أما النقيضة الرابعة، فمن الممكن حلها على نفس النحو الذي يخالف به العقل ذاته في النقيضة الثالثة؛ إذ إننا إذا سلمنا بأن العلة «في» الظاهرة تتميز عن علة الظواهر (بقدر ما يمكن أن تعد هذه الحالة شيئا في ذاته)، فمن الممكن عندئذ التوفيق بين القضيتين؛ الأولى: إذ تقول إنه لا توجد للعالم المحسوس علة (حسب قوانين العلية المماثلة) يكون لها وجود ضروري. والثانية: إذ تقول إن هذا العالم يرتبط مع ذلك بكائن ضروري هو علته (ولكنه علة من نوع آخر وتبعا لقانون آخر). أما الاعتقاد بتعارض هاتين القضيتين فيرتكز بأسره على خطأ تطبيق ما لا يصح إلا على الظواهر، على الأشياء في ذاتها، والخلط بين الاثنين في تصور واحد.
الفصل الثالث
مذهب الأنا في الفلسفة الألمانية
يوهان جوتليب فشته (1762-1814م)
رغم أن فلسفة كانت تنطوي على الكثير من بذور الثورة الرومانتيكية على «عصر العقل»، فإن خصائص هذا العصر تظهر في معظم اتجاهات كانت الأساسية. فتأكيده الاستقلال الذاتي الأخلاقي للفرد هو صفة مميزة لفترة أنكرت فيها معظم الأذهان المتعمقة السلطة الروحية المستقلة لأي نظام. ولقد كان كانت فردي النزعة، بحيث كان الالتزام الأخلاقي الأساسي في نظره هو احترام فردية كل شخص بوصفها غاية في ذاتها. ومع ذلك فهو لم يكن فرديا بالمعنى الرومانتيكي. ولا جدال في أنه كان يرتاع لو اطلع على تأكيد نيتشه لحق الإنسان الأرقى في «قلب» جميع القيم، أو في النظر إلى مطامحه الشخصية على أنها قوانين لذاته. فكانت قد ظل من أصحاب النزعة الكلية الشاملة؛ أي إن أي أمر أخلاقي هو في نظره أمر للناس أجمعين، لا للألمان أو المسيحيين أو الجنس الأبيض فحسب. ولقد كان ميله إلى جعل المسائل الخاصة بالسعادة الفردية وبرفاء المجتمع تحتل مركزا ثانويا، كان هذا الميل من الخصائص المميزة لفترة كانت فيها المشكلة الاجتماعية الكبرى هي مشكلة الحقوق الإنسانية المشتركة.
ولقد اقتبس كانت من روسو، وهو الأب الحقيقي للرومانتيكية، الرأي القائل بأولوية الإرادة من وجهة نظر الأخلاق. غير أنه، على خلاف روسو، قد حرص على أن يلحق هذا الرأي بشرط يقول إن الإرادة الأخلاقية هي في الوقت ذاته إرادة عاقلة لا بد لها من تصور للقانون. كما أنه لم يشارك روسو خوفه من العقل النظري أو كراهيته له، ولم يشاطره رغبته في إخضاع المعايير العقلية للمعايير الأخلاقية أو الدينية. وقد يكون صحيحا، بمعنى معين، أن للقلب، كما قال إسكال، أسبابه التي لا يعرفها العقل، غير أن هذا، في رأي كانت، لا يبرر على الإطلاق تخلينا عن قوانين المنطق لحساب الضمير أو الإيمان، ولا يحلل لنا الاعتقاد أن الشمس تشرق من الغرب إذا بدا أن الأخلاق أو الدين تقتضي ذلك.
والواقع أن العناصر الأساسية المؤدية إلى فهم سليم للطابع الفلسفي الذي تميز به كانت هي تلك العناصر التي لم يكن فيها مقتفيا أثر روسو. ولا مفر للمرء من إساءة فهم تعاليم كانت إلى حد بعيد إذا حاول أن يمضي بها إلى أبعد من فترة البداية الأولى للعصر الرومانتيكي. أما في حالة فشته، الذي كان أول مفكر هام، وأصيل، تأثر بكانت، فلسنا في حاجة إلى مثل هذه المحاولة؛ إذ إنه يتجاوز حدود البدايات الأولى الرومانتيكية بطبيعته، وبحكم ميله ومزاجه وعقيدته. وفي تفكيره تخف وطأة تلك القيود التي حالت دون تمجيد كانت للإرادة على حساب الذهن. كذلك يكاد يكتمل في تفكيره ذلك التحول لمفهوم العقل، الذي كان قد بدأ عند كانت. فقد نظر كانت إلى قوانين المعقولية، لا على أنها انعكاس لتركيب الأشياء في ذاتها، بل على أنها صور للذهن البشري. ولكنه لم يفترض أن في وسع أي مخلوق بشري أن يطرح هذه الصور جانبا إذا ما شاء ذلك. فلا جدال في أن الذهن البشري يفرض على ذاته من القواعد ما يلزم لإنجاز مهمة المعرفة. غير أن القواعد التي يشرعها الذهن للبحث واحدة بالنسبة إلى جميع الناس. أما فشته فإنه يصبغ ثورة كانت الكبرنيكية، في البداية على الأقل، بصبغة ذات طابع أقوى بكثير؛ فهو يتخذ في البداية الموقف القائل إنه، مثلما أن أي قانون أخلاقي لا يمكن أن يلزمني إلا إذا اخترت بنفسي أن ألتزم به، فكذلك لا تستطيع أية قوانين لا شخصية مزعومة للذهن البشري أن تشرع الطريقة التي يتعين علي بها أن أنجز مهمة المعرفة إلا إذا كنت على استعداد لقبول هذه القوانين بوصفها قوانين خاصة بي. ولا بد أن يكون أي «عقل» أعد مسئولا أمامه، عقلا «خاصا بي». وبالاختصار، فإن فشته يفسر الفلسفة «النقدية» بأنها تقوم على القول بأن مقتضيات الذات الفردية، أو الأنا، هي نقطة بداية كل تفكير فلسفي. والمشكلة الأساسية هي معرفة هذه المقتضيات.
وهكذا حول فشته النقد الكانتي للعقل إلى مسألة حياة أو موت ل «يوهان جوتليب فشته» ذاته، فإذا ما وجد أفراد آخرون أن النتائج التي انتهى إليها مقبولة لديهم بدورهم، فذاك شأنهم. ومن المسلم به أن أحدا لا يستطيع، ولا ينبغي، أن يظل جزيرة عزلاء. أما من الوجهة الفلسفية فإن عليه أن يبدأ على هذا النحو بالفعل.
ولن يدرك أحد الأزمة البشرية الأساسية الكامنة في النقد الكانتي للعقل إلا إذا اعترف باستحالة وجود أية نقطة بداية أخرى للتفلسف. أو إذا شئنا تحوير الاستعارة السابقة، فليقل إن أحدا لا يستطيع مبارحة جزيرة الأنا إلا عن طريق جسور يختارها هو. كما أن «من المحتم عليه»، من الوجهة العملية، أن يشيد هذه الجسور. ولكن «الضرورة» الوحيدة هنا تكمن في إرادته الخاصة. ومع ذلك فقد حاد فشته عن هذا الموقف في النهاية إلى حد ما، وهكذا نجده يتحدث، ولا سيما في الفترة المتأخرة من تطوره، عن «روح مطلقة»، لا يعد «أناي» المتناهي سوى مظهر لها. ولكن حتى لو بدا أن فشته لم يكن جادا كل الجد في تفسير التحول الترنسندنتالي عند كانت تفسيرا شخصيا خالصا، فعلينا نحن على الأقل أن نأخذه مأخذ الجد إذا شئنا أن يكون لفلسفته أية أهمية بالنسبة إلينا.
ولقد كان تطور فشته الفلسفي عكس تطور كانت على خط مستقيم؛ فكانت قد بدأ بنزعة عقلية توكيدية، ولم يصل إلى فلسفته النقدية الجديدة إلا في مرحلة متأخرة من أواسط عمره. أما فشته فقد بدأ تلميذا لكانت، وعد نفسه مجرد منفذ لبرنامج كتب «النقد» الثلاثة على نحو أكمل، وانتهى به الأمر مثاليا توكيديا لا يعترف بحقيقة سوى الروح، مما دفع كانت نفسه في النهاية إلى تفنيد فلسفة فشته بوصفها تحريفا أساسيا لتعاليمه.
Page inconnue