كان يقول هذا وأشباهه وفي دولة عثمان أمل يضعف يوما بعد يوم، فلما أوشك هذا الأمل أن ينفد صاح به في المسجد: «اتق الله يا عثمان! فإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك، فتب إلى الله نتب!»
ثم ترك الفتنة وأوى إلى مينائه بفلسطين، يتلقى الركبان ويسأل منهم كل عابر ينفعه سؤاله، فمر به راكب من المدينة فاستخبره خبر عثمان فقال: «محصور!» ثم أعقبه راكب آخر فقال: «قتل عثمان.» فيروي رواة الخبر أنه صاح يومئذ: «أنا أبو عبد الله، إذا نكأت قرحة أدميتها.» ثم قال: «والله إني كنت ألقى الراعي فأحرضه على عثمان!» •••
وبويع علي بن أبي طالب بالخلافة فلم ينصره ولم ينصر أحدا من خصومه، ولبث يترقب وينتظر حتى انحسر الميدان عن خصمين اثنين هما: علي ومعاوية بن أبي سفيان، بعد أن زال عنه طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، فوجب أن يختار له طريقا من الطريقين؛ لأنه لو آثر الاعتزال لم يتركه الفريقان في عزلته، ولم يزل به أحدهما حتى يستدنيه إليه.
شاور معاوية أصحابه، فأشار عليه عتبة بن أبي سفيان أن يستعين على أمره بعمرو، وأن يثمن له بدينه، قال: «فإنه من قد عرفت، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يرى فرصة.» فكتب له معاوية بفلسطين: «أما بعد، فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة، وقدم إلينا جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني. أقبل أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله ...»
فاستشار عمرو ولديه عبد الله ومحمدا فيما يصنع، فقال عبد الله: «قتل عثمان وأنت عنه غائب، فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة، ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشك أن تهلك فنشفى فيها.» وقال محمد: «إنك شيخ قريش وصاحب أمرها، وإن تصرم هذا الأمر وأنت فيه خامل صغر أمرك، فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدا من أيديهم ...»
قال عمرو: «أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي، وأنا ناظر فيه.»
وروي أنه قلب رأيه في الأمرين فقال: «إني إن أتيت عليا قال: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره.»
ولكنه ظل يتردد إلى ساعة السفر بعدما عن له أن ينضوي إلى جانب الشام، فدعا غلامه وردان فقال: «ارحل يا وردان!» ثم صاح به: «حط يا وردان.» فقال له وردان، وكان كما وصفوه داهيا ماردا: «خلطت أبا عبد الله أما إنك إن شئت أنبأتك بما في نفسك.» قال: «هات ويحك!» قال: «اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: علي معه الآخرة في غير دنيا، وفي الآخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة وليس في الدنيا عوض من الآخرة، فأنت واقف بينهما ...» قال: «والله ما أخطأت فما ترى يا وردان؟» قال: «أرى أن تقيم في بيتك، فإن ظهر أهل الدين عشت عند دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك ...» فتأمل في قول غلامه مليا، ولكنه لم يقبل القرار في بيته بعد دعوته، وعول على المسير فسار. •••
ومن ثم قصد إلى معاوية بالشام ...
ولم تكن بين الرجلين من قبل مودة ولا صحبة ولا مشاركة في منفعة، بل ربما كانا إلى التنافس والتنافر أقرب منهما إلى المودة والصحبة.
Page inconnue