Croyances des penseurs
عقائد المفكرين
Genres
كانت الأرض مسرح درامة التاريخ والإنسان فيها ذروة الخليقة وغايتها، وجاءت الكوميدية الإلهية من نظم دانتي ختاما لعهد مدبر، كان نظام الكون فيه كأنه عملية إخراج مسرحي لقصة الإنسان. ففي ناحية من الأرض كهف مطبق على دوائر جهنم، وعلى جبل في ناحية أخرى ترتفع دوائر الأعراف، وفوق هذا الجبل على مسافة منه وردة الفردوس التي يستوي على ورقاتها القديسون والأبرار، وكان من اليسير في ذلك العهد أن يبني الخيال أساس رموزه غير منقوضة بحقائق الواقع المقرر، ولم يكن عليه شبهة من عنت التوفيق بين مدى الأيام الستة وآماد التطور الكوني على حسب المعلومات الأخيرة. وقد كافح الناس كفاح الأبطال لملاقاة مشكلة الشر ليصبروا عليها لا ليصرفوها ويفسروها التفسير الذي يمحوها، وأحسوا الظلمات من حولهم فالتمسوا العزاء فيها باعتمادهم على قدرة الله أن يبدل النواميس الطبيعية بنعمته ويحيلها روحانية علوية، ولم تزل قوى الطبيعة تلوح لهم طيعة خاضعة لعالم الروح جارية في خدمة الأقدار التي تتلقاها مما وراء الطبيعة. كانت دنيا مكنونة في حيز ملموم تطلع الشمس لتنيرها بالنهار ثم تطلع النجوم لتنيرها بالليل ...
ثم هبت ثورة كوبرنيكس وفتحت الأعين على نظرة علمية إلى الوجود كله، فليست الأرض مركز الكون بل ذرة لا يؤبه لها في إحدى المنظومات الصغيرة. وسأل السائلون: ما هو هذا الإنسان الذي تتولاه بعنايتك؟ وما هو ابن الإنسان الذي تخصه بزورتك؟ إن الأرض وعليها الإنسان ضائعة في آفاق ليس لها نهاية، وهذه الآفاق الكونية بما وسعت محكومة كلها بالقوانين الآلية. ولم يقل «لابلاس» غير المقال الذي يردده الجميع حين قال لنابليون إنه لم يجد ضرورة لفرض إله في نظام المكنة العلوية. وإذا كانت كشوف كوبرنيكس قد أبدت لنا هذا الإنسان ضائعا في المكان لقد جاءت آراء داروين فأبدته لنا ضائعا في الزمان، فتراءى كأنه حلقة في سلسلة الحياة، أولها وآخرها محتجبان في غياهب الخفاء بدلا من قيامه على أوج الخليقة الأولى.
في دنيا العلم هذه يرى أنه لا محل للديانة المشبهة ولا للإله المشبه، ويرى أن القلب الإنساني قد ضيع نفسه مستسلما للعقل كفاحه بين يدي الله ...
هذه صورة صادقة للعالم كما بدا في أعين الناس بعد أن جاء كوبرنيكس، فأخرج الأرض من مركز الكون وأطلقها مع الشمس في أجواز الفضاء!
لكنها في أساسها صورة كاذبة لا أصل لها على الإطلاق في المعتقدات الدينية، فليس في الأديان الكتابية عقيدة توجب على الإنسان أن يؤمن بجمود الأرض في مكانها ودوران الأفلاك من حولها، وليس في الأديان الكبرى قاطبة حكم من الأحكام يعلق مقاصد الخلق على وضع من أوضاع الفلك، وما كان لغير العادة المألوفة والفهم الخاطئ دخل في تصوير العالم على تلك الصورة.
لقد كانت صورة الأرض في وسط العالم من عمل أرسطو وبطليموس، ولم يتفقا على وضعها في ذلك الموضع ولا على تقدير الحركات الفلكية التي تحيط بموضعها، مما حير كوبرنيكس وأحزنه. فحكمت العادة أيضا حكمها عليه وخيل إليه أنه يقتحم على الفلك هيكله الأقدس، وهو يبحث فيه عن مستقر يوفق بين دورة أرسطو ودورة بطليموس ... وقال للبابا إنه طرق هذا الباب وهو جد حزين.
ولم يكن المتدينون يبحثون كبحث كوبرنيكس في هذا الموضوع ولم يكن كوبرنيكس نفسه - في وسط هاتيك الأضواء جميعا - على هدى من أمره كل الهدى فيما يدع وفيما يختار ... لقد كان أمامه مذهب فيثاغوراس الذي قال إن الأرض كرة تسبح في الفضاء، فتركه ناحية ووقف مع أرسطو وبطليموس حيث سكن به المطاف، وأدار على الأرض تلك الدوائر التي تشبه دوائر شاعرنا ابن الرومي: ... بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر!
غير أنهم جميعا ناموا على وساد الأرض كما هي في مركز الكون! فاضطربوا حين هبوا من رقدتهم تلك على غير وساد.
وإن موقف المتهجمين على الحقائق باسم الدين في ذلك الزمن لهو العبرة الخالدة لمن يعتبر، لو كان العلم عبرة صالحة لمن يجهله في زمن من الأزمان.
Page inconnue