لكن النظر إلى ما هو «قبل» وما هو «بعد» - أخذا بالصياغة التي صاغها الشاعر «شلي» - إنما هما الطرفان اللذان تتوسطهما لحظة «الحاضر». وسؤالنا المطروح هو عن موقف العربي اليوم بين حاضره وماضيه، ولم نذكر «المستقبل» في سؤالنا ذكرا صريحا؛ لأن تصوره إنما يتولد بالضرورة بناء على الطريقة التي يجمع بها الإنسان ماضيه وحاضره. وإني لأخشى أن تقع هذه التقسيمات في نفس القارئ موقع التهاويم المجردة التي لا صلة بينها وبين حياته الفعلية كما يحياها، مع أنه لو نظر إلى نفسه من باطن، وجدها تحمل له في وقت واحد ماضيه وحاضره وما يرجوه في مستقبله، إلا أن التفاوت بين الأفراد في درجات وعيهم بالأبعاد الثلاثة، هو تفاوت شديد، بمقدار ما يختلفون فيه من درجات وعيهم، وعلمهم، وخبرتهم، ودقة إحساسهم بما حولهم. إنك أنت بمفردك، وأنا بمفردي، وهو بمفرده، وهي بمفردها، وكل إنسان على وجه الأرض بمفرده، يحمل في أصلابه وأعصابه، هذا الذي نطلق عليه اسم «الماضي» مع الذي نطلق عليه اسم «الحاضر» مع تصور ما نتوقع حدوثه غدا أو بعد غد، مما خططنا لحدوثه، فتجيء الأحداث مواتية فيتحقق، أو لا تجيء فلا يتحقق كما تصورناه. وبعبارة أخرى ربما كانت أوضح وأقرب إلى الأفهام، أقول إننا حين نتحدث عن «حاضر» العربي وعن «ماضيه» فإنما ينصب حديثنا على حالات «داخل» الإنسان، وليس على أشياء خارجه، وإذا كنا نستهدف أن نغير من وقفة العربي اليوم إزاء حاضره وماضيه، فإن الذي نريد أن نغيره في حقيقة الأمر، هو تصورات اجتمعت له في جوفه عن ماضيه وعن حاضره معا.
إنني في هذا الموضع من سياق الحديث، حريص كل الحرص على أن يتأكد للقارئ في وضوح ناصع، بأن حديثنا هذا عن ماضينا وحاضرنا، إنما ينصب انصبابا مباشرا على حياته الواقعية التي يحياها كل لحظة، وليس هو نسجا من خيال قد لا يكون ذا صلة وثيقة بلحمه ودمه، ولذلك أدعوه إلى تضييق دائرة الحديث بحيث نحصرها في ثلاثة أيام فقط من حياتك، هي يومك الذي أنت فيه، وأمسك، وغدك، وبعد ذلك نسأل: أين تلتقي هذه الأبعاد الثلاثة؟ هل تراها مجتمعة معا على قارعة الطريق، أو في غرفة من غرف منزلك؟ لا، بل إنها لا توجد ولا تلتقي إلا في رأسك أنت، فما حدث بالأمس مما تعرفه موجود في ذاكرتك الآن؛ أي إنه بالنسبة إليك لم يعد ماضيا، بل هو حاضر مع الحاضر، وكذلك قل عن غدك، إنه لم يولد بعد، لكن توقع ما قد يحدث فيه، مرسوم في خواطرك الآن؛ أي إنه حاضر مع حاضرك، وأما يومك هذا الذي يتوسط بين أمسك وغدك، فإذا استثنينا منه اللحظة العابرة التي أنت فيها، تراه ما تراه وتسمع ما تسمعه، وتعاني ما تعانيه، وجدنا أن بقية لحظاته إما مضت مع الماضي المحفوظ في ذاكرتك، وإما هو جزء يضاف إلى مستقبل لم يولد بعد، وحضوره هو حضور في ذهنك أنت، تتوقع به ما سوف يحدث، سواء تحقق توقعك أم لم يتحقق. ومعنى ذلك كله أنك تحمل معك ماضيك ومستقبلك في كل لحظة حاضرة، فإذا أردنا لأي شيء من هذه الأقسام أن يتغير فلن يكون التغير إلا في شخصك أنت وما انطوى عليه.
وأزيد الأمر وضوحا وتوضيحا، فأقول ليس «الماضي» شيئا قائما فيما هو قائم حولنا ، وإلا لما كان «ماضيا»؛ فكل ما هو قائم، تقع عليه العين، وتسمعه الأذن، وتمسه الأيدي، هو «حاضر» حتى ولو كان الذي صنعه قد مضى وترك وراءه ما صنع، الهرم الأكبر شيء حاضر كأي شيء آخر ذي وجود حقيقي في عالم الأشياء، والذي مضى هو خوفو والذين أقاموا له الهرم، وديوان المتنبي شيء حاضر بين أيدينا لكل من أراد أن يسمع شعره، والذي مضى هو شخص المتنبي، فإذا سئلنا: أين هو «ماضينا» الذي يراد لنا أن ننسج خيوطه في ثوب «حاضرنا»؟ أجبنا بأن ماضينا بهذا المعنى الحي، هو ما «نعلمه» عنه؛ أي إنه موجود منسوج في حياتنا بالمقدار نفسه الذي هو «حاضر» به في رءوسنا وفي وعينا وفي سلوكنا، كثيرا بكثير وقليلا بقليل، فإذا كنت - مثلا - لا تعرف معرفة المتذوق الواعي، إلا بيتا واحدا من ماضي الشعر العربي، كان «الماضي» العربي فيما يختص بالشعر، هو عندك بيت واحد، حتى ولو كان في بيتك خزائن تحتوي على ألف ديوان مما ورثناه في مجال الشعر. لقد كتب الفقهاء الأقدمون ما كتبوه في فقه العقيدة وفي فقه الشريعة، فإذا لم تكن قد «عرفت» شيئا منه، كان ماضينا في هذا الميدان بالنسبة إليك صفرا، وكأنه لم يكن لنا ماض فيه، حتى ولو قيل إن دار الكتب فيها كل ما خلف لنا الفقهاء محققا ومطبوعا على أجود ورق، وفي صورة هي أجمل ما تستطيعه المطابع. وهكذا لا يكون لماضي الإنسان وجود حي مؤثر، إلا إذا كان محصلا في أذهاننا على نحو يتيح له أن يكون جزءا لا يتجزأ من حياتنا الواعية. ولا فرق في هذا بين أن نتحدث عن فرد واحد من الناس وما قد دس في وعيه - الظاهر منه والباطن - من خبرات ومؤثرات، وبين أن نتحدث عن الأمة بأسرها، فماضيها الحي المؤثر إنما هو على وجه التحديد، ما قد وجد طريقه إلى أذهانهم وإلى قلوبهم، ثم ظهر في تشكيل سلوكهم وفي تعيين أهدافهم وفي طرائق تقويمهم للأشياء والمواقف قبولا ورفضا.
وهنا نلفت الأنظار إلى فكرة ربما كان الشاعر «ت. س. إليوت» (صاحب قصيدة «الأرض اليباب» التي وفاها نقادنا عرضا وتحليلا) أقول إنها فكرة ربما كان «إليوت» أكثر القادرين شرحا لها، وأعني بها أن ثقافة الأمة المعينة في حقبة معينة، هي حاصل جمع ما قد وعته الرءوس من مواطنيها؛ فالفرد الواحد من أبنائها، مهما اتسعت دائرة علمه، فهو لا يعلم إلا جزءا يسيرا مما نسميه بوجه عام وشامل «ثقافة الأمة» الذي هو فرد من أفرادها، وهذه الفكرة مفيدة في سياق حديثنا هذا؛ فنحن نتحدث الآن عن «ماضي» الأمة أين نراه؟! ونجيب بأنه هو ما قد وجد سبيله من الموروث عن أسلافنا إلى تيار الحياة الجارية، فهو كامن في خواطرهم، مثير لمشاعرهم، متمثل في مسالكهم. وإن ذلك كله لا يتحقق لكل فرد على حدة، بل يكون حسابه بالنظر إلى مجموع الأفراد.
فكم - يا ترى - نجد من الماضي ما هو قائم في حياة الناس، فكرا ووجدانا وسلوكا؟ ثم لا يكفينا أن نجيب عن هذا السؤال وهو قائم برأسه مبتور الصلة بأطراف أخرى لها معظم الخطر في حياتنا؛ إذ قد يكون ما هو محصل من ذلك في الأذهان والوجدان والسلوك، أضخم مما نريد؛ فهو إذا تضخم فربما تحول إلى قيد يعرقل سيرنا مع مستلزمات الحياة الحاضرة، وكذلك قد يكون أقل مما نريد؛ لأنه إذا كان كذلك، جاءت الشخصية العربية شاحبة؛ مما يؤدي إلى سرعة ذوبانها في مياه الغرباء، ومع ذلك فليست المسألة في هذا مسألة «كم» فقط، ضخما وجدناه أم ضئيلا؛ إذ لا بد من النظر إلى جانب ذلك، بل ربما قبل ذلك، إلى نوع الحصيلة التي اخترناها لتكون هي ماضينا المبثوث فينا، وذلك لأننا قد نسيء الاختيار - وكثيرا جدا ما نفعل - فنبث عوامل الضعف والشلل، من حيث أردنا القوة وانطلاقة الحياة.
وإني لأذكر في هذا الصدد شيئا من ذكريات عام واحد من حياتي، وهو العام الذي كنت فيه تلميذا في السنة الثالثة الابتدائية ، كما أذكر مدرسا واحدا ممن تولوا تعليمنا عامئذ، هو مدرس اللغة العربية. كان شيخا قوي التأثير، يبعث على الرهبة التي تجنح بنا نحو رعدة الخوف، أكثر مما يبعث على الحب وطمأنينة النفس، لكنه كان كذلك جادا طموحا. ولعله أراد أن يرتفع كل طفل منا حتى يبلغ مستواه ويصبح صورة منه، ومن ذلك أنه لم يكن يكتفي بمادة النحو الموجود في الكتاب، بل طالبنا بأن نرسم بالمسطرة خطوطا في هوامش الكتاب، تميل بزاوية معينة، لتكون شبيهة بالهوامش التي نراها في الكتب القديمة، وذلك استعدادا منا لنكتب في تلك الهوامش ما يمليه علينا من إضافات تضاف إلى ما هو مذكور في الكتاب المقرر. وما زلت أذكر شيئا مما أملاه علينا وحفظناه حفظا أصم وأعمى؛ إذ كان منه تعليق على أداة الشرط «إذا» وهو أنها «ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه». وكم تساءلت بيني وبين نفسي كلما وردت إلى ذهني تلك العبارة: ماذا تفيد؟ لا سيما والمتلقي طفل في الحادية عشرة من عمره؟ ولكم أردت، حتى وأنا في هذه السن التي تقدمت، أن أفهم لماذا قال عن أداة الشرط، التي هي كلمة «إذا» إنها خافضة لشرطها، ومنصوبة هي بجوابها؟ وخيل إلي حينا أنني قد فهمت؛ فنحن إذا قلنا - مثلا - «إذا حل الربيع تفتحت الأزهار» كان ذلك مساويا لقولنا: «عند حلول الربيع تتفتح الأزهار»، ومن هذه الجملة يظهر لنا أن الشرط في الجملة الشرطية التي ضربناها مثلا، قد تحول إلى أن يكون «مضافا إليه» إذ يقول «عند حلول ...» ويكون بالتالي في حالة خفض أو كسر، وأما جواب الجملة الشرطية فهو عبارة: «تفتحت الأزهار» فيجعل كلمة «عند» التي هي ظرف زمان، مفتوحة أو منصوبة، كما تقول مثلا: «قرأت الصحف صباح اليوم» فتكون كلمة «صباح» منصوبة. هكذا خيل إلي أني أفهمت نفسي كيف ولماذا قالت قاعدة النحو لتلميذ الحادية عشرة، إن كلمة «إذا» هي «ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه». ومع ذلك فافرض أني قد استطعت الفهم الصحيح، وأنا في مثل سني وخبرتي باللغة، فهل كان يستطيعه طفل؟ ثم افرض أن الطفل قد استطاعه، فأين وجه المنفعة؟ وإني لأدعو القارئ إلى استعادة ما أسلفناه، وهو أن العربي إذ يحيا حياته، حاملا في رأسه هذا الذي قيل له عن كلمة «إذا» وما تؤديه، فإنما هو يحيا حاملا معه نتفة من «الماضي»، لكنها نتفة عسيرة الهضم، قد تصيب المعدة بالأذى. وأما اليقين عنها فهو أنها لن تنفع حاملها غذاء يقتات منه ليكون عربيا موصول الهوية بماضيه، فإذا تصورنا أن مئات الألوف ممن يعدون بين حملة العلم في بلادنا، يحيون وهم يحملون في رءوسهم أطنانا من أمثال هذه «المعرفة» التي إن صلحت في الأركان الأكاديمية المعزولة عن الهواء الطلق؛ فهي لا تصلح لحياتنا الناهضة وسيلة حفز، ودفع، وتحريك.
ثم شاء القدر لذلك الشيخ الجاد الطموح، أن يكون هو نفسه المدرس الذي جعل من محفوظاتنا الأدبية خطبة الحجاج في أهل العراق: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، إذا وضعت العمامة تعرفوني ... إلخ» وهي خطبة مليئة بالتوعد والتهديد، مما يكره كل إنسان حر أن يكون هو أساس التعامل بين حاكم ومحكوم، فكيف يمكن لمثل هذه النتفة الأخرى من «ماضينا» إذا ما ثبتت في نفوس الصغار الناشئين، ألا تنتهي بحافظها وحاملها إلى أن يقابل استبداد المستبد بشعور بليد لا يتحرك ولا يثور، اللهم إلا إذا أدركته رحمة الله، فوجهته نحو أن يعصي «ماضيه» ولا ينصاع إليه، كلما صادف منه أمثال هذه الصور برغم روعتها في موازين الصياغة الأدبية.
لكن شيخنا الجليل لم يكن قد اقتصر على أمثال تلك المحاولات المستمدة من «الماضي»، بل تركنا والوعاء مليء بعوامل القوة. وإني لأزعم بأن أقوى ما يستمده العربي المعاصر من مطالعة الموروث عن أسلافنا، كل في ميدان تخصصه واهتمامه، هو روح الجدية، والوقار، والضمير الحي. اقرأ ما شئت من نصوص التراث، وفي أي ميدان تختاره، تجدك أمام إنسان يجد ولا يهزل، يسمو بقارئه إلى قمته ولا يهبط من قمته إلى السفوح ليرضى عنه قراؤه. وإني لأشهد الله أن ما قد بثه فينا ذلك الشيخ في دروسه، وفي شخصيته، لم يذهب عنا قبل أن يترك فينا أثرا من الشعور بالجد، والوقار، ويقظة الضمير، انعكست كلها من روح «الماضي» الذي كان الشيخ همزة الوصل بيننا وبينه.
اللغة هي الوسيلة الأولى لربط الصلة بين إنسان وإنسان آخر، يعاصره، أو يسبقه في الزمن أو يلحق به، فإذا كنا نريد للعربي اليوم أن يكون موصول الوجدان بالعربي الذي مضى، فإن أهم ما يحقق تلك الصلة هو اللغة المشتركة بينهما، على أن يكون واضحا لنا بأن تلك المشاركة لا تنفي أن تتغير أساليب التعبير بين كاتب وكاتب في العصر الواحد، ودع عنك أن تباعد بينهما مئات السنين أو ألوفها، لكن اختلاف الأساليب في اللغة الواحدة، يخفي وراءه أسسا ثابتة هي التي تضمن للغة المعينة استمرارها، أو قل إنها هي «روح» اللغة كما يقولون، وبوحي من هذه الروح يستطيع الذوق الفطري السليم - فضلا عن النقد العلمي الاحترافي - أن يفرق في مختلف الأساليب بين قوي وضعيف؛ فوجدانية الروح مع تنوع الأساليب تنوعا لا يتناهى عند حد معلوم، هو سر عجيب من أسرار «اللغة» أيا كان نوعها؛ فالأصل واحد، وأما «الإبداعية» اللغوية (كما يسميها «تشومسكي» الذي هو في الطليعة بين فلاسفة اللغة في عصرنا) فلا نهاية لتنوعها؛ فلا يكاد الطفل ذو العامين يلتقط شيئا من روح اللغة في قومه، حتى تراه قد بدأ يمارس تلك القدرة على الإبداع اللغوي وهو لا يدري؛ إذ تراه وقد استطاع أن يضع المعنى الواحد في تشكيلات لغوية لم تكن هي التي سمعها ممن حوله، إنها تشكيلات من عنده هو، خرط صياغتها على مخرطته الخاصة، حتى ليحدث في حالات كثيرة أن تجيء صياغته بعيدة عن المألوف، ولكنها مؤدية للمعنى، فيضحك السامعون للتركيبة اللغوية العربية، التي جاء بها الطفل، ومن أين جاء بها؟ إن ذلك سر الإبداع في أبسط صوره وفي أعلاها.
وهذه الحاسة اللغوية وإن تكن مشتقة من فطرة الإنسان، إلا أنها - شأنها شأن ما هو فطري في معظم الأحيان - قابلة للتهذيب والإرهاف بالتدريب الدراسي. ومثل هذه الحاسة المرهفة التي تميز الصواب من الخطأ، كما تميز الأجمل من الأقبح ، تكاد تنحصر في أبناء اللغة، دون من يتعلمونها من أبناء اللغات الأخرى. وأذكر أني في مناسبة سابقة قد رويت رواية سمعتها من المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهي أنه بعد أن أهدى كتابه «فجر الإسلام» إلى أحد المستشرقين الكبار، جاءه خطاب شكر ختمه صاحبه بقوله: «نفعنا الله بخرارة علمك»، فالخرارة عند المستشرق الكبير هي ما يخر، أما ملابساتها الأخرى التي يحسها ابن اللغة فهي شيء آخر.
Page inconnue