Mon esprit et ton esprit

Salama Moussa d. 1377 AH
86

Mon esprit et ton esprit

عقلي وعقلك

Genres

في الفصل الأسبق حاولنا أن ننتقل من تفكير العاطفة الحيواني إلى تفكير الوجدان البشري، وقلنا: إن الوجدان يشبه أن يكون مجموعة من العواطف تحملنا على مواقف التردد والاختيار، فتنتقل بهذا الموقف من الانفعال إلى الوجدان.

ولكن هنا ثغرة تستحق الملء هي الذاكرة، وقد سبق أن أومأنا إلى منشأ الذاكرة حين أشرنا إلى رسم المصباح يبقى في العقل بعد إغماض العين نحو دقيقة أو أكثر، فنحن: (1)

نذكر المصباح دقيقة أو أكثر بعد إغماض العينين. (2)

ونتخيل المصباح دقيقة أو أكثر بعد إغماض العينين.

فمن هنا نعرف أن الذاكرة هي الأصل للتخيل، وما دمنا نذكر ونتخيل فإننا نفكر؛ أي إننا ونحن في خلوة نستعيد الصور؛ أي: نتذكرها ونتخيلها، ولكننا لا نتذكرها كما لو كانت صورا فتوغرافية طبق الأصل؛ لأننا نسلط عليها عواطفنا، فنختار منها ما نحب استعادته لأنه يسرنا مثلا، ونستبعد ما نكره منها لأنه لا يسرنا؛ ولذلك نحن نهدف من التذكر والتخيل إلى غاية، فنختار هذه الصورة وننبذ تلك الأخرى، وهذا نوع من الاختراع؛ لأننا نؤلف صورا مختارة نجد فيها خيالات نرغب في استدامتها، ونحن نحرك هذه الصور ونخلطها، أو نغير ما فيها طبقا لغاية.

ونكاد نقول: إن التذكر هو الأصل في الحياة؛ لأننا ننمو - سواء أكنا من الحيوان أم من النبات - بالذاكرة، ولا عبرة بأننا ندري بهذه الذاكرة أو لا ندري؛ أي: لا عبرة بأننا على وجدان بهذه الذاكرة، أو هي كامنة فينا لا ندريها، إنما الواقع أننا لا نستطيع أن نفر من الفرض الذي يحتم علينا بأننا ننمو من الجنين إلى الطفل إلى الصبي إلى الشاب إلى الشيخ بذاكرة عضوية موروثة، كذلك نحن نرضع في الطفولة بذاكرة؛ أي: ما نسميه غريزة إنما هو ذاكرة، بل إن قصة التطور هي في النهاية قصة الذاكرة النوعية؛ أي: ذاكرة النوع البشري أو غيره من أنواع الحيوان والنبات.

فالوراثة والغريزة البيولوجيتان في الحيوان والنبات كما نراهما في النمو والسلوك إنما هما ذاكرة كامنة غير وجدانية.

والذاكرة البشرية التي نتعلم بها إنما هي أيضا من هذا الطراز؛ أي: لا تختلف من الوراثة والغريزة، والذاكرة عندنا - كما قلنا - تؤدي إلى التخيل والتوهم؛ أي إنها تؤدي في النهاية إلى التفكير بالعاطفة أو بالوجدان ، ونحن نعرف من اختباراتنا أننا حين نستلقي مثلا بعد الغداء، ونسترخي ونشرع في الخواطر؛ أي: أحلام اليقظة، إنما نبدأ هذه الخواطر أو الأحلام باستذكار حادثة سابقة تتسلل لنا منها خيالات وصور فنأخذ في تحسينها؛ أي: تحسين هذه الخيالات والصور، وهذا يدلنا على أننا نستذكر حادثة ماضية دون غيرها؛ لأن لنا هدفا منها، هو هذا التحسين. كأننا نقول: ما هو السلوك الأمثل الذي كان ينبغي في هذه الحادثة؟ وإذا ترجمنا هذا إلى الغاية الهدفية فنقول: ما هو السلوك الأمثل لي إذا عادت مثل هذه الحادثة؟

وقد سبق أن قلنا: إن الوجدان هو مجموعة من العواطف المتضاربة التي تحملني على وقفة التردد والاختيار، فلا أنساق منفعلا في عاطفة واحدة، والآن نقول: إن أداة الوجدان في الاختيار هي الذاكرة التي تحملني على التخيل والتوهم، فأحقق هذا الاختيار بالمقارنات بين ماضي اختباراتي وبين الظرف القائم، ولي هدف في كل ذلك هو التزام ما يسرني وتجنب ما يؤلمني.

ولكننا هنا نحتاج إلى التنبيه بأن الذاكرة ليست كالعادة؛ لأني وأنا أمارس العادة لا أحتار، ولكني في الذاكرة أحتار، والعادة آلية جامدة لا تقبل التنقيح والتغيير، ولكن الذاكرة حيوية هدفية؛ أي: ترمي إلى غاية.

Page inconnue