مقدمة
لقد أتيحت لمؤلف هذا الكتاب حياة ثقافية امتدت به منذ شبابه الباكر حتى انتصف العقد التاسع من عمره، ولبثت طوال هذه السنين مفتوحة النوافذ على الثقافة الغربية والثقافة العربية معا. إلا أن أسلوب التلقي لهاتين الثقافتين قد اختلف مرحلة بعد مرحلة من مراحل العمر؛ فلفترة طويلة ظلت الثقافة الغربية وحدها تقريبا هي التي تقدم في صيغة دراسية منظمة بحكم دراستها في المدارس. وكانت الثقافة العربية عندئذ تسايرها جنبا إلى جنب من باب الهواية الحرة؛ إذ تعلق المؤلف وهو بعد في غض شبابه بقراءة ما وقعت عليه يداه من التراث الأدبي العربي، ودواوين الشعراء بصفة خاصة، وكان يجد في ذلك متعة شديدة لما انطوت عليه فطرته من ميل إلى الذوق الفني عموما، والفن الأدبي خصوصا.
فلما انتصف به العمر، كان قد حصل في الجانب الغربي من ثقافته على قدر كبير، منه ما كان مدروسا في معاهد التعليم ومنه ما كان مقروءا في مطالعاته الخاصة، كما قد حصل من الجانب العربي في تكوينه الثقافي قدرا كبيرا جاء معظمه عن طريق الميول الخاصة والجهود الذاتية - إذا صح هذا التعبير - ومنذ ذلك الحين أخذ شيء من القلق يساوره لما أحسه من عرج في بنائه الثقافي، خصوصا وأن محصوله من ثقافة الغرب كان يدعمه سند قوي من حضارة عصرية تقوم على أساسه، وتبرهن بذلك على مدى صلاحيته في عالم التطبيق في حين أن محصوله من التراث الثقافي المأثور عن أسلافه لم يعد ينعكس منه شيء يذكر في الحياة الحضارية كما يعرفها هذا العصر، وإنما يستند على سند حضاري ذهب زمانه، فانكب انكبابا على ذلك التراث، ما كان قد حصده منه مضافا إلى ما أخذ سبيله إلى حصده، محاولا أن ينفذ إلى جوهره ومحوره لتصبح المقارنة ممكنة بينه وبين ما كان يعرف عن جوهر هذا العصر ومحوره، لعله يلتمس بين الجانبين موقفا يحقق الحفاظ على الجوهر الأول، والدخول في قلب الجوهر الثاني في صيغة واحدة، إذا وجدها كانت خير ما يقدمه إلى أبناء الجيل الجديد من شباب المثقفين، وقد يجدون فيه ما يستحق النظر.
ولئن كانت هذه المحاولة الساعية إلى إيجاد تلك الصيغة الثقافية للمواطن العربي الجديد قد غلبت على جميع ما اتجه إليه فكره وقلمه منذ سنة 1960م، فإن هذا الكتاب الذي أقدمه بين يدي القارئ، قد احتوى على جهد مكثف في هذا السبيل، يصطبغ بلون خاص إذا قورن بغيره من الجهود السابقة؛ إذ اختار المؤلف مجموعة من الزوايا التي تصلح للإطلال منها على مواضع اختلاف جذرية بين الثقافتين أدت إلى مذاقين مختلفين لحياة الإنسان. وذلك تمهيدا للنظر من جديد نظرة فاحصة؛ فربما تبين أن ما حسبناه اختلافا يضرب إلى الجذور ويستحيل على المصالحة والتوفيق، إنما هو في حقيقته أكثر مرونة مما حسبنا، بحيث يصبح في حدود المستطاع أن نقترح صيغة تجمع الطرفين دون تضحية بما هو أساسي وجوهري في كل من الطرفين.
فاختار المؤلف أول ما اختار، فكرة «المبادئ» لعمق موضعها من البنيان الثقافي؛ فالمبادئ عند العربي حقائق لا تقبل الجدل، ومنها يبدأ الإنسان ليبني عليها ما يتلاءم مع طبيعتها؛ ومن ثم يتحقق عنصر الدوام في المناخ الثقافي العربي، وأما أبناء الغرب من أهل هذا العصر العلمي بصفة خاصة، فقد أخذوا ينظرون إلى «المبادئ» من حيث هي فروض، يعتمد بقاؤها على نجاح النتائج المتولدة عنها ، فيصبح سؤالنا إزاء هذين الموقفين هو: هل هنالك ما يمكن تعديله في النظرة العربية حتى لا يتورط العربي في ثبات يؤدي به إلى ضعف وعجز، مبقيا على ثبات الجانب الذي لا بد من بقائه، ولأنه في الوقت نفسه سبيل إلى قدرة وقوة؟ وكان الجواب بالإيجاب؛ إذ ليس هنالك ما يمنع التفرقة بين مبادئ تتصل بالعقيدة فتبقى ومبادئ أخرى من صنع الإنسان فتخضع للتغيير إذا كان ازدهار الحياة يقتضي ذلك التغيير.
وكانت الزاوية الثانية التي نظر منها المؤلف إلى كلتا الثقافتين، هي زاوية النظر العلمي إلى أوضاع الحياة بحيث تكون الكلمة الفاصلة للعلم وما يقرره، فهذا العصر القائم هو عصر علم في المقام الأول، ليس فقط بمعناه الذي عرفه الأقدمون من عرب وغير عرب، وأعني توليد النتائج استدلالا صحيحا من نصوص بين أيدينا، بل إن علم هذا العصر قد اتجه بصفة أساسية نحو ظواهر الكون لاستخراج قوانينها، وبالكشف عن قوانين ظاهرة معينة يصبح الإنسان قادرا على تسخيرها؛ ومن هنا جاءت هذه القدرة الهائلة التي سيطر بها أصحاب الحضارة العصرية على ظواهر الطبيعة على نحو ما نرى، وواضح أن العربي في عصرنا لم يضف إلى الحياة العلمية في صورتها الجديدة شيئا. واكتفى بالحصول على ما ينتج عنها جاهزا وبلا عناء؛ مما دفع كثيرين منا إلى التهكم على العلم الجديد، واتهامه بأنه حصرم مر لا يغري على السعي في سبيله، وذلك من قبيل الشعور بالعجز والرغبة في الدفاع عن النفس. لكن المؤلف يسأل جادا: هل في تراثنا الفكري ما يمنع العربي عن المشاركة في جهود العلم الجديد؟ ثم يأخذ المؤلف في تحليلات مفصلة مستفيضة بطريقة التفكير التي مارسها العربي في شتى ميادين الحياة ليرى كيف نشأت وبماذا تميزت؟ فيجد أن من أهم ما يميز العربي استناده إلى حقيقة كبرى مجردة إلى أقصى درجات التجريد ثم يستولد نتائجها، وهو موقف نراه متمثلا عند العربي في حياته العلمية وفي حياته الدينية معا، ثم هو موقف تشربه من طبيعة بيئته الصحراوية من جهة ومن عقيدة التوحيد في مجال الدين من جهة أخرى، وإذا كان ذلك كذلك فلن يتعذر على العربي - إذا صحت عزيمته - أن تطور هذه الوقفة الاستدلالية بحيث يضيف إليها فرعا يقام فيه الاستدلال على أساس ما قد حصلته المشاهدات من خصائص الظواهر، وهذا هو نفسه ما فعلته أوروبا في نهضتها حين أضافت إلى صورة العلم القديم صورة جديدة تواجه ظواهر الكون مواجهة مباشرة، والمهم هنا هو أن منطق العقل قد لازم العربي، مجدولا مع حياة وجدانية تستغني عن ذلك المنطق، منذ عرفته الدنيا وعرفها، فلا هو كمن استغرقه الوجدان كما استغرق أمما أخرى في الشرق الأقصى، ولا هو كمن كاد يستغرقه منطق العقل كما فعل مع أمم أخرى في الغرب.
على هذا النحو أخذ مؤلف الكتاب ينتقل مع أطراف المشكلة طرفا بعد طرف، وقد رأى أن يقدم إلى القارئ في الفصل الأخير بقسميه «صورة مصغرة» يلخص فيها تسلسل الخطوات الفكرية التي سار بها في أحاديثه المسهبة المليئة بتفصيلاتها.
وبالله التوفيق.
يناير 1990م
زكي نجيب محمود
Page inconnue