ترجمة
سهى الشامي
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
الفصل الأول
وفدت إلينورا كوهين إلى هذا العالم في وقت متأخر في يوم خميس من صيف عام 1877.
وسيذكر أولئك الذين استيقظوا مبكرا في صبيحة ذلك اليوم أنهم رأوا سربا من الهداهد البنفسجية والبيضاء تحلق فوق المرفأ؛ حيث تحوم في حلقات ثم تندفع فجأة كالأسهم كما لو كانت تحاول أن ترتق خرقا في السماء. وسواء أباءت محاولاتها بالفشل أم حالفها النجاح، فإنها كانت تبطئ انقضاضها في نهاية المطاف وتستقر في أنحاء المدينة وعلى أعتاب دار القضاء، وعلى السقف المصنوع من القرميد الأحمر الذي يعلو فندق كونستانتسا، وعلى برج الناقوس الذي يعلو أكاديمية القديس باسيليوس. جثمت الطيور في حجرة الإضاءة بالمنارة، وعلى مئذنة الجامع الحجرية الثمانية الشكل، وعلى السطح الأمامي لسفينة بخارية تنفث دخانها في الأفق الصافي. كست الهداهد المدينة مثل الجليد، وانتقلت عبر مزاريب المطر الناتئة من قصر الحاكم، وغطت القبة المطلية بالذهب للكنيسة الأرثوذكسية. وفي الأشجار المحيطة بمنزل يعقوب وليئة كوهين بدا السرب في حالة جذل ذات طابع خاص؛ إذ أخذت الهداهد تغرد، وترفرف بأجنحتها، وتقفز من غصن إلى غصن كما لو كانت جمعا من الفلاحين المصطفين على جوانب شوارع العاصمة بغية مشاهدة أحد العروض الإمبراطورية. وكثيرا ما ينظر إلى الهداهد على أنها فأل خير، لولا الأحداث المشئومة التي تزامنت مع مولد إلينورا.
ففي وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، تحركت الفرقة الثالثة من سلاح الفرسان الملكي التابع للقيصر ألكسندر الثاني من الشمال، وتجمعت على قمة التل المطل على ساحة المدينة، وقد تألفت الفرقة من: ستمائة واثني عشر رجلا، وخمسمائة وسبعة وثلاثين جوادا، وثلاثة مدافع، وأربع وعشرين خيمة رمادية باهتة من قماش القنب، ومطبخ ميداني، وعلم قيصر المخطط أفقيا باللونين الأصفر والأسود. وطوال أسبوعين كانوا يتنقلون معظم الوقت ولا يحصلون إلا على قليل من الطعام والراحة. ساروا وسط مدن كيليا وتولتشيا وباباداج حيث مستنقعات التوت في دلتا الدانوب وحقول القمح الشاسعة التي تركت من غير زرع منذ الشتاء، وكان مقصدهم النهائي هو مدينة بلفن، وهي مركز تجاري في قلب سهل الدانوب؛ حيث كان المشير عثمان باشا وسبعة آلاف من القوات العثمانية يحاولون التصدي لهم. إنها ستكون معركة مهمة، بل وربما نقطة تحول في مسار الحرب، لكن بلفن كانت لا تزال على مسيرة عشرة أيام أخرى، وشعر رجال الفرقة الثالثة بالتململ والاضطراب.
وقد تركت كونستانتسا، التي كانت ترقد تحت أقدامهم كأنها وليمة جاهزة، شبه عارية تماما من الحراسة؛ فعلى بعد مسافة لا تزيد على اثني عشر مترا من حافة قمة التل ترقد أطلال جدار روماني قديم. في القرون الماضية، حمت هذه الأحجار ذات اللون الوردي الباهت المدينة من الخنازير البرية وقطاع الطرق والبربر التراقيين الذين كانوا يحاولون باستمرار شن الغارات على المرفأ. وكان الجدار الذي أعاد الرومانيون بناءه مرتين، ثم البيزنطيون مرة أخرى، في حالة دمار شامل عندما وصل العثمانيون إلى كونستانتسا في نهاية القرن الخامس عشر. وهكذا ترك مقوضا؛ فقد انتزعت أفضل أحجاره لاستخدامها في بناء الطرق والقصور وجدران أخرى حول مدن أخرى أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية. ولو كان أحدهم قد فكر في ترميم الجدار، لربما حمى المدينة من وحشية الفرقة الثالثة، لكنه في حالته الحالية لم يكن سوى حجر عثرة.
طوال هذا الصباح حتى وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة ورجال الفرقة الثالثة يعيثون فسادا في شوارع كونستانتسا؛ يحطمون نوافذ المتاجر، ويروعون الكلاب الضالة، ويدمرون كل ما تطوله أيديهم من تماثيل. أشعلوا النيران في قصر الحاكم، ونهبوا دار القضاء، وحطموا الزجاج الملون الذي يعلو مدخل أكاديمية القديس باسيليوس. نهب متجر الصائغ بكل ما فيه؛ وسرقت كل محتويات حانوت الإسكافي؛ وبعثر البيض المكسور والشاي في متجر العاديات، وحطموا أيضا الواجهة الأمامية لمتجر السجاد الخاص بيعقوب كوهين، وثقبوا الجدار بحرابهم. وباستثناء الكنيسة الأرثوذكسية التي وقفت شامخة في آخر اليوم لم يمسسها أذى، كما لو كان الله نفسه قد حماها، كانت المكتبة هي البناية المحلية الوحيدة التي نجت سالمة من وحشية الفرقة الثالثة؛ لا لأنهم يكنون تقديرا خاصا للمعرفة، وإنما يعود الفضل كله في نجاة مكتبة المدينة إلى شجاعة حارسها؛ فبينما انكمش بقية سكان المدينة رعدة تحت فراشهم، أو جثموا معا في الطوابق السفلية وفي خزانات الملابس، وقف أمين المكتبة في جرأة على الدرج الأمامي لمملكته، حاملا نسخة مهلهلة من رواية «يفجييني أونيجين» فوق رأسه، كما لو كانت تميمة سحرية. ومع أن رجال الفرقة الثالثة كانوا في الغالب على جهل تام بالقراءة والكتابة، فقد استطاعوا تمييز شكل حروف لغتهم الأصلية السيريلية، وكان هذا على ما يبدو كفيلا لهم كي يعفوا عن المبنى ويفلتوه من براثنهم.
Page inconnue