ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان: عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشج فلا يرثى له أحد
على أن روعة الشعر الجيد لا تنحصر في نصه، بكل ما يكون في ذلك من حلاوة لفظ، ودقة تصوير، بل إنها لتجاوز به تلك الحدود لتجعله قادرا على تصوير مواقف وحالات لا حصر لأنواعها، مما قد يصادف الإنسان في حياته، فلئن كانت الصورة في البيتين المذكورين خاصة بحمار ووتد أصابهما هوان وذل، بسبب ما فرض عليهما من قيود تشل فيهما حرية الحركة التلقائية، فإن هذه الصورة نفسها تنطبق أتم انطباق على مواقف أخرى كثيرة، وكأنما كانت تلك المواقف هي المقصودة بشعر الشاعر، ومن هنا كانت صورة الحمار المربوط برمته في وتد شج رأسه من قسوة الدق عليه كثيرة الورود إلى مخيلتي، أستدعيها بالذاكرة من الوعاء الذي امتلأ بالمخزون، فهي صورة تقفز إلى ذهني دون أن يكون فيما أراه أمامي حمار ولا وتد، فتراني - كما أسلفت لك القول - لا أدع نفسي لتستريح حتى أجد العلاقة الخفية بين حادثة أراها وبين أن تقفز صورة الحمار والوتد إلى ذهني.
قد لا يكون الحمار - في الموقف الحادث - حمارا ولا الرمة التي تربطه حبلا (الراء في «الرمة» مضمومة)، ولا الوتد وتدا، لكنها كثيرا جدا هي تلك المواقف التي تستثير في مخيلتي الصورة التي رسمها الشاعر؛ إذ يكفي أن يكون في الموقف المعين «مربوط» و«رباط» و«رابط» بحيث ينتج عن ذلك الثالوث شلل في الحركة لتكون الصورة التي رسمها الشاعر دالة على طبيعة ذلك الموقف، وأن أمثال تلك المواقف المشتملة على مربوط ورباط ورابط (أو مربوط به) لتتراوح عندي من الحادثة الصغيرة فصاعدا إلى الحضارات حين يصيبها جمود يبطل فيها حرية الحركة.
حرية الحركة هي التي كانت معيارا للتقدم في مسيرة الحياة منذ كانت في الدنيا حياة! وإن أشواط تلك المسيرة الكبرى لثلاثة تعاقبت في الظهور، نبات، وحيوان وإنسان، فإذا أمعنت النظر في تلك الخطوات الثلاث، وجدت أن العلاقة الفاصلة بين ما هو أدنى وما هو أعلى، إنما هي القدرة على الحركة في اتجاهات مختلفة وأبعاد متفاوتة، فالنبات يتحرك في نمائه حركة رأسية في مجملها، لكنه لا يتزحزح بجذعه من مغارسه على الأرض، والحيوان في وسعه الحركة من مكانه إلى مكان آخر، لكنه مقيد في ذلك بحدود، فضلا عن أنه في حياته مقيد بلحظته الزمنية الحاضرة، فهو لا يعي تاريخ نفسه، ولا يجاوز لحظته الحاضرة إلى لحظة يتوقعها بخياله في مستقبله، وأما الإنسان فقد بلغ من حرية الحركة حدودا كانت تسبق خياله، فهو لا يتقيد بمكان ولا يتقيد بزمان، فإذا عزت عليه الحركة في المكان والزمان بجسده، استطاع بخياله أن يصل إلى اللامتناهي مكانا وزمانا. وإنه لمن نافلة القول في هذا المجال أن نذكر ما قد أبدعه الإنسان لنفسه من وسائل الحركة الحرة: سيارات، وطيارات، وغواصات، وصواريخ.
لكن القول الذي ينبغي أن يقال مرة وألف مرة حتى يرسخ بجذوره في رءوسنا إلى آخر خلية فيها؛ هو أن الإنسان؛ لكونه الذروة التي ليس بعدها خطوة تعلوها بالنسبة إلى كائنات الأرض، وذلك من ناحية الأجساد وأعضائها، قد انفرد - دون سائر الكائنات - بطرق يسلكها ليستأنف صعوده في مدارج الارتفاع، وأعني بذلك المسالك العقلية والوجدانية من دين وعلم وفكر وفن وما شئت بعد ذلك من فروع الحياة الثقافية للإنسان، ومعنى ذلك أنه إذا لم يكن هنالك وجه للمفاضلة بين إنسان في مقومات الكيان العضوي؛ فتلك المفاضلة واردة في مجال الثقافة بمختلف نواحيها ومعانيها. وإني لأستغفر الله إذا كنت أجاوز الحدود لو قلت إن في الجماعات البشرية ما يكاد يصبح «نوعا» آخر بالنسبة لسواه، لا لأنه تغير وتطور في مكوناته العضوية، بل لأنه تغير وتطور في قدراته العقلية والوجدانية على نحو مكنه من أن يقهر الطبيعة قهرا حتى خضعت له في الكثير من جوانبها، ثم كان أن نتج عن ذلك سيطرته على من لم يستطع من الجماعات البشرية أن يصنع صنيعه، وهي سيطرة قد تكون ظاهرة حينا وخافية في معظم الأحيان، فإذا سألتني: ماذا قيد من تخلف من الجماعات البشرية فحال بينه وبين أن يصعد مثل ذلك الصعود؟! أجبتك بأن هذا هو موقف من المواقف الكبرى التي كلما طافت بذهني، قفزت إلى الصورة التي رسمها الشاعر العربي، وعليك أنت أن تتبين لنفسك، أين الحمار، وأين رمته المربوط بها على خسف، وأين الوتد الذي ربط فيه!
إن حياة الكائن الحي مهما اختلف نوعه، ومن الكائنات الحية لغات وثقافات وحضارات، مرهونة بسرعة التكيف للبيئة ومتغيراتها إن الكائن الحي يأخذ من بيئته ويعطيها، وإذا لم يتحكم فيها تحكمت فيه. إنه يأخذ منها الهواء شهيقا ويرده إليها زفيرا مختلفا في عناصره عن الشهيق الذي أخذه، يأخذ منها طعاما وشرابا ويرده إليها فضلات، وهو يتحوط لها كلما أصابته منها صائبة احتمى بما يحميه، فإذا برد فيها الهواء أكثر مما يطيق، استدفأ بالثياب الملائمة، وهكذا وهكذا إلى ما ليس له آخر فيما بين الإنسان وبيئته من مداورة ومناورة وتعاون حينا وعناد حينا آخر، والفناء لمن قصر في تلك اللعبة العجيبة، وإنه لمما يقال عن سبب اندثار الديناصور (وهو حيوان جسيم الضخامة حتى لترى هياكله العظيمة المعروضة في المتاحف الكبرى كالتي رأيتها في واشنطن وفي لندن قد بلغت من ضخامتها حدا جعلها تمتد به عدة أمتار) أقول إن سبب اندثار هذا الحيوان الجبار - فيما يقال - هو أنه قصر في سرعة التكيف للعوامل التي تفاجئه في بيئته، فإذا أصاب ذيله ما يؤذيه وتطلب سرعة الرد؛ أبطأت الرسالة الذاهبة من الذيل المصاب إلى المخ، حتى لتستغرق في طريقها نحو ثلاثة شهور، فإذا بدأ المخ في الاستجابة بتحريك البدن حركة ترد عن الذيل ما أصابه، كانت الفرصة قد أفلتت، واعتدى على الذيل ما اعتدى من عدو مهاجم.
فهل ترى فرقا كبيرا بين هذه الصورة التي يذكرونها عن حيوان الديناصور وانقراضه وبين أمة كان يمكنها بما لديها من مقومات ثقافية وحضارية أن تكون سريعة الحركة، شديدة الوعي بما حولها، لكنها لأسباب تريد التحليل والتوضيح جمدت وخمدت فتثاءبت فنامت، حتى دهمها من دهمها، ولم يقتصر الداهم على الذيل والأطراف كما حدث للديناصور، بل توغل في قلبها وفي حشاياها. أقول هل ترى فرقا كبيرا بين ما أصاب الديناصور وما قد يصيب أمة كالتي ذكرت، فإذا سألتني: وما الذي حال تلك الأمة دون أن تتحرك كما تحرك الأحرار؟ أجبتك: وهذا ما يحيرني، وكلما أحسست الحيرة، وثبت إلى ذهني من الذاكرة الصورة التي رسمها الشاعر العربي. وعليك أنت مهمة البحث، أين يكون الحمار في هذه الصورة؟ وأين يكون الوتد الذي يشد إليه الحمار برمته؟ وهنا يعن لي أن أثير لك سؤالا فرعيا يستحق منا وقفة قصيرة، فالشاعر العربي قد اختار أن يصف الحمار والوتد بأنهما «الأذلان»، فلماذا لم يقل إنهما «الذليلان»؟ أيكون قد جعل الفرق بين «الذليل» و«الأذل» أن الأول ذليل ويعرف أنه كذلك، فيحاول أن ينفض عن نفسه الذلة إذا استطاع، وأما «الأذل» فهو الذليل الذي ليس له من الإدراك ما يعلم به أنه ذليل؟ ربما.
Page inconnue