real ». وبالاختصار، فالذات المفكرة هي ذاتها التي تضع معايير الموضوعية. وإذا لم يكن العالم هو «فكرتي»، على حد تعبير شوبنهور المضلل، فإنه على أية حال لا يكون حقيقيا في نظرنا إلا بقدر ما يتمشى مع فهمنا الخاص للشروط الواجب توافرها في أي شيء حقيقي.
وهكذا فإن أية صورة فلسفية للواقع تفترض مقدما طريقة للتفكير فيه، وقاعدة أو مبدأ لتنظيم التصورات، ينبغي أن يسلم بها صانعها تسليما. وبهذا يكون من المحال حذف عنصر الذاتية، مهما دق تخفيه، حذفا تاما من أي مذهب فلسفي؛ فكل مذهب فلسفي يفترض، بطريقة شعورية أو بغيرها، بعض الالتزامات أو «المواقف» النهائية الأخرى. وهذه الالتزامات أو المواقف من صنع الحيوان العاقل ذاته، يضعها حتى يعيش ويؤدي عمله، دون أن يكون ثمة جهة يحتكم إليها في حالة الاعتراض على صحتها من بعد تصميمه هو على الالتزام بها.
3
ومع ذلك فقد عدلت هذه الذاتية العميقة تدريجيا بفعل عامل آخر كان أقوى سيطرة على تفكير معظم الفلاسفة في العصر الأيديولوجي؛ ذلك هو ما يسمى ب «الوعي التاريخي». ولقد كان هيجل هو الفيلسوف الذي ساهم بأكبر نصيب في دعم هذه الطريقة في التفكير. ومنذ وقت هيجل، أصبح الاتجاه المفضل هو النظر إلى الطبيعة البشرية في عمومها، بل إلى العقل ذاته، على أنهما متطوران خلال التاريخ، وبالتالي على أنهما يتأثران على الدوام بتغير ظروف الفرد والحياة الاجتماعية. وهذا ينطوي، أو يبدو منطويا، على القول بأن العقل ليس مبدأ شاملا ثابتا للفهم البشري والطبيعي، وإنما صورة للفكر متطورة تاريخيا، تخضع معايير الصحة فيها للتغير وفقا لتغير مقتضيات الحياة البشرية وظروفها.
ويتضمن قاموس «وبستر» معنى ثالثا للفظ «الأيديولوجية» هو بدوره مرتبط بموضوعنا؛ ففي هذا المعنى - وهو المعنى الأصلي - يشير اللفظ إلى «علم الأفكار؛ أي دراسة أصل الأفكار وطبيعتها، ولا سيما في مذهب كوندياك
Condillac ، الذي استمد جميع الأفكار من الإحساس وحده».
غير أن دلالة هذه الإشارة التاريخية ليست واضحة، ولزام علينا أن نأتي بتفسير لها، نظرا إلى أهميتها الأساسية بالنسبة إلى المشكلة التي يتعرض لها هذا الكتاب. فقد كان أول من صاغ لفظ «الأيديولوجية» فيلسوف فرنسي أصبح الآن منسيا، اسمه «ديتوت دي تراسي
Destutt de Tracy » (1754-1836م).
4
وقد استخدمها دي تراسي للإشارة إلى التحليل التجريبي المجدد للذهن البشري، وهو التحليل الذي صاغه في أكثر صوره اتساقا الفيلسوف «كوندياك» في القرن الثامن عشر، والذي يرجع آخر الأمر إلى «طريق الأفكار الجديد
Page inconnue