فالأجدر بنا - إذن - ألا نوزع انتباهنا بين أشتات الأفكار الفرعية التي تسود عصرنا وتعطيه طابعه الخاص، بل الأجدر بنا هو البحث عن «المبدأ» المحوري الذي هو الأساس الذي تفرعت منه سائر الأفكار الصغرى، وها هنا قد يحدث اختلاف في الرأي عما يصح أن يكون «مبدأ» لهذا العصر القائم، ولكنه عندئذ يكون اختلافا في عملية التحليل النظري، الذي يرد الكثرة الظاهرة إلى ما يجمعها ويوحدها، وأما وجهة النظر التي أؤيدها دون سواها في هذا الصدد، فهي أن «المبدأ» الذي جاء ليجعل عصرنا هذا عصرا قائما بذاته، إنما هو النظر إلى كل شيء بما في ذلك الكائنات الحية على اختلافها، بل بما في ذلك أيضا الكون من حيث هو وجود شامل لكل ما هنالك. أقول إن مبدأ عصرنا هو النظر إلى كل شيء، لا على أنه ذو جوهر ثابت ودائم، بل على أنه «تاريخ»، ومعنى «تاريخ» هو أن كل شيء هو سلسلة من لحظات، له في كل لحظة حالة متميزة بصفاتها. فإذا سألتني عن أي إنسان، أو شجرة، أو مدينة، أو أسرة، أو ما شئت أن تسأل عنه: ما هو، وما حقيقته؟ كان الجواب الصحيح إذا أردناه، هو أن أقص عليك «تاريخ» الشيء الذي تسأل عن هويته وحقيقته، أي إن الجواب الصحيح هو أن نتعقب لحظات الزمن المتعاقبة، التي هي هي نفسها وجود الشيء موضع السؤال، لنرى ما حدث فيها من تحولات لحظة بعد لحظة، فإذا كان ذلك عسير التحقيق من الوجهة العملية، فلا أقل من أن نكتفي باللحظات البارزة في سير التحول، وأيا ما كان الأمر، فالصواب هو أن تتصور أي شيء تريد أن تراه على حقيقته، أن تتصوره في إطار تحولاته وتغيراته، وليس كما كانت طريقة النظر فيما سبق، وهو تصور الأشياء وشتى الكائنات على أن الشيء منها أو الكائن هو كالحقيقة الرياضية لا تتغير، فقد كانت في ماضيها كما هي كائنة الآن، وكما سوف تكون غدا، وحتى الكون في مجموعه - من حيث هو كيان موحد - يقول عنه علم عصرنا إنه في اتساع مستمر، فهو إذن في هذه الحقبة الزمنية غير ما كان عليه، وغير ما سوف يكون عليه، من حيث الاتساع وما يترتب على الاتساع من نتائج، على أن سؤالا يرد هنا ويلح حتى يكون له جواب مقنع وهو: إذا سالت بين أيدينا حقائق الأشياء هكذا، ليصبح كل شيء منها وكأنه سيرة تنتقل من لحظة بما فيها إلى لحظة أخرى بما فيها، وهكذا، فأين نجد «الهوية» الثابتة لأي كائن، بحيث نتمكن من الحديث عنه والإشارة إليه؟ فيجيء جواب ذلك قائلا: إن تلك الهوية التي تميز كائنا من كائن إنما هي في «العلاقات» الرابطة بين اللحظات المتعاقبة، وإنه لفي حكم المستحيل - رياضيا - أن يتشابه خطان تشابها كاملا.
ذلك هو مبدأ النظر في عصرنا ، وهو بمثابة الأساس العميق الذي بنيت عليه التصورات الجديدة في كل الميادين، بما في ذلك «العلوم» نفسها، في أطرها الجديدة، وحسبنا من هذا كله، إذا أردنا أن نعيش عصرنا في روحه التي تميزه، أن ننظر إلى «التغيير» لا على أنه صفة طارئة على ما هو كائن وقائم؛ بحيث نسأل: لماذا تغير هذا أو تغير ذاك من أوضاع حياتنا؟ بل أن نجعل سكون الأوضاع على حالة بعينها، دون أن يطرأ عليها تغير يستوجبه مر الزمن، هو الشذوذ الذي يستدعي منا السؤال: ما الذي حدث لهذا الشيء أو ذاك، فسكن وجمد على حالة واحدة، وكان ينبغي له أن يتغير؟
فالذين يتساءلوا، وكان في تساؤل بعضهم نبرة ساخرة، قائلين: كيف يعقل أن يعيش إنسان في هذا العصر، ثم نقول عنه إنه ليس معاصرا، إلى هؤلاء نقول: إن معنى «العصر» هو أفكاره ومبادئه التي تسوده، وليس معناه مجرد وجود زمني يقاس بأعوامه وشهوره ودقائقه وثوانيه، وعلى هذه الخلفية الفكرية التي هي «العصر» تجيء مطالبة الناس بأن يكونوا مبدعين لا تابعين.
الفصل التاسع والعشرون
ورقة مزقها طفل
لم تزل تلك الصورة الذهنية تعاودني كلما خيل إلي أن حياتنا - في كل جانب من جوانبها - قد أصابها ازدواجية خطيرة، فالروح المصرية الصميمة وهي في كامل جلالها ووقارها وصلابتها وروعتها، ما زالت بحمد الله مكنونة في العمق، وأما «السطح» في تيار حياتنا الجارية فقد ازدحمت على أمواجه شوائب تراها سابحة أينما وجهت البصر، مما يوهم الرائي أنه لم يعد بين المصري والمصري ولا بين المصري ووطنه، ذلك الحب الذي عرفناه، فكلما استيقظت مع الصباح لتطالع صحف اليوم؛ فاجأتك روايات لم تكن هي الروايات التي ألف المصريون فيما قبل هذه المرحلة من تاريخهم، أن يطالعوها بعضهم عن بعض، من سلب ونهب وخديعة وغدر وتعذيب وقتل، وكل ذلك كثيرا ما يقع حتى بين أعضاء الأسرة الواحدة، وعلى صور لم تعرف الرحمة سبيلا إليها، فماذا أصابنا حتى ذهبت الطيبة عن المصري «الطيب»؟ أو هكذا توهم الشوائب السابحة على سطح التيار رائيها .
أقول إنها صورة غامضة تعاودني، كلما حدث ما يثير في نفسي هذا السؤال: هل ذهبت عن المصري «الطيب» طيبته؟ لكنني كنت في كل مرة أواجه فيها عقلي بسؤال كهذا، أحسست فيه شيئا من الغموض، بأن الأمر لا يعدو السطح من تيار الحياة، وأما العمق فهناك ألف دليل على أنه لا يزال هو ذلك العمق الرزين الرصين الذي عرف به المصري على طول التاريخ ... فلما عاودني السؤال نفسه هذه المرة، وطمأنت نفسي بمثل تلك الإجابة، أبى العقل أن يدع المناسبة تمضي كما مضت سالفاتها، ورأى أن السؤال جاد ويحتاج إلى وقفة فيها تحليل وتمحيص وأمانة في الجواب، فما أيسر أن نقول إن حياتنا إنما هي كالنهر الجاري، وإنه إذا كانت الشائبات قد شوهت سطحه، فذلك عارض عابر، وأما أعماق النهر فهي لم تزل على نقائها وصفائها، من السهل أن نرسم لأنفسنا صورا كهذه، فتطمئن لها قلوبنا، لكنها لا تؤثر في تلك الأعلاق السابحة الشائهة فتزول.
ويظل السؤال قائما: ماذا أصابنا فشطر حياتنا إلى سطح وعمق يختلفان جوهرا وعنصرا، فخبث عائم على السطح، وطيبة كامنة في العمق، إذا صحت الصورة الذهنية التي لم تفتأ تعاودني كلما ألقيت السؤال؟
وشاءت لي المصادفات ذات يوم أن أترك غرفة مكتبي في المنزل لبضع دقائق، وكان فيها إذ ذاك طفل في نحو الخامسة من عمره، صاحب والديه في زيارة أسرية عابرة، فعبث الطفل بيديه الصغيرتين في أوراق موضوعة على المكتب، ومزق إحداها في محاولة أن يصنع منها مركبا، ولما فشل في تحقيق غايته أخذه الغيظ ومزق الورقة حتى أحالها إلى مجموعة من قطع صغيرة، وعدت إلى الغرفة لأشهد الأشلاء متناثرة على الأرض بعد تلك المذبحة، وعرفت أن الورقة الممزقة كانت تحمل لي مذكرات من أنفس ما دونته وحفظته في خزانة، ليبقى مصونا عندي عشرات السنين، وكنت قد أخرجت تلك الورقة من مكمنها منذ يوم واحد، راجيا أن أطالع ما فيها لتسترجع الذاكرة فكرة أردتها، ولكن حدث الذي حدث، والأمر لله من قبل ومن بعد، وغامت نفسي بسحابة خفيفة من أسف حزين، وكأنما أراد لي الله سبحانه ألا تطول تلك السحابة القابضة، فتذكرت حادثة يرويها تاريخ الأدب الإنجليزي عن «كارلايل»، وهي أنه بعد أن فرغ من آيته الأدبية الكبرى، التي هي تاريخ الثورة الفرنسية، أعطى أصول الكتاب إلى جارة له صديقة، وكانت بدورها أديبة مرموقة، لتقرأها وتبدي رأيها فيها، فتركتها في غرفة الجلوس بجوار المدفأة وخرجت لبضع دقائق، وعادت فوجدت كلبها قد عبث بتلك الأوراق ودفع بها إلى النار، فلم يكن من كارلايل - وقد كادت الصدمة تصعقه بهولها - إلا أن يستجمع عزيمته ليكتب الكتاب من جديد، وذلك معناه عمل متواصل لفترة طويلة من الزمن، حتى أتم كتابه في صورته الثانية، وهي صورة قال عنها فيما بعد، وقال عنها كذلك أصدقاؤه الذين أطلعهم على أصول الكتاب؛ إنها لم تبلغ قط ما كانت بلغته الصورة الأولى من روعة البلاغة. تذكرت حادثة كارلايل هذه، فهدأت نفسي، وأخذت ألهو بالقصاصات المبعثرة على أرض الغرفة، وأقرأ ما عليها من جمل مبتورة، متسائلا عند كل قصاصة منها: أين هذه الأشلاء المجزوءة من ذلك الجسم الجميل عندما كان في اكتماله؟ وما إن طاف هذا الخاطر في رأسي، حتى همست: إن في هذا لجوابا على السؤال الذي طرحناه عن المصري وما أصابه - على السطح - في هذه المرحلة من حياته.
الورقة النفيسة التي عبث بها الطفل بيديه الصغيرتين فمزقها، كانت قوية الدلالة غزيرة المعنى، وهي متكاملة موصولة الأجزاء موحدة الكيان، فلما تجزأت ورقات صغيرة مستقلة إحداها عن الأخريات، بات كل جزء على حدة معدوم الدلالة مفقود المعنى، كانت الورقة وهي سليمة البناء تشع نورا بفحواها، فلما تمزقت أوصالها، أصبح كل جزء من أجزائها وكأنه رقعة مظلمة، وأصبح الظلام مجموعا إلى ظلام لا ينتج إلا ظلاما أو ما يشبه الظلام، إن القصة يرويها الراوي مسلسلة الوقائع، يتلقاها السامع وكأنها نسيج حي من دنيا الناس ونبضها، فإذا مزقها الراوي ليحكيها سطرا من هنا وسطرا من هناك، بحيث لا يكون لها أول ووسط وآخر؛ انقلبت خليطا من الصوت كخليط المجانين، لقد كانت محنة بابل التي عوقبت بها لعصيانها، أن تعددت اللغات بين أبنائها، وانفرد كل جزء من أجزائها بلسان، فلم يفهم أحد عن أحد شيئا، فأصبحت زحاما متنافرا، ولم تعد أمة واحدة متفاهمة متجانسة .
Page inconnue