À dessein... Écoute et tu entendras
عن عمد … اسمع تسمع
Genres
في الحقيقة ما أزعجني في السؤال هو أيضا هذا الكم من الاكتئاب الذي يحتويه. إن للاكتئاب النفسي الفردي أعراضا معروفة في علم النفس، منها التشاؤم وفقدان الهمة والإحساس المحض أن كل شيء مثل أي شيء، وأن كله كلام في كلام، وكله لا فائدة فيه، حتى الشهية للطعام والشراب والجنس والحب وأي متعة في الحياة تفتقد طعمها، ويصبح الإنسان يعيش وكأنه يؤدي دورا، يؤديه مجرد أداء واجب سخيف ثقيل في رواية ممجوجة لا معنى لها بالمرة اسمها الحياة.
ولكننا هنا لسنا أمام حالة اكتئاب فردي هذه أعراضها فقط، نحن أمام ما هو أكبر بكثير، أمام حالة اكتئاب جماعية. وأنا لا أعرف إن كانت هناك حالة في الطب النفسي أو علم الاجتماع كهذه الحالة، ولكن ما أعرفه بالتأكيد هو أننا مصابون تماما بها، هذه الحالة تتخذ شكل الفوضى الشاملة الناتجة عن فقدان الإرادات الفردية المحددة للواجب والحق، فوضى في السرور، فوضى في العمل، فقدان البعد الزمني في تقدير الحاضر والماضي والمستقبل حتى ليصبح المجتمع كله وكأنه يحيا الدقيقة لدقيقتها فقط، لا دقيقة ستأتي بعدها. وإذا تحددت الحياة في اللحظة الراهنة تصبح هي كل الحياة، وليمت الإنسان بعدها فادفع و«زق» واخبط بالكتف والذراع ودس على أي قيمة، وملعون أبو أي مجتمع وأي شعار؛ فأنا ميت أو سأموت في اللحظة التالية.
أنا هنا لا أقدم بحثا «أكاديميا» عن حالتنا، ولا أزعم أني أكتشف شعبا جديدا، ولكني فقط أسجل بعض الأحاسيس والانطباعات التي كثيرا ما تنتابني حين أمشي في شارع طلعت حرب أو 26 يوليو، أو أقابل الجماهير الخارجة من مباراة كرة قدم، وأتمعن في وجوه الناس؛ فأجد وكأنهم ليسوا بأناس بالمرة، أجسام معظمها تخين من فرط فقدان الإرادة ولهيب الطموح، سائرة، هائمة، كما يقولون بالضبط «لا تلوي على شيء.» لا هدف لها ، حتى الفرجة على الفتارين ليست الهدف ولا التمشي في الشارع ولا أي هدف بالمرة، إنما هو التحرك الراكد في اللاشارع واللاشيء، والسير إلى اللاهدف، والتطلع إلى اللارؤيا، وسماع اللاصوت. وثمة بخار خانق يتصاعد من الأجساد وتنفثه نوافذ البيوت ومداخن العربات وعيون القطط الضالة والكلاب؛ بخار كثيف غير مرئي يتجمع وينعقد كسحابات الفجر فوق الرءوس، وتستنشقه الصدور؛ لتعود فتنفثه وقد تحمل بضجر أكثر وضيق أكثر وأكثر، وكأنما السؤال الرهيب المعلق في الفضاء، يدق بمقامع من حديد ويلح ويقول: وبعد! أما لهذا نهاية؟
وبالطبع، فإن لهذا كله، ولأي شيء في الوجود نهاية. ولكن النهاية هنا صعبة تماما؛ لأن على المفقود في اللانهائية - الذي هو نحن - أن يجدها، بل وأن يضعها، وأن يقوم بها.
ولهذا فنحن يا سيدي الموظف القارئ نكتب.
ولهذا أيضا فأنت لا تزال تقرأ.
والواقع أني شخصيا فعلا لم أختر شكلا «من مفكرة فلان» عبثا. لقد اخترتها بعد تفكير وإمعان شديدين، فقد كان الشيء الذي يلح علي هو: كيف أدعو مسدود النفس إلى تذوق طعم كلمة ونفسه تعاف الكلام كله، بحلوه ومره. قصص؟! أي قصة أقرأ وأنا في قلب مأساة لا يتفتق عنها ذهن أعتى قصاص أو تراجيدي. شعر؟! وما فائدة الشعر ومائتا قتيل يسقطون يوميا في بيروت ببنادق عربية، والحرة في بلاد أخرى تبيع جسدها من أجل أن تطعم الأولاد والزوج. رواية؟! مسرحية؟! كيف تهز أعماقا أصبح دوي القنابل الذرية نفسها لا يهزها، بحيث لو مسحت اليوم مدينة مصرية أو عربية بأكملها من الوجود لما ارتفع لها حاجب دهشة أو استغرابا.
هكذا جاء شكل «المفكرة»، مجرد دعوة، دعوة بحذر شديد أقدمها، ذلك أني ما زلت أومن أننا نحن الذين سنغير هذا كله، وحيث إن الله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فنحن الذين علينا أن نغير الواقع ونغير أنفسنا وهنا يأتي دور الكلمة.
فأول كلمة نزلت على نبينا الكريم كانت كلمة: اقرأ.
والسيد المسيح هو القائل: في البدء كان الكلمة.
Page inconnue