسس السريان هذا الدير عام 958 في جوباس بجوار ملطية تيمنا باسم الشهيدين سرجيس وباخس، وقصده العلامة الشهير يوحنا تلميذ مارون، وتولى فيه منبر التعليم مدة اثنتي عشرة سنة، فتخرج عليه مؤلفون ونساخ عديدون أغنوا خزائن الدير بمؤلفات وافرة، واعتنى إيليا رئيسه بالكنيسة فزينها بالحلل والسجوف والمخطوطات السريانية والأواني الذهبية والفضية. ولما ازداد عدد الرهبان والطلبة ابتنوا في ناحية الدير الجنوبية طبقتين لسكنى الأساتذة والكتبة والنساخ والتلامذة، فذاع فضل الربان يوحنا وانتشر صيته بين أبناء ذلك العصر الذين أطلقوا عليه لقب «ملفان وبحر الحكمة»، وحلت وفاته عام 1003.
21 (5-5) مكتبة دير الزعفران
أنشئت في القرن الثامن بهمة مار حنانيا مؤسس الدير، ثم جددها وأضاف إليها يوحنا مطران ماردين الرهاوي (†1165م)، وازدادت مخطوطاتها عندما صار الدير مقرا للبطاركة، واحتوت تلك المكتبة في أيام عزها على أسفار قديمة ضربت بها الأمثال، بينها ما كتب على رق غزال بحروف سطرنجيلية، وأثمنها مصاحف دبجت بصور بديعة ملونة.
ومن أثمن ما حوته المكتبة الزعفرانية: إنجيلان سطرنجيليان مكتوبان على رق غزال، ومنها سبعة مجلدات ضخمة مكتوبة كذلك على رق غزال تضمنت ميامر مار يعقوب السروجي (†521م)، وشرح إيريثاوس، ونسختان من كتاب أخبار القديسين مكتوبتان بحروف سطرنجيلية، وغير ذلك من المخطوطات المكتوبة على الرق أيضا. (5-6) مكتبة دير مار مرقس في القدس
هي مكتبة قديمة العهد اعتنى بتكوينها وتعزيزها مطارنة الكرسي الأورشليمي، وأضيفت إليها في القرن الرابع عشر بقايا خزانة دير المجدلية بالقدس بعد اندثاره، وإليها نقلت أيضا بعض مخطوطات دير الزعفران بعد الحرب العظمى (1914-1918) وللبحاثة الربان يوحنا دولباني وصف دقيق لأهم مخطوطات الخزانة المرقسية، نشره على صفحات المجلة البطريركية السريانية في أورشليم.
ومما حوته هذه الخزانة المرقسية ذخائر ثمينة مكتوبة على رق الغزال بخطوط سطرنجيلية بديعة، عددها اثنان وثلاثون مجلدا، بينها ميامر مار يعقوب السروجي في ثلاثة مجلدات ضخمة، تبلغ سماكة كل منها 30 سنتمترا في طول 40 وعرض 25س. وتشتمل كل صفحة على خمسة حقول بخط جلي ظريف. أما فهارسها فهي مكتوبة في صفحات شتى مدبجة بألوان بنفسجية وحمراء وزرقاء وخضراء وبرتقالية ... إلخ.
وحوت الخزانة المرقسية علاوة على ذلك صكوكا ووثائق وحججا قديمة العهد، يحافظ عليها رؤساء الدير ورهبانه بكل حرص وإجلال. (5-7) بقايا مخطوطات كنيسة مار بطرس ومار بولس في الرها
كانت هذه الكنيسة تشتمل على خزائن مخطوطات سطرنجيلية وسريانية غالية الأثمان قديمة الأجيال نادرة المثال، لكنها تضعضعت مع كرور الزمان، ولم يبق منها إلا النزر اليسير. وعندما اضطر الأتراك نصارى الرها أن يرتحلوا عن وطنهم سنة 1921، نقل السريان بقايا مكتبتهم إلى حلب، وجعلوا بعضها في موفه الكنيسة التي ابتنوها حديثا، وصانوا البعض الآخر في صناديق مقفلة أودعوها عند كبار أعيانهم. ومن جملة تلك المخطوطات: تاريخ ميخائيل الكبير، وميامر مار أفرام، ومار يعقوب في السطرنجيلية، وبعض مخطوطات السريان الملكيين ... إلخ. (5-8) مكتبة دير الشاغورة في صيدنايا
انطوت هذه المكتبة على مخطوطات سريانية قديمة ثمينة، حفظت فيها حتى أواسط القرن التاسع عشر، وكانت مصونة في خزائن دير الشاغورة أو بالحري دير الشاهورة بالهاء بدلا من الغين، وهي لفظة سريانية يراد بها الرهبان الساهرون في الصلاة وأعمال العبادة. وظلت تلك المخطوطات الوافرة العدد ومعظمها من نفائس المؤلفات المكتوبة على رقوق الغزال مصونة في ذلك الدير حتى عهد رئيسته الحاجة كاترينا مبيض، ووكالة والد الخوري ميخائيل كك، والشخاشيري وجبران الميداني، فخشى الوكلاء من كثرتها أن تكون حجة بيد السريان يتقوون بها على إثبات حقوقهم على الدير، فأجمعوا على إتلافها بأسرها، وأخرجوها من خزائنها وكدسوها وجعلوا يحرقونها أولا تحت القناطر، ثم كرهوا أن تذهب نارها ضياعا، فجمعوها في فرن الدير وخبزوا عليها خبزتين، وظلت النيران تشتعل في تلك المخطوطات أربعة أيام؛ إذ كانت الخبزة تبتدئ مساء الخميس وتنتهي صباح السبت، خلا ما أحرق منها تحت القناطر.
22
ولم يسلم من تلك المكتبة العامرة إلا بضع مخطوطات سبق المستشرقون والسياح فاشتروها، وزينوا بها مكتباتهم في بلاد أوروبا، ولا سيما المكتبة الواتكانية، فيا للخسارة الباهظة ويا للجهالة! (5-9) بعض مكتبات السريان المندثرة
كان للسريان في عصرهم الذهبي مكتبات عامرة في أغلب أديارهم التي أربى عددها على المئات، كأديار جبل الرها، وطور عبدين، وجبل الأزل، وأنطاكية، ولبنان، نخص بالذكر منها: دير مار بسوس، ودير تل عدا، ودير أوسيبونا، ودير كفربيل، ودير الجب الخارجي في أطراف أنطاكية، ودير مار يوحنا في زغبة، ودير قنسرين، ودير مار موسى الحبشي في النبك، ودير مار يوليان الشيخ في القريتين، ودير تل بسم غربي ماردين، ودير العمود قرب الرقة، ودير قرقفتا عند رأس العين، ودير قنقرات بآمد، ودير برصوما بملطية، ودير ابن جاجي، ودير زوقنين، ودير مار بهنام بالموصل ... إلخ. فهذه الديورة بأسرها كانت تشتمل على مكتبات عظيمة مزدانة بأقدم الصحف وأثمن المخطوطات.
هوامش
الفصل الحادي والعشرون
أشهر المكتبات السريانية في الزمان الحاضر، وعلاقة بعضها بالعصر الذهبي
نهض بعض الأحبار في القرون الثلاثة الأخيرة يفرغون الطاقة في إحياء آثار السلف، فوجهوا الهمم إلى التقاط ما تبقى منها، ثم أضافوا إليها مخطوطات حديثة كتبوها هم أو استكتبوها أحد الخطاطين، وانطوت تلك المخطوطات على مواضيع دينية وطقسية وتاريخية وعلمية ... إلخ، لا حاجة إلى تعدادها. إنما رأينا أن نلمع في هذا الفصل إلى بعض تلك المكتبات التي حوت قسما من المخطوطات السريانية، بينها ما كتب في العصر الذهبي: (1) مكتبة البطريركية السريانية في بيروت
عني بطاركة السريان الكاثوليك بإحراز مخطوطات ثمينة جمعوها في مراكز إقامتهم كحلب، وماردين، والموصل، وغيرها. ولما تولى الكرسي الأنطاكي مار أغناطيوس أفرام الثاني (1898-1929) وجعل مركز إقامته في بيروت، أنشأ في قلايته مكتبة معتبرة عدت من أهم مكتبات بطاركة المشرق، وقد جمع أوفرها خلال رحلاته المتواترة في العراق وما بين النهرين وسوريا ولبنان، نذكر منها على سبيل المثال: (1)
مخطوطة على رق الغزال حوت بعض مداريش وميامر سطرنجيلية. (2)
شرح مار أفرام لنبؤة أشعيا. (3)
شرح دانيال الصلحي لسفر المزامير. (4)
ديدسقالية الرسل. (5)
ميامر مار يعقوب السروجي. (6)
إنجيل ضخم طبقا للترجمة الحرقلية دبجت هوامشه ببعض الشروح، وكتبت عناوينه بحروف سطرنجيلية ملونة. (7)
شرح ابن الصليبي للعهدين القديم والجديد ... إلخ.
ولما شيد الكردينال البطريرك أغناطيوس جبرائيل تبوني الصرح البطريركي عام 1930، خصص بالمكتبة جانبا فسيحا في الطبقة الثالثة يستوعب عشرات الألوف من المجلدات، ثم استحضر في الأعوام الأخيرة ما جمعه أسلافه في ماردين من مخطوط ومطبوع، وضمه إلى ما اقتناه سالفه المشار إليه، وبين ذلك كتاب رسائل مار بولس على الرق يرتقي عهده إلى القرن الثامن أو التاسع للميلاد. هكذا تألفت خزانة مخطوطات ومطبوعات ثمينة وافرة العدد تزين اليوم كرسي البطريركية في عاصمة لبنان. (2) مكتبة دير مار أفرام الرغم بلبنان
ما كادت تنتهي عمارة دير مار أفرام الرغم في الشبانية عام 1705 حتى أخذ الرهبان يزينون خزائنه بمخطوطات سريانية وعربية قديمة العهد، منها ما نقلوه من بلاد سوريا وما بين النهرين، ومنها ما التقطوه من أنحاء لبنان أو نسخوه هم في ديرهم المذكور، غير أن أثمن تلك الكتب وأقدمها ذهب فريسة النار في فتنة السنتين 1840 و1841 ميلادية. وفي محفوظات دير الشرفة لائحة رسمية رفعها الخوري ميخائيل أزرق رئيس دير مار أفرام المشار إليه إلى والي سوريا، عدد فيها ما أتلف وأحرق من أمتعة الدير ومخطوطاته، وذكر أن عدد المخطوطات بلغ أربعمائة وستة وأربعين مخطوطا، وقدر قيمتها أربعمائة ليرة عثمانية ذهبية.
1
ولم يسلم من تلك الكنوز الكتابية إلا مجلدات معدودة سبق بعض الأحبار أو الرؤساء فنقلوها إلى دير الشرفة قبل حدوث الفتنة المذكورة. (3) مكتبة دير الشرفة في لبنان
نواة هذه المكتبة مخطوطات سريانية وعربية جمعها مار أغناطيوس ميخائيل الثالث (جروة) البطريرك الأنطاكي (1782-1800) منذ عهد كهنوته، ونقلتها خمسة قوافل عام 1786 على ظهر البغال من حلب إلى دير الشرفة، وعلى إثر وفاة البطريرك المغبوط ضمت إلى المكتبة مخطوطات جمة، حتى أربى عددها على ألف وستمائة مخطوطة، بينها أكثر من مائتي مخطوط أهديناها نحن إليها.
وتعتبر مكتبة الشرفة أغنى مكتبات لبنان الخطية بلا جدال، وقد أنشأ لها المؤرخ البحاثة الخوري إسحاق أرملة فهرسا شاملا، بلغ عدد صفحاته 540 صفحة، ونشره عام 1936. (4) مكتبة مار شليطا مقبس
دير مار شليطا هو باكورة أديار الموارنة في كسروان، أسسه عام 1628 القس حنا بن المقدسي يوسف محاسب الغوسطاوي، واشتهر هذا الدير في عهد البطريرك أسطفان الدويهي (1670-1704) الذي اتخذه مركزا لإقامته، وابتنى فيه قلالي للبطاركة خلفائه عام 1672، واستمر مقيما فيه حتى قبيل وفاته سنة 1704.
ونقل هذا البطريرك إلى خزانة مار شليطا مجلدات وافرة من المخطوطات السريانية والكرشونية كانت في دير قنوبين، ثم عززها البطريرك يعقوب عواد (1705-1733) إذ أقام في هذا الدير من السنة 1706 حتى وفاته، وعلى ممر الأيام لعبت الأيدي بمخطوطات هذا الدير حتى كادت تندثر؛ فاستدرك البطريرك إلياس الحويك (1899-1932) أمر تلك المكتبة، وأوفد الخوري بطرس شبلي خازن المكتبة البطريركية إلى ذلك الدير، فاستحضر بقية المخطوطات والمطبوعات ونضدها في خزانة بكركي.
وأهم تلك المخطوطات السريانية وأقدمها عهدا مصحف إنجيل جميل في السطرنجيلية نسخ عام 1302 للميلاد، وصلاة قانونية للقديسة مورا عام 1468، يلي ذلك مخطوطات تضمنت الصلوات الفرضية للآحاد والمواسم نسخت في القرنين الخامس العشر والسادس عشر، وقد اطلع عليها البحاثة الخوري إبراهيم حرفوش ووصفها في مقال ضاف نشره في مجلة المشرق عام 1902 و1903. (5) مكتبة الكرسي البطريركي في بكركي
لم يغمض بطاركة الموارنة في سالف الأزمنة عن ادخار المخطوطات السريانية والحرص عليها؛ فقد كتب البطريرك ميخائيل الرزي (1567-1581) إلى رئيس الرهبنة اليسوعية العام يقول: «إن كتبنا بغير عدد.»
2
وعلى رغم ما أتلفه أو أحرقه الزوار الرسوليون من المخطوطات السريانية كما روى المؤرخون، فقد سلمت منها طائفة عظيمة بقيت إلى عهد البطريرك أسطفان الدويهي، وقد أحصى هذا البطريرك أسماء النساخ في القرن الخامس عشر ممن وقف على مخطوطاتهم، فإذا هم ينيفون على مائة وعشرة نساخ.
3
ولا ريب في أن مخطوطات سريانية مارونية قديمة اندثرت وبادت بسبب تنقل البطاركة من دير إلى دير. ومما اقتناه أحدهم إنجيل سطرنجيلي بديع نمقته يد ربولا السرياني رئيس دير مار يوحنا في زغبة، وقد أصبح ذلك الإنجيل الفريد في حوزة مكتبة فلورنسا بإيطاليا.
واعتنى البطريرك أسطفان الدويهي بتعزيز المكتبة البطريركية بما اقتناه أو كتبه بخط يده، وأحرز خلفاؤه من بعده بعض مخطوطات تتضمن صلوات قانونية وسنكسارات وطقوس الأسرار، واشترى البطريرك بولس مسعد (1854-1890) بعض مخطوطات سريانية ملكية
4
ضمها إلى المخطوطات السابقة، وتحوي الآن خزانة بكركي زهاء مائتي مخطوط بين سرياني وكرشوني وعربي. (6) سائر مكتبات الموارنة في لبنان
طاف الأب أنطونيوس شبلي الراهب اللبناني أغلب أديار الموارنة عام 1926، وألمع إلى ما عثر عليه فيها من بقايا المخطوطات السريانية، ونشر معلومات عنها في مجلة المشرق مدة ثلاث سنوات متوالية، وأقدم تلك المخطوطات لا يرتقي عمره إلى ما قبل القرن الخامس عشر، نذكر منها فنقيثا في مكتبة دير مار اليشع منسوخا سنة 1459، ورد فيه ما يلي: «وقف هذا الكتاب المبارك ... المقدمين عبد المنعم بن الدين، والحاج بدر بن قمر للقديس الفاضل المبارك مار برصوما المعمور بقرية بشري. أوقفه عن أنفسهم وأنفس أبهاتهم، وعن أولادهم، وعن نفس المقدم رزق الله، وعن ابنه يعقوب ...»
5
ومنها أناجيل سريانية منسوخة عام 1517 و1522، وفنقيث ثان منسوخ سنة 1530. وذكر الأب أنطونيوس أن بيعة مار سابا في بشري احتوت كتاب «الحاش»، وفيه ميمر لمار يعقوب أسقف مدينة سروج عن لص اليمين.
أما مخطوطات دير مار أنطونيوس قزحيا، فأقدمها منسوخ سنة 1661، أضف إلى ذلك مخطوطات خزانة سيدة نسبية ودير مار يوسف الحصن وعين ورقة في غوسطا، وقس عليها خزائن عشقوت وريفون وفيترون ولويزة، فإنها اشتملت - ما عدا مخطوطات عربية عديدة - على مخطوطات سريانية في الطقوس البيعية والسيامات الكهنوتية وبعض نوافير وميامر. (7) المكتبة المارونية في حلب
من المقرر أن الموازنة دخلوا حلب عام 1489 كما أثبت المطران جرمانوس فرحات في مخطوط يخص المكتبة موسوم بالرقم 621، وهو يحوي الصلوات القانونية من أحد تقديس البيعة إلى أحد الموتى. وأخذ الأساقفة الحلبيون الموارنة منذ ذلك التاريخ يعتنون بجمع المخطوطات في خزانة بيعة مار إلياس الحي، ضموا إليها ثلاثة وتسعين مجلدا بين مخطوط ومطبوع سريانيا وعربيا، ولما تولى المطران جرمانوس أبرشية حلب (1725-1732)، عزز تلك المكتبة حتى أصبح عدد كتبها سبعمائة وثمانية عشر مجلدا.
واشتملت تلك المكتبة على مجلدات شتى من مخطوطات الصلوات القانونية، ورتب الأسرار والاحتفالات البيعية، وأقدم مخطوطاتها السريانية إنجيل سرياني وكرشوني نسخ سنة 1547، وكتاب أعمال الرسل ورسائل مار بولس سنة 1555، وإنجيل ثان تاريخه سنة 1672، وقوانين يعقوب بن الصليبي مطران آمد يرتقي إلى السنة 1620.
6
وقد أضيف إلى تلك المكتبة بعد المطران جرمانوس مجلدات شتى أغلبها في اللسان العربي ليس من شأننا البحث عنها. (8) مكتبة البطريرك أغناطيوس أفرام برصوم في حمص
للبطريرك العلامة مار أغناطيوس أفرام الأول برصوم همة عجيبة غريبة لا يأخذها كلال في الدراسة والكتابة والتأليف ليلا ونهارا، فقد كلف منذ حداثته بالبحث عن الآثار السريانية القديمة، وساعدته الحظوظ فتعهد أغلب مكتبات الشرق والغرب، واطلع على ما في خزائنها الكتابية الثمينة، فجال في بلاد آثور، وطور عبدين، وما بين النهرين، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، ومصر، وتعهد مكتبات الفاتيكان، وفرنسا، وإنكلترا، وألمانيا، وهولندا، وأميركا وغيرها من المكتبات العامرة، فنسخ أو استنسخ ما رآه ذا فائدة كبرى لدرسه ونشره.
وقد جمع هذا الحبر الأنطاكي الهمام من المخطوطات السريانية عددا ليس باليسير، أشار إلى بعضها في هوامش دقيقة علقها على كتابه النفيس «اللؤلؤ المنثور في العلوم والآداب السريانية»، ويستفاد من تلك الهوامش أنه أفرغ جهودا عظيمة، وأنفق أموالا وافرة، وقام بأسفار شاقة حتى توصل إلى جمع ما لم يجمعه أحد غيره في يومنا من الكنوز الكتابية السريانية التي يتصل بعضها بالعصر الذهبي، وقد نظمها تنظيما فنيا، وزين بها خزائن كرسيه البطريركي في حمص، فأحرز بذلك ذكرا مستطابا يدونه التاريخ لغبطته على ممر الأجيال، أطال الله عمره مفخرة للعلم وعمادا للوطن والملة.
هوامش
الفصل الثاني والعشرون
الغسانيون والسريان في عصرهم الذهبي
(1) علاقات الغسانيين بالسريان
لا نرى أن نختتم بحثنا عن عصر السريان الذهبي دون أن نلمع إلى العلاقات الوثيقة التي كانت تربط شعوب بني غسان وأمراءهم وملوكهم بالأمة السريانية، ولم تقتصر تلك العلاقات على الشئون الوطنية، بل شملتهم في العقائد الدينية حتى عهد المجمع الخلقيدوني عام 451 للميلاد. وفي جداول أساقفة المجامع المسكونية الأربعة الأولى، أعني النيقاوي والقسطنطيني، والأفسوسي، والخلقيدوني، ورد ذكر فئة من أساقفة غسان قرروا ما قرره جمهور الأساقفة في تلك المجامع من العقائد الدينية، وبعد ذلك التاريخ انتمى الغسانيون قاطبة إلى السريان القائلين بالطبيعة الواحدة في السيد المسيح، وتشبثوا بها التشبث كله فدافعوا عنها سرا وجهرا، وقولا وعملا.
1 (2) أبرشيات السريان في غسان
تمكنت المنوفيزيتية في بلاد غسان وازدهرت فيها أبرشيات عامرة، تسلسل مطارنتها وأساقفتها جيلا بعد جيل قرونا عديدة، نذكر منها أبرشية بصرى، ودرعا أو أدرعت، وبيثونيا، وتدمر، ويبرود، والنبك، وحوارين، وصدد ... إلخ. ثم أبرشية الرصافة، وأبرشية الرقة، والكراسي الأسقفية الخاضعة لهما، ذلك ما عدا أبرشيات العرب الرحل كعرب تغلب، ومعد، وكلب ... إلخ.
2
وقد تولاها أساقفة كانوا تارة من السريان وطورا من غسان.
وأول أساقفة غسان المنوفيزيتيين كان ثئودور الذي نصب مطرانا لكرسي بصرى بأمر الملكة ثئودورا السريانية، وتحريض الحارث بن جبلة أمير الغساسنة. (3) أديار السريان في غسان
أسس السريان في بلاد غسان وباديتها أديارا شتى بلغ عددها 137 ديرا،
3
أشهرها دير جفنة، تأسس تيمنا ببني جفنة ملوك غسان،
4
ودير حالي الذي ابتناه عمرو بن جبلة ملك غسان،
5
ودير اليمن، ودير طي الذي عد من أقدم أديارهم، ودير حنينا وكان من أفخم الأديار، وفيه عقد المنذر بن الحارث سنة 580م مجمعا لإلقاء الصلح والسلام بين القلوب المتنافرة، ومنها دير زغبة الذي اشتهر في عهد رئيسه ربولا منمق الإنجيل السطرنجيلي البديع، وقد وصفناه في غير هذا الموضع. وقس على ما سبق دير الأكراح، ويقال له دير العمود أو دير مارزكى الذي شيدته على شاطئ الفرات الملكة ثئودورا السريانية، وفيه تثقف رهبان وأساقفة وبطاركة امتازوا بعلومهم وفضائلهم. وقس على ذلك أديارا لا تقع تحت حصر. (4) كنائس السريان في غسان
ما عدا الأديار العامرة التي شادها الغساسنة - كما قلنا - فهناك كنائس فخمة أسسوها في أطراف إمارتهم الواسعة الأرجاء، أقدمها وأبدعها كنيسة مار سرجيس ومار باخس الشهيدين في الرصافة، وقد سبق لنا وصفها.
6
ونضم إليها كنيسة الرقة التي أطلق عليها اسم «قاثوليقية» لفخامتها وضخامتها، وقد تقدم لنا وصفها كذلك.
7
ولا تقل كنيسة بيثونيا عن تينك الكنيستين عظمة وجمالا، ابتناها ترساي كاتب الديوان الملكي، وفيها دفن بعد وفاته.
8
ونضم إليها كنيسة بديعة شادها الأمير المنذر بن الحارث الذي صار قسيسا، وأطلق عليه لقب «المحب للمسيح» نظرا إلى تقواه وغيرته، وذكرت مخطوطة لندن السريانية
9
أن أوسطاث نائب سرجيس رئيس دير عوقبثا تولى خدمة هذه الكنيسة الجميلة. ونضرب صفحا عن تعداد سائر الكنائس التي شادها الغساسنة في بلادهم. (5) المؤلفون الغساسنة في عصر السريان الذهبي
قام في غسان كتبة عديدون أنشأ البعض منهم تصانيفهم في اللغة السريانية، والبعض الآخر في اللغة العربية، فمن الذين صنفوا في اللغة السريانية نذكر: القديس طيطس مطروبوليت بصرى الذي اشتهر في القرن الرابع، وصنف تآليف جليلة أعظمها شأنا كتابه في تزييف بدعة «ماني» الملحد. وقد اكتشف المستشرقون تصانيفه السريانية ونشروها مع ترجمتها.
10
ونهج منهاجه خلفه القديس أنطيفاتر فصنف عدة كتب في مواضيع دينية شتى، منها مقالاته في اتضاح الإيمان وميامره أي مواعظه في الأعياد وردوده على الهراطقة.
11
ولسنا ننسى يوحنا مطران بصرى (†650) العلامة الذي ذاع صيته بين فضلاء أساقفة عصره، صنف ليترجية سريانية بليغة معروفة باسمه، أولها: «أيها الإله واهب المحبة والاتفاق».
12
ونضم إلى هؤلاء الملافنة بولس مطران الرقة الذي أكب في القرن السادس على نقل مصنفات البطريرك سويرا (†538) عن اليونانية إلى السريانية، ونظم أنشودة للميرون جميلة. وقس عليه البطريرك بطرس الثالث القلنيقي (571-591) الذي اشتهر بتآليفه المحكمة، وارتحل إلى بلاد غسان ليوثق عرى الصداقة الدينية بين الكرسي الإسكندري والكرسي الأنطاكي، وأنشأ مقالات جمة في اليونانية والسريانية، وله ليترجية سريانية معروفة باسمه افتتحها بهذه العبارة: «أيها الإله الأب العلي الأزلي».
أما العلماء الذين عاشوا في بلاد غسان وكتبوا باللغة العربية فكثيرون، أشهرهم الشاعر المفلق أبو مالك المعروف بالأخطل التغلبي (640-710)، وهو يعد من أفاضل الشعراء بجودة نظمه، ومتانة عبارته، وغزارة معانيه، وتفنن أساليبه، ومن أخباره أن أمه ليلى علقت على صدره صليبا لم ينزعه مدة حياته كلها حتى عند دخوله على الخلفاء الأمويين، وعرف لذلك بذي الصليب.
ولد الأخطل نصرانيا وتبع العقيدة المنوفيزيتية الشائعة بين قبائل غسان، وكان يجاهر بدينه دون حياء ولا وجل، وقضى أيامه في البلاد الخاضعة للدولة الأموية، فمدح خلفاء بني أمية كيزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، والوليد (680-715)، حتى سمي شاعرهم الخاص، وبرز في مديح أعيان زمانه وكانوا بأجمعهم يفضلون شعره على كل نفيس وثمين.
وعني الأب أنطون صالحاتي السرياني اليسوعي بديوان الأخطل، فنشره غير مرة كاملا مستوفى نقلا عن عدة نسخ قديمة وحديثة، وعلق عليه حواشي جزيلة الفائدة.
ونسج على منوال الأخطل ابن اخته عمير المعروف بالقطامي (†719)، وكان نصرانيا منوفيزيتيا كخاله الأخطل وعاش في عهده، وكان معروفا بين الخاصة والعامة بالشاعر الفحل، وقد نشر ديوانه المستشرق برت عام 1902 في ليدن بهولندا.
هوامش
الخاتمة
إني أقف عند هذا الحد من التحدث عن الأمة الآرامية السريانية في عصرها الذهبي، ويرى القارئ في كتابي هذا خلاصة ما امتاز به أئمة السريان ونوابغهم وجهابذتهم من ذكاء الفطرة، وسعة المدارك، وعلو الهمة؛ فإنهم أنشئوا مدارس عامرة، ووضعوا مؤلفات قيمة، ونشروا عقيدتهم ما بين الشعوب القبطية، والحبشية، والأرمنية، والعربية، والفارسية، والملبارية، وأحرزوا مكانة بارزة لدى خلفاء المسلمين وقياصرة الروم وملوك الصليبيين، ولدى ملوك السلجوقيين والتتر وبني أرتق والكرج، وخلفوا ما خلفوا من الذخائر النادرة، والكنوز الثمينة ، والمعاهد الأثرية، والكنائس العجيبة، والأديار العديدة ... إلخ.
ولم أغفل عما تفرد به السريان من الفنون الجميلة كالتطريز، والنقش، والحفر، والهندسة، ولا سيما إتقانهم التصوير بجميع أشكاله وخاصة في مخطوطاتهم النفيسة التي تعد درة على مفارق علمائهم ومفكريهم. وذكرت كذلك فن الموسيقى عندهم، ونوهت بأسماء ناظمي أناشيدهم المختلفة الأشكال المتباينة الأوزان، وأحصيت ما استعملوه من آلات الطرب في منازلهم وهياكلهم ومعاهدهم.
ووصفت بعد ذلك كله وصفا دقيقا استنباط الفنيقيين السريان للحروف الأبجدية، وتلقينهم إياها لسائر الشعوب المتحضرة، وهي منة عظيمة يجب على تلك الشعوب أن تقر لهم بها على ممر الأزمان. ثم أتيت على ذكر الخطاطين السريان وقدامة مخطوطاتهم ونفائسها المصورة والمزخرفة، ولم يزل بعضها محفوظا بكل حرص في خزائن الشرق والغرب.
وأوردت أيضا أخبار مكتبات السريان القديمة العهد وما تبقى منها إلى يومنا، وهي تنطق بما كان لهم من العلم الراسخ والمقام الباذخ. وختمت الكتاب بفصل ضمنته حوادث جديرة بالذكر عن الغساسنة وعلاقات ملوكهم وأمرائهم بالأمة السريانية في عصرها الذهبي.
تلك خلاصة ما أودعته كتابي هذا من الأخبار النادرة السديدة التي لم يتصد لذكرها مؤلف قبل اليوم، وأؤمل أن يحوز الرضا لدى أهل البحث والنقد، ولا سيما لدى علماء التاريخ والسلام.
Page inconnue