أجل لم يكن هذا الموقف جديدا كل الجدة، ففي الفلسفة اليونانية ما يماثله بعض المماثلة أو يمهد له، فلنذكر قول بروتا غوراس إن الواحد منا مقياس الأشياء من حيث إن إحساسه هو الموجود بالنسبة إليه، فللذي يرتعش بردا أن يقول إن الهواء بارد، وللذي لا يحس بردا أن يقول ليس الهواء ببارد، وكل صادق في حكمه من حيث إنه يعبر عن انفعاله الشخصي، وإن الانفعال نسبي شخصي بالضرورة. ولنذكر أن أفلاطون أنزل النفس الإنسانية من السماء إلى الأرض حاملة المثل، كلما أدركت بالحس جزئيا ما أو طائفة من الجزئيات تذكرت المثال المقابل وتعقله هو بحيث ينصب العلم على المثل لا على الجزئيات. ولنذكر أن النفس عند أفلاطون جوهر تام حال في البدن حلول شيء تام في شيء تام، فليس لها أن تتصل بالأشياء مباشرة، وليست الأشياء عنده سوى امتداد وحركة، على ما يفصله في محاورة تيماوس، فتأثيرها في أعضاء الحواس آلي بحت، وأعضاء الحواس مادية. وليست المادة دراكة، فينتج من كل ذلك أن الإحساس فعل النفس وحدها أو انفعالها وحدها، غير أن أحدا من اليونان لم ينكر وجود العالم، ولم يضعه موضع السؤال. وقد وصف أفلاطون الجزئيات بأنها أشباح المثل، ولم يشك في وجودها. كذلك لم يشك بروتا غوراس في هذا الوجود، وغاية ما ارتآه أن الإحساس نتيجة حركتين: الواحدة من الشيء، والأخرى من الحاسة تنفعل بالأولى على حساب حالها هي، فتدرك انفعالها ولا تدرك حقيقة الشيء. أما المبدأ التصوري فمقتضاه أن المعرفة (إحساسا كانت أو تعقلا) هي كلها من العارف، حتى لو خلص لنا بالاستنتاج أن العالم موجود، ما دمنا لا نقر معرفتنا بوجود العالم على كفاية الحواس أنفسها للإدراك، بل على أمر مغاير لفعل الحواس، كصدق الله مثلا أو كمبدأ العلية. وهذا هو الفارق الأساسي بين ما ذهب إليه القدماء من نسبية
relativisme
أو عندية
subjectivisme
1
وبين ما استحدثه ديكارت من تصورية
idealisme
فضلا عن فارق آخر هام سنذكره الآن.
وديكارت أفلاطوني النزعة، بل المذهب، كان رياضيا عظيما، وكان فيلسوفا عظيما، فزاول الرياضيات وفكر في ماهياتها، فوجد أنها آية من آيات العقل الخالص، سواء اعتبرنا موضوعاتها أو تعريفاتها أو منهاجها، فالموضوعات مجردات، ومنها ما لا شبيه له في الخارج، وإنما هو من إيداع العقل؛ والتعريفات أحرى أن تكون وصفا لتكويننا للموضوعات من أن تكون تعريفات للموضوعات أنفسها؛ والمناهج عقلية مفروضة فرضا ومفصلة على قدر الموضوعات والتعريفات. لذا بانت له الرياضيات المثل الأعلى للعلم، وبان له منهجها المنهج العلمي المطلق. ومن جهة أخرى صحت عنده النظرية الآلية كتفسير للطبيعة، تلك النظرية المنحدرة عن ديموقرايطس وأفلاطون إلى علماء القرن الرابع عشر وعصر النهضة، فصارت بين أيديهم أداة خصبة للتحقيق والاستكشاف بعد أن كانت محض نظرية، وزادها خصبا تطبيق الرياضيات عليها وصوغ القوانين الطبيعية في صيغ رياضية، حتى بان العلم الطبيعي نفسه وكأنه علم عقلي كالرياضيات. ومن شأن النظرية الآلية تجريد الأجسام من الكيفيات، فصح عند ديكارت أن الكيفيات انفعالات وحسب، وأن كل ما يبدو في الفكر فهو تابع من ذات الفكر.
ولكن الفكر أشتات من تصورات جزئية يراها ديكارت غامضة مختلطة، وتصورات يراها جلية متميزة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا ضروريا، الطائفة الأولى تضم إحساسات الحياة العادية، والطائفة الثانية تضم الموضوعات العلمية. ولقد كان من الأهمية بمكان عظيم عند ديكارت ومعاصريه صون العلم وتبريره، وقد نشط العلم نشاطا عديم النظير، ففرض نفسه على العقول بما اكتسب في النظر من دقة وسعة، وما أتاح بتطبيقه في العمل من منافع، فلم يكن يخطر لأحد ببال أن ينكر هذا العلم كما أنكر قدماء الشكاك علم عصرهم الذي لم يؤت من الثمار شيئا مذكورا. وأحس الفلاسفة التصوريون حاجة ماسة إلى منهج يمكنهم من الفصل بين الموضوعات العلمية والتصورات الواقعية، فرأوا وجوب التمييز بين فكرين: أحدهما فكر الشخص بما هو هذا الشخص المعين؛ ومن هذه الوجهة يختلف الناس ويتناقضون، والآخر فكر خالص يوحي بالموضوعات العلمية وبشروط المعرفة الكلية التي يجب أن تتفق عليها العقول جميعا؛ وهذا هو الفارق الآخر بين العندية القديمة والعندية الحديثة. وتكاثرت الكتب في المنهج، وكان منها كتابان شهيران لديكارت: أحدهما «قواعد قيادة العقل»، والآخر «مقال في المنهج». وقاده المنهج في تفسيره لموضوعات العلوم إلى أنها مؤلفة من «طبائع بسيطة»، غريزية في النفس (كغريزة المثل الأفلاطونية)، جلية متميزة لبساطتها وبيانها، مدركة إدراكا حدسيا بالعقل وحده؛ فلا يخطئ فيها العقل، وإنما هو يتخذ منها أصولا لاستنباط العالم أجمع، بل إنها من البساطة، وإن العقل من القدرة ليستنبط عوالم كثيرة بتركيبها بعضها مع بعض على جميع الأنحاء الممكنة، فلا يبقى من فائدة للحس سوى أن يميز من بينها العالم المحقق بالفعل. ومضى الفلاسفة على أثر ديكارت، وجهد كل نفسه ليتبين ويبين للناس المنهج الذي يكفل قيام العلم ويفسر أسس المعرفة، حتى صارت مسألة المعرفة مشكلة المشاكل وطغت على الفلسفة بأسرها. واشتد المد والجزر بين تصورية كلية لا تعترف بشيء غير الفكر، وتصورية جزئية تعترف بشيء غير الفكر، ولكنه الله عند البعض كعلة للأفكار الحسية والعقلية، أو الامتداد البحت عن بعض آخر كأصل للأفكار الحسية، وهذه بدورها كأصل للأفكار العقلية، على ما مر بنا عن الحسيين في الباب الأول.
Page inconnue