وقد علموا أن العواهل أنفسهم مستيئسون في قتالهم، يحارب بعضهم بعضا محاربة القانط من الغد، أو الذي لا يهمه أن يكون الغد كيف يكون، وآخر ما عرفوه من ذلك قبيل الفتح الإسلامي أن «فوقاس» قذف بكنوز الدولة وجواهر القصر الملكي في البحر، ضنا بها أن تئول إلى منافسه هرقل بعد غلبته عليه، فما كان أحد منهم يقاتل يومئذ قتال الرجال أو الثقة بالعودة إلى النصر بعد الهزيمة.
أما اليهود فقد كان حسبهم من النقمة على الدولة الرومانية أنها هدمت هيكل سليمان، وشردتهم من بيت المقدس، وتعقبتهم في بلادها بالمطاردة والمصادرة، والإكراه على عبادة الإمبراطور تارة والإكراه على العبادة المسيحية تارة أخرى، ولكنها كانت تغنيهم في كل عصر عن الذكريات القديمة بما تجدده من صنوف الاضطهاد والتعذيب، وكانت لهم نكبة يذكرونها لكل من العاهلين اللذين تعاقبا على عرش القسطنطينية في عصر الفتح الإسلامي، وهما فوقاس وهرقل، فأما فوقاس فقد أمر بطردهم من وظائف الدولة في الإسكندرية وتعميدهم كرها، وقتل من يخالف أمره فيرفض الإذعان للتعميد، فلما ثار هرقل على فوقاس نصروه وانتظروا خيرا على يديه، فإذا بهرقل ينكبهم نكبة تنسيهم مظالم سلفه المغضوب عليه، وروي ذلك بطرق هرقل في الإسكندرية «أفتيخوس» حيث قال من تاريخه المشهور:
في السنة التاسعة من ملك هرقل خرج من القسطنطينية يريد بيت المقدس، فلما بلغ طبرية خرج إليه اليهود الساكنون بطبرية وجبل الجليل والناصرة وكل قرية في تلك الناحية، فاستقبلوه بالهدايا ودعوا له، وسألوه أن يعطيهم الأمان، فكتب لهم بذلك عهدا، فلما بلغ بيت المقدس استقبله رهبان الصوامع وأهل بيت المقدس، ومعهم مودستس بالمجامر والبخور، فلما دخل المدينة ونظر إلى ما دمر الفرس وأحرقوه اغتم غما شديدا، ثم نظر إلى ما بناه مودستس من كنيسة القيامة وكنيسة مار قسطنطين وغيرهما فسره ذلك، وشكر مودستس على ما فعل، وشكا الرهبان وأهل بيت المقدس له ما فعلته معهم اليهود الذين حول بيت المقدس مع جبل الجليل وقت قدوم الفرس، وأنهم كانوا معهم يعينونهم، وقتلوا من النصارى أكثر مما قتله الفرس، وخربوا الكنائس وأحرقوها بالنار، وأروه القتلى الذين في ماميلا، وأعلموه بما فعلوا في مدينة صور من قتل النصارى وخراب الكنائس، فسألهم هرقل: ماذا تريدون؟ قالوا له: نقتل كل يهودي حول بيت المقدس وجبل الجليل؛ لأننا لا نأمن أن يجيئنا عدو أو قوم مخالفون فيكونوا أعوانا لهم، كما أعانوا الفرس علينا، قال هرقل: وكيف أستحل قتلهم وقد أعطيتهم الأمان، وكتبت لهم بذلك عهدا كما تعلمون؟ ومتى نقضت العهد والأمان، كان ذلك عارا علي وأحدوثة قبيحة، ولم آمن إن كتبت لغيرهم عهدا أن يأباه، فقالوا له: إن سيدنا يسوع المسيح يعلم أن قتلك لهم غفران لذنوبك والناس يعذرونك؛ لأنك في الوقت الذي أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى وخراب الكنائس، وإنما خرجوا إليك واستقبلوك بالهدايا مكرا منهم ولعنة، فقتلهم قربان إلى الله! ونحن نحتمل لك وعنك هذا الذنب ونكفر عنك، ونسأل سيدنا اليسوع ألا يؤاخذك به، أو نجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم الكبير نصومها لك، ونترك فيها أكل الجبن والبيض ما دامت النصرانية، ونجعل في هذا قانونا وحرما بألا يغير، ويكتب به إلى جميع الآفاق غفرانا لجميع ما سألناك أن تفعل، فأجابهم هرقل إلى ذلك، وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الجليل ما لا يحصى من قدر عليه، ومنهم من اختفى، ومنهم من هرب إلى الجبال وإلى مصر.
وجاءت هذه القصة في تاريخ المقريزي حيث يقول:
ثم سار هرقل من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدد ما خربه الفرس منها، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها، وقدموا إليه الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك فأمنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خرابا، فساءه ذلك وتوجع له، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس، وقاموا قياما كبيرا في قتلهم عن آخرهم، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه، على مر الزمان والدهور، فمال إلى قولهم، وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعا فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى.
وهذه قصة تدل على مكامن الخطر من نقمة اليهود، وتدل على مكامن الخطر التي هي أبلغ من ذلك وأدهى، فإذا كان هرقل يجهل ما حدث في بيت المقدس حتى يراه بعينه، وكان رعاياه الكبار منقطعين عنه حتى يصل إليهم في عقر دارهم، فتلك دولة ممزقة مهملة مفتوحة للأخطار من مكامنها ومما حولها على السواء.
وقد كانت لليهود ترات غير تراتهم عند العاهلين؛ لأنهم كانوا قبل ذلك يهاجمون أبناء البلاد ويتعرضون لهجومهم في كل فترة من فترات الثورة والانتفاض، وكانوا إذا سلموا من ضربات الدولة واستهدف لها أبناء البلاد وحدهم، خامر هؤلاء الظن أنهم يمالئون الدولة عليهم، وأنها تحابيهم وتستعين بهم سرا وعلانية على اضطهادهم، فإذا أمنوا طغيان الدولة لم يأمنوا الشبهات والتهم من رعاياها الموتورين!
وكان لليهود موقعان من أهم المواقع في البلاد المصرية من الوجهة العسكرية، فكان لهم حيان بين أحياء الإسكندرية الخمسة، وحي كبير في عين شمس بجوار منف عاصمة البلاد الداخلية، وكل من هذه المواقع له شأنه الخطير في أوقات الهجوم على البلاد من بحرها وبرها.
وكانت للبشموريين في شرق الدلتا مواقع استطلاع وعبور لا تقل خطرا عن مواقع اليهود في العاصمتين؛ إذ كانوا يسكنون المراعي الواسعة على تخوم الصحراء بين البحيرات الشمالية وأودية الجنوب، وكانوا عربا منحدرين على أرجح الأقوال من سلالة العمالقة الأقدمين، وكانوا يعاونون العرب الفاتحين، كما عاونهم عرب الصحراء في الشام على اختلاف العقيدة والمقام، وإذا لاحظنا أن بادية الفيوم كان يسكنها أناس يتكلمون بلهجة بشمورية علمنا أن أقسام البادية العربية لم تتغير كثيرا من قديم الزمن، وأن عمرو بن العاص قصد إلى الفيوم قبل فتح منف على علم بأصول هذه السلالة.
وانقضى عهد هرقل كله ومصر تسمع بأخبار الفتوح الإسلامية، وتتوقع مصيرا كمصير جاراتها في المشرق القريب، ولم يكد أعوان هرقل يستعيدون بعض الثقة بدولته بعد خروج الفرس من مصر حتى تبين لهم أن قوة أقوى من الفرس والروم معا قد ظهرت في ميدان النضال العريق بين الدولتين، وسمعوا بهزيمة الفرس كما سمعوا بهزيمة الروم في فلسطين، ومنهم من ذهب إلى فلسطين نجدة لهرقل، فلم يكد يدخل الأرض باحثا عن العاهل الذي استنجده حتى سمع بفراره وتوديعه البلاد توديع اليائس المفارق إلى غير رجعة، كما تناقل عنه الذين قفلوا من ركابه عند تخوم آسيا الصغرى.
Page inconnue