وتسألني متعجبا: كيف يمكن الجمع بين التراث - والإسلام أساسه - وبين حضارة هذا العصر وثقافته، ثم تسمي ذلك المطلب «حلما» لا سبيل إلى تحقيقه، فهل ترى - على ضوء ما أسلفناه - استحالة أن تجتمع «أخلاق» من هنا إلى «علوم» من هناك؟ فمفتاح الطريق إلى الصواب هو هذه التفرقة، فالعلم علم كائنة ما كانت عقيدة من يتلقاه، تلقته اليابان بعقيدتها البوذية، فكان منها ما كان، وتلقته اليهودية والمسيحية متمثلتين في أشخاص المتدينين بهما في الغرب فلم تحل العقيدة الدينية دون أن يقيم هؤلاء من صروح العلم ما أقاموه. إن في الولايات المتحدة كل صنوف العقائد، وبقيت لكل ذي عقيدة عقيدته، مع اشتراكهم جميعا في روح علمية واحدة، فلماذا تراه حلما بعيد التحقيق أن تنهض أمة إسلامية فتضيف علما إلى دين؟
لقد كتبت منذ عدة أعوام فصلا قصيرا بينت فيه أن حضارة الإسلام حضارة أخلاق في أساسها، وقد أقمت ما كتبته على سورة «الفجر» من الكتاب الكريم، وأراني الآن مشدودا إلى إعادة بعض ما ورد في ذلك الفصل، وهدفي هو أن صاحب الخطاب إذا اقتنع بالفكرة، سهل عليه بعد ذلك أن يرى إمكان الجمع بين إسلام المسلم وعلم العصر الحاضر؛ إذ لا تناقض - كما قلنا - بين «أخلاق» و«علوم» تضاف إليها دون أن نقع في الازدواجية التي أشار إليها صاحب الخطاب، قائلا إنها ازدواجية تقتضي من صاحبها حتما ضربا من النفاق!
وهذا هو بعض ما ورد فيما كتبته في الفصل الذي أشرت إليه:
إن الخاصة التي ميزت الحضارة الإسلامية من سائر الحضارات هي أنها أدارت رحاها حول محور «الأخلاق»، فإذا كانت حضارات أخرى قد أرست قواعدها - في المقام الأول - على «الفن» أو على «العلم» أو غير ذلك من أسس كالزراعة أو التجارة أو الصناعة، فإن الحضارة الإسلامية قد اختارت «الأخلاق» أساسا لها.
على أننا في هذه التفرقة لا يفوتنا أن الجوانب كلها قد تجتمع في كل حضارة على الإطلاق، وذلك بمقادير تتفاوت هنا وهناك، لكننا هنا؛ إذ نميز حضارة معينة بخاصة ما، فإنما نريد أن تكون تلك الخاصة - أكثر من سواها - ركيزة أولى يقام عليها البناء، وبناء الحضارة الإسلامية ركيزته «الأخلاق».
قف معي لحظة نتأمل فيها هذه الآيات الكريمة من سورة «الفجر»:
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد ، فأول ما يلفت النظر للوهلة الأولى، بل يلفته للوهلة الثانية والثالثة والعاشرة، هو أن هذا العدد القليل من الآيات الكريمة قد أوجز لنا القول إيجازا بليغا، في ثلاث حضارات سبقت ظهور الإسلام - ضمن ما سبقه - وهي حضارات ثلاث تشابهت كلها في أنها جعلت «الفن» أساسا لصروحها، وإن اختلفت بعد ذلك في نوع الفن الذي اختارته كل واحدة منها، فقوم «عاد» الذين عاشوا حضارتهم فيما هو الآن الجزء الشمالي من الجزيرة العربية، كانت براعتهم في فن بناء المدن وأقاموا مدينة «إرم» على نحو يذهل خيالك ذهولا إذا قرأت شيئا من تفصيلاته، كما ذكرها المؤرخون، فهي مدينة قوامها قصور شوامخ من ذوات الطوابق، وكانت طريقتهم في بناء الطوابق العليا أن يقيموها على «عمد»، والعمد بدورها تقام على أسطح الطوابق السفلى، لا على الأرض، فكانت تلك العمد تبدو للقادم من بعيد وكأنها غابة كثيفة من جذوع الشجر، وصدق الله العظيم في وصفها بأنها
إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد .
وأما قبيلة ثمود، فقد عاشت هي الأخرى في منطقة قريبة من موطن «عاد»، وكان مقرها واديا صخريا، أوشكت حياة النبات وحياة الحيوان ألا تجد لها فيه موردا للنماء، فدارت براعتهم - أعني قبيلة ثمود - على فن النحت بصفة أساسية، وحتى بيوتهم نحتوها في صخور الجبال، كأنها الكهوف. وأخيرا يأتي ذكر فرعون وما اختارته حضارة مصر من فن يقيمون به المسلات والمعابد، التي ترتفع ك «الأوتاد» فليس هو فنا في بناء المدن، كما رأينا عند «عاد» ولا هو فن النحت بالصورة التي رأيناها عند «ثمود»، بل هو فن ينصب على المعابد وملحقاتها، وفيها ما فيها من قوائم ذات جبروت وشموخ.
هي إذن حضارات قامت على «فنون» ولم يكن في ذلك ما يعاب لولا أنها قرنت فنونها تلك بطغيان، أعني أنها أقامت فنا عظيما في ذاته، لكنها لم تدعمه بأخلاق التعاطف بين الإنسان والإنسان، فكان القوامون على تلك الحضارات هم من قال عنهم الله سبحانه وتعالى في سورة «الفجر»:
Page inconnue