قلت لنفسي: إذا سلمنا بأن هذا الوصف صحيح لحياة الناس في عصرنا؛ فأهم منه أن نبحث عن طريق الخلاص. إن شيئا كالذي ذكرته من غموض الرؤية، ومن الانفصام بين الوسائل وغاياتها هو ما قد يعلل لنا لماذا تحولت أسرة أقاربي من غنى مستور إلى فقر، ومن يدري؟ لعل النذير الذي أرادت به الأقدار أن توقظ تلك الأسرة من غفلتها كان في الشجرة التي باتت حطبا يابسا توقد به النار، بعد أن رأيتها في عزها قوية ظليلة خضراء، وإذا كانت قوانين الحياة تأبى على الحطب اليابس أن يرتد شجرة كالتي كانت، فكيف ترى السبيل؟
وأجبت نفسي عن سؤالها قائلا: السبيل واضح لمن يريده، وهو أن نزرع شجرة جديدة ننتقي بذرتها ونتولاها بالرعاية، وما أسرع أن تكر السنون، فإذا نحن مرة أخرى مع شجرة سامقة كثيفة الأوراق الخضر، تفرش لنا الأرض بظلها، كتلك التي كانت بالأمس شجرة ظليلة خضراء.
الفصل الثاني والعشرون
سبع سنابل
كنت أعلم يومئذ أن الرجل قد أكمل عمره ثمانين عاما منذ أربعة أيام. إنه جاري، وقطعنا معا في ظل الجوار الحسن حينا طويلا من الدهر، لم يحدث بيننا قط خلالها ما يعكر صفو الود، وربما ساعدنا على ذلك أننا إذا ما التقينا جعلنا اللقاء خالصا من أجل قضايا الفكر المحايد وما يتفرع عن تلك القضايا من مسائل تستحق النظر؛ لأنها كثيرا ما كانت مما يمس حياتنا الثقافية مسا مباشرا، إنني لا أزعم أن «الصداقة» كانت هي الرباط الذي يصل بيننا؛ لأن الصداقة الحقيقية تقتضي أن تسقط الحواجز بين الصديقين ليعيشا معا في رحب واحد، وكأنهما روح واحد في جسدين، وأما العلاقة بيني وبين جاري فلم تكن كذلك؛ إذ قصرناها على جانب واحد مشترك بيننا، هو جانب الفكر وما يلزم عنه، ثم يظل كل منا بعد ذلك عالما مغلقا بالنسبة إلى الآخر.
ومع ذلك، فقد كنا على تشابه شديد في الخلق وفي وجهة النظر، كلانا منطو على نفسه إلى حد كبير يكاد الواحد منا إذا ما أجبرته الظروف أن يلتقي مع آخرين، أن يكون كالظل يتحرك في غير صوت، وكالظل كذلك بغير كثافة كالكثافة التي تكون للأجسام، إن كلينا يتحقق له وجوده وهو منفرد، وكلانا مطمع سهل لمن تعود التغذي بلحوم البشر، وهم - يا سبحان الله - كثيرون.
نعم، كنت أعلم يومئذ أن صاحبي قد أكمل من العمر ثمانين عاما، وتمنيت أن أقيم له لقاء مختصرا بسيطا هادئا، ولا أقول «احتفالا»، لكنني كنت على يقين أنه يموت في جلده إذا ما تعرض لمثل هذا اللقاء، مهما بلغ من الاختصار والبساطة والهدوء، ولماذا تمنيت ذلك؟ تمنيته لأني شعرت أن عدد الثمانين في أعوام العمر، ليس كأي عدد آخر! فالأعوام لا تتساوى في رحلة العمر، بل إن بينها ما يشبه «المحطات» في طريق السفر، يحسن الوقوف عندها، فعند الحادية والعشرين التي هي سن بلوغ الرشد يستحيل ألا تسري في الشاب هزة كأن أحدا يوقظه قائلا له: لقد أصبحت منذ اليوم - يا ولد - رجلا بين الرجال، وعند بلوغ الأربعين محطة أخرى، يستحيل ألا يسمع فيها صوتا داخليا يحذره: إنك يا صاحبي لم تعد شابا!
وعند الستين محطة ثالثة، إذا لم يستيقظ لها صاحبها من تلقاء نفسه أيقظه قانون «المعاشات» إذا كان موظفا في الدولة، وأما محطة الثمانين - بالقياس إلى سابقاتها جميعا - فلها شأن آخر، تحركت له قلوب الشعراء الذين كتب لهم أن يعيشوا ليبلغوها، وذلك لأن الثمانين «بوابة» يدخلها الداخل وكأنه قد أصبح على مشارف الأعراف (في مراحل الصعود عند دانتي)، عجيبة هي تلك المشاعر التي يخفق بها القلب عند بالغ الثمانين، وهي مشاعر قد يختلف فيها محور الاهتمام عند الأفراد المختلفين، لكنها تندرج جميعا تحت عنوان واحد، هو أن السيرة قد بدأت الفصل الأخير من روايتها، وأما الاختلافات في محاور الاهتمام بين الأفراد، فهي في أن يتعقب أحدهم ما يطرأ على أعضاء بدنه من ضعف، كذلك الشاعر الذي ينبئنا في بيت من شعره بأن الثمانين قد أحوجت سمعه إلى ترجمان ليسمعه ما يقوله المتحدثون؛ لأن أذنه وحدها وبغير عون يعينها لا تستطيع السمع! بينما يتعقب آخر ما قد يطرأ على «نفسه» من تحولات عند الثمانين كالشاعر الذي أنبأنا في بيت من شعره بأنه قد سئم تكاليف الحياة، ولم يجد في ذلك عجبا؛ لأن من يبلغ الثمانين من عمره لا بد أن يكون قد أصابه السأم، وشاعر ثالث قد تجرد - وهو ينظر من ذروة شيخوخته - تجرد من حالاته هو، سواء أكانت تتصل بأعضاء البدن أم كانت تتعلق بأطوار النفس، أقول إنه تجرد من حالات شخصه هو لينظر نظرة أرحب أفقا، فكان كالذي سأل نفسه عن جوهر الاختلاف بين هذه الشيخوخة التي هو فيها، وبين ذلك الذي كان يسمى شبابا، ما طبيعته؟ فكان الجواب عنده - في إيجاز نافذ - هو أن الشباب قادر، ولكنها قدرة تنقصها المعرفة، بينما الشيخوخة عارفة، لكنها معرفة تنقصها قدرة العمل، وما كان أكملها من حياة لو عرف الشباب مع قدرته، أو لو قدر الشيوخ مع ما قد جمعوه من معرفة وخبرة.
محطة الثمانين في طريق السير تغري بالوقفة الطويلة المتأملة، ولهذا تمنيت لو أني دبرت لقاء أحتفل فيه بجاري عندما أكمل تلك المرحلة، لولا أني كنت على يقين من عزوفه عن كل هذا البهرج الذي يفرح له معظم الناس، ومرت بعد اليوم المشهود أربعة أيام، فقلت لنفسي وأنا أهم بعزيمة من يريد أن يصنع شيئا قبل أن تفلت لحظته: سأطرق الباب على هذا الرجل، وأفاجئه بزيارة، وسأتعمد للزيارة أن تطول، لأتحدث إليه في هذه المناسبة الفريدة الموحية، وماذا في وسعه أن يفعل إزاء المفاجأة إلا أن يستقبلني بوداعته التي عهدتها فيه؟ وهذا هو الذي كان.
نحن الآن جالسان في غرفة المكتب من منزله، تأخذنا الربكة الخفيفة التي تحدث عند بدء الزيارة، عندما تكون زيارة مفاجئة وغير مألوفة على وجه الخصوص، فلما هدأت النفس منه ومني، قلت له: أتعرف يا فلان ماذا ورد إلى ذهني الآن وأنا أستحضر بلمحة سريعة صحبتنا الطويلة في دفء هذه الجيرة المباركة التي جمعتني بك، فتعلمت منها ما تعلمت؟ قال: ماذا؟ قلت إن الذي ورد إلى ذهني هو قوله تعالى في كتابه الكريم:
Page inconnue