في ضوء هذه الإيضاحات نفهم تعريف ابن سينا للقوة بأنها: «ما به يجوز من الشيء فعل أو انفعال.»
7
وتعريف ابن رشد بأنها: «الاستعداد الذي في الشيء والإمكان الذي فيه لأن يوجد بالفعل.»
8
فالعبارتان تعرفان القوة، لا في ذاتها، وهي غير مدركة بما هي كذلك، بل الفعل، وهي إنما تعترف به؛ إذ إنها نسبة إليه، أي كافية له، أو قدرة عليه واستطاعة له. والعبارتان تثبتان القوة على أنها وجود حقيقي وإن لم تكن فعلا. وقول ابن سينا: «ما به يجوز من الشيء فعل أو انفعال» يضارع قول ابن رشد «الاستعداد الذي في الشيء والإمكان الذي فيه» لا مجرد الإمكان أو القوة البعيدة، بل الاستعداد الوجودي الذي بدونه لا يجوز من الشيء فعل أو انفعال. فأصل اللفظ الدلالة على ما ليس موجودا بالفعل لكنه يقدر أن يوجد أو يقوى على الوجود بالفعل. فلا ينبغي أن يصدنا خفاء القوة في ذاتها عن وضعها في الوجود كقسيمة للفعل، من حيث إنها نسبة حقيقية إلى الفعل لولاها لا يوجد الفعل، وإنها كالفعل تقال بطريق التناسب لتباينها بتباين الموجودات وأفعالها، مع الوحدة الدال عليها اسمها والمعرفة ههنا.
ففي المسألة ثلاثة مذاهب: مذهب يقول بالقوة وحسب، كما نراه عند هرقليطس وهجل وبرجسون، فيتصور الوجود غير معقول وصيرورة صرف. ومذهب يؤمن بالفعل وحسب، فيجمع الكل في واحد، ويعتبر الصيرورة وهما، كما نرى عند بارمنيدس، أو شبه وهم، كما نرى عند سبينوزا. قال بارمنيدس: «الوجود موجود، فلا يحدث عنه وجود»، ظانا أن الوجود هو بالفعل حتما، وأنه متجانس على ما يشبه أن يبدو في ذهننا، فلا كثرة ولا صيرورة، غير عارف أن الوجود قد يكون أيضا بالقوة، أو أن القوة نوع من الوجود، وأن الصيرورة خروجها إلى الفعل، وغير عارف أن وحدة معنى الوجود في الذهن هي ثمرة تجريد عقلي من موجودات متعددة يقال عليها بالتشكيك لتغايرها، فالكثرة ممكنة، وهي الأصل الذي يواجهنا بادئ ذي بدء. أما سبينوزا فقد قبل الكثرة، لكن على أنها كثرة صفات وأحوال لجوهر كلي واحد ، وقبل الصيرورة ، لكن على أنها صيرورة آلية تتدافع فيها الأحوال أي الجزئيات، ويفعل كل منها بما يتلقى من دفع لا بقوة مركوزة فيه. وهذا نوع من التوسط بين بارمنيدس وهرقليطس، مع ميل إلى الأول أشد، من حيث إن الأصل عنده أيضا الوحدة والثبات، وإنه لا يبقى معهما للكثرة والصيرورة إلا ظل من وجود مستند على الجوهر الأوحد.
الوسط الحق هو المذهب الثالث: مذهب أرسطو؛ يجمع بين القوة والفعل، ويرى أن القوة، وإن كانت غير معقولة في ذاتها، فهي معقولة بالقياس إلى الذي يخرج إليه؛ فإن الفعل كمال القوة ومن أجله وجدت، وهو محققها، فما من متغير إلا وله مغير، أو ما من متحرك إلا وله محرك، وعلى ذلك يخطئ الذين يفسرون الكون بتطور المادة، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمنا غير متناه. ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل، ومن الاختلاط إلى النظام. وبفضل هذه البديهيات يتفق العقل مع الوجود، ويصعد إلى فاعل أول. (3) الجوهر والعرض
من الموجودات ما هو منفصل عما سواه، قائم بذات متقوم في ذاته، معين تعيينا أوليا بماهية باقية ما بقي هو، مثلما نرى في زيد هذا أنه إنسان. ومنها ما هو حال في المتقوم في ذاته، معين له تعيينا ثانويا يجعل منه شخصا مشارا إليه، كالمقدار واللون وسائر ما ينضاف على الماهية في الأشخاص. وهذا التعيين الثانوي قد يكون «مفارقا» زائلا، وهو في الغالب كذلك. وقد يكون «لازما» ثابتا، كالبياض في ققنس العالم القديم، أو السواد في ققنس العالم الجديد (10ج)، دون أن يمنع لزومه وثباته من اعتباره ثانويا متمايزا من الماهية جائز المفارقة.
فالموجود الذي من النوع الأول محل وموضوع للذي من النوع الثاني، وليس هو في محل أو موضوع. وظاهر أن المتقوم في ذاته المقوم لغيره أشرف من هذا المتقوم به. وبهذا الاعتبار اصطلح في العربية على تسمية المتقوم في ذاته «جوهرا» وعلى تسمية المتقوم في غيره «عرضا». قال الغزالي: «الجوهر اسم وضعه واضع اللغة لحجر يعرفه الصيرفي ، ونقله المتكلم (صاحب علم الكلام) إلى معنى هو أحد أقسام الموجودات.»
9
Page inconnue