المرحلة الثالثة : وفي المرحلة الأخيرة الوضعية يكشف الذهن عن البحث العقيم عن أفكار مطلقة، وعن أصل الكون وغايته، وعن علل الظواهر، وينصرف إلى دراسة قوانينها؛ أي علاقات التعاقب والتشابه الثابتة بينها. ووسيلة هذه المعرفة هي الاستدلال والملاحظة مجتمعين. والمعنى المفهوم هنا من الحديث عن تفسير الظواهر هو مجرد إثبات ارتباط بين الظواهر الفردية وبين وقائع عامة ما، يقل عددها تدريجيا كلما تقدم العلم.
الحد النهائي لكل مرحلة : يصل النظام اللاهوتي إلى أقصى كمال يستطيع بلوغه عندما يستبدل الفعل الإلهي لموجود واحد بالعمليات المتنوعة لآلهة عديدة كانت تتصور من قبل. وبالمثل يستبدل الناس في المرحلة الأخيرة من النظام الميتافيزيقي كيانا واحدا هائلا (هو الطبيعة)، من حيث هو علة لجميع الظواهر، بالكيانات الكثيرة التي افترضت في البداية. وعلى هذا النحو ذاته سيكون الكمال الأقصى للنظام الوضعي (إن كان لنا أن نأمل في مثل هذا الكمال)، هو تصوير جميع الظواهر على أنها أوجه جزئية لواقعة عامة واحدة، كالجاذبية مثلا.
وسوف نثبت فيما بعد أهمية تطبيق هذا القانون العام. وحسبنا الآن أن نشير إلى بعض أسبابه:
الأدلة على القانون، أدلة فعلية (واقعية) : لا بد أن يحمل كل علم وصل إلى المرحلة الوضعية الطابع الذي يدل على أنه مر بالمرحلتين الأخريين. فأيا كان هذا العلم، فلا بد أنه كان منذ وقت مضى مؤلفا من تجريدات ميتافيزيقية، كما نستطيع أن ندرك الآن. فإذا تعقبناه إلى وقت أسبق، وجدناه يتخذ طابع المفاهيم اللاهوتية. وسوف تصادفنا، أثناء البحث، فرص لا حصر لها، ندرك منها أن أكثر علومنا تقدما ما زال يحمل الطابع الواضح كل الوضوح للمرحلتين السابقتين اللتين مر بهما.
وإن في تقدم الذهن الفردي لمثلا، بل دليلا غير مباشر، على تقدم الذهن العام. فلما كانت نقطة بداية الفرد والنوع البشري واحدة، فإن مراحل ذهن الشخص الواحد تطابق عصور ذهن النوع البشري. وإن كلا منا ليدرك، إذا ما عاد بفكره إلى تاريخ حياته الخاص، أنه كان لاهوتيا في طفولته، ميتافيزيقيا في شبابه، وفيلسوفا طبيعيا في نضوجه. وفي وسع كل من بلغ سن النضج فينا أن يحقق هذا في نفسه.
أدلة نظرية : تؤيد هذا القانون أسباب نظرية إلى جانب ملاحظة الوقائع.
وأهم هذه الأسباب هو أن من الضروري أن توجد دائما نظرية ما نرد إليها وقائعنا، وأن من الأمور الواضحة الاستحالة، في الوقت ذاته، أن يكون الناس في بداية المعرفة البشرية قد كونوا نظريات من ملاحظة الوقائع. فقد أكدت كل العقول السليمة، منذ عصر بيكون، أنه لا يمكن قيام معرفة حقيقية سوى تلك المبنية على وقائع ملاحظة.
وهذا أمر لا جدال فيه، في مرحلتنا المتقدمة الحالية، ولكنا إذا ما عدنا القهقرى إلى المرحلة البدائية للمعرفة البشرية، فسنرى أن الأمر كان قطعا على خلاف هذا في ذلك الحين. فإذا كان صحيحا أن كل نظرية ينبغي أن تبنى على وقائع ملاحظة، فمن الصحيح بالقدر نفسه أن من المستحيل ملاحظة الوقائع دون الاسترشاد بنظرية ما. فبغير هذا الاسترشاد تكون وقائعنا مفككة عقيمة، ولا يكون في وسعنا الاحتفاظ بها، بل لا نستطيع إدراكها في معظم الأحيان.
وهكذا، فلولا المهرب الطبيعي الذي تتيحه المفاهيم اللاهوتية، لظل العقل البشري يدور في حلقة مفرغة، ما بين ضرورة ملاحظة الوقائع من أجل تكوين نظرية، وضرورة وجود نظرية من أجل إمكان ملاحظة الوقائع. وهذا هو السبب الأساسي للطابع اللاهوتي للفلسفة البدائية. ومما يؤكد هذه الضرورة، ملاءمة الفلسفة اللاهوتية لأقدم أبحاث العقل البشري ملاءمة تامة. ومن العجيب أن أصعب المشاكل؛ أعني مشاكل طبيعة الموجودات، وأصل الظواهر والغرض منها، كانت هي أول ما خطر على الأذهان في الحالة البدائية، على حين أن المشاكل التي كانت بالفعل قريبة المنال كانت تعد غير جديرة بالدراسة الجدية. والسبب واضح كل الوضوح؛ فالتجربة وحدها هي التي تعرفنا بنطاق قدرتنا، ولو لم يكن الناس قد بدءوا بتقدير مبالغ فيه لما يستطيعون عمله، لما فعلوا أبدا ما يمكنهم القيام به. وإن تكويننا ذاته ليقتضي هذا؛ ففي فترة كهذه لم يكن من الممكن أن يعير الناس أذنا صاغية لأية فلسفة وضعية تستهدف دراسة قوانين الظواهر، وتتصف أساسا بأنها تنهى العقل البشري عن تأمل تلك الأسرار الرفيعة التي يشرحها اللاهوت حتى أدق تفاصيلها بيسر جذاب. ويتضح هذا بجلاء إذا ما تأملنا، بطريقة عملية، طبيعة الأبحاث التي اهتم الناس بها في البداية؛ فمثل هذه البحوث تخلب اللب بقوة؛ إذ تقنع الإنسان بأن له سيطرة لا حد لها على العالم الخارجي - الذي هو عالم لا يستهدف سوى نفعنا، ويرتبط بحياتنا على شتى الأنحاء. ولقد أتاحت الفلسفة اللاهوتية، بعرضها هذا الرأي، تلك القوة الدافعة الضرورية لحث الذهن البشري على بذل الجهد الشاق الذي لا يتحقق دونه تقدم. وليس في وسعنا أن نتصور بوضوح طبيعة هذه المرحلة، بعد أن بلغ عقلنا من النضوج ما يتيح له خوض أبحاث علمية شاقة دون حاجة إلى قوة دافعة كتلك التي أثارت خيال المنجمين أو الكيميائيين القدامى. فلدينا ما يكفينا من الدوافع في أملنا أن نكشف قوانين الظواهر، بغية تأييد نظرية أو رفضها. ولكن لم يكن من الممكن أن يكون الأمر كذلك في الأيام الأولى، ونحن إنما ندين لأوهام التنجيم والكيمياء القديمة بتلك السلسلة الطويلة من الملاحظات والتجارب التي بني عليها علمنا الوضعي. وهذا ما أدركه كيبلر
4
Page inconnue