À dessein... Écoute et tu entendras
عن عمد … اسمع تسمع
Genres
دوت الصرخة أعلى من أي أصوات قنابل وانفجارات سمعتها، وصلت عنان السماء، أيها المصريون، يا أصحاب مصر، هل متم؟ ألا تعرفون هذا كله؟ لماذا أنتم ساكتون؟ يا من علمتكم وطنية الاقتصاد واقتصاد الوطنية، يا من مت أحلم بجيش يحمي إنساننا واقتصادنا واستقلالنا، أين ذهبتم ؟ أأضاعتكم المناصب والتوكيلات؟ أمات عندكم الضمير؟ يا مصر، أين ضميرك الاقتصادي؟ أين؟! استمع إليها واستمع، ولا أحد يلتفت، لا أحد هنا؛ لكأننا في الربع الخالي مع أننا في قلب العاصمة، وتماما بجوار الصارخ المتحدث. •••
ولا يزال طلعت حرب إلى هذه اللحظة يجأر ويصرخ، عيونه تقدح النار والكلمات من شفتيه كالرصاص تنهمر وتتدفق، ولكن المشكلة هل من يسمع؟ هل يتوقف أحد ليسمع؟ حاول أنت. مر في الميدان وقف، وتطلع إلى ملامح الرجل ووجهه، وكالرعد حتما سيأتيك صوته. المشكلة فقط أن - عن عمد - تذهب، وأن - عن عمد - تتوقف، وأن - عن عمد - تحاول أن تسمع وتفهم ما تسمع فستسمع.
المستقبل والعنبر
حين وقفت واسع العينين أحملق، لا في الشاب أو الفراش أو العنبر، وإنما في الكلمات المتدفقة من هذا الفم الذي فقد بعضا من أسنانه الأمامية، السمرة المختلطة بحب الشباب وحبات العرق والشحوب، الكلمات التي تروي كيف فقد قدمه. القدم لم تكن أمامي على الفراش، أمامي على ملاءة السرير كانت الساق سمراء جدا ورفيعة وتنتهي إلى لا شيء، وكان الجرح ملتئما تماما وكل شيء على ما يرام وكأن عصا ساحر خبيث مجنون مرت على القدم فاختفت ولم يعد لها أثر. ازدحمت خواطري بآلاف الأفكار وعشرات السنين والمعارك، أحسست أني ومن أعمق أعماق النفس بدأت أنفعل انفعالا حقيقيا صادقا لا يمليه واجب المشاركة، ولا سمعة 6 أكتوبر المجيد. أنفعل أمام عظمة الإنسان المصري، أكاد أخر ساجدا، ألثم نهاية الساق، أغسلها بدموعي؛ دموع تعسرت على عيني يوم مات أبي تملأ الآن جوانحي، تفور كالبركان في مآق تريد أن تنفجر، دموع حبستها طويلا وكثيرا، دموع كنت أختزنها لليوم الأعظم، ولم يكن اليوم الأعظم في نظري يوم معركة ننتصر فيها أو قنال نعبره، وإنما يوم ألتقي بالإنسان المصري الأعظم الذي يجعلني أحس - دون أن يدري ودون أن أدري - أني إلى جواره ضئيل وأنه أعظم من الأرض ومن التراب، وأني لأول مرة في حياتي أحس أني على استعداد أن أموت أنا من أجله هو ، بنفس البساطة التي تتدفق بها الكلمات من فمه أموت؛ فكلماته على عكس ما توقعت لم تكن تتحدث عن إصابته هو ولا قدمه، إنما كانت تتحدث عن قائد الكتيبة والدبابة؛ عن شجاعته وقدرته، عن اقتحاماته، عن كيف أصيب إصابة و«الحمد لله» بسيطة، وأخباره كويسة، وقريب الخروج.
كنت وجلا غير شديد الحماس قد ذهبت إلى القصر العيني. إن زيارات الجرحى وجهود السيدات والنجوم في هذا المجال قد أصبحت المادة الرئيسية لأخبار الناس، وأنا يزعجني الأشياء المقدسة حين تصبح مادة الحديث العام، وأوثر أن تبقى بعض المقدسات كالحرمات تعلن عن نفسها في صمت ونقف أمامها في خشوع، وكان أخوف ما أخافه أن أذهب فأجد البطولات قد تحولت إلى أحاديث، ولا أحظى بلحظة صدق.
القصر العيني، يا له من قصر! لي أعوام كثيرة كثيرة لم أدخله. القصر العيني الجديد قديما قد شاخ وعجز، وامتلأت حيطانه بالبثور والنتوءات والشقوق، هنا قضيت صدر الشباب طبيبا، أسرع عبر الممرات في البالطو الأبيض الهفهاف، وأملأ الدنيا بابتسامة مستقبل عريض كنت أعرف تماما أنه أكيد. مستقبل انتهى بعد عام وبعض عام حين لم يعد لي في الطب مستقبل. دخلت العنبر، كانت الدنيا مغرقة في المساء والضوء ليس قويا، وعلى الجانبين الأسرة، فوق كل سرير جريح، فوق كل سرير قصة كبرى، حتما فوق كل سرير قصة كبرى؛ فكل منهم كان له عالم، جاء من أم وله أب وربما زوجة وأولاد. قصة التحام كل منهم كأفراد جاءوا من جميع عوالمهم وبقاعهم مع الأم الكبرى مصر. كيف حدث الالتحام؟ كيف أحالوا اللقاء جحيما ينصب فوق رءوس الأعداء؟ كيف خرجوا؟ كيف نجوا؟ كيف هم الآن؟ ومن أين أبدأ؟ وقفت أبعد الستار وأقربه، أمسح الرجال بعيني وفي نفسي خشوع. إن للجماعة رهبة وخشوعا، فما بالك وهؤلاء ليسوا مجرد جماعة، ولكنها جماعة مقاتلين جرحى! إن للجروح هي الأخرى وللسيقان والأذرع والأطراف الموضوعة في الجبس والتي بترت أو تنتظر البتر رهبة. في خشوع وقفت محتارا بأيهم أبدأ أو ماذا أقول؟ ماذا تعني حمدا لله على السلامة حين تقال؟ وهل تقال الكلمة العادية كهذه في الموقف غير العادي كذاك؟ من أنا هنا ولماذا جئت وماذا أفعل أمام هؤلاء الذين أدين لهم أني حي سليم، وأن عائلتي في البيت مطمئنة سليمة لم تمس؟ ساعدني يا رب؛ فاللحظة حرجة، وأنا خجول أني لم أكن معهم، وأني غيرهم لم أدفع ضريبة دم ولا نلت في حياتي هذا الشرف.
في وجل رحت أخطو تجاه الجريح الأول، بالكاد خرجت من فمي كلمات تتعثر؛ لم أسمعها أنا أو يسمعها أحد. فجأة وجدت نفسي غارقا في فيض الحماس المصري؛ في حرارة رحب بي الشاب الراقد، أنساني القصر الجديد ومن أنا، وأذهب الخشوع والوجل. هذا الصدر المصري الحبيب ينفتح على مصراعيه لي ولأي غريب؛ فينسي الغريب غربته، ويجد نفسه في ثانية قد دخل الصدر وأصبح قريبا من القلب.
ومن القلب إلى القلب مضى الحديث يدور، وما هكذا أي شعب آخر؛ ولهذا ننفرد ونسمو نحن المصريين. وليس عيبا أبدا أننا نفتح الصدور على مصاريعها حين نلتقي؛ فهذا هو الشيء الجدير بالإنسان - إذا كان إنسانا حقا - أن يفعله.
الذي أذهلني أن أحدا منهم لم يبدأ الحديث بنفسه أو بإصابته، كان الحديث دائما يبدأ بالمعركة الكبرى كيف دارت وماذا حدث، ثم ما حققته الوحدة أو الكتيبة وما قامت به من دور، ثم، وبناء على سؤالي فقط، يدور الحديث عن كيف أصيب. حديث قصير جدا لا يأخذ أكثر من لحظة: «انضربت الدبابة بالصاروخ وأفقت فلم أجد أصابعي. في عودتنا طارت فوقنا الهليوكوبتر وسقطت قنبلة وقمت لأواصل السير ولكني سقطت. كانت ذراعي وساقي والقميص والبنطلون قد تمزقت واختلطت الدماء بالقماش وبالرمل. في عودتنا بعد نجاح المهمة أحسست بكتلة عريضة كأنها حائط رصاص ترتطم ببطني وكانت الإصابة، لولا ماشيست هذا (جندي من القوات الخاصة وقف بجوارنا - هكذا يسمونه) لكنت مت. وجدني في عودته راقدا، حاول أن يحملني، طلبت منه أن يذهب وحده؛ فغير معقول أن يحملني مسافة طولها أكثر من عشرة كيلومترات، ولكنه حملني بالقوة.» ماشيست يرد بالمرح المصري الأصيل : لو كنت أعرف أنك طويل اللسان هكذا لتركتك تلعق رمال سيناء بلسانك.
العنبر. وجدته، وكلما انتقلت من فراش إلى فراش يتسع ويتسع، ويطول ويطول، وسقفه يعلو ويعلو، وكأنما يريد أن يشمل مصر. وأي مصر!
Page inconnue