والنفسانية إلى الأمور. فقد كان من قبيل الأمور المسلم بها بالنسبة إليه أن ينظر إلى الذهن البشري، كما فعل لوك وهيوم من قبله، على أنه «حزمة» من الانطباعات والأفكار الجزئية. كما كان من الأمور المسلم بها أن ينظر إلى المجتمع على أنه مجموعة من الأفراد لا تجمع بينهم إلا مصالح مشتركة ومسئوليات متبادلة. ولم يكن في وسعه أبدا، حتى عهد متأخر من حياته، أن ينظر إلى مشكلة الحرية البشرية في ضوء أنظمة مقررة. ولقد كان من المبادئ الأساسية الدائمة لتصنيف مل ذاته للعلوم الاجتماعية، أن قوانين الترابط والدوافع (
motivation ) هي أساس أي علم للمجتمع يسعى إلى فهم السلوك الاجتماعي للإنسان، وعلى ذلك فقد خالف كونت في اعتقاده بأن أية نظرية تسعى إلى تفسير أفعال البشر في مجموعها، تفترض مقدما نظرية نفسية في الطبيعة البشرية.
ولقد كانت الصفة الغالبة على مل طوال حياته، وفي جميع مؤلفاته، هي صفة المناضل الذي شن حملة لا تكل على شتى ألوان المذاهب الغيبية والتوكيدية واللاعقلية - التي حفل بها الفكر في القرن التاسع عشر. وكانت جميع شعاب فلسفته التي أسماها ب «فلسفة التجربة» موجهة ضد كل أنواع المطلق، سواء أتنكر هذا المطلق في ثوب قضايا واضحة بذاتها، أو حقائق متوارثة، أو أوامر مطلقة، أو حقوق طبيعية، أو بديهيات منطقية. ولقد فات الكثيرين من نقاد مل أن يدركوا حقيقة هامة، هي أن نظرياته المنطقية ونظريته في المعرفة، فضلا عن فلسفته الأخلاقية والسياسية، تستهدف كلها آخر الأمر نفس الغاية الأساسية. فمثلا كانت محاولة إيجاد أساس استقرائي بحت للمنطق الاستنباطي، هي ذاتها جزءا من حملته الضخمة على أصحاب المذهبين الحدسي والترنسندنتالي، الذين كانوا يستشهدون دائما بالطابع غير التجريبي للحقائق المنطقية والرياضية تأييدا لمذاهبهم الأولية والتوكيدية في مجال الدين والأخلاق والسياسة. وهكذا رأى مل أنه طالما أعفي المنطق، والرياضة، من الخضوع لاختبار التجربة، فسوف تظل هناك حجة يرتكز عليها، من حيث المبدأ، أولئك الذين يهيبون بالحدس والوضوح الذاتي والسلطة في المجالات الأخرى التي تؤثر في سعادة الإنسان. وقد خطا مل خطوة بطولية هي إنكار وجود تمييز بين الحقائق المنطقية والحقائق الواقعية، وهو التمييز الذي كان محور المذهب التجريبي المتطرف عند هيوم. ومع ذلك فقد كان هدفه الرئيسي من ذلك هو تبرير الرأي القائل، إن كل معرفة على إطلاقها ينبغي أن تقوم على التجربة وتختبر فيها، وهو رأي كان مل يؤمن بأنه ضروري لجعل روح المذهب الفلسفي الحر تسود على الرغم من خصومه.
ولقد كانت فلسفة مل تجريبية إلى حد التطرف، ولكن الأهم من ذلك بالنسبة إلى وجهة نظره هو ما يمكن أن نسميه بمذهب «اشتراط المعقولية
reasonablism »؛ أي اعتقاده بأنه ليس ثمة قضية، أيا كان نوعها، ينبغي أن تظل بمنأى عن النقد، وأن من الضروري أن نطلب أسبابا لأي قول يطلب منها قبوله، على أن تكون هذه أسبابا قادرة على «التحكم في العقل». وإن إعفاء قضايا معينة من مثل هذا الفحص والاختبار، لهو أصل كل مذهب مؤمن بالسلطة وكل مذهب مطلق، وهما في رأي مل أعظم مصدر ممكن علاجه لتعاسة البشر. والشرط الضروري للقضاء على هذه الشرور هو الامتناع عن النظر إلى أي اعتقاد، مهما كان عمق الإيمان به، على أنه معصوم؛ فنمو المعرفة والحكمة البشرية، التي يتوقف عليها، قبل غيرها، تقدم البشر ، هر محصل ذلك العدد الذي لا يحصى من ملاحظات الأفراد وتأملاتهم وانتقاداتهم وردودهم على الانتقادات. وطالما أعفيت أية قضية من شرط تقديم المبررات هذا؛ فإن هذا النمو يعاق إلى حد خطير، وتهدد قضية حرية الفكر بأسرها، وهي في نظر مل الحرية الأساسية.
وعلى ذلك فالدوافع الموجهة لكتاب «المنطق» عند مل، هي ذاتها تلك التي تتحكم في بحثه الرائع عن «الحرية
Liberty ». وإذا كان الأحرار في كل مكان لا يزالون يذكرونه بالتقدير؛ فذلك لأن فلسفته بأسرها، مهما كانت أخطاؤها، ربما كانت أعظم رمز عرفه القرن التاسع عشر للتحرر الروحي والاتزان الفكري. ورغم أنه لم يكن يستطيع أن يقرأ هيجل، كما ذكر في ترجمته الذاتية لحياته، دون أن يشعر بشيء من التقزز، فإنه لم يكن جامد الإحساس إزاء الأحاسيس الشاعرية والدينية التي حفلت معظم الكتابات الهامة في الفلسفات الرومانتيكية والترنسندنتالية لمعاصريه الإنجليزيين؛ كولردج
1
وكارليل.
2
Page inconnue