مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي كان في أزل الآزال ، موجودا بوجوده ، وذاته كنوز صفاته ، وصفاته معادن جوده ، تقدست ذاته بذاته عن الأضداد ، وتنزهت صفاته بصفاته عن الأنداد ، قدمه متعال عن الكون والفساد ، وأزله مسرمد إلى أبد الآباد ، تفرد بوحدانيته عن الأماكن والأكوان ، وتوحد بجلاله عن المشابهة بالحدثان ، علم في القدم ما يبين بإرادته من العدم ، وأجرى بمقاديره القلم ، ورقم على اللوح المحفوظ ما قضى وقسم ، لم يزل متكلما بكلامه القديم ، وعالما بعلمه الأزلي الكريم ، فأوجد جوهر البسيط بقوته القدمية ، وكلماته الأزلية في فضاء القدرة ، وأبدع منه فطرة الخليقة ، وأخرج من أديان القدر المقدورات بصنع الألوهية ، ولباس العبودية ، واصطفى من تلك الجوهرة ، وطبيعة الأولية فطرة آدم عليه السلام على جميع العالم ، وعلمه الأسماء كلها ، وجعله من جميع البرية أصلها ، وأخرج من عنصر الأرواح والأشباح ، واختار منها صفوة الأنبياء والرسل والأولياء بالرسالة والولاية ، وخاطبهم بخطابه الأزلي ، وكلامه الأبدي ، ليدعو به عباده إلى خدمته ، وشوقهم إلى مشاهدته ، واجتبى من بينهم في الأزل روح المصطفى صلى الله عليه وسلم بأفضل الدرجات ، وأكرم المداناة ، واصطفاه المقام المحمود ، وكمال الكرم والجود ، وخاطبه بأشرف كلامه ، وأكرم فرقانه وقرآنه ، الذي فيه بيان مكنون أسرار ذاته ، وألوان صفاته ، وعجائب علومه الغيبية ، وغرائب آياته الأزلية ، وأرسله إلى كافة البرية ؛ ليهديهم به إلى الحق والحقيقة.
ثم أعطى أزمته الظاهرة إلى يد أهل الظاهر من العلماء والحكماء ؛ حتى شرعوا في أحكامها وحدودها ورسومها وشرائعها ، وجعل خالصة أهل صفوته غيبة أسرار خطابه ، ولطائف مكنون آياته ، وتجلى من كلامه ، بنعت الكشف والعيان والبيان لقلوبهم وأرواحهم وعقولهم وأسرارهم ، وأعلمهم علوم حقائقه ، ونوادر دقائقه ، وصفى دروج عقولهم بكشوف أنوار جماله ، وقدس فهومهم لسناء جلاله ، وجعلها مواضع ودائع خفي رموز خطابه ، وما أودع كتابه من غوامض أسراره ، ولطيف إشاراته من علوم المتشابهات ومشكلات الآيات ، وعرفهم معاني ما أخفاه في القرآن بنفسه حتى عرفوا بتعريفه إياهم ، وكحلهم بنور قربه ووصاله ، وأطلعهم على غيبيات عرائس الحكم والمعارف والكواشف ، ومعاني فهم الفهم ، وسر السر الذي ظاهره في القرآن حكم ، وفي باطنه إشارة وكشف ، الذي استأثره الحق
Page 11
لأصفيائه ، وأكابر أوليائه ، وغرباء أحبائه من الصديقين والمقربين ، وستر هذه الأسرار والعجائب على غيرهم من علماء الظاهر ، وأهل الرسوم الذين هم في حظ وافر من الناسخ والمنسوخ والفقه والعلم ، ومعرفة الحلال والحرام ، والحدود والأحكام.
وتلك الصفوة الصادقة الذين فتح الله على قلوبهم من لطائف دقائق كتابه ، وما كتم على أسرار غيرهم من سني فضائل مكاشفاته ، نطقوا على حسب مقاماتهم بين يدي جبروته ، وقدر سيرانهم في ميادين ملكوته بإشارات شافية ، وعبارات كافية من قلوب صافية ، وعقول راسخة ، وأرواح عاشقة ، وأسرار مقدسة ، وهم في إدراك إشارات القرآن بالتفاوت ، كتفاوتهم في درجات المعاينات ، والمكاشفات ، والحالات ، والمداناة ، ورؤية المغيبات ، وما لاح لأسرارهم من أنوار الأزليات والأبديات ، وما بلغوا فيما نطقوا ، وأخبروا قعر بحار القرآن ؛ لأنه صفات الرحمن ، ولا يدرك جميع حقائقه أهل الحدثان.
وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم السفير الأعلى ، وسيد أهل الآخرة والأولى ، وشفيع الورى الذي سافر بيداء الآزال والآباد ، ودنا من القدم حتى لم يبق بينه وبين الحق ؛ إلا قاب قوسين أو أدنى ، عليه التحية الأسنى والبركات الأنمى ، وعلى آله نجوم الهدى ، وأصحابه مصابيح الدجى.
أما بعد ...
فإن أطيار أسراري لما فرغت من الطيران في المقامات والحالات ، وارتفعت من ميادين المجاهدات والمراقبات ، ووصلت إلى بساتين المكاشفات والمشاهدات ، وجلست على أغصان ورد المداناة ، وشربت شراب الوصال ، وسكرت برؤية الجمال ، وولهت في أنوار الجلال ، وصحت من مقام القدس بذوق الأنس ، وتلقفت من فلق الغيب شقائق دقائق القرآن ، ولطائف حقائق العرفان ، فطارت بأجنحة العرفان ، وترنمت بألحان الجنان في أحسن البيان بهذا اللسان في رموز الحق التي أخفاها على فهوم أهل الرسوم.
وما تصديت لهذا الأمر إلا بعد خاطري بالمعرفة والحكمة الربانية ، واقتديت بالصدر الأول من المشايخ الكرام في تفسير حقائق الكلام ، ولما وجدت أن كلامه الأزلي لا نهاية له في الظاهر والباطن ، ولم يبلغ أحد من خلق الله إلى كماله ، وغاية معانيه ؛ لأن تحت كل حرف من حروفه بحرا من بحار الأسرار ؛ ونهرا من أنهار الأنوار ؛ لأنه وصف القدم.
وكما لا نهاية لذاته ، لا نهاية لصفاته ، قال الله تعالى : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [لقمان : 27] ، وقال : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) [الكهف :
Page 12
19].
وعن أبي جحيفة ، قال : سألت عليا رضي الله عنه وكرم الله وجهه : هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الوحي سوى القرآن! قال : لا فالذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه (1).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن القرآن سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ومطلع» (2).
وقال جعفر بن محمد : كتاب الله على أربعة أشياء : العبارة ، والإشارة ، واللطائف ، والحقائق ؛ فالعبارة للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ما من آية إلا ولها أربعة معان : ظاهر ، وباطن ، وحد ، ومطلع ؛ فالظاهر : التلاوة ، والباطن : الفهم ، والحد : هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو : مراد الله من العبد بها.
قيل : القرآن عبارة ، وإشارة ، ولطائف ، وحقائق ، فالعبارة للسمع ، والإشارة للعقل ، واللطائف للمشاهدة ، والحقائق للاستسلام.
وقال الجنيد : كلام الله على أربعة معان : ظاهر ، وباطن ، وحق ، وحقيقة.
وقال جعفر الصادق : يقرأ القرآن على تسعة أوجه : الحق ، والحقيقة ، والتحقق ، والحقائق ، والعقود ، والعهود ، والحدود ، وقطع العلائق ، وإجلال المعبود.
وقال الجريري : كلام الله متصل بعبده ، والعبد متوقع المزيد من ربه في كل حال.
وقال جعفر الصادق : أنزل القرآن على سبعة أنواع : على التعريف ، والتكليف ، والتعطيف ، والتشريف ، والتأليف ، والتخويف ، والتكفيف ، ثم نزل أمرا ونهيا ، ووعدا ووعيدا ، ورخصا وتأسيسا ، وتمحيصا ، ثم نزل داعيا ، وراعيا ، وشاهدا ، وحافظا ، وشافيا ، ودافعا ، ونافعا ، فتعرضت أن أغرف من هذه البحور الأزلية غرفات من حكم الأزليات ، والإشارات الأبديات التي تقصر عنها أفهام العلماء ، وعقول الحكماء ، اقتداء بالأولياء ، وأسوة بالخلفاء ، وسنة للأصفياء ، وصنفت في حقائق القرآن كتابا موجزا مخففا لا إطالة فيه ولا إملال ، وذكرت ما سنح لي من حقيقة القرآن ، ولطائف البيان ، وإشارة الرحمن في القرآن بألفاظ لطيفة ، وعبارة شريفة ، وربما ذكرت تفسير آية لم يفسرها المشايخ ، ثم أردفت بعد قولي
Page 13
أقوال مشايخي مما عبارتها ألطف ، وإشارتها أظرف ببركاتهم ، وتركت كثيرا منها ؛ ليكون كتابي أخف محملا ، وأحسن تفصيلا ، واستخرت الله تعالى في ذلك ، واستعنت به ؛ ليكون موافقا لمراده ، ومواظبا لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولياء أمته ، وهو حسبي وحسب كل ضعيف ، وسميتها : ب «عرائس البيان في حقائق القرآن».
وما أصبت ذلك ؛ فهو بتأييد الله ونصرته ، وما أخطأت فيه ؛ فهو لازم لي ، وأنا أستغفر الله تعالى من ذلك ، إنه غفور حليم ، جواد كريم ، رءوف رحيم.
Page 14
سورة فاتحة الكتاب
( بسم الله الرحمن الرحيم (1))
سميت الفاتحة فاتحة ؛ لأنها مفتاح أبواب خزائن أسرار الكتاب ؛ ولأنها مفتاح كنوز لطائف الخطاب ، بانجلائها ينكشف جميع القرآن لأهل البيان ؛ لأن من عرف معانيها يفتح بها أقفال المتشابهات ، ويقتبس بسنائها أنوار الآيات.
( بسم ): «الباء» : كشف البقاء لأهل الفناء ، و «السين» : كشف سناء القدس لأهل الأنس ، و «الميم» : كشف الملكوت لأهل النعوت ، و «الباء» : بره للعموم ، و «السين» : سره للخصوص ، و «الميم» : محبته لخصوص الخصوص ، و «الباء» : بدء العبودية ، و «السين» : سر الربوبية ، و «الميم» : منة في أزلية على أهل الصفوة.
و «الباء» من بسم أي : ببهائي بقاء أرواح العارفين في بحار العظمة.
و «السين» من بسم أي : بسنائي سمت أسرار السابقين في هواء الهوية.
و «الميم» من بسم أي : بمجدي وردت المواجيد قلوب الواجدين من أنوار المشاهدة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الباء بهاؤه ، والسين سناؤه ، والميم مجده» (1).
وقيل في ( بسم الله ): بالله ظهرت الأشياء ، وبه فنيت ، وبتجليه حسنت المحاسن ، وباستناره فتحت المفاتح.
وحكي عن الجنيد أنه قال : إن أهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كل شيء سوى الله ، فقال : لهم قولوا : ( بسم الله ) أي : بي فتسموا ، ودعوا انتسابكم إلى آدم عليه السلام .
وقيل : إن «بسم» يبقى به كل الخلق ، فلو افتتح كتابه باسمه ؛ لذابت تحته حقيقة الخلائق ، إلا من كان محفوظا من نبي ، أو ولي.
وروى علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد قال : «بسم» : «الباء» بقاؤه ، و «السين» أسماؤه ، و «الميم» ملكه ، فإيمان المؤمن ذكره ببقائه ، وخدمة المريد ذكره بأسمائه ، والعارف فناؤه عن المملكة بالمالك لها.
وأما «الله» : فإنه اسم الجمع لا ينكشف إلا لأهل الجمع ، وكل اسم يتعلق بصفة من صفاته إلا الله ؛ فإنه يتعلق بذاته وجميع صفاته لأجل ذلك ، وهو اسم الجمع أخبر الحق عن
Page 15
نفسه باسمه الله ، فما يعرفه إلا هو ، ولا يسمعه إلا هو ، ولا يتكلم به إلا هو ؛ لأن الألف إشارة إلى الأنانية والوحدانية ، ولا سبيل للخلق إلى معرفتها إلا الحق تعالى.
وفي اسمه «الله» لامان : الأولى : إشارة إلى الجمال ، والثانية : إشارة إلى الجلال ، والصفتان لا يعرفها إلا صاحب الصفات ، و «الهاء» : إشارة إلى هويته ، وهويته لا يعرفها إلا هو ، والخلق معزولون عن حقائقه ، فيحتجبون بحروفه عن معرفته «بالألف» : تجلي الحق من أنانيته لقلوب الموحدين ، فتوحدوا به ، و «باللام الأولى» : تجلي الحق من أزليته لأرواح العارفين ، فانفردوا بانفراده ، و «باللام الثانية» : تجلى الحق من جمال مشاهدته لأسرار المحبين ، فغابوا في بحار حبه ، و «بالهاء» : تجلى الحق من هويته لفؤاد المقربين ، فتاهوا في بيداء التحير من سطوات عظمته.
قال الشبلي : ما قال الله أحد سوى الله ، فإن كان من قاله بحظ ، وأنى يدرك الحقائق بالحظوظ.
وقال الشبلي : الله ، فقيل له : لم لا تقول : لا إله إلا الله؟ فقال : لا أبقي به ضدا.
وقيل في قوله : «الله» : هو المانع الذي يمنع الوصول إليه ، كما امتنع هذا الاسم عن الوصول إليه حقيقة ، كأن الذات أشد امتناعا ، عجزهم في إظهار اسمه لهم ؛ ليعلموا بذلك عجزهم عن درك ذاته.
وقيل في قوله : ( الله ): «الألف» : إشارة إلى الوحدانية ، و «اللام الأولى» : إشارة إلى محو الإشارات ، و «اللام الثاني» : إشارة إلى محو المحو في كشف الهاء.
وقيل : الإشارة في «الألف» هي قيام الحق بنفسه ، وانفصاله عن جميع خلقه ، فلا اتصال له بشيء من خلقه ؛ كامتناع «الألف» أن تتصل بشيء من الحروف ابتداء ، بل تتصل الحروف بها على حد الاحتياج إليها ، واستغنائها عنهم.
وقيل : ليس من أسماء الله اسم يبقى على إسقاط كل حرف منه إلا الله ، فإنه الله ، فإذا أسقطت منه «الألف» يكون «لله» ، فإذا أسقطت أحد لاميه يكون «له» ، فإذا أسقطت اللامين بقيت الهاء ، وهو غاية الإشارة.
وقال بعضهم : «الباء» : باب خزانة الله ، و «السين» : سين الرسالة ، و «الميم» : ملك الولاية.
وقال بعضهم : بالله سلمت قلوب أولياء الله من عذاب الله ، وبشفقته تطرقت أسرار أصفياء الله إلى حضرته ، وبرحمته تفردت أفئدة خواص عباده معه.
وقال بعضهم : بالله تحيرت قلوب العارفين في علم ذات الله ، وبشفقته توصلت علوم
Page 16
العالمين في صفات الله ، وبرحمته أدركت عقول المؤمنين شواهد ما أشهدهم الله من بيان الله.
وقيل بإلهيته تفردت قلوب عباد الله ، وبتعطفه صفت أرواح محبيه ، وبرحمته ذكرت نفوس عابديه.
وقيل : ( بسم الله ): ترياق أعطى للمؤمنين ، يدفع الله به عنهم سم الدنيا وضررها.
وقال جعفر الصادق : «بسم» : للعامة ، و «الله» : لخاص الخاص.
وقال سهل : «الله» : هو اسم الله الأعظم الذي حوى الأسماء والأسامي كلها ، وبين الألف واللام منه حرف مكني غيب من غيب إلى غيبه ، وسر من سر إلى سره ، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقته ، لا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس ، الآخذ من الحلال قواما لضرورة الإيمان.
وقيل : من قال بالحروف ، فإنه لم يقل الله ؛ لأنه خارج عن الحروف والحسوس ، والأوهام ، والأفهام ، ولكن رضي منا بذلك ؛ لأنه لا سبيل إلى توحيده من حيث لا حال ولا قال.
وحكي أن أبا الحسن النوري بقي في منزله سبعة أيام لم يأكل ، ولم يشرب ، ولم ينم ، ويقول في ولهة ودهشة : الله الله ، وهو قائم يدور ؛ فأخبر الجنيد ، قال : انظروا محفوظا عليه أوقاته ، فقيل : إنه يصلي الفرائض ، فقال : الحمد لله الذي لم يجعل للشيطان له سبيلا ، ثم قال : قوموا حتى نزوره إما أن نستفيد منه ، أو نفيده ، فدخل عليه وهو في ولهه ، فقال : يا أبا الحسن ، ما الذي ولهك؟ قال : أقول : الله ، الله ، زيدوا علي ؛ فقال له الجنيد : انظر هل قولك الله الله ، أم قولك : إن كان كنت القائل الله الله ، فلست القائل له ، وإن كنت تقوله بنفسك ، وأنت مع نفسك ، فما معنى الوله؟ قال : نعم المؤدب كنت ، وسكن من ولهه.
أما قوله : ( الرحمن ) رحم على أوليائه باسمه الرحمن ، بتعريف نفسه لهم ؛ حتى عرفوا به أسماءه ، وصفاته ، وجلاله ، وجماله ، وبه خرجت جميع الكرامات للأبدال والصديقين ، وبه تهيأت أسرار المقامات للأصفياء والمقربين ، وبه تجلت أنوار المعارف للأتقياء والعارفين ؛ لأن اسم ( الرحمن ) مخبر عن خلق الخلق ، وكرمه على جميع الخلق ، وفي اسمه ( الرحمن ) ترويح أرواح الموحدين ، ومزيد أفراح العارفين ، وتربية أشباح العالمين ، وفيه نزهة المحبين ، وبهجة الشائقين ، وفرحة العاشقين ، وأمان المذنبين ، ورجاء الخائفين.
وقال بعضهم : اسمه ( الرحمن ) حلاوة المنة ، ومشاهدة القربة ، ومحافظة الحرمة.
وقال ابن عطاء : في اسمه ( الرحمن ) عونه ونصرته.
وقوله ( الرحيم ): موهبة الخاص لأهل الخاص ، وهو مستند لذوي العثرات ،
Page 17
ومسرة لأهل القربات.
و ( الرحمن ): مطية السالكين ، تسير بهم إلى معدن العناية ، و ( الرحيم ): حبل الحق للمجذوبين تجذبهم به إلى حجال الوصلة.
باسمه ( الرحمن ) أمنهم من العقاب ، وباسمه ( الرحيم ) أتاهم من نفائس الثواب ؛ الأول : مفتاح المكاشفة ، والآخر : مرقاة المشاهدة.
باسمه ( الرحمن ): فتح لهم الغيوب ، وباسمه ( الرحيم ) : غفر لهم الذنوب.
وقال ابن عطاء : في اسمه ( الرحيم ) مودة ومحبة.
وعن جعفر بن محمد في قوله : ( الرحمن الرحيم ) إنه قال : هو واقع على المريدين والمرادين ؛ فاسم ( الرحمن ): للمرادين ؛ لاستغراقهم في أنوار الحقائق ، و ( الرحيم ): للمريدين ؛ لبقائهم مع أنفسهم ، واشتغالهم بالظاهر.
( الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك يوم الدين (4))
قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) (1) شكر نفسه للعباد ؛ لأنه علم عجزهم عن شكره ، وأيضا : أدب الخلق بتقدم حمده امتنانه عليهم على حمدهم نفسه.
ولسان الحمد ثلاثة : لسان الإنساني ، ولسان الروحاني ، ولسان الرباني ، أما «اللسان الإنساني» : فهو للعوام ، وشكره بالتحدث بإنعام الله وإكرامه ، مع تصديق القلب بأداء الشكر.
والحاصل : إن الألوهية باطن الربوبية ، فالأولى مظهر الاسم الباطن ، والثانية مظهر الاسم الظاهر ، وكذا الحق باطن الخلق ، والشمس باطن القمر ، والأب باطن الابن ، والروح باطن الجسم ، فالظاهر مرآة الباطن في كل ذلك ؛ وإنما جعلوا الرب الاسم الأعظم أيضا ، وفي مرتبة الجلال من حيث جمعيته ؛ لأن الألوهية والربوبية لا تختصان بألوهية بعض دون بعض ، وبربوبية بعض دون بعض ، وباسم دون اسم ، وبلطف دون قهر وبالعكس ، فللسلطان الجمال والجلال ، وللوزير التربية بكل من اللطف والقهر ، فجمعية السلطان إنما تظهر في المراتب التي دون السلطنة فاعرف ذلك.
Page 18
وأما «اللسان الروحاني» : فهو للخواص ، وهو ذكر القلب لطائف اصطناع الحق في تربية الأحوال ، وتزكية الأفعال.
وأما «اللسان الرباني» : فهو للعارفين ، وهو حركة السر ، يصدق شكر الحق جل جلاله بعد إدراك لطائف المعارف ، وغرائب الكواشف بنعت المشاهدة والغيبة في قربه ، واجتناء ثمرة الأنس ، وخوض الروح في بحر القدس ، وذوق الأسرار مع مباينة الأنوار.
والحامدون في حمدهم لله ، بتفاوت لسانهم في مقاماتهم ومقاصدهم ، وأهل الإرادة حمدوه بما نالوا من صفاء المعاملات ، مقرونا بنور القرب ، وأهل المحبة حمدوه بما نالوا من أنوار المكاشفات ، مقرونة بنور صرف الصفات ، وأهل المعرفة حمدوه بما نالوا من جمال المشاهدات ، ممزوجا بعلم الربوبية ، وأهل التوحيد حمدوه بما نالوا من سناء خصائص الصفات ، وجلال قدم الذات ، مشوبا بنعت البقاء ، وأهل شهود الأزل بنعت الأنس حمدوه بما لاح في قلوبهم من نور القدس ، وقدس القدس ، وبما أودع الله أرواحهم من أسرار علوم القدم ، وما أفرد مواطن أسرارهم من غصن الأبصار في تعرض الحدثان عند حقائقها ، وما خصها بكشف الكشاف ، فحمدهم بالبسط والرجاء والانبساط شطح ، وحمده في الاصطلام والمحو خرس.
كما قال عليه السلام : «لا أحصي ثناء عليك» (1) في قبضه عن تحصيل شكر رؤية القدم ، فلسان التحميد لأهل التفرقة ، ولسان الحمد في رؤية المحمود صفات أهل الجمع.
وقيل : ( الحمد لله ): ما قضى وقدر بإدراك ، على ما هدى وحفظ ، وعلى ما أرشدوا ، وعلى ما اختاروا.
وقال أبو الوزير الركبي في قوله : ( الحمد لله ): عن الله ، قال : لو عرفت ذلك عبدي ، لما شكرت غيري.
وقال أبو بكر بن أبي طاهر : ما خلق الله شيئا من خلقه ؛ إلا وألهمه الحمد ، ثم جعل فاتحة كتابه ، وفرضها عليهم في صلاته.
وقال ابن عطاء : «الحمد لله» معناها الشكر لله إذا كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدنا.
وقيل : معنى «الحمد لله» أي : أنت المحمود جميع صفاتك وأفعالك.
وقيل : «الحمد لله» أي : لا جامد لله إلا الله.
وذكر عن جعفر الصادق في قوله : ( الحمد لله )، قال : من حمده ، فقال : من حمد
Page 19
بصفاته كما وصف نفسه فقد حمده ؛ لأن الحمد حاء ، وميم ، ودال ؛ «فالحاء» من الوحدانية ، و «الميم» من الملك ، و «الدال» من الديمومية ، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك ؛ فقد عرفه.
وقال رجل بين يدي الجنيد : «الحمد لله» ، فقال له : أتممها كما قال الله ، قل : ( رب العالمين )، فقال له الرجل : ومن العالمون حتى يذكروا مع الحق؟! فقال : قله يا أخي ، فإن الحادث إذا قارن بالقديم لا يبقى له أثر.
قوله تعالى : ( رب العالمين )؛ لأنه أظهر نفسه عليهم حتى نالوا من بركاتهم ما هداهم إلى معرفته ، فرباهم بها على قدر مذاقهم ، فربى المريدين بشعشعة أنواره ، ولوائح أسراره ، وربى المحبين بحلاوة مناجاته ، ولذة خطابه ، وربى المشتاقين بحسن وصاله ، وربى العاشقين بكشف جماله ، وربى العارفين بمشاهدة بقائه ، ودوام أنسه ، وحقائق انبساطه ، وربى الموحدين برؤية الوحدانية والأنانية في عين الجمع ، وجمع الجمع.
وقيل : ( رب العالمين ) أي : منطقهم بحمده.
وذكر عن ابن عطاء : ( رب العالمين ) أي : مربي أنفس العارفين بنور التوفيق ، وقلوب المؤمنين بالصبر والإخلاص ، وقلوب المريدين بالصدق والوفاء ، وقلوب العارفين بالفكرة والعبرة.
وقال محمد بن علي الترمذي : علم الله تواتر نعمه على عباده ، وغفلتهم عن القيام بشكره ، فأوجب عليهم في العبادة التي تكرر عليهم في اليوم والليلة : ( الحمد لله رب العالمين )، فيكون ذلك قياما لشكره ، وألا يغفلوا عنه ، فأبوا ذلك.
وقال بعضهم : ذكر ( بسم الله )، ثم قال : ( الحمد لله ) : أعلم أن منه المبتدأ ، وإليه المنتهى.
وقال الحارث المحاسبي : إن الله بدأ بحمد نفسه ، فأوجب للمؤمنين تقديم ( الحمد لله ) في أول كل كتاب ، وكل خطبة ، وكل قول حسن ، وهو أحسن ما ابتدأ به المبتدئ ، وافتتح مقالته.
وقال بعضهم : من قال : ( الحمد لله رب العالمين )؛ فقد قام بحق العبودية ، وشكر النعمة.
وقال بعضهم : ظهر فضل آدم على الكل ، بقوله حين عطس : ( الحمد لله ).
وقال الأستاذ : مربي الأشباح بوجود النعم ، ومربي الأرواح بشهود الكرم.
Page 20
وقوله تعالى : ( الرحمن الرحيم ): «بالرحمن» : سبقت رحمته غضبه ، و «بالرحيم» : حجب كرمه سخطه ، و ( الرحمن ): اسم القدم ، و «الرحيم» : اسم البقاء ، و ( الرحمن الرحمن ): اسم الحقيقة ، و ( الرحيم ): اسم الصفة.
وقيل : ( الرحمن ) بالإشراف على أسرار أوليائه ، والتجلي لأرواح أنبيائه.
وقيل : ( الرحمن ): خاص الاسم خاص الفعل ، و ( الرحيم ) : عام الاسم عام الفعل.
وقيل : ( الرحمن ) بالنعمة ، و ( الرحيم ) بالعصمة.
وقيل : ( الرحمن ) بالتجلي ، و ( الرحيم ) بالتدلي.
وقيل : ( الرحمن ) بكشف الأنوار ، و ( الرحيم ) بحفظ ودائع الأسرار.
وقيل : ( الرحمن ) بذاته (1)، و ( الرحيم ) بنعوته وصفاته.
وقال سهل : بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة ؛ لأنه رحمن رحيم.
وقال الواسطي : الرحمانية تشوق الروح شوقا ، والإلهية تذوق الحق ذوقا.
وقال إبراهيم الخواص : من عرفه بأنه الرحمن الرحيم ، لزمه معرفته له بالرحمة ، الثقة به في حياته ومماته ، والعطف بالرحمة على الخلائق أجمع في الدنيا بالعوافي والأرزاق ، وفي الآخرة بالمغفرة والرحمة والغفران.
قال جعفر الصادق : ( الرحمن ): العاطف على خلقه لسابق المقدور عليهم المراقب لهم ، و ( الرحيم ): المتعطف لهم في أمر المعاش والعوافي.
وقال الجنيد في قوله : ( الرحمن الرحيم ): الرحمة على وجهين : رحمة لطفه ، ورحمة عطفه ، فإشارة باسمه الرحمن إلى لطفه ، وإشارة باسمه الرحيم إلى عطفه.
وقال الأستاذ : ( الرحمن ): خاص الاسم ، عام المعنى ، و ( الرحيم ): عام الاسم ، خاص المعنى (2).
Page 21
فالرحمن : بما روح ، و ( الرحيم ) بما لوح ، فالترويح للمباد ، والتلويح بالأنوار.
و ( الرحمن ) بكشف تجليه ، و ( الرحيم ) بلطف توليه.
و ( الرحمن ) بما أولى من الإيمان ، و ( الرحيم ) بما أسرى من العرفان.
و ( الرحمن ) بما أعطى من العرفان ، و ( الرحيم ) بما تولى من الغفران.
و ( الرحيم ) بما من به من الرضوان ، و ( الرحمن ) بما يكرم به من الرضوان.
و ( الرحيم ) بما يكرم به من الرؤية والعيان ، فالرحمن بما يوفق ، و ( الرحيم ) بما يحقق ، فالتوفيق للمعاملات ، والتحقيق للمواصلات ، فالمعاملات للقاصدين والمواصلات للواجدين.
و ( الرحمن ) بما يصنع لهم ، والرحيم بما يدفع عنهم ، والصنع يجمع العناية ، والدفع بحسن الرعاية ، إلى هاهنا كلام الأستاذ.
أما من اختراعي أن : اسم ( الرحمن ): محل طلوع أنوار العناية ، و ( الرحيم ): محل إشراق شمس الكفاية ، فبالعناية يهدى أهل العرفان إلى مشاهدة القدم ، وبالكفاية تحفظ حقائق إيمانهم أبدا لوجه بقاء الديمومية ، فبالرحمن تأيدهم ، وبالرحيم ترقيهم وتحفظهم ، فالأول : للعناية ، والآخر : للكفاية ، تغمدهم بنور الأزلية بين الصفتين ؛ حتى يصيروا بالرحمن مشتاقين ، وبالرحيم والهين.
وقال حميد : هل يكون من الرحمن لأهل الإيمان ، إلا الأمن والأمان ، والروية والعيان.
وقال سهل : ( الرحمن ): على عباده بالمغفرة والرضوان ، و ( الرحيم ): عليهم بالعوافي والأرزاق.
قوله تعالى : ( مالك يوم الدين ): في اسم المالك رجاء المقبلين ، وتخويف المهلكين ، يجازي مقاساة ألم فراق العاشقين بمشاهدته ، ونفائس كرامته ، ويجازي عموم المحبين بكشف جماله وجلاله ، ويجازي المعاملة الصادقين ، بإدخالهم في جنانه ، وإسكانهم في جواره.
وقال ابن عطاء : يجازى يوم الحساب كل صنف بمقصودهم وهمتهم ، ويجازي العارفين
Page 22
بالقرب منه ، والنظر إلى وجهه الكريم ، ويجازي أرباب المعاملات بالحسنات.
وقيل : مالك يوم الكشف والأشهاد ؛ ليجازي كل نفس بما تسعى.
وقال الأستاذ : مالك نفوس العابدين ، فصرفها في خدمته ، ومالك قلوب العارفين ، فشرفها ، ومالك نفوس القاصدين ، فيتمها ، ومالك قلوب الواجدين ، فهيمها ، ومالك أشباح من عبده ، فلاطفها بنواله وأفضاله ، ومالك أرواح من أحبه ، فكاشفها بنعت جلاله ووصف جماله ، ومالك زمام أرباب التوحيد ، فصرفهم حيث شاء كما شاء ، ووفقهم حيث شاء كما شاء على ما يشاء كما شاء لم تكلهم إليهم لحظة ، ولا ملكهم من أمرهم سيئة ، ولا خطرة أفناهم له عنهم (1).
( إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6))
قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) أي : بمعونتك نعبدك ، لا بحولنا وقوتنا ، وإياك نستعين بتمام عبوديتك ، ودوام سترك علينا حتى نرى فضلك ، ولا ننظر إلى أعمالنا.
( إياك نعبد ) أي : إياك نعبد لا برؤية المعاملات ، وطلب المكافآت ، و ( وإياك نستعين ) أي : نستعينك بمزيد العنايات ، بنعت العصمة عن القطيعة.
وأيضا : إياك نعبد بالمراقبة ، وإياك نستعين بكشف المشاهدة.
وأيضا : إياك نعبد بعلم اليقين ، وإياك نستعين بحق اليقين.
وأيضا : وإياك نعبد بالغيبة ، وإياك نستعين بالرؤية.
وقيل : إياك نعبد بقطع العلائق والأغراض ، وإياك نستعين على ثبات هذا الحال بك ولا بنا.
وقيل : إياك نعبد بالعلم ، وإياك نستعين بالمعرفة.
وقيل : إياك نعبد بأمرك ، وإياك نستعين علينا بفضلك.
قال سهل : إياك نعبد بهدايتك ، وإياك نستعين بكلاءتك على عبادك.
قال الأنطاكي : إنما يعبد الله على أربع : على الرغبة ، والرهبة ، والحياء ، والمحبة فأفضلها
Page 23
المحبة التي تليها الحياء ، ثم الرهبة ، ثم الرغبة.
وقال الأستاذ : العبادة بستان القاصدين ، ومستروح المريدين ، ومرتع الأنس للمحبين ، ومرتع البهجة للعارفين ، بها قوة أعينهم ، وفيها مسرة قلوبهم ، ومنها راحة أبدانهم (1).
قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) أي : اهدنا مرادك منا ؛ لأن الطريق المستقيم ما أراد الحق من الخلق ، من الصدق والإخلاص في عبوديته.
وأيضا أرشدنا إلى ما أنت عليه.
وأيضا اهدنا إنابتك حتى نتصف بصفاتك.
وأيضا اهدنا إلى معرفتك ، حتى نستريح من معاملتنا بنسيم أنسك ، وحقائق حسنك.
وقيل : معنى اهدنا أي : مل بقلوبنا إليك ، وأقم بهمنا بين يديك ، وكن دليلنا منك إليك حتى لا تقطع عما لك بك.
وقيل أي : أرشدنا طريق المعرفة ؛ حتى نستقيم معك بخدمتك.
وقيل أي : أرنا طريق الشكر فنفرح ، ونطرب بقربك.
وقيل : اهدنا بفناء أوصاف الطريق إلى أوصافك التي لم تزل ولا تزال.
وقيل : اهدنا هدى العيان بعد البيان ؛ لنستقيم لك على حسب إرادتك.
وقيل : اهدنا هدى من يكون منك مبدأه ؛ حتى يكون إليك منتهاه.
وقيل : اهدنا الصراط المستقيم على الصراط بالغيوبة ؛ لئلا يكون مربوطا بالصراط.
قال الجنيد : إن القوم لما سألوا الهداية عن الحيرة التي وردت عليهم عن إشهاد صفاته الأزلية ، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية ؛ كيلا يستغرقوا في رؤية صفات الأزلية.
قال بعضهم : إليك قصدنا ، فقومنا.
وقيل : اهدنا بالقوة والتمكين.
وقال الحسين أي : اهدنا طريق المحبة لك ، والسعي إليك.
قال الشبلي : اهدنا صراط الأولياء والأصفياء.
وقال بعضهم : أرشدنا الذي لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام.
وقيل : أرشدنا في الدنيا إلى الطاعات ، وبلغنا في الآخرة الدرجات.
Page 24
وقال الأستاذ (1): أي أزل عنا ظلمات أحوالنا ؛ لنستضئ بأنوار قدسك عن التفيؤ لظلال طلبنا ، وارفع عنا ظل جهدنا ؛ لنستبصر بنجوم جودك ، فنجدك بك.
قال الحسين : اهدنا إلى طاعتك ، كما أرشدتنا إلى علم توحيدك.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه اهدنا أي : ثبتنا على الطريق المستقيم ، والمنهج القويم.
( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7))
قوله تعالى : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) أي : منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة ، وحسن الأدب في الخدمة.
وأيضا «أنعمت عليهم» : باليقين التام ، والصدق على الدوام ، وإطلاعهم على مكائد النفس والشيطان ، وكشف غرائب الصفات وعجائب أنوار الذات ، والاستقامة في جميع الأحوال ، وبسعادة الهداية إلى القربة بعناية الأزلية ، وهم الأنبياء والأولياء والصديقين ، والمقربون والعارفون ، والأمناء والنجباء.
قال أبو عثمان : «أنعمت عليهم» : بأن عرفتهم مهالك الصراط ، ومكائد الشيطان ، وجناية النفس.
وقال بعضهم : أنعمت عليهم في سابق الأزل بالسعادة.
وقال جعفر بن محمد : أنعمت عليهم بالعلم بك ، والفهم منك.
وقيل : أنعمت عليهم بمشاهدة المنعم دون النعمة.
وقال بعضهم : أنعمت عليهم بالرضا بقضائك ، وقدرك.
وقيل : أنعمت عليهم بمخالفة النفس والهوى ، والإقبال عليك بدوام الوفاء.
وقال حميد : فيما قضيته من المضار والمسار.
وقال بعضهم : أنعمت عليهم بالإقبال عليك ، والفهم عنك.
ويقال : طريق من أفنيتهم عنهم طاقتهم بك ؛ حتى لم يقفوا في الطريق ، ولم [... ] عنك خفايا المكر.
وقيل : صراط من أنعمت عليهم ؛ حتى يحرسوا من مكائد الشيطان ، ومغاليط النفوس ، ومخاييل الظنون.
ويقال : من طهرتهم من آثارهم ؛ حتى وصلوا إليك بك.
Page 25
ويقال : صراط من أنعمت عليهم بالنظر إليك ، والاستعانة بك ، والتبري من الحول والقوة ، وشهود ما سبق لهم من السعادة في سابق الاختيار والعلم ، بتوحدك فيما قضيته من المسار والمضار.
ويقال : أنعمت عليهم بحفظ الأدب في أوقات الخدمة ، واستشعار نعت الهيبة.
وقيل : صراط من أنعمت عليهم ، من تأدبوا بالخلوة عند غليات بوادي الحقائق ؛ حتى لم يخرجوا عن حد العلم ، ولم يخلوا بشيء من أمر الهيبة ، ولم يصنعوا من أحكام العبودية عند ظهور سلطان الحقيقة .
وقيل : صراط من أنعمت عليهم ؛ بل حفظت عليهم آداب الشريعة وأحكامها الشرع.
وقيل : صراط من أنعمت عليهم ؛ حتى لم تطفيء شموس معارفهم ، أنوار ورعهم ، ولم يضيفوا من أحكام العبودية عند ظهور سلطان الحقيقة.
قوله تعالى : ( غير المغضوب عليهم ) يعني : المطرودين عن باب العبودية.
وقال أبو عثمان : الذين غضبت عليهم وخذلتهم ، ولم تحفظ قلوبهم ؛ حتى تهودوا وتنصروا.
وقال الأستاذ : الذين صدمتهم هوازم الخذلان ، وأدركتهم مصائب الحرمان.
قال أبو العباس الدينوري : وكلتهم إلى حولهم وقوتهم ، وعريتهم من حولك وقوتك.
وقيل : هم الذين لحقهم ذل الهوان ، وأصابهم سوء الخسران ، وشغلوا في الحلال ، باجتلاب الحظوظ ، وهو في التحقيق مكر ، ويحسبون أنهم على شيء ، وللحق في شقاوتهم سر ، ولا الضالين عن شهود سابق الاختيار ، وجريان تصاريف الأقدار.
( ولا الضالين ) يعني : المفلسين عن نفائس المعرفة.
وأيضا غير المغضوب عليهم بالمكر والاستدراج ، ولا الضالين عن أنوار السبل والمنهاج.
وأيضا غير المغضوب عليهم بالحجاب ، ولا الضالين عن رؤية المآب.
وأيضا غير المغضوب عليهم بالانفصال ، ولا الضالين عن الوصال.
وقال ابن عطاء : غير المخذولين والمطرودين والمهانين ، الذين ضلوا عن الطريق الحق.
وقيل : غير المغضوب عليهم في طريق الهلكى ، ولا الضالين عن طريق الهدى لاتباع الهوى (1).
Page 26
وأما في قوله : آمين أي : استدعاء العارفين مزيد القربة مع استقامة المعرفة من رب العالمين ، والافتقار إلى الله بنعت الأنظار ؛ لاقتباس الأنوار.
وأيضا قاصدين إلى الله بمراتب النوعية والرهبة.
وقال ابن عطاء أي : كذلك فافعل ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
وقال جعفر : «آمين» : قاصدين نحوك ، وأنت أعز من أن تخيب قاصدا.
سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
( الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5) إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7) ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9))
( الم ) (1) معناه : أن «الألف» : إشارة إلى وحدانية الذات ، و «اللام» : إشارة إلى أزلية الصفات ، و «الميم» : إشارة إلى ملكه في إظهار الآيات.
«بالألف» : أخبر عن فردانية الذات ، و «باللام» : أخبر عن سرمدية الصفات ،
Page 27
و «بالميم» : أخبر عن سلطانيته في إظهار الآيات.
و «الألف» : سر الذات ، و «اللام» : سر الصفات ، و «الميم» : سر القدم في ظهور الآيات. أما «سر الذات» : فلا ينكشف إلا بوحدانية الذات ، و «سر الصفات» : لا ينكشف إلا لمن اتخذ صفاته بالصفات ، و «سر القدم» : لا ينكشف إلا لمن خرج من الآيات.
تجلى بالألف لأرواح الأنبياء من سر ذاته ، فأفتاها عن البشريات ، وكساها من أنوار الذات ، فخصائصهم في ذلك إظهار المعجزات ، وتجلي باللام لقلوب العارفين عن سر صفاته ، فأفناها عن الكدورات ، وألبسها من سناء الصفات ، فكرامتهم في ذلك ، إظهار الشطحيات ، وتجلي بالميم لعقول الأولياء من سر قدمه ، فأفناها عن الشهوات ، وأنوارها صفاء القدرة بوسائط الآيات ، فشرفهم في ذلك ، إظهار الكرامات.
وقال جعفر الصادق : ( الم ): رمز وإشارة بينه ، وبين حبيبه عليه السلام أراد ألا يطلع عليه أحد سواهما ، أخرجه بحروف بعيدة عن درك الأغيار ، وفهم السر بينهما لا غير.
وقال بعضهم : إن الله خص حبيبه صلى الله عليه وسلم بهذه الأحرف ، والمتقي الذي وصفه الله تعالى : هو الذي عزل عن الأكوان والحدثان ؛ تورعا عن إغواء الشيطان ، وتخلقا بخلق الرحمن.
وقال أبو يزيد : المتقي من إذا قال ، قال : الله ، وإذا عمل ، عمل الله.
وقال الداراني : الذين نزع من قلوبهم حب الشهوات.
وقيل : المتقي من اتقى رؤية تقواه ، ولم يستند إلى تقواه ، ولم يرنجاته ؛ إلا بفضل مولاه.
وقال سهل : إذا كان هو الهادي ، فمن يضل في ذلك الطريق ؛ إلا من سلكه على التجارب لا على العارف ، فيصده عن مقصده بشؤم تدبيره ، ويهلكه ولو في آخر القدم.
( الذين يؤمنون بالغيب ): ما غاب عن الأبصار ، منكشفا بنعت الأنوار لعيون الأسرار.
و «الإيمان بالغيب» : هو تفرس الروح بنور اليقين مشاهدة الحق سبحانه وتعالى ، و «الإيمان بالغيب» : شوق القلب إلى لقاء الرب.
وأيضا «الإيمان» : تصديق السر ما أبصرت الروح من مكنون حقائق الغيب بنعت مباشرة حلاوة انكشاف نور الحق في صميم سر السر ، واتصاله بروقة بطنان القلب ، وتعريفه أوصاف صفات الحق عقل الكل.
وأيضا «الإيمان» : تصديق القلب بوجدان الروح رؤية الرب جل وعلا ، و «المؤمنون» : هم الذين صدقوا مواعيد الغيوب بعد إدراكهم مواجيد قلوبهم من رؤيتها ، ومواجيد قلوبهم
Page 28
لا تكون إلا من رؤية أبصار بصائرهم أنوار غيب الغيب ، وترائي الغيب لا يكون للروح الناطقة ؛ إلا بعد أن يؤيدها الحق بتبيين البراهين ، واستكشافه حقائق الاستدلال ، بشهود الحال رؤية المدلول ، واستحكام أنوار البصيرة ، فإذا كملت هذه الأوصاف للروح ، أبصرت صفاء صحارى الغيب ، وتمكنت تحت ركوم أنوار اليقين ، وسناء قدس الحق ، بنعت بروزه في لباس حق اليقين ، وحقيقة حق اليقين لا تحصل بالتحقيق ؛ إلا بعد انسلاخ السر عن الاستشهاد والاستدلال.
فإذا فرغ منها أوصله التأييد إلى مراتب الكشوف ، وإيضاح الفرقان ، وأورده لصدق تحقيق رؤية الغيب ، ساحات استبصار عيون النفوس ، واستغنائه بما أنس من عجائب جلال المشهود من سيرانه في عالم الشواهد.
وإذا عاين مكشوفات الغيب ببصر العرفان ، دخل في جوف إيواء عز الحق ، وإغناء الحق بلوائح البيان عن طلب المشاهدة ، بالفكر في الحدثان.
وتطلع له شموس أسرار أنوار القدم ، وتخلصه بجمالها عن اقتباس مصابيح البراهين.
وإذا برق السر بهذه المعاني ، أشرق له حق الغيب بأوصافه ، فصار السر والغيب متحدين ، ويكون السر غيبا بعينه ، والغيب سرا بعينه ، فيغيب السر في الغيب ، والغيب في السر.
وتحصيل هذا العلم أن : الغيب يصير أهلا للسر ، لا يحوي فوءه عنه أبدا ، وصاحبه في كل حال شاهد المشاهدة يرى في جميع الأنفاس عالم الملكوت ، وعالم الجبروت ، وهذه صفة قلب محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال الشبلي : لما صفت أرواحهم ، وأشرفت همومهم ، أشرفوا على أسرار الغيب بعظم أمانيهم.
وقال بعضهم : الذين تصدق نفوسهم أرواحهم ؛ بما أدت إليهم من خير ما شاهدته قلوبهم ، بما غيب عن نفوسهم.
( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت
Page 29
تجارتهم وما كانوا مهتدين (16) مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17))
وقال أبو بكر بن طاهر : أشار الحق إلى إخلاص عباده المخلصين ؛ بأنهم بذلوا لمحبوبهم قلوبهم بالإيمان بالغيب ، وبذلوا له نفوسهم بالخدمة والعبودية ، بقوله سبحانه وتعالى : ( ويقيمون الصلاة )، وبذلوا له ما ملكهم ، فلم يبخلوا عليه بشيء من ذلك ، علما بأنها عوار في أيديهم ، وهو تعالى المالك لها ولهم على الحقيقة ، بقوله : ( ومما رزقناهم ينفقون ).
بأنها أسباب الوصول الحق كلا ( في قلوبهم مرض ) أي : رعونة تشغلها قبول الحق ، وتلهيها بقبول الخلق.
وأيضا أي : غفلة عن ذكر العقبي ، وهمة مشغولة بحب الدنيا ( فزادهم الله مرضا ) بتبعيدهم من قربه ، وتشغيلهم عن ذكره.
وقيل : ( في قلوبهم مرض ): بخلوها من العصمة والتوفيق والرعاية.
وقال بعضهم : بميلهم إلى نفوسهم ، وتعظيم طاعتهم عندهم ، ومن مال إلى شيء عمي عن غيبه ، فزادهم الله مرضا ؛ بأن حسن عندهم قبائحهم ، فافتخروا بها.
وقال سهل : «المرض» : الرياء والعجب وقلة الإخلاص ، وذلك مرض لا يداوى إلا بالجوع والتقطع.
وقال أيضا : «مرض» : بقلة المعرفة بنعم الله تعالى ، والقعود عن القيام بشكرها ، والغفلة عنها ، وهذا مرض القلب الذي ربما يتعدى.
( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) أي : لا تنكروا أولياء الله ، ولا تشوشوا قلوب المريدين ، بغيبة شيوخهم عندهم ، ولا تلقوهم إلى تهلكة الفراق ، وقنطرة النفاق.
وأيضا لا تخربوا مزارع الإيمان في قلوبكم ، بالركون إلى الدنيا ولذاتها.
أما قولهم : ( إنما نحن مصلحون ): فأوقعهم الله في شر الاستدراج ، وحجبهم عن إصلاح المنهاج ، فرأوا مساوءهم المحاسن ، فاحتجبوا عن المعنى ، وخرجوا بالدعوى ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا في ترك نصيحة العلماء ، ومصادفة الأولياء ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ولكن لا يشعرون ).
وقيل : ( هم المفسدون ): بعصيان الناصحين لهم ، ( ولكن لا يشعرون )؛ لأنهم محجوبون عن طرق الإنابة والهداية.
( الله يستهزئ بهم ) أي : يتركهم على ما هم عليه ، ولا يهديهم إليه.
Page 30