مثلا.
8
ولكن رغم أن نظرة نيتشه إلى هذه الدراسة كانت ذات نزعة تجريبية وطبيعية واضحة، فإن اهتمامه الكامن من ورائها لم يكن علميا، وإنما أيديولوجي؛ أي إنه يستخدم آراءه في أصل نشأة الأفكار الأخلاقية، بل فكرة وجود أصل ونشأة الأخلاق ذاتها، وسيلة لتخليص قرائه من التزاماتهم القديمة الساذجة تجاه أسلوب في الحياة يراه مناقضا لذاته؛ فالنظرة التاريخية إلى دراسة الأخلاق ذاتها هي في رأي نيتشه أداة أساسية في «انقلاب كل القيم» عنده. وبالاختصار، فقد كان التاريخ والعلم بالنسبة إليه، كما كان بالنسبة إلى كونت وماركس، أدوات للتغير الحضاري، تستخدم قصدا لإعادة تشكيل مواقف الإنسان الغربي تجاه تراثه، وبالتالي تجاه ذاته.
ولكن هناك مع ذلك معنى أوسع كان فيه التفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر ذا طابع «أيديولوجي». فمن الممكن، من وجهة نظر معينة، النظر إلى تاريخ الأفكار في العصر الحديث بأسره على أنه تاريخ الانهيار التدريجي للمذهب المسيحي الوسيط الذي عبر عنه توما الأكويني في «الجامع
Summum »
9
على أدق نحو ممكن، وعبر عنه دانتي في «الكوميديا الإلهية» أقوى تعبير مؤثر مقنع. فمنذ عصر النهضة، كانت أولى «المشاكل الوجودية» للإنسان وأهمها هي تكييف المواقف والأفكار الجديدة مع القيم المتوارثة والنظرة التقليدية إلى مصير الإنسان كما تتمثل في المذهب الوسيط. ولكن، منذ أواسط القرن الثامن عشر، أخذ الشك في إمكان هذا التكيف ذاته يتزايد على مستويات حضارية متزايدة الأهمية. وفي القرن التاسع عشر، أصبح فلاسفة كثيرون ينكرون إمكان هذا التكيف. وهكذا قرروا أن يعيدوا بناء المثل العليا للحضارة الغربية على أساس دنيوي وإنساني خالص؛ أي على أساس غير مسيحي. وربما كان ذلك من الأسباب التي جعلت فلاسفة القرن التاسع عشر أشد اهتماما بمسألة معنى الرموز الدينية منهم بوجود الله، وهو من الأسباب التي جعلتهم، على خلاف شكاك القرن الثامن عشر، الذين شكوا في وجود علة أولى للأشياء، يبدءون في التساؤل عما إذا كان «الإله قد مات»؛ فبعضهم قد اعتقد فعلا بأن «الإله»؛ أي الرمز التقليدي للألوهية، قد مات.
وهم يقصدون بذلك أن هذا الرمز لم يعد له أي فائدة للناس في عصر النظم السياسية والاجتماعية الدنيوية. وغيرهم، ممن لم يكونوا أقل من هؤلاء شكا في جدوى السؤال اللاهوتي التقليدي عن وجود الله بالنسبة إلى الإنسان الحديث، قد سعوا إلى إعادة تفسير الرموز الأساسية للعقيدة الغربية على نحو يجعلها معبرة عن محن الإنسان الحديث ومواقفه. غير أن النتيجة في كل حالة هي نقد انقلابي عنيف للعقيدة، لم يعد يقنع بآراء الدين «الطبيعي» العقلية، ولا بالعقيدة الإنجيلية أو المنزلة كما تفسر تقليديا. وكثيرا ما يبدو هذا النقد «لا عقليا»، على الأقل من وجهة نظر المعايير الأسبق عهدا للمعقولية الفلسفية، ولكنه ليس في الحق إلا واحدا من أوجه النقد المستمر للعقل ذاته.
مثل هذه الآراء قد تساعد على إيضاح السبب الذي دعا فلاسفة القرن التاسع عشر إلى أن يأخذوا على عاتقهم تلك المهمة الهائلة، مهمة إعادة البناء الأيديولوجية والثقافية، التي كان يستحيل معها التفلسف بالطرق «العقلية» و«الموضوعية» التقليدية التي سادت الفلسفة الغربية منذ عهد أفلاطون، وأرسطو؛ فهؤلاء الفلاسفة لم يكونوا يستطيعون الاكتفاء بالتأمل أو النظر أو ممارسة الاستدلال على طبيعة الأشياء؛ إذ إن نفس الإطار الذي دار فيه التأمل والنظر والاستدلال الفلسفي التقليدي قد تزعزع حتى أعمق جذوره. وبالاختصار، فقد كان عصرهم عصر أزمة طويلة الأمد للعقل، كانت أعمق من أية أزمة مرت بها الحضارة الغربية منذ الاصطدام الأصلي بين الوثنية وبين المسيحية الأولى.
الفصل الثاني
Page inconnue