وعند هذا المنعطف من سياق الحديث، نقف وقفة قصيرة نؤكد فيها سمة من أبرز ما يميز النمط العربي في رؤيته الثقافية العامة من سمات، وهي قدرته على الجمع بنظرة واحدة بين الجانبين؛ العلمي والصوفي، فإذا استعرضنا الأنماط الثقافية الكبرى التي عرفها التاريخ (قد تكون ظروف عصرنا قد أزالت كثيرا من الفواصل بين تلك الأنماط) وجدنا ثقافة الشرق الأقصى تجنح بميولها نحو الرؤية الصوفية لما يدركونه من الأشياء والمواقف، والرؤية الصوفية هي إدراك مباشر بالبصيرة، أو بالقلب، كما نقول أحيانا؛ أي إنها «تتذوق» الحقيقة ولا تحتاج في إثباته إلى أدلة العقل؛ ومن ثم تضخم دور «الفن» في حياتهم، وكادت «الخبرة» الذاتية أن تكون هي السند القوي الذي يركن إليه أئمة العقيدة فيهم. وأما أوروبا فقد غلب عليها نمط «العقل» في تدليله وتحليله، كما هو واضح في التراث اليوناني. وبين هذين الطرفين قام نمط ثقافي ثالث، هو النمط العربي، الذي دمج دمجا فريدا بين حياة العقل وحياة القلب، بحيث ترى «العالم» وكأنه يتحرك مع خطوات عقله على خلفية مؤمنة، كما ترى «المتدين» يتحرك مع نبضات إيمانه وكأنه يبطن خلفية عقلية.
وعلى مثل هذا الدمج بين الجانبين قام البنيان الثقافي وما يصاحبه حتما من «رؤية» عامة إلى الحياة الإنسانية وأوضاعها. وإذا لخصنا الإطار الهيكلي الذي تستند إليه هذه الرؤية قلنا إنه مؤلف من «نص» مسلم بصوابه - ثم عملية عقلية منطقية تستنبط من هذا النص نتائجه وأحكامه، فإذا وقف الدارس عند «النص» كن بمثابة من اكتفى بما يطمئن له القلب، وإذا انتقل من النص إلى ما يلزم عنه، كان بمثابة من أضاف عقلا إلى قلب، فاكتمل على يديه الإطار. ولست أريد هنا أن أقصر «النص» على النصوص الدينية وحدها، بل أوسع المعنى ليشمل أي شيء آخر مما وجدناه بين أيدينا من أقوال القدماء أو المحدثين؛ فالذي يهمنا الآن هو تصوير اللفتة الثقافية التي تتميز بها الوقفة العربية.
فلما عاشت الدنيا بشرقها وبغربها عصرا - أو عصورا - تعتمد فيها من الناحية الثقافية على «نصوص» وما يستخرج منها، كان للأمة العربية السبق والريادة؛ لأنها وجدت نفسها في ظروف تتلاءم مع فطرتها الأولى. وقد بينا لك - فيما ذكرناه - أن تلك الفطرة الأولى قد انبثقت من لانهائية الصحراء وثباتها - والصحراء هي البيت العربي الكبير - فأصبح النموذج المتبقي هو أن يضع العربي بين يديه، بادئ ذي بدء - حقيقة كبرى تكون منه في موضع التسليم - ثم يجيء بعد ذلك إعماله لعقله فيما قد وضعه بين يديه. ولعلنا نجد الشبه قريبا بين هذه الوقفة الإدراكية عنده، وبين النظم الاجتماعية التي اختارها لحياته، وهي نظم - كالأسرة أو القبيلة - يشتد فيها التماسك بين أفرادها، حتى ليتطلب الأمر عادة أن يوكل الأمر إلى رب الأسرة وحده، أو إلى شيخ القبيلة دون أن يكون للفرد الواحد حق المراجعة فيما قضى به صاحب الأمر؛ فرأس النظام هنا يقابل الحقيقة الكبرى التي توضع موضع التسليم في الحياة الفكرية، ومسالك الأفراد حين يوجهها رئيس الجماعة تشبه النتائج التي تلزم بالضرورة عن المقدمة الكبرى في عالم التفكير.
وإني لأخشى في هذه المناسبة أن يختلط الأمر على قارئ دارس، فيسأل: ألم يكن الفكر اليوناني القديم قائما - عند كل مفكر على حدة - على «مبدأ» عام يعطيه المفكر مكان الصدارة من بنائه الفكري، ليقيس إليه الفروع صوابا وخطأ؟ فلماذا لم تحدث - تلك المبادئ هناك تشكيلا اجتماعيا - أو نظريا - مثل ما أحدثته ما أسميته بالحقيقة الكبرى في الموقف العربي؟ والإجابة على ذلك هي أن «المبدأ» هناك كان من اختيار صاحبه بحيث جاز لأي مفكر آخر أن ينصرف عنه ليتخذ لنفسه مبدأ آخر. وأما الحقيقة الكبرى، في النمط العربي، فقد جاءت إلى الإنسان معطاة من طبيعة المكان أولا، ومؤيدة بالوحي الديني ثانيا، فلا اختلاف عليها بين مفكر ومفكر.
ولو بقي العربي ملتزما بما أثرت به طبيعة المكان وما أيده وحي الأديان لأضاف في حياته الفكرية إلى «النص» المكتوب، متخذا إياه نقطة ابتداء لعملياته العقلية، نقطة ابتداء أخرى تسير مع النص المكتوب مسايرة التوائم، وأعني بها كتاب «الكون» في ظواهره وأحداثه. وإذن تكون «القراءة» التي أمرت بها الآيات القرآنية الكريمة، والتي كانت أول ما نزل به جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام، أقول إن القراءة تصبح قراءتين؛ قراءة «الكلمة» وقراءة «المخلوق»، فأما الأولى فطريقها - كما ذكرنا - هو أن نضع «النص» المكتوب في موضع الصدارة ثم نستولد مضمونه وفحواه. وأما الثانية فطريقها أن نسلط النظر على ظواهر الطبيعة كما تقع على البصر والسمع، محاولين استخراج قانونها الذي تسير بمقتضاه. ولقد كانت هذه القراءة الثانية متروكة - أو تكاد - في كل ما سبق به التاريخ قديمه ووسيطه، وكان مقسوما لغيرنا أن يلتفت إليها منذ أربعة قرون، فيقفز بتلك اللفتة قفزة جاوز بها عنان السماء (والعنان هو السحاب). ووقف العربي عند قراءة واحدة تنصب على الكلمة المكتوبة المقروءة، وهو المجال الفكري الذي بلغ فيه مكان الريادة حين لم تكن قد أضافت إليه مصدرا آخر. ولو سار العربي فيما أمره دينه أن يسير فيه لأمكن أن تستمر له ريادته. على أنه لا يجوز لنا أن نسهو في هذه المناسبة عن الإشارة إلى فرق هام بين العربي القديم إبان مجده الإبداعي في القرون الأولى من تاريخه الإسلامي وبين العربي الجديد الذي كتب عليه أن يعايش حضارة علمية لا يشارك في بنائها ويستهلك إنتاجها. وذلك الفرق الذي نقصد إليه هو أن العربي القديم؛ وإن يكن ظهوره في التاريخ قد سبق ظهور العلوم الطبيعية ظهورا يجعل لها السيادة في التوجه الحضاري؛ إلا أن هنالك من ميادين البحث العلمي التي جال فيها العقل العربي عند آبائنا الأولين، ما يقتضي من المعالم وقفة شبيهة جد الشبه بوقفة العالم الباحث في ظواهر الطبيعة، برغم أن مادة تلك الميادين مؤلفة من كلمات وليست مؤلفة من «أشياء»؛ فعلماء «اللغة» - مثلا - إذ يصبون طاقتهم الفعلية على المادة اللغوية ليستخرجوا، ما كمن فيها من قوانين يشبهون عالم الطبيعة وهو يصب طاقته العلمية على ظاهرة من ظواهر الطبيعة كالضوء أو تكوين الجسم وطرق علاجه إذا مرض وهكذا؛ لأن «اللغة» حين تؤخذ مأخذ التحليل والتعليل واستخراج القواعد، فهي إنما تؤخذ مأخذ أية ظاهرة أخرى من ظواهر الدنيا. إذن فأمرها في هذه الحالة يكون شبيها بأمر «المقدمات» التي يضعها باحث بين يديه لينحصر كل جهده العلمي بعد ذلك في توليد النتائج التي تترتب على تلك المقدمات. ومعنى ذلك هو أنه يمكن القول عن العربي الأول، أنه كان ينهج النهجين معا، لكل نهج منهما ميادينه؛ منهج توليد النتائج من مقدمات تؤخذ مأخذ التسليم. ومنهج تناول موضوع شيء خارجي تناولا مباشرا، كما يتناول علماء الطبيعة ظواهر الطبيعة في بحوثهم العلمية، إلا أن منهج التوليد كان - بطبيعة الحال - أكثر شيوعا.
وعلى ضوء هذا الذي أسلفناه، فلننظر إلى العربي في موقفه الراهن لنرى كم وضحت رؤيته وكم غامت؟ مع التذكر بأن «رؤية» الإنسان في موقفه من الحياة يتوافر لها وضوحها إذا كان على وعي شديد بتفصيلات «الهدف» الذي يسعى إلى بلوغه سعيا يلائم إطاره الثقافي الذي يصون به هويته التاريخية. وانظر إلى مختلف الشعوب الغربية التي تقوم مجتمعة بإقامة البنيان الحضاري في عصرنا تجد لكل شعب منها ما ينفرد به تحقيقا لهويته، برغم اشتراكهم جميعا في إقامة البنيان، مما يوضح لنا فكرة «الرؤية الثقافية» التي لا غناء عنها إذا أراد الإنسان أن يتحضر وأن يصون كرامة نفسه في آن معا.
وأول ما نلحظه عن العربي في هذا العصر أمران؛ الأمر الأول هو أنه يأخذ من حضارة العصر - ولا يعطيها - كأنه سقط من حساب البناة المبدعين. والأمر الثاني هو أنه لم يعد على بينة من حقيقة الجوهر الذي يجعل من العربي عربيا، وفي هذه الغيبوبة فقد الحس الذي يميز به ما يأخذ وما يدع بحيث تبقى له عروبته غير مشوبة بشائبة تطمس معالمها فتعمرها في غمرة النكرة المجهول! فأما عن الأمر الأول وهو أنه قد أصبح يأخذ من حضارة عصره ولا يعطيها وهو موقف سلبي نقفه للمرة الأولى في تاريخنا. وإذا أقول ذلك فإنما أضع في اعتباري الوطن العربي في شموله؛ لأن أجزاءه قد تفاوتت جزءا عن جزء في نصيبها من الإبداع الحضاري كلما نشأت على وجه الأرض حضارة جديدة، فإذا خصصت القول هنا لأجعل مصر مداره، ازددت يقينا بصدق ما أقوله، وهو أنها للمرة الأولى في تاريخها، ظهرت فيها للناس حضارة، فرضيت لنفسها ألا تكون في صفوفها الأولى. ولقد كان لكل حضارة من كبريات الحضارات التي أقامها الإنسان، مدار خاص ومذاق متميز؛ فبعد أن انفردت مصر وحدها - أو كادت - بالإبداع الحضاري الكبير الخالد لعدة آلاف من السنين، أخذت ألوان حضارية أخرى تتوالى في الظهور. وإن القارئ ليظلم نفسه ويشوه التاريخ، إذا مر مرور الكرام (كما يقولون) على عبارة «عدة آلاف من السنين»؛ لأنه إن فعل كان كمن يسوي بين جبل الهملايا في شموخه الجبار وكومة من رمال لا ترتفع عن قامة فرد واحد من الناس؛ فلعدة آلاف من السنين «وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي» (كما قال حافظ إبراهيم). أقول إنه بعد ذلك الإبداع الفني الجبار، ظهرت حضارة اليونان ولمعت ثقافة أثينا، لكنها في ذلك أخذت بعض مددها من مصر، ثم لم تكد تمتد بضع مئات من السنين (ولا نقول «آلاف» السنين كما قلنا عن مصر) حتى خبا مصباحها لتسرع مصر عندئذ إلى حمل الشعلة الجديدة، فتقيم في الإسكندرية بديلا للمصباح الخابي منارة من العلم والفلسفة وغيرهما من فروع الثقافة. وجاءت حضارة الرومان، فما هي إلا أن وجدت من الإسكندرية ندا عنيدا لروما. وفي غضون العهد الروماني ظهرت المسيحية، فاضطلعت مصر بدورها العظيم بدءا من احتماء العائلة المقدسة بحماها، ومرورا باحتضان العقيدة الجديدة ورعايتها في وجه الوثنية الرومانية. وكانت مصر هي أول من أقام الأديرة في التاريخ المسيحي، ومن الإسكندرية عبرت الديانة إلى روما ثم أفرزت مصر الكنيسة القبطية. وظهر الإسلام فآمنت مصر بالإسلام دينا، وبالعروبة لغة، وما كانت لتفعل هذا بتلك السرعة وذلك الشمول لولا أن لديها من ثقافتها ما يتقبل الدين الجديد واللغة الجديدة في يسر شديد. وما إن أسلمت مصر، وجرى لسانها بالعربية حتى صارت في بناء الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية رائدة.
هكذا تتابعت الحضارات والثقافات، فكان العربي فيها جميعا مبدعا أصيلا أو آخذا من إبداع غيره ليعطيه كما أخذ، إلا هذه الحضارة العلمية الأخيرة؛ فقد اختار لنفسه فيها موقف من يأخذ ولا يعطي، فهل وجد في جوهر عروبته ما يرفض «العلم» الطبيعي الذي هو من حضارة عصرنا عمودها الفقري؟ لماذا يميل عامة جمهورنا إلى السخرية بقدرة العقل الإنساني، وما ينتج عنه من علوم تبحث في «مادة» الكون لتستخرج قوانينها، تلك القوانين التي على أساسها قامت مخترعات لم تكن في مستطاع الخيال أن يتصور قيامها؟ نعم، إن لنا مدارس ومعاهد وجامعات أصبحت تعد بالآلاف لا بالمئات، وفي كل قاعة من قاعاتها يرن صوت العلم الجديد، لكننا نتلقى هذا كله بغير إيمان، فنخرج منه بلمسة من أطراف الأصابع؛ فقد نستخدمه وسيلة لكسب العيش، ولكننا سرعان ما نرتد إلى موقف الرفض الذي يقفه سواء الجمهور بتوجيه ممن يملكون أدوات التوجيه، فلا غرابة أن نبقى في عصرنا غرباء نقطف منه ثماره التي أنبتها بناة العصر، ثم نتنكر له؛ ومن ثم كان الأخذ ولم يكن العطاء.
ذلك عن الأمر الأول. وأما الأمر الثاني الذي هو بمثابة التعليل الذي يفسر لنا الأمر الأول، فهو ما نلحظه من غيبوبة العربي عن حقيقة جوهره، ولو وعاها لاهتدى.
فلئن كان الطابع السائد في حياة الأمريكي هو أن يبحث عن الفكرة التي تلد النتائج العاملة على استثمار الطبيعة وظواهرها، والطابع السائد في حياة الإنجليزي أن يجعل مداره هو حواسه في الحكم على المواقف العملية بالصواب أو بالخطأ، موحدا في ذلك بين الحواس والعقل، بمعنى أن ما تدركه الحواس هو المادة الخامة التي تصنع فيها مدركات العقل. والمدرك العقلي لا يقبل إلا إذا شهدت الحواس على صوابه. والطابع العام في حياة الفرنسي هو العودة بالفكرة المراد الحكم عليها إلى أصولها العقلية التي نبتت منها. والطابع العام في حياة الروسي والصيني هو أن تؤخذ الفكرة التي يصلح بها المجموع بغض النظر عما يصيب الأفراد من نفع أو ضرر. والطابع العام في حياة الياباني هو محاولة الجمع بين المستوى الذي يصلح به المجموع والمستوى الذي يشيع الخصوصية للفرد في أسرته وهكذا (وهذه الأحكام العامة كلها إنما سيقت على سبيل التقريب لا على سبيل الدقة). أقول إنه إذا أمكن العثور في حياة تلك الأمم على طابع عام يميز كل أمة منها بما تختص به حتى لو شاركت سائر الأمم في التيار العصري الشامل، فقد كان الأولى أن نجد للأمة العربية في حاضرها ذلك الطابع العام الذي يميزها لأنها أعمق من معظم الأمثلة التي ذكرناها ضربا بجذورها إلى ماض بعيد.
Page inconnue