وليس فينا اليوم من رجال الصنف الأول أكثر من أشباه باهتة. وأما الكثرة الغالبة اليوم فتندرج في الصنف الثاني، فتركنا حياتنا تتعثر في مشكلاتها الفكرية على غير هدى، ومع ذلك فقد خفيت عن أعيننا هذه الصورة على حقيقتها، في ضجة الطبول التي تصم الآذان، والتي أرادت لنا أن ننظر إلى عظماء أعلامنا في عالم الفكر - وإنهم في الحق لأعلام، وإنهم لعظماء - أرادوا لنا أن ننظر إليهم بعين واحدة، هي العين التي ترى الفكر مصبوبا على فكر الآخرين، فتحسبه فكرا قد اكتملت قوائمه. ولو نظرنا بالعين الثانية، لانكشف لنا جانب النقص وربما أكملناه؛ فليس مما يخدم العزة الوطنية أن نخدع أنفسنا عن الحق، والحق هو أن معظم رجال الفكر في القرن العشرين، قد طاروا بنا في سماء الحياة الثقافية بجناح واحد، وتركوا الجناح الآخر مهيضا.
2 - ما الذي ينقص الأمة العربية؟ (سألت نفسي). - ينقصها أن تكون أمة، وأن تكون عربية (هكذا جاءني الجواب). - ومتى تكون وكيف؟ - جواب ذلك طويل ولكنه قريب المنال، فأما عن «الأمة» متى تكون كذلك، فلا يلزمنا للرد الواضح إلا أن نتلفت حولنا لنتعقب أمما كثيرة حديثة النشأة، ولكنها على حداثتها بلغت من القوة ما بلغت؛ فربما أعانتنا حداثة نشأتها على رؤية العوامل التي تسارع بمجموعة الأفراد إلى التماسك في إطار اجتماعي واحد، وكأن حداثة نشأتها هذه ستجعلها بمثابة مخبار معملي من مخابير العلماء، يضعون فيه المادة المراد فحصها، ثم يرقبونها ليروا كيف تتغير وتتطور وتكتسب خصائص جديدة بتفاعل عناصرها، فعنصر هنا يندمج مع عنصر هناك فيتحدان وكأنهما خلقا ليكون منهما كائن عضوي واحد، وعنصر هناك يتعارض مع عنصر هنا، فيفتت أحدهما الآخر أو يذيبه. وهكذا ننظر إلى الأمم حديثة التكوين فيسهل علينا رؤية نمائها أو فنائها، مما قد تتعذر رؤيته في الأمم ذوات التاريخ الطويل، التي تعاورتها فترات للصعود وفترات للهبوط على مدى آلاف السنين.
ففي القرون الثلاثة الأخيرة، نشأت وتطورت، ونمت الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلنده. وبالرغم من أن كل واحدة منها قد بدأت طريقها من الصفر، اللهم إلا ما حمله أفرادها في عقولهم وقلوبهم من ثقافات بلادهم الأصلية التي هاجروا منها إلى وطنهم الجديد. وبالرغم كذلك من تعدد العناصر التي جاءت إليها من أقطار مختلفة فحملت معها - بالتالي - ثقافات مختلفة، إلا أنها قد استطاعت في هذه الفترة القصيرة أن تصنع من أنفسها أمما متكاملة الكيان، فإذا سألنا: وكيف استطاعت؟ جاءنا الجواب مسرعا، وهو أن اتجه الجهد كله نحو تجميع الأفراد في كل أمة حول ثقافة متجانسة، ويضاف إلى هذا العنصر الجوهري، عنصر لا بد من قيامه لتسهيل عملية التوحيد الثقافي، وهو أن يجد الأفراد في ظروف حياتهم ما يعمل على نمائهم وازدهارهم؛ فنماء الفرد هو أقوى حافز له على الانتماء.
ولا يكفي - بالطبع - أن نشير إلى الوحدة الثقافية، من حيث هي العامل الجوهري في تماسك الأمة على الصورة العضوية التي تجعل منها أمة بالمعنى الصحيح، بل لا بد لنا من توضيح هذا العنصر المؤثر وتحليله، كما يحلل الكيماوي المادة إلى عناصرها الأساسية ليقول لنا - مثلا - إن الماء بكل ما تراه فيه من اتصال قطراته بعضها مع بعض وتجانس تلك القطرات حتى لتقع عيناك على كتلة الماء في البحر أو في النهر أو في كوب الماء تشرب ماءه. إنك لا ترى إلا سائلا سيالا تتعذر التفرقة فيه بين قطرة وقطرة، ومع ذلك يقول لنا الكيماوي بل إنه مؤلف من عنصرين مختلفين بنسبة معينة بينهما، تألفا دمجهما دمجا على نحو ما ترى، وهكذا الحال بالنسبة إلى ملايين الأفراد الذين هاجروا إلى تلك الأمم حديثة التكوين؛ فقد انقدحت لهم في حياتهم الجديدة شرارة صهرتهم في أمة واحدة على نحو ما انقدحت شرارة الكيمياوي في معمله فاندمجت ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين وتكونت من انصهارهما قطرة الماء. وأما الشرارة التي أحدثت الانصهار من مختلف الأفراد في أمة من الأمم الجديدة، فقد كانت - كما أسلفنا - «الوحدة الثقافية» وما أساسها؟ إن أساسها في تلك الأمم المستحدثة هو «القوة» يحققونها بالعلم والعمل، ليقهروا بهما الطبيعة أرضا، وبحرا، وهواء في جو السماء، وما بعد الغلاف الجوي إذا استطاعوا، وواحدية الهدف تستتبع حتما واحدية الاتجاه الذي تتجه فيه ضروب النشاط المختلفة؛ ومن هنا تنشأ الوحدة الثقافية التي أشرنا إليها. إن «العقل» يشهد و«التاريخ» يشهد معه مدى ما تؤثر به واحدية الهدف في وحدة الأمة وسرعة نمائها وازدياد قوتها وسلطانها. وللقوة ضروب وللسلطان دروب؛ فالقوة تكون في العلم وفي الثروة وفي الحرب، وفي استثمار البيئة استثمارا يخرج كنوزها نباتا وحيوانا ومعادن تجتمع كلها في اقتصاد قوي. وأما دروب السلطان فقد تنوعت مع الزمن ثلاثة أنواع اختلفت باختلاف المراحل الحضارية في حياة الإنسان؛ فبدأ الإنسان بأن بحث صاحب السلطة عن قوته في إخضاع بني وطنه واستعبادهم لصالح نفسه، وبهذا كانت الحرية عندئذ لفرد واحد، وإرادة واحدة، وعلى الجميع أن ينشطوا كل في طريقه، لكي يحققوا لذلك الفرد الواحد ما أراد. وتقدم الزمن وسلك الباحث عن السلطة دربا جديدا، فإذا كانوا بنو قومه قد استطاعوا أن يظفروا لأنفسهم بالحرية داخل أرضهم، فلماذا لا يتجهون جميعا حاكما ومحكوما نحو أقوام أخرى خارج حدود بلادهم ما زالوا يزحفون على طين الأرض ، لا يعرفون لأنفسهم قدرا ولا كرامة، وهناك يحقق الباحثون عن قوة السلطان ما يشتهون، فسكان الأرض المغزوة رقيقهم يفلحون لتثمر الأرض للسادة الحاكمين، ثم انتقل الزمن ببني آدم إلى مرحلة جديدة حين استعصى على أولئك الباحثين عن قوة السلطان، أن يطيلوا بقاءهم في أرض الرقيق، وذلك لأن رقيق الأمس قد صحوا من الغيبوبة وطالبوا بالتحرر، وأظفروا به ثم لم يعرفوا بعد التحرر كيف يصبحون «أحرارا»؛ وذلك لأن «الحرية» بمعناها الصحيح الواسع، هي الفهم بأسرار الطبيعة لقهرها فتزيد من قوة القاهر سلطانا على سلطان، وذلك هو عصرنا هذا كما تستطيع أن تراه إذا أرسلت البصر نافذا به إلى قلبه ونواته.
فالبشر في عصرنا مجموعتان؛ مجموعة وجهت عقولها إلى «الطبيعة» لتعرف سر الكهرباء والمغناطيس والجاذبية، ولتعرف كل ما استطاعت معرفته عن الضوء والصوت والهواء، وغير ذلك مما بلغ مسامعنا وما لم يبلغ. وأما المجموعة الثانية من البشر فقد «تحررت» حقا ممن كانوا حتى الأمس القريب غزاتها والممسكين بزمامها، لكنهم بعد أن أزيحت عنهم الأغلال والقيود، وحكموا أنفسهم بأنفسهم لم يعرفوا ماذا يفعلون، ولم يجدوا أمامهم إلا أن يمدوا أيديهم إلى أولئك الغزاة الذين أمسكوا ذات يوم برقابهم، يطلبون منهم فتاتا من موائدهم العلمية ليقتات عليها أبناء الذين «تحرروا» ويشترون منهم صنائعهم التي صنعوها هناك بعلومهم، ومع كل صناعة يجيء خبير منهم إما ليقيم، وإما ليعلم أهل البلد الذي اشترى الناتج الصناعي كيف يدار، فالأحرار حقا هم أصحاب العلم وما ترتب عليه، وأما «المتحررون» فما زالوا يمدون أذرع الحاجة والعوز، لا حول لهم إلا ما يتصدقون به عليهم ولا قوة لهم إلا بما يتلقونه من غزاة الأمس من سلاح الحرب وآلة السلم.
فأين نجد العلة؟ لماذا يظل أقوياء الأمس هم أقوياء اليوم، برغم ما تحرر به ضعيف الأمس، ولم يستطع بتحرره أن يبلغ من القوة ما أراد؟ إن علة ذلك مطروحة أمام أبصارنا إذا أردنا رؤيتها رأيناها، وخلاصتها هي أن علماءهم هناك ورجال الفكر منهم يصبون الجزء الأكبر من طاقتهم العقلية على «الأشياء » فيعرفونها، وهم بالمعرفة المكسوبة يملكون زمامها. وأما علماؤنا ورجال الفكر منا، فيتجهون بجهدهم نحو «أقوال» كتبها أصحابها، فعالمنا هو من درس ذلك المكتوب، ومفكرنا هو من وجه فكره نحو فكر سواه، سواء أكان ذلك السوى من السالفين أم كان من المحدثين أو المعاصرين.
فالأمر - إذن - هو - في المقام الأول - أمر تربية وتعليم يعملان على توجيه الناشئ، نحو «الشيء» بالإضافة إلى توجيهه نحو «الكتاب»؛ فبالاتجاه الأول يعتاد الكشف عن المعرفة كشفا جديدا أصيلا، وبالاتجاه الثاني يحصل على نتائج كشف عنها الآخرون. ولعل مثل هذا القلق الثقافي الذي نحس به اليوم في أنفسنا، حين نرانا أتباعا يرتدون ثياب الأحرار، هو الذي أحس به في زمانه شاعر الهند العظيم «طاغور» لكنه لم يقف عند قلقه يجتر الحسرة والأسف، بل أنشأ في بلده مدرسة على الصورة التي تخيلها وتمناها. وما زالت تجربته تلك في «سانتفاكتين» موضع تعليق من رجال الفكر التربوي في الغرب؛ فهي مدرسة بغير جدران؛ إذ تقع على أرض مكشوفة تحفها غابة وتحيط بها أنواع النبات والحيوان، وأقيمت في ركن منها مساكن بسيطة للدارسين، فماذا يدرس الدارسون؟ إنه لا «فصول» ولا «دروس» ولا أجراس تدق للحضور والانصراف؛ فكل دارس له أن يختار مما حوله حجرا، أو شجرا، أو طيرا، أو ما اختار من صنوف الحيوان، وعليه أن يقدم ما قد «كشف» عنه من حقائق حول ما اختاره. كان طاغور مؤمنا أشد الإيمان، بأن التعليم «فاعلية» داخلية تنشط بها طبيعة المتعلم، وليس التعلم آذانا تصغي إلى ملقن يسمونه معلما. وإن مثل هذه الطبيعة في الإنسان، هي التي تشيع فيه الفرحة إذا ما صنع لنفسه شيئا بالمقارنة مع حالته إذا تلقى هذا الشيء مصنوعا جاهزا. ويحكي طاغور في كتاب له (بالإنجليزية) يفصل فيه القول عن خبرة حياته، فيقول إن أحد الأثرياء في بلده عاد من رحلة له إلى أوروبا بلعبة فاخرة لولده الصغير، وكانت فيما أذكر سيارة أو طيارة تسير بقوة ذاتية، وتصادف أن خرج الطفل بلعبته الفاخرة هذه إلى الطريق العام أمام منزله فرأى على مقربة منه أطفالا شغلوا أنفسهم ب «صنع» طيارة من ورق، واقترب منهم فأغراه ما يصنعون وترك لعبته الجاهزة على جانب الطريق، ليشاركهم فيما ينشئون، وكان لكل من الأطفال دور يؤديه، فهذا يقص الورق، وهذا يعد الأعواد التي يقام منها هيكل الطائرة، وثالث يجهز الخيط الذي سيربط فيها من طرف ليمسكوا هم بالطرف الآخر عندما تعلو طائرتهم في الجو. وهكذا حتى فرغ الصانعون من صنعهم، ودفعوا بالطيارة في الهواء، وإذا هي تعلو وتعلو، فيمدون لها الخيط بمقدار ما تعلو، فلا تسل عن الفرحة الغامرة المموجة بالزهو بما حققوه بصنعهم، فأين ذلك كله - عند الطفل الغني - من حالته الأولى عندما كان يلعب بما تلقاه جاهزا صنعه آخرون؟
شيء كهذا يمكن أن يقال عن الحياة الفكرية؛ فليست الصلاحية مرهونة بالمصدر الذي نستمد منه الفكرة: نجعل الموروث العربي مصدرنا أم نجعل الغرب هو ذلك المصدر؟ ثم معترك حول أشباح في الظلام، بل تتوقف الصلاحية على مدى اتصال الفكرة المعينة بالمشكلة الحقيقية المراد حلها؛ فما يحل لنا إشكالنا هو الفكر الصحيح سواء اكان مما ورثناه عن أسلافنا أم كان مستعارا من الآخرين، فإذا كانت المشكلة المعروضة اقتصادية، كأن نبحث عن الطريقة التي تؤدي بنا إلى أوفر إنتاج ممكن، وجب أن تنصب الطاقة العقلية على جوهر مشكلتنا ذاتها، وليس أن نفتح دفاترنا أو دفاتر الأخرين بحثا في صفحاتها عما نتوقع منه الحل. إن الرجوع إلى هذه الدفاتر إنما يجيء على سبيل الاستضاءة بما سبقنا الآخرون إليه، لنجري معه شيئا من المقارنة الضابطة الهادية، لكن المعول الأساسي يكون على معطيات واقعنا نحن لا واقع سوانا في ماضينا أو في ماضي الغرباء وحاضرهم. ما الذي ألزمنا - مثلا - بأن نقيد أنفسنا بادئ ذي بدء بقسمة مجال النشاط الاقتصادي إلى عام وخاص، ثم نظل ندور وندور حول النسبة بينهما اتساعا وضيقا كم تكون؟ وإننا لنسأل مخلصين: أكنا نستعرض واقع حياتنا حقا حين أعطينا كل هذا الوزن الراجح لما نسميه بالقطاع العام، أم كنا ننقل من الدفاتر وأي دفاتر ؟ لقد كانت في هذه الحالة دفاتر الغرباء من ذوي المذاهب، ثم ما هو إلا أن أحطنا فكرة «القطاع العام» بما يشبه القداسة حتى لا يمسها أحد بسوء، فهل حللنا أخلاقنا الاجتماعية تحليلا كافيا، فوجدنا أننا أشد إخلاصا في أداء واجبنا حين تكون «الدولة» هي صاحبة العمل؟ إن طريق الفكر السديد يقتضي ألا يقام قانون ما في جماعة معينة إلا إذا كانت ضرورة حياتها تمليه، وحتى القوانين القضائية حين يصوغها مشرعون مختصون، لا تستمد قوة الفعل في ساحات المحاكم إلا إذا بنيت على ظروف اجتماعية سبقتها، وأفرزت سبلا أمام الناس في حياتهم الفعلية يلتمسونها لتنحل العقد التي استعصت عليهم، وهنا يأتي المشرع فيتقن الصياغة لما كان الناس قد لجئوا إليه بالفعل، فتصبح تلك الصياغة هي «القانون» الذي يقاس إليه في المحاكم. وهكذا يكون الحال - أو يجب أن تكون - في كل «فكر» سليم منتج، وبعبارة أخرى، وهي العبارة التي كررناها فيما أسلفنا، نقول إن المفكر الأصيل يوجه فكره نحو «الشيء» أي نحو «الموضوع» قبل أن يوجهه نحو فكر جاءه من سواه فيصبح فكرا على فكر. إن هذا الكاتب كثيرا ما تساءل بينه وبين نفسه مرة، وبينه وبين قارئه مرة: ما الذي أبطأ النهضة العربية، بحيث انقضى ما يقرب من قرنين كاملين منذ بدأت بوادرها، دون أن تبلغ ما بلغته شعوب أخرى في أقل من نصف هذه السنين؟ وهنا قد نسمع صوتا من ذوي اللجاجة الجوفاء يصيح في وجوهنا متحديا: ماذا تعنيه بكلمة «نهضة» هذه التي زعمت أنها بدأت منذ مائتي عام ولم تبلغ مداها؟ أهي التحضر بحضارة الغرب؟ إن كان هذا عندك هكذا، فاذهب إلى حيث شئت ولسنا معك. ولأصحاب هذا الصوت الصارخ نقول: فلتكن «النهضة» هي الصحوة التي تؤدي بنا إلى «القوة» بعد ضعف أصابنا، والقوة لا يفهم لها معنى إلا بالقياس إلى ما يستطيعه المنافسون، فإذا كنت سريع الجري بالنسبة إلى زيد، ودخلت سباقا مع خالد فظفر هو بالسبق كان عليك - إذا أردت محاذاته أو التغلب عليه - أن تزيد من قدرتك. والقوة التي نبتغيها متعددة الفروع فهي في العلم، وفي الإنتاج وفي إرهاف الذوق وفي القتال، وفي سرعة الأداء، وفي كل ما تراه سبيلا إلى إنسان حفزت قدراته الفطرية المكنونة إلى حدها الأقصى. وأحسب أن هذا الفهم لمعنى «النهوض» لا يجد اعتراضا إلا عند من جرؤ فقال إنه يؤثر الجهل على العلم، والمرض على العافية، والقعود الكسيح على خفة الحركة.
فإذا زعمنا أن النهضة العربية قد سارت بخطوات بطيئة انتهت بها إلى موضع متخلف في مضمار الحياة العصرية، وأردنا إقامة الدليل على صدق ما زعمناه؛ فما علينا إلا أن نفصل فروع «القوة» تفصيلا يمكننا من مقارنة أنفسنا بغيرنا في كل فرع، وعندئذ ترى الحق أبلج واضحا ويتخرس الصوت المحتج في جهالة. لننصرف إلى السؤال التالي بجدية لمن أراد لأمته الرفعة والتفوق، والسؤال هو: على من تقع التبعة في تغيير هذا الركود؟ والجواب السريع هو أن التبعة واقعة على مبدعي الثقافة فنا وأدبا وفكرا، والفكر هو الذي قصدنا إليه في هذا الحديث دون الفن الخالص والأدب الخالص؛ فلهذين حديث مختلف. ومن هذا الجواب نخطو إلى سؤال آخر هو: وماذا يصنع «الفكر» أولا، ثم ماذا تريد له أن يصنع ثانيا؟
أما عن «الفكر» وطبيعته، فقد أفضنا القول في تحديد معناه، بالقياس إلى جناحين آخرين من أجنحة «الثقافة» بمعنى من معانيها؛ فجناح منها هو الإبداع الفني والأدبي، وهو إبداع يقوم فيه الخيال بدور كبير، ويتضح مادته من المضمون الخبري (من «خبرة» المبدع) وهو مضمون ذاتي يختص بصاحبه، شاركه فيه الآخرون أم لم يشاركوه. وأما الجناح الثاني فهو جناح المعرفة العلمية التي يتعلق مضمونها بالأشياء الخارجية كما هي واقعة تراها أبصار المشاهدين على السواء، وبين هذين الجناحين تقع مدينة «الفكر» الذي هو مجموعة معان لا هي من قبيل ما يبدعه الخيال في الفن والأدب، ولا هي من قبيل العلم الذي نهج بناءه الدقة والتعميم والتجريد، ويبلغ في ذلك أقصى مداه إذا استطاع أن يسوق بضاعته في صيغ رياضية بحت، حتى لا يكون فيها أثر لخيال المبدعين في مجالي الفن والأدب. أقول إن عالم «الفكر» يقع بين هذين الجناحين، بمعانيه التي لا هي من هذا الجناح ولا من ذاك، إلا أنها هي هي التي تغذي الجناحين معا بقيم تنضبط بها الخطى. ومن أمثلة المعاني التي يتألف منها هذا العالم الغريب - عالم «الأفكار» - الحرية، والتعاون، والصدق، والحب، والخير، والسعادة، والإيمان، وغيرها مما يجري مجراها. ولقد تعمدت أن أجعل «الإيمان» آخر الحلقات التي ذكرتها لأردفه بإشارة إلى «الدين» ودوره في البناء الثقافي كله؛ فمن أهم ما يؤديه أنه هو الذي يجيء للإنسان بكثير جدا من القيم التي هي في حقيقة أمرها بمثابة الجوهر من مضمون الفكرة، إذا استحقت أن تكون بين أفراد الأسرة، أسرة المعاني التي تمد الجناحين الآخرين بضوابط السير، ولا أقول إنها تمدها بالمضمون ذاته؛ فرجال العلم - مثلا - مطالبون بأمانة البحث، والذي يطالبهم بصفة الأمانة هذه، هو فكرة استمدت غذاءها من الدين. وكذلك يقال عن رجال الفن والأدب عندما يطالبون بالصدق فيما يبدعون.
Page inconnue