فأطرق وردان احتراما وقال: «أنا خادمك، أتفانى في خدمتك. أتأذن لي في أن أذهب للقاء حملة الأفشين قبل وصولها؟» قال: «افعل ما يبدو لك.» فودعه وخرج.
ومكث ضرغام ساعة في القصر، ثم جاءه رسول المعتصم يدعوه إليه، فلبس سواده وذهب إلى القصر فقيل له إن الخليفة في خلوة مع قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد في دار الخاصة.
وكان ضرغام يعرف منزلة ابن أبي دؤاد عند الخليفة، وأنه لا يختلي به إلا أمر ذي بال، فاستأذن ودخل فرأى الخليفة جالسا على سريره في صدر القاعة، وأحمد بن أبي دؤاد على كرسي بين يديه.
وكان أحمد هذا معروفا بالمروءة وبعصبيته العربية؛ إذ كان ينتسب إلى بني إياد، ولكن المعتصم وإن أبعد العرب من مجلسه وقطع أعطياتهم وحط من أقدارهم واختص الأتراك ببطانته؛ كان شديد الثقة به لا يمضي أمرا إلا بمشورته ولا يشاور وزراءه.
وكانت نشأة ابن أبي دؤاد في قرية من أعمال قنسرين، ثم هاجر أبوه إلى الشام للتجارة فأخذه معه إليها وهو غلام، فنشأ في طلب العلم ولا سيما الفقه والكلام حتى فاق معاصريه، وأصبح معتزليا فصيحا قوي الحجة، ونال عند المعتصم حظوة ودالة لم يسبقه إليهما أحد، حتى صار يفتتح الكلام في حضرته وكانت العادة عند الخلفاء ألا يبدأهم أحد بالكلام. ومن أمثلة دالته هذه أن المعتصم غضب مرة على خالد بن يزيد الشيباني وأشخصه من ولايته لعجز لحقه في مال طلب منه وأسباب أخرى، فجلس المعتصم لعقوبته، وكان قد طرح نفسه على القاضي أحمد فشفع فيه فلم يجبه المعتصم، فلما جلس لعقوبته حضر القاضي أحمد فجلس دون مجلسه الذي اعتاده فقال له المعتصم: «يا أبا عبد الله لم جلست في غير مجلسك؟» قال: «ما ينبغي لي أن أجلس إلا دون مجلسي هذا!» فقال له: «وكيف؟» قال: «لأن الناس يزعمون أن ليس موضعي موضع من يشفع في رجل فيشفع.» قال: «فارجع إلى مجلسك.» قال: «مشفعا أو غير مشفع؟» قال: «بل مشفعا.» فارتفع إلى مجلسه. ثم قال: «إن الناس لا يعلمون رضا أمير المؤمنين عنه إن لم يخلع عليه.» فأمر بالخلع عليه فقال: «يا أمير المؤمنين، قد استحق هو وأصحابه رزق ستة أشهر لا بد أن ينالوها، وإن أمرت لهم بها في هذا الوقت قامت مقام الصلة.» فقال: «قد أمرت بها.» فخرج خالد وعليه الخلع والمال بين يديه، وكان الناس في الطريق ينتظرون الإيقاع به فصاح به رجل: «الحمد لله على خلاصك يا سيد العرب.» فقال له: «اسكت، سيد العرب، والله، أحمد بن أبي دؤاد.»
ولم يكن نفوذ ابن أبي دؤاد خافيا على ضرغام، فلما دخل على المعتصم وهو عنده علم أنه دعي لأمر ذي بال، فلما أقبل على الخليفة حياه بتحية الخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.»
فهش له المعتصم وناداه وأمره بالجلوس بجانب ابن أبي دؤاد وهو يقول: «مرحبا بالصاحب.» ثم التفت إلى القاضي وقال: «أظنك تستغرب تسميتي هذا القائد بغير اسمه، فاعلم أني عملت بحسن رأيك فيه؛ فقد طالما أثنيت على شهامته وإخلاصه، وقد رأيت منه فوق ما وصفت حتى عرض نفسه للموت لأجلي؛ إنه أنقذني من براثن الأسد ببسالته؛ فقربته وسميته الصاحب وأسكنته بعض قصوري.»
وكان ابن أبي دؤاد في نحو الستين من عمره وقد خط الشيب لحيته وعارضيه، فازداد إجلالا ووقارا وهو يلبس زي القضاة: العمامة الطويلة، والطيلسان الرقيق، فلما سمع إطراء المعتصم وترحيبه بضرغام هش له وحياه، والتفت إلى المعتصم فقال: «ألا يرى أمير المؤمنين حسن ظني في محله؟ إني أنزلته من نفسي منزلا رفيعا يوم رأيته، وتوقعت له مستقبلا مجيدا. أعانه الله على خدمة أمير المؤمنين.»
فقال المعتصم: «وبناء على ذلك أرى ألا نخفي عنه ما يدور بيننا.»
وكان ضرغام جالسا متأدبا ينتظر أمر الخليفة فقال الخليفة: «اعلم يا صاحب أني كنت والقاضي نتشاور فيما بلغنا من أخبار المجوسي في أرمينيا.»
Page inconnue