عبد الحميد الثاني
وأخيرا وصلت الصناديق إلى مقرها في المكتبة، ورصت بعناية تحت صف من النوافذ مواجهة لميناء بيشكطاش. وفي الجانب الآخر من الزجاج هبت رياح شديدة من الماء في غير أوانها، محدثة اهتزازا عنيفا في فروع الأشجار، حتى أخذت طيور البحر تتقافز وتتشقلب في حركات بهلوانية. ولكن بالداخل كان الجو هادئا، واختلطت طبقات كثيفة من دخان السيجار بالرائحة العتيقة لجلود الكتب القديمة والكونياك، بينما ظلت أهداب الستائر الثقيلة تداعب أسطح الصناديق كأزهار الهندباء البرية. أزاحت إلينورا غطاء الصندوق الذي يحمل رقم واحد، وانحنت على مدخله وأخذت تقلب فيه بأصابعها. نزعت مجموعة متنوعة من الخطابات مربوطة بخيط حريري وفكتها، كان الخطاب الأول مرفقا بمظروف مربع كبير موجها إلى اللواء نيكولاي كاراكوزوف، وكان ملطخا من الجانب بما يبدو أنه مربى الفراولة. ولم يكن ثمة عنوان للمرسل. دفعت إلينورا حواف المظروف وتركت الرسالة تنزلق للخارج. كانت دعوة مكتوبة بخط اليد إلى حفل بمناسبة تجديد محل إقامة السفير الفرنسي. لم تجد شيئا يثير الاهتمام الفوري في تلك الرزمة، فأعادتها إلى مؤخرة الصندوق وحملت أول ملفين إلى مكتب الكولونيل.
كان الصندوق الأول خليطا من المراسلات بين إسطنبول وسانت بطرسبرج: خطابات شخصية ودعوات وتهديدات مقنعة وأخرى صريحة، وعروض شكاوى واعتذارات، وبعض طلبات اللجوء السياسي. كانت المراسلات في معظمها باللغة الفرنسية، مع استخدام كلمات تركية وروسية حسبما تدعو الحاجة. وكان فحوى معظم الخطابات واضحا، رغم أن القنصل الروسي يشير أحيانا إلى اتفاقيات ومحادثات ومسئولين غير معروفين لها. ظلت إلينورا تقرأ طوال اليوم باستثناء استراحة قصيرة كانت تأخذها لتناول الغداء. وعندما طرق السيد كروم بابها لإبلاغها بحلول موعد العشاء، كانت قد قرأت حوالي نصف الصندوق الأول، ورغم أنه ما زال هناك العديد من الأمور التي لا تفهمها، فقد أدركت الآن الخطوط العريضة للعلاقة بين الروس والعثمانيين.
استغرقت إلينورا كل يوم على مدى أسبوعين في عالم الصناديق، في الأحداث العابرة الدقيقة الخاصة بالدبلوماسية والعداء المتبادل والتحالفات المتقلبة. وبينما كانت تقرأ اتسع فهمها للموقف الجيوسياسي الراهن؛ فقد أجبرت حرب 1878 ومعاهدة برلين التي تلتها العثمانيين على التخلي عن سيطرتهم على معظم الأراضي في جنوب غرب أوروبا؛ وعادت موانئ شبه جزيرة القرم إلى الروس، وأعطيت البوسنة لآل هابسبورج، وولدت بضع أمم بما فيها مملكتا بلغاريا ورومانيا. وفي الوقت نفسه جثمت كل من فرنسا وبريطانيا تراقب المجزرة، متحينة الفرصة المناسبة كالغربان على أعمدة السياج. ولما كان العثمانيون محتجزين بين موسكو وفيينا، وبين لندن وباريس، فقد توجهوا إلى برلين. وبناء على أوامر الصدر الأعظم، عين أمراء البحار الألمان في مناصب مستشارين عسكريين، واستقبل القيصر في إسطنبول بعرض عسكري إمبراطوري، وحصلت الإمبراطورية على قرض ضخم من البنك الألماني بهدف تمويل وصلة إسطنبول-بغداد من سكة حديد برلين-بغداد. وكان القيصر قد كتب في أحد الخطابات الشخصية القليلة التي أرسلها إلى السلطان عبد الحميد الثاني قائلا إن هذا الشريان سوف يدعم كلتا الإمبراطوريتين ويقوي العلاقة بينهما لأعوام عديدة قادمة، ومهر القيصر خطابه بختم رسمي والتحية غير الرسمية على نحو غريب: مع تحيات التحالف، ويلي.
نامت إلينورا بعمق في الليالي الاثنتي عشرة الأولى، وعقلها مشغول بالعلاقات والاحتمالات، ولكن في الليلة الأخيرة السابقة لزيارتها للسلطان لم تتمكن من الخلود إلى النوم. كانت السماء صفحة سوداء حريرية عميقة، تتناثر فيها النجوم كالسكر المسكوب، وهادئة فيما عدا بضع قطط ضالة وحيدة تتجول على الضفة. مرت مجموعة متناثرة من السفن عبر المضيق، وكان القمر مفعما بالوهج المنعكس. تقلبت إلينورا على بطنها وجذبت الغطاء بإحكام حول كتفها. كانت قد قرأت عن الأرق في رسالة أرسطو التي تحمل عنوان «عن النوم والأحلام»، وأيضا في «الساعة الرملية»، وفي تلك الكتب كانت الكلمة تستحضر مشاهد رومانسية مثل الكولونيل الشاب المصاب بالأرق رايسو وهو يتردد على حديقة منزل والده المتوفى حديثا حاملا في يده كوبا من اللبن الدافئ ولحنا ما زال يتكون على شفتيه. ولكن تجربة الأرق نفسها كانت أمرا مختلفا تماما؛ كان ميعاد نومها قد مضى منذ فترة طويلة، وشعرت بمزيج من التعب والقلق وكأن ثقلا يزن خمسة كيلوجرامات معلق في مؤخرة عنقها. كانت ترغب بشدة في النوم، ولكن عقلها لم يستطع التوقف عن العمل، وظلت أطرافها ترتجف في قلق انتظارا للصباح.
كانت قد قرأت محتويات الصناديق كلها، مئات الصفحات من المقارعة بالسيوف والعلاقات الودية الحذرة، ولكنها ما زالت لا تدري كيف تفكر أو ماذا تقول عندما يطلب منها السلطان النصيحة. ونظرا لأن الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية كانتا مقيدتين بلا رحمة بحدود الجغرافيا، فقد كانتا متورطتين في المأزق الدموي نفسه لعدة قرون، تتصارعان على رقع غير ذات أهمية من الأرض، تسلحان الجيوش وتسترضيان القوى العظمى. حتى إذا كانت تعلم ما تقول، فكيف لها - هي إلينورا كوهين - أن تؤثر على تلك القوى الضخمة العنيدة؟
انطلق نفير الضباب ثلاث مرات في تلك الليلة يهدي سفن الشحن اليقظة عبر المضيق، ويقلق ساكني إسطنبول في أسرتهم. وبعد بزوغ الفجر مباشرة، أيقظت النفخة الرابعة إلينورا من غفوة كانت قد استغرقت فيها منذ لحظات، وعلمت أنها لن تتمكن من الخلود إلى النوم مرة أخرى. كان الوقت ما زال مبكرا على الإفطار، ولكن نيران المطبخ كانت قد أشعلت بالفعل. صاح باعة الخبز في أول الشارع وآخره كطيور النورس التي انفصلت عن أسرابها، وتسللت الهرر الباحثة عن فريسة في ممرات ضيقة كريهة الرائحة حاملة غنائمها. وفي نهاية الأمر، أقنعت إلينورا نفسها بأنها لو لم تتمكن من الخلود إلى النوم ففي استطاعتها على الأقل أن تلقي نظرة أخيرة على الصناديق.
لم تتفاجأ بوجود البك في المكتبة، رغم أن مظهره قد صدمها إلى حد ما. كان نائما في مقعده بجوار المدفأة وحلته متجعدة وعيناه متدليتان كالكلاب الخاملة. وكان ثمة فنجان شاي فارغ على المائدة بجواره، بالإضافة إلى مصباح جاز وكومة من الخطابات. أغلقت إلينورا الباب وجلست في المقعد المقابل له، وجذبت ركبتيها نحو صدرها. وبينما كانت تراقبه نائما، أحدث الجمر صريرا في المدفأة وتسللت هالة من ضوء الشمس عبر الستائر. وأخيرا تحرك البك وفتح عينيه. «الآنسة كوهين.»
خفت صوته وهو ينظر حوله في الغرفة. «هل أتى الصباح؟» «نعم يا سيدي، تقريبا.»
وقف وسوى حلته ومرر يده بطول كلا كميه.
Page inconnue