وهناك مثل قديم يقول إن البلاغة والتأثير
tentatio
والتأمل ، تصنع عالم اللاهوت. وبالمثل يحتاج المفكر الذاتي إلى الخيال والشعور، والديالكتيك في الباطنية الوجودية، مقترنة بالانفعال. ولكن أهم ما يحتاج إليه هو الانفعال؛ إذ يستحيل التفكير عن الوجود
existence ، وفي الوجود دون انفعال؛ فالوجود ينطوي على تناقض هائل، لا يتعين على المفكر الذاتي أن يجرد نفسه منه، وإن يكن يستطيع ذلك إذا شاء، وإنما تكون مهمته هي البقاء فيه. أما بالنسبة إلى ديالكتيك التاريخ العالمي، فإن الأفراد يتلاشون في الإنسانية؛ فأنت، وأنا، وأي فرد ذو وجود خاص، لا يمكن أن تظهر في أعين هذا الديالكتيك حتى لو اخترعت أحدث وأقوى أجهزة التكبير.
إن المفكر الذاتي ديالكتيكي يختص بما هو وجودي، ولديه انفعال الفكر اللازم للتمسك بالانفصال الكيفي. أما إذا طبق هذا الانفصال الكيفي على فراغ خاو، أو طبق على الفرد على نحو تجريدي محض، فإن الخطر هنا هي أن المرء قد يقول شيئا ذا أهمية هائلة، ويكون مصيبا فيما يقول، ولكنه مع ذلك - ويا للسخرية! - لا يقول شيئا على الإطلاق. ومن هنا فإن من الظواهر الجديرة بالملاحظة نفسانيا، أن الانفصال المطلق قد يستخدم بمنتهى الدهاء، لا لشيء إلا من أجل التضليل، فلو عوقبت كل جريمة بالإعدام، فلن تعود هناك آخر الأمر جريمة يعاقب عليها مطلقا. وكذلك الحال في الانفصال التام؛ فلو طبق بطريقة تجريدية، لأصبح نصا أخرس لا يمكن النطق به، أو إذا نطق به فلن يقول شيئا. أما المفكر الذاتي فيجد الانفصال المطلق في متناول يده، ومن ثم فهو يحرص عليه بانفعال المفكر، بوصفه لحظة وجودية أساسية، ولكنه يستبقيه بوصفه ملجأ أخيرا حاسما، حتى يحول دون رد كل شيء إلى مجرد فروق كمية، وهو يحتفظ به على سبيل الاحتياط، ولكن لا يطبقه على نحو يجعله يلجأ إليه بطريقة مجردة لكبت الوجود. ومن هنا فإن المفكر الذاتي يضيف إلى عتاده الانفعال الحسي والأخلاقي، الذي يضفيه عليه العينية اللازمة.
إن جميع المشاكل الوجودية مشاكل انفعالية؛ إذ إن الوجود عندها يتخلله الفكر
reflection ، يولد الانفعال. والتفكير في المشاكل الوجودية على نحو يترك فيه الانفعال جانبا، يعادل عدم التفكير فيها على الإطلاق؛ إذ يغفل أهم ما في الأمر، وهو أن الفكر ذاته موجود. غير أن المفكر الذاتي ليس شاعرا، وإن يكن من الجائز أن يكون شاعرا أيضا، وهو ليس باحثا أخلاقيا، وإن يكن من الجائز أن يكون ديالكتيكيا أيضا إنه فرد موجود أساسا، في حين أن وجود الشاعر ليس أساسيا بالنسبة إلى القصيدة، وكذلك وجود الباحث الأخلاقي بالنسبة إلى مذهبه، ووجود الديالكتيكي بالنسبة إلى فكره. إن المفكر الذاتي ليس رجل علم، وإنما هو فنان. والوجود
Existing
فن. والمفكر الذاتي حسي إلى الحد الذي يجعل لحياته محتوى حسيا، وأخلاقي إلى الحد الذي يكفي لتنظيمها، وديالكتيكي إلى الحد الذي يكفي لتفسيرها فكريا.
إن مهمة المفكر الذاتي هي فهم ذاته في وجوده؛ فالتفكير المجرد خليق بالتحدث عن الوجود، وبقوته الدافعة الكامنة، وإن يكن بتجريده من الوجود، ومن حالة الوجود يقضي على الصعوبة والتناقض. أما المفكر الذاتي فهو فرد موجود ومفكر في آن واحد، وهو لا يجرد من التناقض ومن الوجود، وإنما يعيش فيهما وهو يفكر في نفس الوقت؛ ولذلك فعليه في كل تفكير له أن يذكر أنه فرد موجود. ولهذا السبب كان لديه دائما ما يكفي للتفكير فيه، وسرعان ما يطرح جانبا الإنسانية من حيث هي تصور مجرد، وكذلك تاريخ العالم؛ فحتى هذه البقاع الشاسعة، كالصين وفارس، إلخ، ليست شيئا بالنسبة إلى الوحش الجائع الذي تكونه العملية التاريخية، وسرعان ما يطرح جانبا التصور المجرد للإيمان، غير أن المفكر الذاتي الذي يظل في كل تفكير له ملازما لوجوده، سيجد في إيمانه موضوعا للتفكير لا ينضب معينه، وذلك عندما يحاول تتبع هذا الإيمان في منعطفاته مع كل الأحوال العديدة للحياة. وليس هذا التفكير الذاتي بالأمر الهين على الإطلاق؛ إذ إن التغلغل في الوجود أصعب الأمور عندما يتعين على المفكر أن يظل فيه؛ لأن تلك اللحظة يقتضي أعلى قرار يصدره المرء، ومع ذلك فهي لحظة عابرة في الأعوام السبعين الممكنة للحياة البشرية. •••
Page inconnue