وماذا يكون الإنسان إذا لم يكن جوهره مركبا قوامه عقل وإرادة، يختل العقل أو تضعف الإرادة، فيذهب الإنسان. وإنه لمما يستوقف النظر عند هذا الكاتب، أن من عني بالبحث عما يميز «الإنسان» دون سائر الكائنات، من كبار المفكرين كادوا يدورون حول أحد المحورين؛ فإما هو «العقل» عند فريق منهم، وإما هو «الإرادة» عند فريق آخر. على أن القائلين ب «العقل» لا ينفون الإرادة، بل يجعلونها في مرتبة التابع؛ فالعقل يدرك أين يكون الصواب، وعلى الإرادة التنفيذ. والعكس صحيح كذلك؛ أي إن القائلين ب «الإرادة» لا ينكرون على العقل وجوده، بل يجعلون له مرتبة التابع؛ فالإرادة تريد ما تريد أولا، وعلى العقل أن يبحث لها عن وسائل الوصول إلى تحقيق ما قد أرادته. وجدير بالذكر هنا أن هنالك إلى جانب هذين الفريقين فريقا يقول بأولوية «الوجدان»، لكن الأصح هو أن يدرج هذا الفريق الثالث ليكون فرعا من فروع القائلين ب «الإرادة»؛ إذ لا فرق يذكر بين أن تقول: «إني أريد كذا» وأن تقول عن الشيء الذي تريده: «إني أحب كذا - أو أرغب في كذا - أو أميل إلى كذا».
لكن ما يمكن اعتباره مذهبا ثالثا حقا، هو ما نستطيع رؤيته في موقف الفكر الإسلامي في ذلك؛ إذ يبدو لهذا الكاتب أنه فكر يجعل من العقل والإرادة صفتين متآزرتين في مركب واحد، بحيث إذا سئلنا: ما جوهر الإنسان؟ أجبنا: هو إرادة عاقلة، أو هو عقل مريد. فإذا لم أكن على صواب في هذا القصور عن روح الفكر الإسلامي، كان الرأي الأرجح عندئذ، من وجهة النظر الإسلامي، هو أولوية الإرادة على العقل؛ فالإرادة بمثابة من يأمر بإيجاد ما ليس له وجود راهن، ومهمة العقل هي أن يلتمس السبل التي تحقق لها ما أرادت.
وسواء أكانت هاتان الوظيفتان في تكوين الإنسان - وهما أن يريد وأن يعقل ما يريده - أقول إنه سواء أكانتا متعاقبتين في الأداء، أم كانتا مدمجتين معا في كل أداء، فهما بغير شك في صميم الصميم من جوهر الإنسان وحقيقته، وبهما يمكن أن يقاس الفرد - أو مجموعة الأفراد التي تكون شعبا - في مقدار نصيبه من إنسانية الإنسان. وكان يمكن أن نضيف إليهما خاصة الإيمان الديني، لكن هذا الإيمان متضمن فيما نسميه ب «الإرادة» إذا أخذنا المصطلح بمعناه الواسع، ويجب أن نفهمه بهذا المعنى؛ إذ هو في هذه الحالة يشمل الحالة الوجدانية التي يكون الإيمان الديني فرعا منها، ولا يكفي أن تستقل إحدى هاتين الوظيفتين دون الأخرى؛ لأن الفكرة العقلية في تجريدها الرياضي، التي لا تعرف طريقها إلى فعل إرادي يخرجها من حالة التصور إلى حالة الوجود، هي بمثابة المبصر الكسيح، يرى الطريق ولكنه لا يقوى على السير فيه ليحقق غايته، ومجرد «الإرادة» - من ناحية ثانية - التي تستطيع الفعل لكنها لا تدري كيف تفعله، هي بمثابة جسد قوي العضلات، ولكنه أعمى، إنه عندئذ يكون - كما يقول المثل - كالثور في مستودع الخزف، يدوس بحوافره على نفائس الخزف الثمين، وكأنه يدوس على حجارة. صاحب الأفكار المجردة التي لا تحمل في طيها طريقة تنفيذها هو كحامل المصابيح الوهاجة وهو مكفوف البصر في بيداء، فيضيع ضوء المصابيح هباء لا يهدي أحدا إلى سبيل. ومثله في الضياع سائر في تيه الفلاة والليل معتم، فلا يدري في أي اتجاه يسير؛ ففي الحالة الأولى نرى عقلا لا تسعفه إرادة، وفي الحالة الثانية نجد إرادة لا يهديها عقل.
ومن هذا الشرح التمهيدي ننتقل مع القارئ إلى دنيا الثقافة والمثقفين في العالم العربي منذ صحوته الأولى في القرن الماضي حتى اليوم، حاملين معنا مقياسنا الإنساني الذي أسلفناه؛ فقد ذكرنا أن الإنسان إنسان بقدر ما تحيا فيه وظيفتا «العقل» و«الإرادة» معا، متتابعين في الأداء أو مدمجتين. وإننا لنسأل أنفسنا جادين - ونحن في انتقالنا من التمهيد إلى التطبيق - ماذا عساه أن يحققه لنا من يزعم لنفسه، أو من نزعم له، أنه من المنتجين المبدعين في البنيان الثقافي الذي نعيش فيه حياتنا على مختلف وجوهها؟ نعم، إننا لنسأل أنفسنا جادين، حتى لا تبهر أبصارنا، أسماء لمعت في سمائنا، ورسخت في عقولنا وقلوبنا، دون أن نقف وقفة جادة لا هازلة ولا هي بلهاء، لنسأل أنفسنا: بأي مقياس يجب أن تقاس عظمة العظماء في هذا المجال؟ إننا نريد حقا أن نفخر ونفاخر بهم جميعا، لكننا في الوقت نفسه نريد لهذا الفخر أو المفاخرة أن يقام على وعي ناضج بحقائق الأمور، لا سيما ونحن في عصر كثرت فيه الأدوات الآلية الجبارة، التي أصبحت تصنع العظماء في مختلف الميادين بصياحها وجذبها للأنظار، حتى ولو كان صنعاؤها هؤلاء أقزاما في ميزان الحق والعدل، كما في مستطاع تلك الأجهزة الجبارة في يومنا هذا أن تطمس العظماء بالحق والعدل، وذلك بأن تسدل دونهم أستار الصمت، فلا تجعل لهم سبيلا إلى شاشاتها وأضوائها وألوانها وأصواتها؛ ومن أجل هذه الكوابيس الإلكترونية في عصرنا، التي أصبحت تحيي العظمة في قزم، وتميت العظمة في عملاق، نحن في حاجة إلى أن ننتقل إلى عالمنا الثقافي الحقيقي، لنحكم وفي أيدينا الميزان.
على أن هذا الكاتب يود بادئ ذي بدء، أن يضع بين يدي القارئ انطباعه العام عن الخطوط الأولية التي تقام عليها النهضة العربية الحديثة من ناحيتها الثقافية؛ فلو أن الأمور قد سارت بنا سيرها الطبيعي الذي ألفناه في تسلسل المراحل التاريخية، لرأينا مرحلة ينتج فيها أصحاب الفكر والأدب والفن أفكارهم وتصوراتهم عن الإنسان وحياته، ما هو واقع منها وما كان ينبغي له أن يقع. ويتلقى جمهور الثقافة على تفاوت درجاته تلك الأفكار والتصورات، ويتشربونها قطرة قطرة، حتى لنراها على مر الزمن قد تقطرت نزولا من الذروة إلى الجمهور العريض، ويساعدها على هذا الانتشار حركات النقد الفكري والأدبي والفني، فهذا النقد من شأنه أن يلقي الضوء على ذلك الناتج الثقافي الذي أنتجه المبدعون في مختلف الميادين، فيعين ذلك على فهم الرسالة الثقافية المبثوثة فيه، حتى إذا ما تحول عند عامة الناس إلى وعي بالأهداف الجديدة، نشأت لديهم «إرادة» التغيير، وها هنا تنتقل الريادة إلى قادة السياسة وأحزابها؛ فكل يتفق على الأهداف، لكنهم قد يختلفون في الوسائل المحققة لها. وهكذا تمضي عقود السنين بعد ذلك، إلى أن تتغير ظروف الحياة مرة أخرى، وتصبح الأهداف التي تحققت كلها أو بعضها، غير كافية للتجاوب مع الظروف الجديدة التي طرأت على مسرح التاريخ، فيفكر المفكرون فكرا جديدا، والفنانون أدبا وفنا يتناسب مع المرحلة الجديدة، وتدور الدورة مرة أخرى ويبدع الأدباء. على أن مبدعي الثقافة الجديدة فكرا وأدبا وفنا، على اختلاف ميادينهم التي يبدعون فيها، واختلاف وسائطهم ووسائلهم، فهذا وسيطه أنغام، وذلك وسيطه كلمات، وثالث وسيطه خطوط وألوان إذا ما وجدوا الناقد القادر، وجدناهم يتحدون في دعوة واحدة، هي التي تصبح أمام الجيل الناشئ هدفا جديدا لحياة جديدة، وذلك معناه - إذا تحقق لشعب معين أو أمة معينة - أن يجتمع ذلك الشعب أو هذه الأمة على «إرادة» واحدة، هي التي يقال عنها عندئذ إنها إرادة الشعب أو إرادة الأمة، التي يتولاها رجال السياسة موضوعا لهم، يتفقون على تفصيلاته أو يختلفون شيعا وأحزابا. ولولا توحد الأهداف في المرحلة المعينة من مراحل الزمن، وما يتبع ذلك التوحد من اجتماع على «إرادة» واحدة، قد تشذ عنها قلة من الأفراد، إلا أنها تسود الكثرة الغالبة. أقول إنه لولا هذا التمحور المذهبي والإرادي، لما نشأت للتاريخ «عصوره»؛ إذ ماذا يعني «العصر» التاريخي المعين، إلا أن تكون أكثرية الناس الغالبة قد «تجانست» على نحو ما، فأصبح تجانسها هذا دليلا على تميز عصرهم بمناشط وأهداف، لم تكن هي المناشط والأهداف التي سادت ما سبقها ولن تكون هي السائدة فيما سوف يأتي لاحقا لها.
والانطباع العام عند هذا الكاتب عن تاريخنا الثقافي الحديث هو أن صناع الثقافة العربية، فكرا وأدبا، وفنا، لم يتحدوا إلا لحظات قليلة، على محور موحد يستقطب مبدعاتهم، كل في ميدانه، وكل بوسيطه ووسائله، فلزم عن ذلك لزوما منطقيا وواقعيا في آن واحد، أن القطرات الثقافية التي تسللت إلى جمهورنا العريض، لم تكن شاملة ومتجانسة، بل تلقى كل جانب من جوانبه شيئا غير الذي تلقاه الجانب الآخر. وماذا تظنه ناتجا ينتج، بحكم هذه المقدمات، إلا أن يتشرب الجمهور وجهات للنظر متضاربة، وأن يتولد عن ذلك عدة «إرادات» متقاطعة متنافرة، وذلك ما قد شهدت به مواقف حياتنا الفعلية كما نحياها، اللهم إلا لحظات - كما أسلفت - تستقطب الإرادة الشعبية كلها عند محور واحد، وتلك اللحظات هي لحظات الثورات، وهي في مصر ثلاث؛ ثورة 1882م، وثورة 1919م، وثورة 1952م، وهي ثورات يكمل بعضها بعضا؛ الأولى ثورة عرابي التي أرادت لمصر أن تكون للمصريين. والثانية ثورة سعد زغلول التي أرادت للمحتل البريطاني أن يرحل ليظفر المصري بحقه السياسي. والثالثة ثورة الضباط الأحرار، بزعامة عبد الناصر، التي أرادت للمصري أن تمتد حقوقه بأن تجاوز حدود الحقوق السياسية لتشمل حقوقا اجتماعية كثيرة حرمت منها الكثرة الغالبة من أبناء الشعب. وكانت لهذه الثورات إشعاعاتها التي تأثرت بها الأمة العربية في جميع أقطارها.
وواضح أن اللحظة الثورية محال أن تتفجر من فراغ فكري، بل لا بد لها من مخاض فكري يسبقها بإرهاصاته، حتى إذا ما انتشرت موجاته في دوائر تتسع مع الأيام لتشمل آخر جمهور الشعب، انقدحت شرارة الثورة مؤيدة بشعبها. إذن تكون - تلك اللحظة - مزيجا من فكرة وإرادة تطبيقها. ولنتذكر ما أسلفناه من أن الفكرة النظرية وحدها بغير إرادة تجريها مجرى التاريخ في أحداث الحياة العملية، إنما هي فكرة كسيحة أعوزتها الأعضاء التي تحركها. والإرادة التي لا تسير في فعلها مستنيرة بفكرة وراءها ومعها، هي إرادة عمياء قد تهدم بفعلها ولا تبني. ومن ذا الذي يعد الفكرة النظرية وينضجها انتظارا لأصحاب الإرادة يتناولونها بالتنفيذ؟ إنهم هم مبدعو الثقافة وصناعها، فكرا وأدبا وفنا، شريطة أن يكون هذا النشاط العقلي والفني منطويا كله على هدف وطني واحد.
فإذا راجعنا لحظاتنا الثورية التي اجتمعت عندها إرادة الشعب وجدناها لا تلبث على هذا التوحد إلا قليلا، ثم يدب الخلاف، وإذا بالإرادة الواحدة قد تشققت إرادات، وإذا بالفكرة الواحدة قد تقسمت وجهات مختلفة للنظر عند تفسيرها. كانت فكرة «الحرية السياسية» وراء الثورة سنة 1919م، وكانت فكرة «الحرية الاجتماعية» وراء الثورة سنة 1952م، ولم تكن «فكرة» الحرية لتقوم وحدها بتحقيق هدفها إلا إذا تحولت وأصبحت «إرادة الحرية». وهكذا كان في كل من الثورتين، لكننا لم نلبث أن رأينا صورا مختلفة لتفسير «الحرية» وتطبيقها، وكان السجن، والقتل، والتعذيب، ومصادرة الأموال، وغير ذلك مما يجري مجراه، بين صور الفعل الإرادي الذي فرض فيه أنه يخرج فكرة الحرية من مجالها النظري عند مبدعي الثقافة إلى مجال يصنع التاريخ بأفعاله وأحداثه. وليس لهذه المقارنة من تعليل يفسرها، سوى أن الإرادة الواحدة الموحدة بين أفراد الشعب جميعا، قد تكسرت إرادات متنازعة مبعثرة، قد لا يكون وراء كل إرادة منها إلا فرد واحد برؤية شخصية جر وراءه أتباعا يبتغون المنافع.
وما يقال عن الشعب الواحد، من حيث تفكك الإرادة الواحدة المنصبة على تنفيذ فكرة واحدة مأخوذة بمعنى واحد، لتصبح إرادات كثيرة متعارضة متقاطعة، تحتفظ كلها من الفكرة الواحدة باسمها، ثم تسمي بهذا الاسم ما شاءت لها أهواؤها. أقول إن ما يصدق على الشعب الواحد في هذا الصدد يحدث شبيهه في الوطن العربي الكبير؛ فجماعات المبدعين للثقافة، فكرا وأدبا وفنا، متجاوبون بعضهم مع بعض على طول الوطن العربي وعرضه؛ فالمناخ الثقافي بينهم متجانس، لا فرق بين مشرق عربي ومغرب عربي، لكن أصحاب «الإرادة» إذا تناولوا الأدوات الفكرية، والوجدانية نقلا عن مبدعيها وصناعها، ربما اجتمعوا جميعا على رؤية واحدة لحظة أو لحظات، لكنهم ما لبثوا أن شققوا الإرادة الواحدة إرادات تتعارض، كل منها يفسر الأهداف العربية التي صاغها المثقفون فيما أبدعوه، كيفما تشاء ويهوى، مع احتفاظها ب «الأسماء» وكأنها لم تغير من الحقائق الموضوعية شيئا ما دامت لم تغير من أسمائها، فمن ذا الذي لا يرفع لواء «الحرية» و«الديمقراطية» و«الإيمان» و«العلم» إلخ؟ أما كيف تفهم هذه الأسماء وماذا ينطوي عليه كل اسم منه، فلا وزن له ولا خطر.
ولعل القارئ قد لحظ أن الكاتب أشار إلى مبدعي الثقافة في أقطار الوطن العربي بقوله إنهم «يتجاوبون» بعضهم مع بعض، ولم يقل إنهم «متحدون»، وذلك لأن حياتنا الثقافية، على أيدي من يصوغونها ويصنعونها، متفرقة بين وجهات نظر كثيرة، فلا يجمعها هدف واحد ولا وسيلة واحدة. وربما كان هذا التجزؤ في حياتنا الثقافية، هو الذي مهد السبيل أمام أصحاب الإرادة التنفيذية أن يتفرقوا بدورهم أهدافا ووسائل، وكل منهم يزعم لنفسه الحق كله والصواب كله . وليت من تناولوا منا تيارات الرأي بالتعليق والنقد، أو بالتأييد والرفض، قد اتفقوا فيما بينهم على تلك التيارات ما هي؟ ولو اتفقوا عند هذه المرحلة الأولى - على الأقل - لأمكن لأضواء التحليل والنقد والشرح لتلك التيارات، أن تنصب كلها في اتجاه واحد، فيسهل على المتتبع من جمهور القراء أو المستمعين أو المشاهدين أن يؤيدوا وأن يرفضوا عن فهم وبصيرة.
Page inconnue