Carl Buber : Cent ans d'illumination
كارل بوبر: مائة عام من التنوير
Genres
الفصل الخامس
نظرة نقدية
قد تؤول الفلسفة على أنها تعاقب دائم لميلاد الأفكار، وقد تؤول على أنها تعاقب دائم لمصارع الأفكار. وقديما قال شيشرون إنه لا يوجد رأي مخالف للعقل لم يقل به من قبل بعض الفلاسفة. وهو قول حق، وأحق منه أنه لا يوجد رأي سديد محكم لم يجد له من الفلاسفة من يناوشه وينال من وجاهته. وقد كانت آراء بوبر من هذا الصنف الأخير. لم يسلم الرجل طوال حياته من سهام نقدية كثرت كثرة المعارك العنيفة التي أضرم أوارها. وهي انتقادات تعكس لنا تأثيره الفكري الهائل من جهة، وتهيب بنا من جهة أخرى أن نتدبر هذه الانتقادات وننعم فيها النظر، حتى تكتمل لنا صورة الرجل الذي جعل النقد ماهية الفلسفة، وأحب النقد حتى وسم به مذهبه كله وأفرغ لنفسه مكانا عزيزا في التراث الفلسفي تحت اسم «العقلانية النقدية».
في القسم الخاص بالسيرة الذاتية من كتاب «فلسفة كارل بوبر»
1 (وهو مجموعة مقالات نقدية لعدد من كبار الفلاسفة والعلماء مشفوعة بردود بوبر)، يحكي بوبر عن لقائه الأول بفتجنشتين. وهو مثال يعكس لنا البون الكبير الذي كان يفصل ما بين تصور بوبر للفلسفة والتصور الذي كان سائدا في إنجلترا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أوائل الستينيات على التقريب. في عام 1946 دعي بوبر لتقديم ورقة علمية في كمبردج «تعرض بعض الأحاجي الفلسفية». كانت صياغة الدعوة تشي بأن كاتبها هو فتجنشتين الذي كان ينكر وجود مشكلات فلسفية حقيقية، ويرى المشكلات الفلسفية «أشباه مشكلات» أو مجرد «ألغاز» يتكفل التحليل الدقيق بتبديدها باستخدام «اللغة العادية». وكعادته، واجه بوبر التحدي دون مواربة بأن قال إنه إذا رأى أن ليس هناك مشكلات فلسفية حقيقية لما كان فيلسوفا. ومن الواضح أن فتجنشتين بعد نقاش قصير أيقن أن بوبر حالة ميئوس منها، فاندفع خارجا من الغرفة وصفق الباب خلفه.
هكذا في أوج نفوذ فتجنشتين بقي بوبر خارج التيار الرئيسي للفلسفة الإنجليزية، ماضيا في طريقه الفلسفي بإصرار وعزم وحس عنيد بما هو مهم حقا وما هو مجرد تناقر حول ألفاظ. هكذا كان الحال. وما كان يمكن أن يكون غير ذلك، فقد كانت هذه حقبة انقلبت فيها الفلسفة على نفسها وانشغل الفلاسفة بتبديد حفنة من الأحاجي الناجمة عن الاستخدام اللغوي والتي ضللت أسلافهم وأوقعتهم في مشكلات كاذبة. ولا عجب أن كان بوبر هو الفيلسوف المفضل عند الفيزيائيين وأهل الاقتصاد والتاريخ والسياسة، وبينما كان هؤلاء يقدرون أهمية المسائل التي شغلت بوبر والتي نذر لها نفسه، كان فلاسفة التيار السائد الأكاديميون يرونه متواضع المستوى محدود القدرة.
والحق أن بوبر نفسه مسئول عن هذا الانطباع الخاطئ؛ فقد كان أسلوبه الشخصي غير محبب لزملائه الإنجليز. كانت كتبه ومقالاته تنضح بالتزامه الشديد بأهمية موضوعه، فتحولت هذه الكتب إلى أسلحة يشن بها حربا ضد ما يراه خطأ، ويمطر خصومه بالحجج من كل صوب، وأحيانا بالسخرية والسباب. ولم يكتف بذلك، بل كان يقع أحيانا في التكرار الممل والاعتداد المنفر. (ويكفي أن نذكر أنه كرر في كتابه «المعرفة الموضوعية» في ثلاثة مواضع على الأقل أنه هو الذي أطلق على مشكلة الاستقراء اسم «مشكلة هيوم »!) وربما ألحت عليه الرغبة في أن يمطر خصومه بالحجج وملكت قواه فجعلته يخلط حجة قوية بحجة ضعيفة، ويقبل كل ما تورده عليه قريحته ويناجيه به طبعه. ورغم أن المرء يؤيد بوبر في قناعته بأن الحجة الحقيقية أجدى من الملاحظات الموحية التي اعتاد فتجنشتين وأتباعه أن ينثروها في أعمالهم، فإن بوبر نفسه قد «أرخص عملة الحجة» باستخدامه لأي حجة تقع عليها يده دون تمييز.
2
ورغم حرص بوبر على وضوح أفكاره وتحديدها، وتحريه الدقة والنصوع في عرضها، وتجنبه لأي التباس يفتح مجالا لإساءة الفهم أو للمماحكة اللفظية، فقد اختلف أتباعه في فهم الكثير من أفكاره المحورية، وانقسموا حول تصور مذهبه. وتعددت التأويلات فيمن كان حريصا على ألا يصير تأويلا! وقد كان بوبر نفسه يشكو كثيرا من أنه يساء فهمه. وكان محرر كتاب «فلسفة كارل بوبر» يصاب بالإحباط إذ يفشل الحوار بين بوبر ونقاده لأن مقالاتهم، وفقا لقول بوبر، موجهة ضد آراء لم يقل بها قط! وقد تكرر هذا الإحباط في مناسبات كثيرة بحيث إن المرء ليساوره شك في أن يكون الكاتب - أي بوبر - مسئولا عن ذلك قدر مسئولية المفسر أو الناقد.
وفيما يلي بعض الاعتراضات الشهيرة التي وجهت إلى فلسفة بوبر، نسردها باقتضاب لكي تكتمل الصورة التي رسمناها حتى الآن لفيلسوف النقد، ولكي نعي أن الفلسفة هي بطبيعتها نقد حتى للنقد نفسه.
Page inconnue