1
ونسميها بأقسام الوجود؛ لأن منها ما يتحقق في بعض الموجودات دون بعض، أو في بعض الموجدات تارة وفي بعض آخر تارة أخرى على التوالي: فمن الموجودات ما هو بالفعل من وجه أو وجوه ثم يعود إلى القوة، ومنها ما هو بالقوة من وجه أو وجوه ثم يخرج إلى الفعل، ومنها جواهر، ومنها أعراض. والموجودات المتحققة ماهيات مع وجود، بينما الممكنات ماهيات وحسب، ثم يحصل الوجود لما يتحقق منها. والموجودات متفاعلة: فمنها علل، ومنها معلولات. وهي مترتبة: فمنها غايات، ومنها وسائل. فهذه الأمور عامة في عموم الوجود، وليس بعد من «لواحق الوجود بما هو موجود إلا ما كان مشتركا لجميع الأجناس الموجودة».
2
هذا فضلا عن أن الله ينفرد عن سائر الموجودات بأنه فعل محض لا تخالطه قوة، وجوهر لا تحل فيه أعراض، ووجود لا تحده ماهية، وعلة قصوى لا معلول بحال، وغاية أخيرة لا وسيلة على الإطلاق، فها نحن أولاء نشرحها حتى تتضح من جميع نواحيها. (2) الفعل والقوة
أما الفعل فأمره ظاهر حتى ليس يمكن تعريفه لبساطته وظهوره؛ فإنه من المعاني الأوائل المعلومة بداهة. وأصل اللفظ قوله عن حدث العمل أو فعل العمل. ولما كان الفعل كمالا ما، فقد أطلق اللفظ أيضا على كمال الفعل أو تمامه بعد الحركة التي هي فعل غير تام لا يوجد إلا بالتدريج. والقول بالتغير الدائم أو التطور الخالق، كما يقول هرقليطس وهجل وبرجسون، لا ينافي الفعل: فما دام هناك تغير أو خلق فهذا يعني أن هناك انتقالا من شيء إلى شيء، أو من حال لشيء إلى حال آخر، أي إن هناك فوارق، والفعل لازم قبل حدوث الفارق ولأجل حدوثه. ويطلق اسم الفعل بطريق التناسب، كما يطلق اسم الوجود نفسه وأسماء لواحقه؛ لأنه متباين بتباين الموجودات وأفعاله، وله مع ذلك وحدة نسبية كالوحدة التي لاسم الوجود وأسماء لواحقه.
وأما القوة فأمرها خفي يقتضي إمعان النظر، وقد أنكرها بعض الفلاسفة وغلط فيها آخرون. الأصل في استكشاف القوة والتمييز بينها وبين الفعل هو التغير الذي تظهرنا عليه التجربة ظاهرة وباطنة؛ فإننا إذ نرى الأشياء تتغير فتوجد بعد لاوجود، أو يوجد لها حال لم يكن لها، نميز بين ما حدث بالفعل وما لم يحدث ويمكن أن يحدث. فإذا رأينا مثلا حبة قمح تزرع فتنبت حبوبا مثلها، خطر لنا حتما أن الحبوب النابتة إنما نبتت بقوة ما في الحبوب المزروعة، وأن ليس لحبة فول قوة على إنبات قمح، ولكن لها قوة على إنبات فول، وأن ليس لقطعة حديد أو خشب أو طباشير قوة على إنبات شيء. وإذا رأينا إنسانا ما يقرأ ويكتب، ويترك القراءة والكتابة ويعود إليهما متى شاء؛ أدركنا أن له قوة عليهما لم تكن له قبل تعلمهما، وليست لغيره ممن لا يزالون أميين. وهذه خطوة أولى لتعرف القوة بما هي، أو لتعرف وجودها على الأقل.
ونستطيع أن نتقدم خطوة أخرى لنعرفها بما ليست هي، فنقول: أولا تبعا لما تقدم إنها ليست مجرد الإمكان المنطقي لما لا يتضمن تناقضا، فإذا قلنا إن القوة وجود غير متحقق وممكن التحقق، أردنا أنها شيء ما في طبيعة الموجود المتغير زائد على مجرد الإمكان وأقرب منه إلى التحقق. ثانيا: ليست القوة هي الفعل كما يذهب إليه منكروها، فقد وجد بين الفلاسفة القدماء من ادعوا أن القوة لا توجد إلا متى وجد الفعل، وأن الذي لا يبني ليس له قوة البناء، ولكنها للذي يبني في الوقت الذي يبني.
3
ويكاد يجمع الفلاسفة المحدثون على إنكار القوة كذلك: فديكارت اعتبر الأجسام امتدادا وحسب، وعلل فعلها بحركة من خارج دون حاجة إلى قوى فيها، واعتبر النفس جامعة للأفعال الوجدانية وفاعلة على الدوام دون حاجة إلى قوى، وهو ينبه على «أن الفكر عين الجوهر المفكر أو النفس، وأن الامتداد عين الجوهر الممتد أو الجسم»،
4 «وأن القوة العارفة ما هي إلا قوة واحدة بعينها تسمى بسبب تعدد وظائفها: عقلا خالصا أو مخيلة أو ذاكرة أو بصرا أو سمعا» ... إلخ، كل ما في الأمر «أسماء نلتزم التمايز بينها،
Page inconnue