في وقت لاحق من ذلك المساء أعيدت إلينورا إلى منزل البك، وقضت معظم الأسبوع التالي راقدة في الفراش. ظلت الستائر مسدلة والأغطية محكمة حول ذقنها، وأخذت تتناول الخبز المحمص المبلل بالشاي، وتشرب كميات كبيرة من عصير الرمان حتى اصطبغت أسنانها بلون أرجواني عند الحواف. لم تكن مريضة أو جريحة، ولكنها أوضحت للبك وللسيدة داماكان وللعدد اللانهائي من الأطباء الذين أرسلهم القصر، أنها فقدت قواها فحسب، كما لو كانت أصيبت بثقب في قلبها فانسكبت منه كل طاقتها. وكان للأطباء تفسيرات أخرى أكثر علمية، تتراوح بين الصرع إلى التهاب السحايا إلى مرض السكر، ولكن أحدهم لم يستطع الجزم بحالتها. والأمر لا يهم في الحقيقة، فأيا كان ما أصابها فها هي الآن تتعافى.
في تلك الأثناء، كانت إسطنبول تتبادل الشائعات ما بين همهمة وغمغمة. ففي نفس اللحظة التي كانت العربة الملكية تعيد فيها إلينورا عبر جسر جالاتا، كانت قصة النوبة التي أصابتها قد تسربت عبر بوابات القصر وانحدرت أسفل التل نحو وسط المدينة. وإذا أصغيت السمع فسوف تتمكن من سماع صوت الشائعات الواضح الذي هبط من أعلى كسرب من الجراد، وانطلق من منزل إلى آخر وهو يحدث طنينا. ولما كانت الألسن تتناقله باستخفاف، فقد ظل يتحول وهو ينتشر. لم تكن إلينورا قد ارتكبت خطأ أو أمرا مشاكسا أو لا أخلاقي، وهكذا فلم تكن فضيحة بالمعنى الكامل للكلمة؛ ولكن في الوقت نفسه لا ينكر المرء أنها قصة مشوقة. ورغم أن إسطنبول مدينة تضم مليوني نسمة وكثيرا من الأحياء السكنية، وتتحدث عشرات اللغات، فقد كانت الشائعات تنتشر عبرها كما لو كانت قرية صغيرة. وعندما تسلقت إلينورا فراشها الأبيض الدافئ واستغرقت في النوم، كانت الشائعة قد انقسمت بالفعل إلى فريقين متقابلين.
انتشر الفريق الأول الذي اعتقد أن إلينورا عرافة أو متنبئة بالمستقبل من نوع ما على ضفاف البوسفور، متوقفا عند المنازل الصيفية للأثرياء في طريقه إلى جزر الأمراء. ظل خبر الشائعة يحاك على جزر الأمراء بضعة أيام، يطوف بكل المهرجانات وحفلات العشاء قبل أن يعود إلى إسطنبول نفسها على ظهور الخدم. أما الفريق الثاني الذي زعم أن إلينورا جاسوسة بريطانية أرسلت كي تفسد التحالف العثماني الألماني، فقد انطلق عبر جسر جالاتا صاعدا التل حتى بيرا، حيث تناقلته الجاليات الأجنبية فيما بينها همسا، ناظرين خلفهم بين حين وآخر كي يتأكدوا من عدم وجود جواسيس آخرين يسترقون السمع إليهم. وداخل القصر سادت الرواية الأولى، ودعمتها روايات من رأوا رأي العين النوبة التي داهمت إلينورا في غرفة المقابلات، ولكن بعض الفصائل - ومنهم الصدر الأعظم - تمسكوا بالجزء الثاني من الشائعة وظلوا يرددونه، مصرين أن إلينورا عميلة أجنبية.
الفصل الثالث والعشرون
استمر سقوط منتظم لقطرات المطر حتى بداية الصباح، يزيل التراب عن الأسطح القرميدية الحمراء لكلية روبرت، ويعيد بعض الرونق إلى أوراق النباتات الموجودة فيها. ورغم أن النوافذ مغلقة بإحكام، كان مكتب الكاهن يفوح برائحة الأرض الرطبة وحبوب اللقاح، وهي نفس رائحة حقل الهندباء البرية الذي يقع خلف القديس إغناطيوس. أطبق الكاهن على حافة القلم بأسنانه متيحا لنفسه الاستغراق في حلم يقظة قصير. تدفق الماء في المزاريب، وبدا الضوء الذي تسلل من زجاج النافذة الملطخ فوق مكتبه كما لو كان مغسولا، كما لو كان هو أيضا مغمورا بالماء. ولكن رغم روعة الضوء، فعليه أن يركز في المهمة التي يقوم بها. بسط راحتيه على كل من جانبي الخطاب الذي أمامه، وقرأ ما كتبه حتى الآن.
عزيزي دونالد
آمل أن يصلك خطابي وأنت تتمتع بموفور الصحة والسعادة، وأن تعذرني لغيابي الطويل.
غطى الكاهن قلمه، وسار على مهل عابرا غرفة المكتب حتى المدفأة. كانت الكلمة الصحيحة هي «تأخري» وليس «غيابي»، ولكنه لم يكن في مزاج يسمح له بإعادة كتابة الخطاب من جديد. فعندما يتعلق الأمر بموضوعات ضرورية، فهو لا يهتم بما يقوله دونالد ستورك عن أسلوبه في الرسائل وما إلى ذلك. أما السبب وراء استمرار المراسلات بينهما تلك الفترة الطويلة، فهو أمر متعلق بالانصياع والمجاملة لا الصداقة، فلم يكن الكاهن بالطبع مهتما بمغامرات دونالد في وول ستريت ولا الحفلات التي يحضرها هو وزوجته. وإحقاقا للحق، فإن جيمس لا يتخيل أن دونالد يهتم بالأوضاع المعقدة في مجتمع إسطنبول أو بالتطور المنتظم لكلية روبرت. استند الكاهن مولر على الحجر البارد للمستوقد، ولاحظ أن نباتاته أصبحت ذابلة. وذكر نفسه أنه عليه التحدث إلى السيدة إسكي أوغلو بشأن الطريقة المناسبة للاعتناء بنباتات الزينة، حتى وهو يسجل تلك الملحوظة في ذهنه كان يدرك أنها ستتوه في زحام المهام التي عليه الاهتمام بها قبل تناول عشائه ذلك المساء مع فريدريك.
من بين كل أصدقائه في كلية ييل، كان فريدريك ساتون آخر من يتوقع جيمس أن يأتي إلى زيارته. لا لأنهما لم يكونا صديقين مقربين، ولكن لأنه لما كان كلاهما ابنا لعائلة من الطبقة العاملة، فقد كان هو وفريدريك يتشاطران مزيجا لا مفر منه من الانجذاب والتنافس، ولكن أمواج الحياة قد جرفتهما في اتجاهين متقابلين؛ الكاهن مولر إلى النسيج، وفريدريك إلى الكدح الوضيع في عالم الصحافة. ولكن بالإضافة إلى ذلك التباعد الوظيفي، لم يكن فريدريك كاتب خطابات على مستوى عال. ظلا يتبادلان البطاقات البريدية بضعة أعوام بعد التخرج، ولكن تلك المراسلات مع تفقد المستجدات في حياة كل منهما سرعان ما تلاشت حتى انتهت. وظل الكاهن مولر يعلم أخبار فريدريك عن طريق أصدقاء آخرين أكثر اهتماما به، فعلم بأمر الترقيات والعلاقات والانتقال إلى نيويورك، ولكنه لم يتلق أي خطاب من الرجل منذ عامين على الأقل. حتى شهر مضى، عندما وجد برقية صفراء على مكتبه تحمل الرسالة التالية:
أحضر إلى إسطنبول في الثاني من أغسطس. على الخطوط الهولندية الأمريكية. أراك في ذلك الحين يا صديقي. فريدريك ساتون.
Page inconnue