63

ويجدر بنا الآن بعد أن أوضحنا ميزة استعمال الشعر في الأغراض السياسية في الدولة الأموية، أن نسمح لأنفسنا بتقييد ملاحظة قد لا تخلو من نفع فيما سنعالجه، وهي أن تلك الأغراض السياسية سمحت للشعراء بما لم تسمح به لسواهم من إعفائهم من إقامة الحدود.

وقد سبق لنا أن أشرنا إلى كتاب معاوية إلى مروان بن الحكم في صدد حده للشاعر المناصر لسياسة بني أمية، وهو عبد الرحمن بن أرطاة المعروف بأبي سيحان، وكان حده لشربه الخمر. وابن سيحان هذا هو الذي قال في صفته أبو الفرج الأصفهاني:

كان عبد الرحمن شاعرا مقلا إسلاميا، ليس من الفحول المشهورين ولكنه كان يقول في الشراب والغزل ومدح أحلافه من بني أمية، وهو أحد المعاقرين للشراب والمحدودين فيه، وكان مع بني أمية كواحد منهم، إلا أن اختصاصه بآل أبي سفيان وآل عثمان خاصة كان أكثر، وخصوصه بالوليد بن عثمان ومؤانسته إياه أزيد من خصوصه بسائرهم؛ لأنهما كانا يتناوبان على الشراب.

ونريد الآن أن نفسر هذه الحادثة تفسيرا معتدلا لنخرج منها بما عساه يمدنا وينفعنا فيما سنقدم عليه من مناقشة العصور التي تلت هذا العصر، تلك العصور التي تغذت، من غير شك، بأفاويق العصر الأموي الذي تقدمها، فنبتت فيها بذوره حتى كادت تنمو في حديقته الأنف الحسانة دوحات خطرة على الاعتبارات الخلقية التي تووضع عليها.

وإنك إذا رجعت إلى كتاب معاوية، ورجعت إلى كتاب الأغاني نفسه، ومؤلفه أموي كما تعلم، وجدته قد أقام الحجة في غير موضع على أن هذا الشاعر عاقر الخمر؛ وهاك ما يؤيد ذلك ويعززه:

قال: كان الوليد بن عثمان ذا غلة في الحجاز يخرج إليها في زمان الثمر بنفر من قومه، يجنون له ويعاونونه، فكان إذا حضر خروجهم دفع إليهم نفقات لأهليهم إلى رجعتهم، فخرج بهم مرة كما كان يخرج وفيهم ابن سيحان، فأتى ابن سيحان كتاب من أهله يسألونه القدوم لحاجة لا بد منها، فاستأذنه فأذن له، فقال له ابن سيحان: زودوني من شرابكم هذا. فزودوه إداوة ملأها له من شرابهم، فكان يشربها في طريقه حتى قدم على أهله، فألقاها في جانب بيته فارغة، فمكث زمانا لا يذكرها حتى كنسوا البيت فرآها ملقاة في الكناسة فقال:

لا تبعدن إداوة مطروحة

كانت حديثا للشراب العاتق

إن تصبحي لا شيء فيك فربما

أترعت من كأس تلذ لذائق

Page inconnue