الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
العالم الطريف
العالم الطريف
تأليف
أولدس هكسلي
ترجمة
محمود محمود
مقدمة المعرب
بقلم محمود محمود
مؤلف هذه القصة أولدس ليونارد هكسلي
Aldous Leonard Huxley
ولد في إنجلترا عام 1894، ولا يزال حتى اليوم على قيد الحياة، لا يني عن الكتابة والتأليف ولا يفتر، وقد بدأ حياته الأدبية، شاعرا محتذيا في ذلك حذو أكثر الكتاب المعاصرين، ونشر شعره أول الأمر في مجلة هويلز
Wheels ، ثم جمعه في ديوان عنوانه «العجلة المحترقة»
The Burning Wheel
نشره في عام 1916. وفي هذه السنة عينها اشترك مع غيره من الأدباء في جمع ديوان «شعر إكسفورد»
Oxford Poetry ، وقد بقي شاعرا طوال حياته، مخالفا بذلك الكثيرين من أدباء عصره، الذين انحرفوا من الشعر إلى النثر، وهو الآن شاعر ثائر على العالم الذي يقوم على الأسس العلمية، كما أنه ثائر على ازدياد نفوذ العلم في الحياة. وهو في هذه القصة التي نقدمها إلى قراء العربية يتخيل أن الإنسان سوف يتناسل في المستقبل، لا عن طريق الحب والتقاء الرجل بالمرأة، ولكن عن طريق العلم، وتكوين الأطفال بطريقة علمية داخل القوارير، وهكذا يصور لنا هكسلي العلم في صورة تشمئز منها النفوس وتقشعر الأبدان. ولعل هذا التطرف في الخيال هو الذي جذب إلى هكسلي كثيرا من القراء.
وهو حفيد توماس هنري هكسلي العالم الشهير الذي تلقى عليه العلم ه. ج. ولز، وبين الحفيد وجده شبه كبير في الصورة والقسمات. وينحدر هكسلي من ناحية أمه من أسرة توماس أرنولد، ناظر مدرسة رجبي الشهير ، ومن بين أقربائه من كان أستاذا، ومن كان عالما، أو شاعرا، أو روائيا. فلو تصورنا هذه المجموعة من الرجال الممتازين حول فراش مولده عام 1894، أدركنا ما في دمائه من مواهب، وقد استطاع بقلمه وذكائه أن يرتفع إلى سماء الشهرة.
وهو رجل طويل القامة، نحيل القوام، حتى إن أطفال هامستد
Hampstead
كانوا يتجمعون حوله في شبابه الباكر ويهزءون به، غير أن طول قامته يخيل للناظر إليه أنه يعيش في عالم غير عالمنا، وأنه شامخ بعظمته، وما أبعد هذا عن الصواب، فإن هكسلي يتحدث إلى كل من يلقاه في سهولة وتواضع، وهو رجل شديد المرح، لا يتصف بالتزمت، وهو يستعمل في أحاديثه كثيرا من غريب اللفظ؛ لا لأنه يتكلف في الحديث، ولكن لأن الرجل غريب في تفكيره، وهو بحاجة إلى هذه الألفاظ يعبر بها عما يختلج في نفسه، وهو مولع بلقاء الشواذ من الناس، ومشاهدة الشاذ من المناظر؛ لأن به ميلا نحو الشذوذ.
وقد قاسى كثيرا وهو في طفولته من ضعف بصره، الذي كاد أن يفقده ويعيش ضريرا أعمى البصر، وقضى أياما كثيرة وحده في غرفة مظلمة لا يستطيع القراءة، ولا تقع عيناه على شيء، فانقلب إلى دخيلة نفسه يفكر فيها ويتأمل، وكان لهذه الفترة أثرها الكبير في كل ما كتب فيما بعد، وزال الخطر، واسترد الكاتب بصره، ولكنه لا يزال ضعيف النظر، وتعلم في إكسفورد، وفيها نشر بعض قصائده كما قدمت، وبعدما أتم دراسته في الجامعة اشتغل بالصحافة، ونشر عدة مقالات جمعها في كتابه «على الهامش»
On the Margin
ثم جمع بعضا من قصصه في كتاب سماه «السجن»
Limbo ، وهو فاتحة عهد جديد في حياته الأدبية.
وبعد «السجن» مارس كتابة الرواية الطويلة، مستوحيا فيها الكاتب توماس بيكوك
Thomas Peacock
المعروف بسعة الاطلاع وبروح التهكم، وقد أخذ هكسلي عنه منهجه في الرواية، فلم يكن في يوم من الأيام روائيا بالمعنى الصحيح، إنما هو رجل واسع الاطلاع متهكم من الناس، وله قدرة عظيمة على القصة القصيرة، ولكنه حينما يحاول القصة الطويلة، يتخذ من خياله الروائي وسيلة لبث آرائه.
وهو كاتب متنوع المواهب متنوع الموضوعات، يقول عنه أخوه جوليان
Julian
إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية، حينما يقوم برحلة طويلة أو يطوف حول العالم، ولكنه - برغم اطلاعه الواسع - لا يقتصر عند حد النظر، بل يتعداه إلى العمل، يستمتع بالفكر كما يستمتع بالحس، فهو كثير الإدمان في القراءة، ولكنه رجل اجتماعي حي، وقل من الناس من يجمع مثله بين هاتين الصفتين.
وفي مجموعة قصصه التي جمعها تحت عنوان «السجن»، وفي روايته «الكروم الأصفر»
Crome Yellow
تتبين قدرته العظيمة على السخرية من المتكبرين والأدعياء، ورواياته مليئة بالصور الإنسانية التي تتميز بالتهكم المرح، وقد خص بسخريته أبناء الطبقة الراقية، فأثار على نفسه سخطهم، ولكنه لم يعبأ بهم ولم يكف عن الضحك منهم، وفي روايته «الكروم الأصفر» يعلن تلك المشكلة الكبرى التي حاول أن يحلها في كل ما كتب، فقد جاءت في هذه الرواية العبارة الآتية:
يدخل الرجل هذه الدنيا ومعه آراء مجهزة عن كل شيء، وله فلسفة يحاول أن يخضع لها الحياة، في حين أنه كان من الواجب أن يحيا المرء أولا، ثم يحاول بعد ذلك أن يلائم بين فلسفته وبين الحياة كما عرفها. إن الحياة والحقائق والأشياء معقدة تعقيدا شديدا، مع أن الآراء - مهما تعسرت - تخدعنا ببساطتها. كل شيء غامض مضطرب في عالم الحياة، وكل شيء واضح في عالم الآراء، فهل من العجب بعد هذا أن يكون الرجل منا بائسا في حياته تعسا؟
ويتبين لنا من هذا أن هكسلي لا يحب أن يتشبث بالمبادئ والأصول وقواعد العلم، وإنما يقيم وزنا كبيرا للمعارف العملية وتجارب الحياة. كان هكسلي من رجال الفكر، وهو يفخر بذلك، ولكنه - برغم هذا - كان قادرا، بل ومتحمسا، على أن يستفيد من الخبرة والتجربة.
وصل إلى لندن بعدما أتم دراسته الجامعية ورأسه مفعم بالنظريات، ثم أحس بشيء من القلق، ولم يطمئن إلى نظرياته كل الاطمئنان، وأدرك أنها لا تعالج مشاكل الحياة الكبرى، فتمم الرأي بالخبرة، والعلم بالتجربة. أدرك أن حجرة المعلم لها جمال البساطة، ولكن بالأرض والسماء كنوزا غنية من المعارف ، لا تخضع لأي نظام فلسفي، ولا يحلم بها رجال الفكر. أدرك هكسلي بعد قدومه إلى لندن أن آراءه لا تقنعه كل الإقناع، واشتغل بالصحافة، ورأى عن كثب سلوك الرجال والنساء، وكيف تسير الأمور، فتعلم ألوف الأشياء التي لم يتطرق إليها منهج الجامعة، فجمع هكسلي بين الثقافة النظرية والخبرة العملية.
وهكسلي من أبناء الطبقة المتوسطة، لا هو بالغني الذي يتوفر له الفراغ، ولا بالمعدم الذي يشغل وقته كله بكسب القوت، وقد تأثر بهذا الوضع الاجتماعي في أدبه، فسخر من أبناء الطبقة الرفيعة، كما عبر عن تقززه واشمئزازه من الفقر المدقع، وإن كان يعطف على الفقراء، وانتهى هكسلي إلى شيء من اليأس، لا يرى نفعا في أي شيء.
ثم مل النقد والسخرية، وانصرف إلى التفكير في مستقبل العلم والعلماء، فكتب من بين ما كتب روايته هذه التي أقدمها إلى قراء العربية «العالم الطريف»
Brave New World ، وفيها يعبر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس، يصور في هذا الكتاب مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ، وهو يرى أن العالم الجديد - عالم العقاقير والآلات - تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال، في هذا العالم الجديد كل شيء آلي، وكل شيء مرسوم، أو محفوظ في قارورة، والصفة الإنسانية تكاد تنعدم، ولعل هكسلي من بين الكتاب الأحياء جميعا الكاتب الوحيد الذي يستطيع أن يصور نتائج العلم بجرأة ووضوح، وهو في هذا الكتاب عالم وشاعر، يرسم لنا صورة مدهشة يتقزز منها القارئ، كما تقزز منها الكاتب.
في هذا الكتاب يتخيل هكسلي أن العلم سوف يصل بنا إلى حد الاستغناء عن الزواج وتكوين الأجنة في القوارير بطريقة علمية بدلا من تكوينها في الأرحام، والأطفال - بحكم تركيبهم الكيمائي - طبقات خمس: «أ، ب، ج، د، ه»، وكل طبقة تعد إعدادا خاصا يلائم تكوينها الجثماني واستعدادها العقلي، وعليها أن تؤدي في الحياة عملا معينا لا تغيره ولا تحيد عنه، وبين أبناء الطبقة الواحدة تشابه كبير في الخلق والخلق، حتى إن الفرد تكاد تنعدم شخصيته انعداما باتا. العالم الجديد ينكر الفردية والاختلاف الشخصي والتقلقل من حال إلى حال، وشعاره الذي يطالعك به الكاتب في الفصل الأول من الكتاب هو: «الجماعة، والتشابه، والاستقرار»، والعالم الجديد تهمه السعادة أكثر مما تهمه المعرفة، وهي سعادة آلية محضة لا توجهها الميول الشخصية، وإنما تفرض على النفوس فرضا.
إذا أردت شيئا في العالم الجديد، فإنك لا تفكر فيه ولا تسعى إليه، وإنما يكفيك أن تضغط على زر أو تدير مقبضا - كما يقول هكسلي - ليكون لك ما تريد، ولا شك أن هذه الحياة - رغم يسرها الشديد - تدعو إلى الملل، كما تؤدي إلى إهمال الفنون الرفيعة، والشعور الديني، والروح العلمية الصحيحة التي تهتم باكتشاف أسرار الطبيعة، أكثر مما تهتم بإسعاد الإنسان وراحته.
كل هذه الآراء يبثها هكسلي في قصة «العالم الطريف»، وهي ليست قصة بالمعنى المألوف؛ فهي تنعدم فيها العقدة أو تكاد، ولا تأبه بتحليل الشخصيات، وإنما هي قصة أساسها علمي، تهتم بشرح الآراء وتحليل الأفكار، وبنقد الحضارة الإنسانية من أساسها، وكثيرا ما يرسل الكاتب فيها نفسه على سجيتها، لا يتقيد بترتيب معين أو منطق خاص، يدون الأفكار وفقا لتواردها في ذهنه، فيجمع بين المتناقضات، ويؤلف بين القريب والبعيد، والعلوي والسفلي في أسطر قلائل، ويؤدي به هذا أحيانا إلى شيء من الغموض.
ونقدي لهذا الكتاب - بل ونقدي لأكثر ما كتب هكسلي - أنه سلبي؛ أي إن الكاتب يسخر ويتقزز دون أن يقدم لنا جديدا، فهو يهدم ولا يبني. إذا ذهب إلى السينما شاهد قصصا يقشعر لها بدنه، والجمهور المحتشد في دار السينما في عينيه قذر بليد في جسمه وعقله، آراؤهم سخيفة، وهم مخدوعون في أنفسهم أكبر خداع، وإن قرأ الكتب ألفاها سخيفة ومليئة بالآراء الوضيعة، وإن رحل إلى بلد جديد ألفى سكانه أغبياء بلهاء، لا يختلفون عن أولئك الذين خلفهم وراءه في أرض الوطن، وإن بحث في السياسة وجدها فاسدة، وفي الأخلاق ألفاها دنسة، وفي الروحية لم يجدها سوى مجرد «انتقال أفكار»
telepathy ، وفي مملكة الحيوان رآها تأكل وتتناسل وتتكاثر بغير فهم أو إدراك، وهكذا الأمر يتعلق بالمدينة الفاضلة العلمية؛ فهي ليست إلا خيال فئة من العلماء تمتلئ رءوسهم بالتفكير المادي، وتخلو قلوبهم من شعلة الروح.
ولا يذكر لنا هكسلي في أكثر ما كتب ما مثله الأعلى الذي يرمي إليه، وهو يفعل ذلك إلى درجة ما في كتابه هذا «العالم الطريف»؛ فهو هنا ينادي بالعودة إلى البساطة القديمة، وإلى الأمومة الصحيحة، إلى الأطفال ترعاهم أمهاتهم، وإلى الريف الذي لم يلوث بالعلم والمادة. ولم يتعرض هكسلي لبحث المثل العليا، وإصلاح عيوب المجتمع بصورة جدية إلا في كتابه «الوسائل والغايات»، الذي سبق لي أن نقلته إلى اللغة العربية ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر. في هذا الكتاب عرض ونقد وإصلاح لوسائل الحكم والإدارة الحديثة وللحروب، وفكرة المساواة، والتعليم والدين والمعتقدات والأخلاق، وغير ذلك من الموضوعات التي تهم جمهور القراء المثقفين.
ويتعجب هكسلي لكمية الجهل في العالم، ولضعف النظرة التركيبية عند المفكرين والباحثين. وهو يريد أن يعرف كل شيء، ويعتقد أنه لا يستطيع أن يصل إلى قرار في شأن من شئون الحياة إلا إن أدرك كل شيء؛ ولذا تراه لا يني عن الدرس والتحصيل، ويميل هكسلي إلى إخضاع المظاهر المختلفة إلى قاعدة واحدة شاملة، وقد يستطيع في مقتبل العمر أن يقود العالم إلى الخير والسعادة.
وإني لأرجو أن أكون قد وفقت في تعريب هذا الكتاب، وأتمنى أن ينتفع الناس بآراء الكاتب ونظرياته، والله ولي التوفيق.
إن المدائن الفاضلة تبدو اليوم أدنى إلى التحقيق مما كنا نعتقد قديما، حتى إنه ليؤلمنا الآن أن نواجه هذا السؤال: كيف نستطيع أن نحول دون تحقيق هذه المدائن الفاضلة؟ ... إن المدائن الفاضلة ممكنة التحقيق، والحياة تسير نحوها، وربما كنا في بداية عصر جديد، عصر يحلم فيه المفكرون وأبناء الطبقة المثقفة بالوسائل التي يتجنبون بها المدائن الفاضلة، والتي تعيد إليهم مجتمعا لا يتسم بصفاتها، مجتمعا أقل «كمالا» ولكنه أكثر حرية.
نقولا بردييف
الفصل الأول
البناء منخفض متين، رمادي اللون، يتكون من أربعة وثلاثين طابقا فحسب، وقد كتبت على مدخله الرئيسي هذه العبارة «مركز لندن للتفريخ والتكييف»، كما كتب على إحدى اللوحات شعار الحكومة العالمية، وهو «الجماعة، والتشابه، والاستقرار».
وتواجه الحجرة الفسيحة في الطابق السفلي ناحية الشمال. وبرغم الصيف القائظ خلف الألواح الزجاجية، وبرغم الحرارة الاستوائية داخل الحجرة نفسها، كنت ترى شعاعا من الضوء باردا، قويا دقيقا، يتألق خلال النوافذ وكأنه يتجه في لهفة صوب إنسان، أشبه ما يكون بالتمثال الخشبي المدثر باللباس، أو صوب رجل عالم شحب لونه واقشعر بدنه، ولكنه لا يسطع إلا على الزجاج والنيكل وخزف المعادن، الذي لا يكاد يتميز بلون من الألوان، وكل ما بالمكان ينم عن مظاهر الشتاء. أما العمال فيرتدون ثيابا بيضاء، ويغطون أيديهم بقفازات من المطاط لونها شاحب باهت، والضوء بارد لا حياة فيه، وكأنه شبح من الأشباح، وهو لا يستمد مادة حيوية كثيفة من نوع ما إلا إن نظرت إليه خلال مواسير المناظير المكبرة، فتراه يقع على الأنابيب الصقيلة كأنه الزبد، طبقة تعلوها طبقة شديدة الحلاوة، ثم يرتد الضوء فوق مناضد العمل.
وفتح المدير الباب قائلا: «هذه هي حجرة التلقيح.»
وعندما دخل الغرفة مدير التفريخ والتكييف كان بها ثلاثمائة ملقح، منكبين على آلاتهم ومستغرقين في صمت تكاد تنقطع فيه الأنفاس، ومنهمكين في عملهم أشد الانهماك، عقولهم شاردة، يناجون أنفسهم وهم يغنون أو يصفرون، وسارت في إثر المدير جماعة من الطلبة الذين وصلوا حديثا، وهم شباب أحداث من ذوي البشرة الحمراء الملساء، ترتعد فرائصهم ويحسون بالوضاعة، وكل منهم يحمل كراسة يدون فيها على عجل - وهو قانط - كل ما يتفوه به الرجل العظيم، يأخذون عنه مباشرة، وتلك ميزة نادرة، وكان مدير التفريخ والتكييف هذا لمنطقة مركز لندن يهتم أشد الاهتمام دائما بمرافقة طلبته الجدد خلال الأقسام المختلفة. «وذلك لكي يعطيهم فكرة عامة» كما يقول وهو يشرح لهم؛ إذ كان لا بد لهم - بطبيعة الحال - من فكرة عامة من نوع ما، إن كانوا يريدون أن يؤدوا عملهم بذكاء. ولتكن تلك الفكرة العامة يسيرة ما أمكن ذلك، إن كانوا يريدون أن يكونوا في المجتمع أعضاء طيبين سعداء؛ لأن التفصيل - كما يعلم كل امرئ - يؤدي إلى الفضيلة والسعادة، في حين أن التعميم شر عقلي لا بد منه، فأساس المجتمع يتألف من النشارين وجامعي الطوابع ولا يتألف من الفلاسفة.
ثم يقول المدير، وهو يبتسم لهم بابتهاج لا يخلو من شيء من التهديد: «غدا تستقرون في العمل الجدي، ولن يتسع لكم الوقت لدراسة النظريات، أما الآن ...»
وكانت تلك فرصة طيبة لهم، يدونون في مذكراتهم رأسا من فم الرجل، ويسرعون في الكتابة كأن بهم مسا من جنون.
وتقدم المدير في الغرفة، وهو رجل طويل نحيل، غير أنه معتدل القامة، له ذقن طويل وأسنان كبيرة بارزة، إذا كف عن الحديث أمكنه أن يغطيها بشفتيه الممتلئتين المقوستين في تورد، ومن العسير أن تقول إن كان شيخا أو شابا، وإن كان في الثلاثين أو الخمسين أو الخامسة والخمسين، ولكنك على أية حال لا تشعر بضرورة التساؤل عن ذلك، ففي سنة الاستقرار هذه - عام 632ف
1
لا يطرأ للمرء أن يسأل عن ذلك.
قال المدير: «سأبدأ الموضوع من أوله.» وسجل الطلبة المتحمسون هذه العبارة في مذكراتهم، ثم لوح بيده قائلا: «هذه هي الحاضنات.» ثم فتح بابا معزولا وأشار إلى رفوف يعلو بعضها بعضا مليئة بأنابيب الاختبار المرقومة، ثم أخذ يشرح قائلا: «هذه هي البويضات التي حصلنا عليها هذا الأسبوع، حفظناها في درجة حرارة الدم.» ثم فتح بابا آخر، وقال: «في حين أن جامبيط
2
الذكور لا بد أن يحفظ في حرارة درجتها خمس وثلاثون بدلا من سبع وثلاثين، إن درجة حرارة الدم الكاملة تسبب العقم.» إن الكباش إذا أحيطت بدرجة حرارة الجسم الإنساني لا تنسل الحملان.»
ولبث المدير متكئا على الحاضنات، ثم شرع يعطي للطلبة وصفا موجزا لطريقة التلقيح الحديثة، وأقلامهم تنطلق على الصفحات بخط غير مقروء، وتحدث بطبيعة الحال أول الأمر عنها من الناحية الجراحية قائلا: «إن العملية الجراحية تجرى طوعا لمصلحة الجماعة، ولست بحاجة أن أذكر لكم أنها تأتي بمكافأة تبلغ راتب ستة شهور.» ثم واصل الحديث بشيء من التفصيل عن الطريقة الفنية لحفظ المبيض المستأصل حيا، بحيث ينمو نموا سريعا، ثم انتقل إلى الكلام عن درجة الحرارة الملائمة، وعن الملوحة واللزوجة، ثم أشار إلى السائل الذي تحفظ فيه البيضات المنفصلة الناضجة، ثم سار بطلبته إلى مناضد العمل، وأراهم فعلا كيف يسحب هذا السائل من أنابيب الاختبار، وكيف يسكب قطرة قطرة فوق الألواح الزجاجية للمناظير المكبرة، تلك الألواح التي أدفئت لذلك خصيصا، وكيف كان البيض الذي يحتويه السائل يفحص ويستبعد منه ما ليس طبيعيا، ثم يعد وينقل إلى وعاء ذي مسام، وكيف يغمر هذا الوعاء في حساء دفيء يحتوي على حيوانات منوية تسبح بغير قيد وتتجمع - كما يؤكد المدير - بنسبة لا تقل عن مائة ألف في كل سنتيمتر مكعب (وهنا أخذ المدير الطلبة لمشاهدة العملية)، وكيف يرفع الوعاء عن السائل بعد عشر دقائق ويعاد فحص محتوياته، وكيف تغمس في السائل ثانية - بل وثالثة إذا لزم الأمر - كل بيضة بقيت بغير تلقيح، وكيف تعاد البويضات الملقحة إلى الحاضنات، حيث يبقى هناك المرقوم منها بالألف أو الباء، حتى توضع نهائيا في القوارير. أما المرقوم بالجيم أو الدال أو الهاء فيخرج ثانية بعد ست وثلاثين ساعة فقط؛ لتجرى عليه عملية بوكانوفسكي.
وكرر المدير عبارة «عملية بوكانوفسكي»، ووضع الطلبة خطوطا تحت هذه الكلمات في دفاترهم الصغيرة.
إذا تطورت البيضة الواحدة إلى جنين واحد، والجنين إلى مراهق كان ذلك أمرا طبيعيا، أما البيضة التي تجرى عليها عملية بوكانوفسكي، فإنها تتبرعم وتتكاثر وتنقسم، ويبلغ عدد البراعم التي تخرج من البيضة الواحدة من الثمانية إلى الستة والتسعين، وكل برعم ينمو حتى يصبح جنينا كامل التكوين، وكل جنين يتطور إلى مراهق ذي حجم تام، وبذلك ينمو ستة وتسعون كائنا بشريا، بدلا من واحد فحسب كذي قبل، أليس هذا تقدما؟
واختتم المدير هذا الحديث قائلا: «إن طريقة بوكانوفسكي هي في أساسها عملية لإيقاف التطور؛ إننا نوقف النمو الطبيعي للبيضة، ولكنها - من عجيب المتناقضات - تقابل ذلك بالتبرعم.»
وجرت أقلام الطلبة بهذه العبارة الأخيرة.
ثم أشار المدير إلى فرقة تتحرك ببطء شديد وتحمل رفا مليئا بأنابيب الاختبار، التي تدخل صندوقا معدنيا كبيرا يخرج منه رف آخر ممتلئ ، وقد صدر عن الآلات صرير خافت. وذكر المدير للطلبة أن الأنابيب تستغرق في هذه العملية ثماني دقائق تتعرض خلالها لأشعة إكس الشديدة، وهي أقصى ما تستطيع البيضة أن تحتمل. وبعض البيض يموت، أما ما تبقى فإن أقله حساسية ينقسم قسمين، أما أكثره فينتج أربعة براعم، وبعضه ينتج ثمانية، وكله يرد إلى الحاضنات حيث تبدأ البراعم في النمو، وبعد يومين يبرد فجأة ويوقف نموه، والبراعم بدورها تتبرعم إلى اثنين فأربعة فثمانية، وبعدما تتبرعم تجرع الكحول حتى تكاد تموت، وينجم عن ذلك أنها تتكاثر ثانية، وبعدما تتبرعم - برعم من برعم من برعم (لأن إيقاف التبرعم بعد ذلك مميت عادة) - تترك لكي تنمو في هدوء؛ وعندئذ تسير البيضة الأولى شوطا كبيرا في طريق التكاثر، إلى أي عدد بين الثمانية أجنة والستة والتسعين جنينا. «وأنتم لا شك توافقونني على أن ذلك تحسين هائل في الطبيعة. إننا نحصل على توائم متشابهة، ولكنها ليست توءمين أو ثلاثة فحسب، كما كان يحدث في أيام التوالد السابقة، حينما كانت البيضة تنقسم أحيانا بطريق الصدفة، إنما هي توائم تعد بالعشرات في وقت واحد.»
ثم كرر المدير كلمة «العشرات» ملوحا بذراعيه، كأنه يوزع الهبات.
غير أن أحد الطلبة بلغ به الحمق أن يسأل عن الفائدة من ذلك.
فرد عليه المدير بحدة قائلا: «أي بني العزيز! ألست ترى؟ أفلا ترى؟» ورفع إحدى يديه، وكان رزينا في تعبيره، ثم قال: «إن طريقة بوكانوفسكي إحدى الوسائل العظمى للاستقرار الاجتماعي!»
وسجل الطلبة هذه العبارة «الوسائل العظمى للاستقرار الاجتماعي».
بذلك يصبح الرجال والنساء على غرار واحد، ويكونون مجموعات متشابهة، فيمكن للمصنع الصغير أن يقوم بأسره على رجال من إنتاج بيضة واحدة أجريت عليها عملية بوكانوفسكي.
وارتجف صوت الرجل من شدة الحماسة، وهو يقول: «ستة وتسعون توءما متشابها يديرون ستا وتسعين آلة متشابهة!» ثم أردف قائلا: «إنكم لا شك تعلمون أين أنتم، وذلك لأول مرة في التاريخ.» وردد شعار الكوكب الذي يقطنه وهو: «الجماعة والتشابه والاستقرار.» ما أعظم هذه الكلمات! ثم قال: «لو استطعنا أن نتوسع في طريقة بوكانوفسكي إلى ما لا نهاية، لانحلت المشكلة بأسرها.
فيكون عندنا بيض متشابه من النوع «ج» وبيض لا يختلف من النوع «د»، وبيض موحد من النوع «ه»، ويتوفر لنا الملايين من التوائم المتشابهة، وهكذا ينطبق مبدأ الإنتاج الكبير في النهاية على الأحياء.»
ثم هز المدير رأسه قائلا: «ولكنا للأسف لا نستطيع أن نسير في طريقة بوكانوفسكي إلى ما لا نهاية.
والظاهر أن ستة وتسعين هي الحد الأقصى، وأن اثنين وسبعين متوسط لا بأس به. إنهم يصنعون من المبيض الواحد ومن جاميط الذكر الواحد أكبر عدد ممكن من مجموعات التوائم المتشابهة - وهذا خير ما يستطيعون - وإن يكن لسوء الحظ أقل مما نبغي، ولكنه مع ذلك شاق عسير.
لأن المائتي بيضة تستغرق بطبيعتها ثلاثين عاما كي تبلغ حد النضوج، ولكن من واجبنا أن نقر السكان توا وبغير توان، وماذا يعود علينا لو أخذنا نخرج التوائم خلال ربع قرن؟
لا فائدة البتة من ذلك ولا شك، ولكن طريقة بدسناب الفنية ساعدت إلى حد كبير على الإسراع في عملية النضوج؛ فهم واثقون من نضوج مائة وخمسين بيضة على الأقل في خلال عامين. إنك إذا لقحت البيض ثم أجريت عليه طريقة بوكانوفسكي - أو بعبارة أخرى: إذا ضاعفته اثنين وسبعين مثلا - حصلت في المتوسط على ما يقرب من أحد عشر ألفا من الإخوة والأخوات في مائة وخمسين مجموعة من التوائم المتشابهة، وذلك في خلال عامين من العمر الواحد.
ونستطيع في الحالات الشاذة أن نجعل المبيض الواحد ينتج ما يزيد عن خمسة عشر ألفا من الأفراد البالغين.»
ثم أشار إلى شاب أشقر الشعر متورد اللون، كان يسير إلى جوارهم مصادفة في تلك اللحظة، وناداه: «يا مستر فستر.» فاقترب منه الشاب المتورد، وسأله المدير: «هل تستطيع أن تخبرنا عن أكبر عدد ينتجه مبيض واحد يا مستر فستر؟»
فأجاب مستر فستر بغير تردد: «ستة عشر ألفا واثنا عشر في هذا المركز.» وكان يتحدث على عجل شديد، وهو رجل له عينان زرقاوان يفيضان بالحيوية، ويبتهج ابتهاجا ملحوظا وهو يدلي بالأرقام ، قال: «ستة عشرة ألفا واثنا عشر في مائة وتسع وثمانين مجموعة من المتشابهات.» ثم جلجل بصوته قائلا: «ولكنهم بالطبع بذونا في بعض المراكز الاستوائية، فسنغافورة كثيرا ما أنتجت ما ينيف على الستة عشر ألفا والخمسمائة، وقد بلغت ممباسا فعلا سبعة عشر ألفا، ولكنهم في أمثال هذه المراكز يتمتعون بمزايا لا تقوم على أساس من العدل. انظر إلى الطريقة التي يستجيب بها المبيض الزنجي للمخاط! إنها لتدهشك أشد الدهش إذا كنت ممن يألفون العمل بالمواد الأوروبية.» ثم ضحك ولمعت عيناه ببريق المعارضة، ورفع ذقنه متحديا، وقال: «ومع ذلك فقد اعتزمنا أن نتفوق عليهم إن استطعنا. إنني في هذه اللحظة أعمل بمبيض عجيب من نوع «−د» أتم ثمانية عشر شهرا من العمر من عهد قريب جدا، عندنا الآن أكثر من اثني عشر ألفا وسبعمائة طفلا، بعضهم ما يزال جنينا وبعضهم خرج إلى الحياة، وهم جميعا أصحاء، إننا لا بد متغلبون في النهاية.»
فصاح المدير قائلا: «هذه هي الروح التي أعجب بها.» وضرب المستر فستر ضربة خفيفة على كتفه، ثم قال: «تعال معنا، واشرح لهؤلاء الشبان خلاصة خبرتك.»
وابتسم المستر فستر متواضعا وقال: «بكل سرور.» ثم انطلقوا.
وكنت تسمع في حجرة القوارير أصواتا مؤتلفة وترى نشاطا منظما، وكانت ترتفع إلى الأرض في مصاعد صغيرة قطع طازجة من بريتون الخنازير، قطعت على الأحجام الملائمة، وأخرجت من مخزن الأعضاء في الطابق السفلي. وكنت تسمع صفيرا ثم طقطقة، وذلك عندما تتفتح أبواب المصاعد. وليس على مبطن القوارير إلا أن يمد يده، ويتناول قطعة من البريتون، ثم يدخلها في القارورة في يسر شديد، وقبل أن يتم ضم القارورة إلى ذلك الصف من القوارير الذي لا تجد نهايته، تسمع الصفير والطقطقة عندما تندفع قطعة أخرى من البريتون من الأعماق، وقد أعدت للانزلاق في قارورة أخرى، كي تنضم إلى تلك المجموعة التي تتزايد شيئا فشيئا، حتى لا يكاد يحصى عددها.
ويقف الفاحصون إلى جانب المبطنين، وتتقدم مجموعة القوارير، وينقل البيض واحدة بعد الأخرى من أنابيب الاختبار إلى الأوعية الكبيرة ، ثم تفصل البطانة البريتونية بمهارة فائقة، وتوضع العلقة في مكانها، ويصب محلول الملح ... وهكذا تمر القارورة، ويأتي دور واضعي البطاقات، الذين ينقلون من أنبوبة الاختبار إلى القارورة نوع الوراثة وتاريخ التلقيح وعضوية مجموعة بوكانوفسكي وأمثال هذه التفاصيل، ويسير موكب القوارير بعد ذلك سيرا بطيئا، ولم تعد مجهولة الاسم، بل لقد بات كل منهما مسمى معروفا، ثم تدخل في نافذة في الحائط، حتى تصل بسيرها البطيء إلى حجرة «القضاء والقدر الاجتماعي».
وبينما كان الطلبة يلجون الغرفة، قال لهم المستر فستر، وهو في غبطة شديدة: «هنا ثمانية وثمانون مترا مكعبا من الفهارس.»
وعقب على ذلك المدير قائلا: «وهي تحوي كل المعارف المتصلة بالموضوع.
ويضم إليها المعارف الجديدة كل صباح.
ويضم بعضها إلى بعض؛ لتنسيق المعرفة كل مساء.
وعلى أساسها تقدر الأعداد.»
وقال المستر فستر: «فنعرف كم فرد من هذا النوع أو ذاك.
وتوزع على أقدار مختلفة.
ونعرف أحسن نسبة للتحول من وعاء إلى وعاء، في كل لحظة من اللحظات.
ونستفيد في الحال من الكميات الفاسدة، التي لم نكن نتوقعها.»
وكرر هذه العبارة المستر فستر، قائلا: «تستفيد في الحال إذا عرفت كم من الوقت الزائد أدخلت في حسابي بعد زلزال اليابان الأخير!» ثم ضحك متفكها وهز رأسه. «ثم يرسل «رجال القضاء والقدر» أرقامهم للملقحين.
وهؤلاء يقدمون لهم الأجنة التي يطلبون.
ثم تأتي القوارير إلى هذا المكان؛ كي يكتب لها قضاؤها وقدرها بالتفصيل.
ثم ترسل بعد ذلك إلى مخزن الأجنة.
إلى حيث نحن الآن ذاهبون.»
وفتح المستر فستر بابا، وقادهم إلى سلم هبطوا منه إلى الطابق السفلي.
وما زالت الحرارة هناك استوائية، وهبطوا جميعا إلى مكان؛ جوه أشبه ما يكون بالشفق الكثيف، وكان هناك بابان وممر يلتوي مرتين، كي يكفلوا للمخزن بعده عن إمكان تسرب ضوء النهار.
ودفع المستر فستر الباب الثاني، وقال في فكاهة ومجون: «الأجنة كالأفلام الفوتوغرافية، لا تحتمل غير الضوء الأحمر.»
والواقع أن الظلام والحرارة والرطوبة التي ولجها الطلبة في إثره كانت ملحوظة، وكان الجو قرمزي اللون، وما أشبه هذا الظلام بما ترى العين المغمضة في يوم قائظ بعد الظهيرة، والأجنحة البارزة من صفوف القوارير المتعاقبة، والطبقات المتراصة من هذه القوارير، كانت كلها تتألق بالياقوت الذي لا يعد، وبين الياقوتة والياقوتة تتحرك أطياف معتمة حمراء، من الرجال والنساء من ذوي العيون الأرجوانية اللون، وعليهم جميعا أعراض مرض السل الجلدي.
وكان طنين الآلات ودويها يهز الهواء هزا خفيفا.
وقال المدير وقد أنهكته كثرة الكلام: «أعطهم بعض الأرقام، يا مستر فستر.»
واغتبط المستر فستر بعض الاغتباط، وهو يدلي لهم بقليل من الأرقام.
قال: «إن المكان يبلغ مائتين وعشرين مترا طولا، ومائتين عرضا، وعشرة ارتفاعا.» وأشار إلى أعلى، ورفع الطلبة أعينهم صوب السقف النائي، كما تفعل الفراخ وهي تحتسي الماء.
وكان بالمكان ثلاث طبقات من الرفوف: إحداها في مستوى الأرض، يعلوها رواق ثان فثالث.
وهذه الأروقة المتراصة مصنوعة من الصلب، وشبيهة بنسج العنكبوت، وهي تتلاشى خلال الظلام من جميع النواحي، وبالقرب منهم ثلاثة أشباح حمراء، منهمكون في إنزال القوارير من درج متنقل.
وذلك هو السلم المتنقل الذي يخرج من حجرة القضاء والقدر.
وتوضع كل قارورة على واحد من الرفوف الخمسة عشر، وكل رف حامل ينتقل بسرعة ثلاثة وثلاثين وثلث سنتيمتر في الساعة - ولكن المشاهد لا يلحظ هذه الحركة - ويسير مائتين وسبعة وستين يوما، بسرعة ثمانية أمتار كل يوم، فيكون المجموع ألفين ومائة وستة وثلاثين مترا، وتلك دورة واحدة حول المخزن في مستوى الأرض، ودورة في الرواق الأول، ونصف دورة في الرواق الثاني. وفي صباح اليوم السابع والستين بعد المائتين يتسرب ضوء النهار إلى حجرة التفريغ، وذلك ما يسمونه الوجود المستقل.
واختتم المستر فستر حديثه قائلا: «وقد استطعنا خلال هذه الفترة أن نفرغ من الكثير منها.» وضحك ضحكة العارف الظافر.
وقال المدير ثانية: «هذه هي الروح التي أعجب بها، دعنا الآن نتابع سيرنا، خبرهم بكل شيء يا مستر فستر.»
وقد خبرهم مستر فستر في التو عن الجنين الذي ينمو على بريتونه المفروش، وأذاقهم المادة الدسمة التي يتغذى بها عوضا عن الدم، وشرح لهم لماذا كان من الضروري أن ننبهه بنبات المشيمة وبإفراز الغدة الدرقية. ثم حدثهم عن عصارة بعض خلايا المبيض، ثم أطلعهم على المنافذ التي يحقن منها بطريقة آلية عند كل جزء من اثني عشر من المتر، وذلك من الصفر إلى 2040، وتكلم بعدئذ عن الجرعات المخاطية التي تزاد باطراد، والتي تعطى في الستة والتسعين مترا الأخيرة من سيرها، ووصف الدورة الدموية الصناعية التي تتسم بها كل قارورة بعد 112 مترا، وأطلعهم على خزان المادة التي يستعاض بها عن الدم، وعلى المضخة الطاردة التي تحرك السائل دائما فوق المشيمة ثم تطرده خلال الرئة الصناعية ومرشح الفضلات. وأشار إلى استعداد الجنين للأنيميا، وما يترتب عليه من مشقة، وإلى الجرعات الضخمة من خلاصة معدات الخنازير، وكبد جنين الفرس الذي يتحتم أن نمده به تبعا لذلك.
ثم أطلعهم على الآلات البسيطة التي تستخدم في المترين الأخيرين من كل ثمانية أمتار؛ لهز الأجنة كلها في وقت واحد حتى تألف الحركة، وأشار إلى خطورة ما يعرف ب «دوخة التفريغ»، وعدد الاحتياطات التي تتخذ لتخفيف أثر هذه الصدمة الخطرة إلى الحد الأدنى، وذلك بتدريب الجنين المحفوظ في القارورة تدريبا ملائما. وحدثهم عن الاختبارات الجنسية التي يقومون بها بعد مائتي متر من الدورة، وشرح طريقة وضع البطاقات: وهي حرف «ت» للذكور، ودائرة للإناث، وعلامة استفهام سوداء على صفحة بيضاء للخنثى.
وقال المستر فستر: «لأن التلقيح ليس في أكثر الأحوال - بطبيعة الحال - إلا مضايقة. إن مبيضا واحدا من كل 1200 يكفي تحقيق أغراضنا تماما، ولكن لا بد لنا من حسن الاختيار، وبالطبع لا بد أن نحسب حسابا كبيرا لسلامة المبيض؛ ولذا فنحن نسمح لثلاثين في المائة من إناث الأجنة أن تنمو نموا عاديا، أما البقية فتعطى جرعة من هرمونات الذكور كل 24 مترا من بقية الشوط، والنتيجة أنها تفرخ خناثا، وتركيبها طبيعي جدا (واعترف أنها تشذ فقط في أن لديها ميلا طفيفا جدا لإرسال اللحى) ولكنها عاقر، وعقمها مضمون.» وواصل المستر فستر حديثه قائلا: «وهذا يؤدي بنا في النهاية إلى الخروج من دائرة تقليد الطبيعة تقليدا أعمى إلى عالم الاختراع الإنساني، وهو أشد تشويقا للنفوس.»
وفرك يديه؛ لأنهم بالطبع لم يقتنعوا بمجرد تفريخ الأجنة، فأية بقرة تستطيع ذلك.
ثم قال: «ونحن كذلك نكتب القدر ونتحكم في الظروف، إننا نفرخ صغارنا كائنات بشرية اجتماعية، من نوع «أ» أو «ه»، ونقدر لهم أن يكونوا في المستقبل من العمال الذين يزيلون أقذار المصارف أو ...» وأوشك أن يقول: «منظمي العالم.» ولكنه صحح نفسه، وقال بدلا من ذلك: «مديري مراكز التفريخ.»
وقابل المدير هذا الثناء بابتسامة.
وكانوا يمرون عند نقطة 320 مترا في الرف الحادي عشر، حينما شاهدوا عاملا ميكانيكيا شابا، من نوع «−ب»، يعمل بمفك ومقياس في مضخة المادة التي تحل محل الدم والخاصة بقارورة كانت تمر به. وكان دوي المحرك الكهربائي يشتد نغمه بدرجات طفيفة وهو يدير الأزرار، ثم هبطت القارورة إلى أسفل، وأدار العامل المفك دورة نهائية، ورمق بعينه المنضدة الدائرة، وانتهى بعد ذلك من عمله، وتحرك بعدئذ خطوتين إلى أسفل، وبدأ العملية نفسها في المضخة التالية.
وأخذ المستر فستر يشرح لهم، قائلا: «إذا أنقصنا عدد الدورات في الدقيقة الواحدة تقل سرعة دوران المادة التي تشبه الدم، فتمر خلال الرئة في فترات أكثر تباعدا، ويقل مقدار ما يأخذه الجنين من الأكسجين، وليس هناك ما يجعل الجنين أقل من المستوى المطلوب أكثر من نقص الأكسجين.» ثم فرك يديه.
فتصدى للسؤال طالب نابغ قائلا: «ولكن لماذا تريدون أن تبقوا الجنين أحط من المستوى المطلوب؟»
وبعد صمت طويل قال المدير: «ألم يطرأ لك، يا حمار، أن الجنين من النوع «ه»، لا بد أن يعيش في وسط «ه»، وأن ينسل أجنة من نفس النوع؟»
ومن الجلي أن هذه الفكرة لم ترد على خاطر الطالب، فارتبك واضطرب.
وقال المستر فستر: «كلما انحط النوع قل الأكسجين. وأول ما يتأثر من الأعضاء المخ ويليه الهيكل العظمي، وإذا كان الأكسجين سبعين في المائة من المقدار المعتاد تكونت الأقزام، أما إذا قل الأكسجين عن سبعين، كانت المخلوقات عجيبة بغير عيون.»
وأتبع المستر فستر ذلك قائلا: «وهي لا تجدي البتة.»
ثم تحدث بصوت ينم عن الثقة والاهتمام، قائلا: «إنهم لو اكتشفوا طريقة فنية، يقصرون بها الفترة التي يكتمل فيها النمو، كان ذلك انتصارا كبيرا، وفائدة عظمى للمجتمع.
فكروا في الحصان.»
ففكر فيه الطلبة. «إن نموه يكتمل في السادسة، ويكتمل نمو الفيل في العاشرة، في حين أن الإنسان لا ينضج جنسيا إلا في الثالثة عشرة، ولا يتم نموه إلا في العشرين؛ ومن ثم - بطبيعة الحال - يتأخر نضوج ثمرة كمال التطور - وأقصد الذكاء البشري.»
وقال المستر فستر، وهو جد محق فيما قال: «ولكننا في النوع «ه» لا نحتاج إلى الذكاء البشري.
إنهم لم يحتاجوا الذكاء ولم يحصلوا عليه، ولكن برغم أن العقل «ه» كان تام النضوج في العاشرة، فإن الجسم «ه» لم يكن ملائما للعمل حتى الثامنة عشرة؛ وبذا تنقضي سنوات عدة في حالة عدم النضج، وهي سنوات فائضة عن الحاجة مضاعة، فلو استطعنا أن نسرع في التطور الجثماني حتى يصبح في سرعة نمو البقر، وفرنا على المجتمع الشيء الكثير.»
فتمتم الطلبة قائلين: «الشيء الكثير!» وذلك لأن حماسة المستر فستر انتقلت إليهم عدواها.
ثم أصبح كلامه بعد ذلك فنيا جدا، تحدث عن توحد الإفراز الداخلي الشاذ، الذي يعمل على بطء نمو الإنسان، وسلم بأن ذلك يرجع إلى تغير النطفة، فهل يمكن تحاشي آثار هذا التغيير النطفي؟ هل يمكن أن يعاد الجنين من النوع «ه»، بطريقة فنية خاصة، إلى حالة الكلاب والأبقار العادية؟ تلك هي المشكلة التي تعسر حلها. «لقد استطاع بلكنجتن في ممباسا أن ينتج أفرادا، ينضجون جنسيا في الرابعة، ويتم نموهم في السادسة والنصف، وهذا انتصار علمي، ولكنه لا يجدي من الناحية الاجتماعية، فالرجال والنساء في سن السادسة، أغبى من أن يؤدوا عملا حتى من النوع «ه»، والعملية إما أن تتم كلها، أو لا يكون من ورائها نفع، فإما أنك تفشل في إدخال أي تعديل، وإما أن تدخل التعديل كله، وهم ما يزالون يحاولون إيجاد الحالة المتوسطة المثالية، بين البالغين في سن العشرين والبالغين في سن السادسة، ولم ينجحوا حتى الآن.» ثم تنهد المستر فستر وهز رأسه.
وواصلوا تجوالهم خلال الشفق القرمزي، حتى بلغوا قرابة 170 مترا على الرف التاسع، ومن هذه النقطة وما بعدها، كان الرف التاسع محاطا بسور، والقوارير التي تكونت منها بقية الرحلة كانت مصففة في نوع من أنواع النفق، تتخلله هنا وهناك فتحات يبلغ اتساع الواحدة منها مترين أو ثلاثة.
وقال المستر فستر: «هنا تكييف الحرارة.»
وكانت النفق الحارة تتعاقب مع النفق الباردة، وكانت البرودة تقترن بشيء من عدم الارتياح، على صورة أشعة إكس القوية، وعندما يحين وقت التفريغ تشعر الأجنة بفزع من البرد شديد، وقد قرر لها أن تهاجر إلى المناطق الحارة؛ كي يكونوا عمالا في المناجم وغزالين للحرير الحمضي، وصناعا في الحديد والصلب، وترغم عقولهم فيما بعد على الاتفاق مع ما قدر لجسومهم. واختتم المستر فستر حديثه قائلا: «إننا نكيفهم على النجاح في الحرارة، وزملاؤنا في الطابق العلوي يدربونهم على حبها.»
وأضاف المدير على ذلك في إيجاز قوله: «وهذا هو سر السعادة والفضيلة؛ أن تحب ما ينبغي لك أن تعمله. إن عملية التكييف كلها ترمي إلى أن تجعل الناس يحبون مصيرهم الاجتماعي الذي لا مفر منه.»
وفي فجوة بين نفقين، كانت إحدى المربيات تسبر برفق غور المحتويات الهلامية بداخل قارورة، مارة بمحقن طويل دقيق، ووقف الطلبة ومرشدوهم يراقبونها بضع لحظات، وهم صامتون.
وبعدما سحبت المحقن أخيرا واستقامت، قال المستر فستر: «أجل يا ليننا!»
فالتفتت الفتاة في فزع، ويستطيع الرائي أن يلحظ عليها جمالا غير عادي، برغم مرضها بالسل الجلدي، وبرغم عينيها الأرجوانيتين.
وصاحت: «هنري!» وأشرقت عليه بابتسامة رقيقة، وأبانت عن صف من الأسنان المرجانية.
فتمتم المدير قائلا: «يا للفتنة!» وربت عليها مرتين أو ثلاث، ظفر في مقابلها بابتسامة تقدير خصته بها.
وسألها مستر فستر في نغمة الرجل ذي المهنة الرفيعة: «ماذا تعطينهم؟»
فقالت: «مرض التيفود، والنوم المألوف.»
وتصدى المستر فستر لشرح ذلك للطلبة، فقال: «إن تطعيم عمال المناطق الحارة يبدأ عند المتر 150، هنا تكون الأجنة بالخياشيم، إننا نكسب السمكة المناعة ضد أمراض الإنسان في المستقبل .» ثم التفت إلى ليننا وقال: «في الخامسة إلا عشر فوق السطح بعد ظهر اليوم كالمعتاد.»
وقال المدير ثانية: «إنها لفاتنة!» وضربها للمرة الأخيرة ضربة خفيفة، ثم انصرف في إثر الآخرين.
وفوق الرف العاشر شهدوا صفوفا من العمال الكيميائيين للجيل المقبل، يدربون على احتمال الرصاص والصودا الكاوية والقار وغاز الكلور، وكان يمر آنئذ عند علامة المتر 1100 على الرف الثالث الجنين الأول من مجموعة عددها مائتان وخمسون من مهندسي الطائرات الصاروخية، وقد استخدمت آلات خاصة كي تبقى أوعيتهم دائرة بغير انقطاع، وشرح المستر فستر ذلك قائلا: «هذا لتحسين إحساسهم بالتوازن؛ لأن إصلاح الطائرة الصاروخية من الخارج وسط الهواء عمل دقيق. إننا نبطئ الدورة عندما يرتفعون، حتى يكادوا يموتون جوعا، ونضاعف تدفق الماء وهم منقلبون، إنهم يتعلمون أن يجمعوا بين الانقلاب وطيب الحياة، بل إنهم لا يكونون حقا سعداء، إلا وهم واقفون على رءوسهم.
وواصل مستر فستر الحديث قائلا: «والآن أحب أن أطلعكم على تكييف مشوق جدا للأذكياء من درجة «+أ». عندنا طائفة كبيرة منهم على الرف الخامس في مستوى الرواق الأول.» ثم نادى ولدين وقد شرعا يهبطان إلى الطابق الأرضي.
قال: «إنهما عند المتر 900 تقريبا، إنك لا تستطيع أن تقوم بعملية تكييف مجدية لأصحاب الفكر حتى يفقد الجنين ذيله. اتبعوني.»
ولكن المدير نظر إلى ساعته وقال: «إنها الثالثة إلا عشر، وإني لأخشى ألا يتوفر لنا الوقت لنشاهد الأجنة المفكرة، يجب أن نصعد إلى غرف الأطفال قبل أن ينهضوا من نومهم بعد الظهر.»
فشعر المستر فستر بشيء من الضيق، وتوسل إليهم أن يلقوا على الأقل نظرة واحدة على حجرة التفريغ.
فابتسم المدير متلطفا، وقال: «ليكن ذلك، ولتكن نظرة واحدة.»
الفصل الثاني
بقي المستر فستر وحده في حجرة التفريغ، وولج المدير وتلاميذه أقرب مصعد، وحملهم المصعد إلى الطابق الخامس.
فإذا بلوحة عليها هذا الإعلان: «حجرات صغار الأطفال - غرف التكييف على طريقة بافلوف الحديثة».
وفتح المدير أحد الأبواب، فإذا بهم في غرفة كبيرة جرداء، شديدة الضوء مشمسة؛ وذلك لأن الحائط الجنوبي بأسره كان نافذة واحدة ، وبالحجرة ست مربيات، يلبسن الزي الموحد المعهود، وهو يتألف من سروال وسترة من تيل أبيض لزج، وشعورهن مختفية تحت غطاء للرأس أبيض اللون، مما يساعد على تطهيرها، وكن يشتغلن بصف آنيات الورد في خط طويل يقطع أرض الغرفة من جانب إلى آخر، والأواني كبيرة تمتلئ إلى قمتها بالزهر؛ فكنت ترى ألوف الأوراق منتفخة مزدهرة، ناعمة كالحرير، كأنها خدود ولدان مخلدين لا يحصرهم العد، وتلك الخدود في ذلك الضوء اللامع، لم تكن وردية آرية فحسب، بل إن منها ما هو صيني براق، ومكسيكي نحاسي، أو به صرع من كثرة النفخ في أبواق السماء، أو شاحب كالموتى، وشحوبه مختلط ببياض المرمر الأصيل.
واعتدل المربيات منصتات عندما دخل المدير.
وقال لهن في جفاء واقتضاب: «انشرن الكتب.»
فصدع المربيات بأمره صامتات، ونشرت الكتب في الحال بين أواني الزهر، وانفتحت صحف صغيرة من صحائف الأطفال في صف واحد، وكأنها تدعو المشاهدين إلى النظر فيها، تظهر في كل منها صورة زاهية الألوان لوحش أو سمكة أو طائر. «والآن أدخلن الأطفال.»
فأسرعن خارج الحجرة وعدن بعد دقيقة أو دقيقتين، كل منهن تدفع قائمة خشبية ذات أربعة رفوف لها شبكات سلكية، محملة بثمانية أطفال، عمر الواحد منهم ثمانية أشهر، وكلهم متشابهون أشد التشابه (ومن الجلي أنهم كانوا من طراز بوكانوفسكي)، وكلهم يرتدون الكاكي (لأنهم من النوع «د»). «ضعوهم على الأرض.»
فأنزل المربيات الأطفال. «والآن أديروهم حتى يستطيعوا رؤية الزهور والكتب.»
فالتفت الأطفال، وصمتوا في الحال، ثم بدءوا يزحفون نحو تلك المجموعات ذات الألوان الملساء، ونحو تلك الرسوم المرحة البراقة فوق الصفحات البيض، وبرزت الشمس من كسوف وقتي خلف السحاب والأطفال يقتربون، واشتعلت الورود كأن عاطفة فجائية تحركت في داخلها، وكأن صفحات الكتب البراقة اكتسبت أهمية جديدة كبرى، وصدرت من صفوف الأطفال الزاحفين صرخات ضعيفة من أثر الذهول، وقهقهة ومناغاة من أثر السرور.
وفرك المدير يديه وقال: «حسنا، لكأن هذا حدث عن عمد.»
وبلغ الأطفال المسرعون في زحفهم أهدافهم، وامتدت أيد صغيرة في غير ثبات، تلمس الورود التي تغير شكلها، وتقبض عليها وتجردها من أوراقها، كما غضنت الصفحات المضيئة، ولبث المدير حتى كانوا جميعا في شغل مرحين، ثم قال: «ارقبوا بعناية.» ثم رفع يده، وأعطى إشارته.
وكانت رئيسة المربيات واقفة إلى جوار لوحة الأزرار في الجانب الآخر من الغرفة، فضغطت على رافع صغير.
فحدث انفجار عنيف، وانطلقت صفارة بصوت أجش أخذ يزداد بالتدريج حدة، ودقت أجراس الخطر كأن بها مسا من جنون.
وفزع الأطفال وصاحوا، وتجعدت وجوههم فرقا ورعبا.
وكاد الضجيج أن يصم الآذان، فصاح المدير: «والآن نبدأ في إدخال هزة كهربية خفيفة في هذا الدرس.»
ولوح بيده مرة أخرى، وضغطت رئيسة المربيات رافعا آخر، فتغيرت نغمة صياح الأطفال، فكنت تحس في صرخاتهم الحادة المتقطعة، التي يرسلونها شيئا من اليأس، يكاد يبلغ حد الجنون، وامتطت جسومهم الصغيرة وتصلبت، وتحركت أطرافهم واهتزت، كأنها تستجيب لجذب أسلاك غير مرئية.
وصاح المدير وهو يشرح قائلا: «نستطيع أن نكهرب كل هذا الجزء من الأرض.» ثم أشار إلى المربية قائلا: «ولكن كفى هذا.»
وتوقف الانفجار، وكفت الأجراس عن الدوي، وأخذ صياح الصفارة ينخفض نغمه شيئا فشيئا حتى تلاشى، ثم ارتخت الأجسام الممتطة المتصلبة، وتحول نشيج الأطفال المجانين وصياحهم إلى العويل المألوف من أثر الرعب المعهود. «قدموا لهم الزهور والكتب ثانية.»
فلبى المربيات الأمر، ولكن الأطفال انكمشوا فزعين، وعلا صياحهم فجأة عندما اقتربت الورود، ووقعت أبصارهم على صور القطط والديكة والغنم الأسود، التي رسمت رسما يلائم الأطفال، وصبغت بالألوان الزاهية.
وقال المدير ظافرا: «اشهدوا، اشهدوا.
لقد اقترنت في أذهان الأطفال الكتب مع الضجيج المرتفع، والزهور مع الهزات الكهربية، وإذا تكرر هذا الدرس أو شبيهه مائتي مرة، أصبح الاقتران ثابتا لا ينفصم، وما يصله الإنسان تعجز الطبيعة عن فصله.
سوف يشبون على ما اعتاد علماء النفس أن يسموه كرها «غرزيا» للكتب والزهور، هذه أفعال منعكسة شرطية لا تتغير، سوف يكونون بمنجاة من الكتب وعلم النباب طول حياتهم.» ثم التفت المدير إلى مربياته، وقال: «أبعدوهم ثانية.»
وحمل الأطفال ذوو الأردية الكاكية، وهم ما يزالون يصيحون فوق قوائمهم الخشبية ذوات الرفوف، ودفعتهم العجلات إلى الخارج، مخلفين وراءهم رائحة اللبن الرائب، وصمتا محببا إلى النفوس.
ورفع أحد الطلبة يده، لقد أدرك تمام الإدراك، لماذا لا نستطيع أن يكون لدينا قوم من النوع الدنيء، يضيعون وقت المجتمع في الكتب، كما أدرك أن هناك دائما خطرا من أن يقرءوا شيئا ربما أزال الرابطة بين الشرط والاستجابة؛ وهو شيء لا نرغب فيه. أدرك الطالب ذلك، ولكنه لم يفهم ما حدث بشأن الزهور، لماذا نجشم أنفسنا مشقة كبرى، بأن نجعل من المستحيل من الناحية النفسية للنوع «د» من الناس أن يحب الزهور.
وأخذ المدير يشرح له في صبر وأناة، إذا أرغمنا الأطفال على الصياح عند مرأى الورد، فإنما نفعل ذلك لأسباب سياسية اقتصادية عليا، من عهد غير بعيد جدا (منذ زهاء القرن)، كانت الأنواع «ج»، «د»، بل و«ه» تدرب على حب الزهور خاصة، والطبيعة الجرداء عامة، وكان الغرض من ذلك أن نحببهم في الخروج إلى الريف كلما سنحت الفرصة، فنضطرهم بذلك إلى أن يستخدموا وسائل المواصلات.
فسأل الطالب: «وهل لم يستخدموا تلك الوسائل؟»
وأجاب المدير: «لقد استخدموها كثيرا، ولكنهم لم يفعلوا غير ذلك.»
ثم أشار إلى أن زهور الربيع ومناظر الطبيعة لها عيب واحد خطير: «وذلك أنها مجانية. إن حب الطبيعة يعطل المصانع، فقررنا أن نلغي حب الطبيعة على الأقل من الطبقات الدنيا، قررنا أن نلغي حب الطبيعة، ولكن على أن يبقى الميل إلى استخدام المواصلات؛ لأنه كان من الضروري لهم بطبيعة الحال ألا ينقطعوا عن زيارة الريف، حتى إن كانوا يمقتونه. وأصبحت المشكلة تنحصر في إيجاد سبب اقتصادي لاستخدام المواصلات أقوى من مجرد حب زهور الربيع ومناظر الطبيعة، ولقد عثرنا على السبب في الوقت المناسب.»
وختم المدير كلامه قائلا: «إننا نكيف الجماهير على كره الريف، ولكنا في نفس الوقت نكيفهم على حب ضروب الرياضة الريفية كلها، وفي الوقت عينه نتأكد من أن جميع ضروب الرياضة الريفية تستلزم استخدام الأجهزة المعقدة؛ وبذا يستهلكون الأشياء المصنوعة، كما يستهلكون وسائل النقل؛ ومن ثم أدخلنا تلك الهزات الكهربية.» فقال الطالب: «لقد فهمت.» ثم صمت مستغرقا في الإعجاب.
ثم كان سكون شامل، وبعدئذ طهر المدير حلقه مما به، ثم بدأ الحديث ثانية، قال: «كان هناك فيما مضى - حينما كان فورد على وجه البسيطة - طفل صغير يدعى روبن رابنوفتش، وكان روبن ولدا لأبوين يتكلمان اللغة البولندية.» ثم قاطع المدير نفسه سائلا: «أحسب أنكم تعرفون ما هي البولندية.» - «إنها لغة ميتة.»
وزاد على ذلك طالب آخر قائلا: «كالفرنسية والألمانية.» وقد أقحم نفسه متظاهرا بعلمه.
ثم سألهم المدير قائلا: «وتعرفون كذلك معنى «الوالد»؟»
فساد الحاضرين صمت مشوب بالقلق، واحمرت وجنات كثير من الأولاد خجلا، إنهم لم يتعلموا بعد أن يدركوا الفارق الهام - الدقيق جدا في غالب الأحيان - بين اللفظ البذيء والعلم البريء، وأخيرا تشجع طالب ورفع يده.
وتلعثم في لفظه واندفع الدم إلى وجنتيه، وهو يقول: «لقد كانت الكائنات البشرية فيما مضى تتناسل باللقاح.»
فأومأ المدير برأسه موافقا وقال: «هذا صحيح.» - «وعندما كان الأطفال يفرغون ...»
فصححه آخر: «بل يولدون.» - «كان هناك الوالدون - ولا أقصد الأطفال بالطبع، إنما أقصد الآخرين.» ثم غلب الاضطراب هذا الولد المسكين.
ولخص المدير الكلام قائلا: «كان الوالدان بالإيجاز: الأم والأب.» وهذه العبارة البذيئة - وهي في الواقع علم صحيح - سقطت كالصاعقة على الأولاد الصامتين، الذين كانوا يغضون الطرف عن المتكلم، ولكن المدير كرر كلمة «الأم» بصوت مرتفع، كي يزيل السكون السائد، ثم ارتد في كرسيه إلى الوراء، وقال في جد ورزانة: «أنا أعرف أن هذه الحقائق لا تسر، ولكن أكثر الحقائق التاريخية كذلك.»
ثم عاد إلى روبن الصغير، قال: «إن أباه وأمه تركوا الراديو مفتوحا سهوا في غرفته ذات مساء.
ويجب أن تذكروا أن الأطفال - في تلك الأيام التي كان الناس يتناسلون فيها بالتلاقح ويتكاثرون - كانوا ينشئون تحت رعاية آبائهم، ولا ينشئون في مراكز الدولة للتكييف.
وبينما كان الطفل نائما، بدأت لندن فجأة تذيع برنامجا، وفي صبيحة اليوم التالي تيقظ روبن الصغير وهو يكرر، كلمة كلمة، محاضرة طويلة ألقاها ذلك الكاتب العجيب القديم (وهو أحد القلائل الذين سمح لمؤلفاتهم أن تتحدر إلينا) برنارد شو، الذي كان يتحدث عن عبقريته - وفقا لتقليد قديم معتمد - واندهش والدا الطفل لذلك (وهنا تجاسر الجريئون من التلاميذ أن يتجهم كل منهم للآخر)، وقد غمز روبن الصغير بعينه، وأسر في نفسه ضحكة مكبوتة؛ لأن هذه المحاضرة كانت بالطبع غير مفهومة له، ولما تصور الوالدان أن طفلهما قد أصيب فجأة بالجنون، أرسلا في طلب الطبيب، وكان لحسن الحظ يفقه الإنجليزية، فأدرك أن الحديث هو ذلك الذي أذاعه شو في الليلة السابقة، وأدرك أهمية ما حدث، وأرسل خطابا بشأنه لصحيفة طبية.»
قال المدير: «وكان مبدأ التعليم أثناء النوم، أو هبنوبيديا، قد اكتشفت من قبل.» ثم سكت فترة كان لها أثرها في النفوس. «لقد اكتشف المبدأ، ولكن كان لا بد من أن تنقضي سنوات عدة، قبل أن يطبق بطريقة نافعة.
إن حادثة روبن الصغيرة هذه، قد وقعت بعد ثلاثة وعشرين عاما فقط، بعدما عرض في السوق طراز فورد الأول رقم «ت» (وهنا رسم المدير حرف التاء على معدته، وتبعه الطلبة جميعا باحترام) ومع ذلك ...»
وخط الطلبة على عجل هذه العبارة وهم محنقون: «استعملت الهبنوبيديا رسميا أولا في عام 214ف، ولم تستعمل قبل ذلك لسببين: أولهما ...»
وكان المدير يقول: «هذه التجارب الأولى كانت تسير في طريق خاطئ، إنهم كانوا يظنون أن الهبنوبيديا، يمكن أن تكون أداة من أدوات التربية العقلية ...»
ينام الولد الصغير على جانبه الأيمن، ويمد ذراعه اليمنى، ويعلق يده اليمنى مسترخية على حافة السرير، ويتحدث صوت ناعم خلال نافذة مستديرة في جانب أحد الصناديق.
ويقول الصوت: «النيل أطول أنهار أفريقيا، وثاني أنهار العالم طرا في طوله، وهو أقصر من المسسبي والمسوري، غير أنه أول الأنهار من حيث طول حوضه، الذي يمتد خلال 35 درجة من درجات العرض ...»
وفي ساعة الإفطار في صبيحة اليوم التالي، يسأل سائل: «هل تعلم يا تومي أطول نهر في أفريقيا؟» فيهز تومي رأسه، «ولكن ألا تذكر عبارة تبدأ بهذه الكلمات: النيل أطول ...»
فيجيب تومي: «النيل - أطول - أنهار - أفريقيا - وثاني - أنهار - العالم - طرا - في - طوله ...» ثم تتدفق الكلمات متلاحقة، فيقول: «وهو - أقصر - من ...» - «إذن ما هو أطول نهر في أفريقيا؟» - «لا أدري.» ولا تنم عيناه عن شيء. - «ولكن النيل يا تومي.» - «النيل - أطول - أنهار - أفريقيا - وثاني ...» - «إذن ما أطول الأنهار يا تومي؟»
فينفجر تومي باكيا ويقول: «لست أدري.» ثم يصيح.»
ووضح المدير للطلبة أن هذه الصيحة ثبطت همم الباحثين الأوائل، فتخلوا عن التجارب، ولم يقم أحد بعدئذ بمحاولات لتعليم الأطفال طول النيل أثناء النوم، وقد أصابوا؛ إنك لا تستطيع أن تتعلم علما، إلا إن عرفت في أي شيء يبحث.
ثم تقدمهم المدير نحو الباب، وتبعه الطلبة وهم يدونون كلام المدير على عجل، وفي اهتمام شديد خلال سيرهم، وأثناء ارتفاعهم بالمصعد، قال المدير: «في حين أنهم لو بدءوا التربية الخلقية، تلك التربية التي لا ينبغي - تحت أي ظرف - أن تكون عقلية ...»
وإذ هم يخرجون إلى الطابق الرابع عشر، سمعوا مضخما من مضخمات الصوت يهمس قائلا: «الصمت، الصمت.» وأفواه الأبواق تكرر هذا اللفظ «الصمت، الصمت» في الردهات الفينة بعد الفينة دون أن يصيبها كلال، فنهض الطلبة - بل والمدير نفسه - من تلقاء أنفسهم فوق أطراف أصابعهم، وكانوا بطبيعة الحال من النوع «أ»، ولكن حتى هذا النوع كان حسن التكييف، ودوى الفضاء كله في الطابق الرابع عشر بهذا الأمر المقدس: «الصمت، الصمت.»
وبعد مسير خمسين ياردة على أطراف الأصابع، بلغوا بابا فتحه المدير في حرص شديد، ووطئوا المدخل، فإذا بهم في غرفة نوم ذات نوافذ خشبية موصدة، ضوءها كالشفق، ورأوا ثمانين سريرا صغيرا قائمة إلى جوار الحائط، وطرق آذانهم صوت أنفاس منتظمة خافتة وتمتمة متصلة، كأنها أصوات خافتة جدا تهمس من بعيد.
وعند دخولهم نهضت إحدى المربيات، ووقفت أمام المدير تصغي إليه.
سألها: «ما موضوع الدرس بعد ظهر اليوم؟»
فأجابت: «كان عندنا في الأربعين دقيقة الأولى شيء عن مبادئ الشئون الجنسية، أما الآن فقد غيرنا الموضوع، وأخذنا ندرس مبادئ شعور الطبقات.»
وسار المدير متباطئا حذاء صف الأسرة الطويل، فرأى ثمانين ولدا وبنتا مستلقين نياما، متوردين مسترخين، يزفرون أنفاسا خافتة، وسمع المدير همسا تحت كل وسادة، فكف عن المسير، وانحنى فوق أحد الأسرة الصغيرة، وأنصت مصغيا.
وقال: «هل قلت مبادئ شعور الطبقات؟ لنكرر هذه العبارة بالبوق بصوت أكثر ارتفاعا.»
وكان في نهاية الغرفة مضخم للصوت يبرز من الحائط، فسار المدير نحوه وضغط على زر من الأزرار.
وسمع صوت ناعم، غير أنه واضح كل الوضوح، يقول: «كلهم يلبس الأخضر.» وقد بدأ العبارة من وسطها، ثم قال: «والأطفال من النوع «د» يلبسون الكاكي. كلا، إني لا أحب أن ألعب مع هؤلاء الأطفال. والأطفال «ه» أسوأ حالا، إنهم أغبى من أن يستطيعوا القراءة أو الكتابة، وفوق ذلك، فهم يلبسون الأسود، وهو لون وحشي، أحمد الله أني من النوع «ب».»
ثم كانت فترة سكون، وبدأ الصوت من جديد، قال: «إن الأطفال «أ» يلبسون الرمادي، وهم أكثر منا عملا؛ لأنهم مهرة جدا، إني حقا جد سعيد؛ لأني من الطراز «ب»؛ لأني لا أعمل كثيرا، ونحن خير من «ج» و«د»؛ فطراز «ج» أغبياء، كلهم يلبسون الأخضر، والأطفال من نوع «د» يلبسون الكاكي. كلا، إني لا أحب أن ألعب مع هؤلاء الأطفال. و«ه» أسوأ حالا، إنهم أغبى من أن يستطيعوا ...»
ودفع المدير الزر إلى الوراء، فصمت الصوت، ولم يبق إلا صداه الخفيف يدق تحت الوسادات الثمانين.
إنهم يكررون ذلك أربعين أو خمسين مرة أخرى قبل أن يستيقظوا، ثم يكررونه يوم الخميس مرة ويوم السبت مرة أخرى. مائة وعشرين مرة، ثلاث مرات كل أسبوع، لمدة ثلاثين شهرا، وبعد ذلك ينتقلون إلى درس أرقى.
الورود والهزات الكهربية، واللون الكاكي الذي يلبسه الطراز «د»، ونفحة من نبات «أبي كبير»، هذه وتلك تقترن اقترانا لا ينفك قبل أن يستطيع الطفل الكلام، ولكن التكييف بغير لفظ ساذج إجمالي لا يظهر الفروق الدقيقة، ولا يقرر في الذهن طرق السلوك شديدة التعقيد، الألفاظ ضرورية هنا، ولكنها ألفاظ لا تقوم على العقل، هي - بإيجاز - هبنوبيديا. «أعظم قوة خلقية واجتماعية في جميع العصور.»
ودون الطلبة ذلك في كراساتهم الصغيرة رأسا من فم المدير.
ولمس المدير الزر مرة أخرى.
وكان الصوت الناعم الملقن الذي لا يفتر يقول: «مهرة جدا، إني حقا جد سعيد؛ لأني من الطراز «ب»؛ لأني ...» «حقا إن الماء - وإن يكن لا يشبه القطرات - يستطيع أن يشق الثقوب في أشد أحجار الجرانيت صلابة، كما أن القطرات من سائل الشمع الأحمر تلتصق بما تقع فوقه وتغلقه وتتحد به، حتى يصبح الصخر في النهاية كتلة واحدة قرمزية.
حتى يصبح عقل الطفل في النهاية هو هذه الإيحاءات، ومجموع هذه الإيحاءات هو عقل الطفل، وليست عقل الطفل فحسب، إنما عقل الراشد كذلك - طوال حياته. إن العقل الذي يحكم ويشتهي ويقرر يتكون من هذه الإيحاءات، ولكن كل هذه الإيحاءات هي من إيحائنا!» وكاد المدير يصيح من نشوة الظفر، ثم قال: «من إيحاء الدولة.» وضرب على أقرب منضدة ضربة شديدة، وقال: «ويتبع ذلك ...»
وسمع ضجيجا، فالتفت حول نفسه.
ثم قال بنغمة أخرى: «يا لله! لقد أيقظت الأطفال.»
الفصل الثالث
حانت ساعة اللعب خارج البناء في الحديقة، فكنت ترى ستمائة أو سبعمائة ولدا وبنتا عرايا في شمس يونيو الدفيئة، يجرون فوق الحقول مجلجلين بالصياح، أو يلعبون بالكور، أو يجلسون القرفصاء صامتين اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة بين الشجيرات المزهرة، وكانت الورود متفتحة، وبالغابة عندليبان يناجيان أنفسهما، وبين أشجار الزيزفون وقواق يصدح أنغاما غير منسجمة، والهواء يبعث على النوم، مما فيه من طنين النحل ودوي الطائرات.
ووقف المدير وتلاميذه برهة قصيرة، يرقبون شوطا من لعبة تشبه التنس، وقد تجمع عشرون طفلا في دائرة حول برج من معدن الكروم، يقذف أحدهم الكرة إلى أعلى كي تستقر على إفريز بأعلى البرج، ثم تتدحرج إلى الداخل، وتسقط على قرص سريع الدوران، ثم يلقى بها خلال إحدى الفتحات العديدة، التي تخترق الغلاف الأسطواني، وتمسك بعد ذلك.
وبينما كان الطلبة ينصرفون، قال لهم المدير سائلا: «ألا يدهشكم أن أكثر الألعاب - حتى يوم عيد فورد - لا تحتاج من الأجهزة أكثر من كرة أو اثنين وعددا قليلا من العصي؛ وربما قطعة من الشبك. تصوروا أن الناس يسمح لهم أن يلعبوا ألعابا معقدة، لا تعمل البتة على زيادة الاستهلاك، أليس ذلك حمقا؟ إنه جنون، إن المراقبين اليوم لا يسمحون بأي لعبة جديدة، إلا إن ظهر أنها تحتاج من الأجهزة، على الأقل، مثل ما تحتاج أشد الألعاب الموجودة تعقيدا.»
وقاطع نفسه قائلا: «هذه مجموعة صغيرة فاتنة.» وأشار إليها.
وكان هناك في منحنى معشوشب بين مجموعة من أشجار الخلنج الطويلة، التي تنمو في منطقة البحر الأبيض المتوسط طفلان، ولد صغير في نحو السابعة من عمره، وفتاة صغيرة قد تكبره بعام واحد، يلعبان لعبة جنسية أولية، وهما جادان، وعليهما سيما العلماء الذين يركزون كل اهتمامهم في عمل كشفي.
وكرر المدير قوله: «يا للفتنة، يا للفتنة!» وقد هزته العاطفة.
وأيده الطلبة في أدب قائلين مثله: «يا للفتنة!» ولكن بسماتهم كانت تنم عن رعاية الكبير للصغير؛ لأنهم تخلوا عن مثل هذه الملاهي الصبيانية من عهد قريب جدا، حتى لقد شق عليهم أن يرقبوها دون شيء من الاحتقار، ما الذي يفتنهم؟ لقد كانا طفلين يلهوان، وهذا كل ما في الأمر، طفلين فقط.
وواصل المدير حديثه في نغمة النشوان التي بدأ بها، وقال: «إنني أظن دائما ...» ثم قاطعه صوت مرتفع يجهش بالبكاء.
وبرزت من الغابة المجاورة مربية، تقود بيدها ولدا صغيرا يصيح أثناء السير، وفي إثرها فتاة صغيرة عليها سيما الاهتمام والقلق.
سألها المدير: «ما الأمر؟»
فهزت المربية كتفيها وأجابت: «الأمر يسير، إن هذا الولد الصغير، كان يحجم قليلا عن الاشتراك في المغازلة العادية، وقد لحظت ذلك من قبل مرة أو مرتين، ولحظت ذلك اليوم مرة أخرى، وقد بدأ الآن يصيح ...»
وعقبت على ذلك الفتاة الصغيرة القلقة قائلة: «إنني - وأيم الحق - لم أقصد أن أوذيه، أو أن أصيبه بأي شيء.»
وقالت الممرضة وهي تطمئنها: «إنك لم تقصدي ذلك بالطبع يا عزيزتي.» ثم واصلت حديثها، وقد التفتت نحو المدير ثانية، وقالت: «ولذا فأنا سوف آخذه إلى مراقب علم النفس المساعد؛ لكي يرى إن كان به شذوذ.»
قال المدير: «لقد أصبت، خذيه، وابقي أنت هنا أيتها الفتاة الصغيرة.» وانصرفت المربية في صحبة الولد الباكي، الذي عهد به إليها، وسأل المدير الفتاة: «ما اسمك؟»
قالت: «بولي تروتسكي.»
قال المدير: «إنه اسم جميل جدا، انطلقي الآن، وحاولي أن تجدي ولدا صغيرا آخر تلعبين معه.»
فهرولت الفتاة بين الأشجار واختفت عن الأنظار.
وتابعها المدير بالنظر قائلا: «يا لها من مخلوق صغير نفيس!» ثم التفت إلى تلاميذه وقال: «إن ما سأحدثكم عنه الآن، قد يبدو لكم أمرا لا يحتمل التصديق، ولكن المرء إذا لم يتعود العلم بالتاريخ، حسب أن أكثر حقائق الماضي مما لا يحتمل التصديق.»
ثم نطق بحقيقة تدعو إلى الدهشة حقا، قال: «قبل عصر فورد بزمن طويل جدا (فقهقه الطلبة ضاحكين) لم يحسبوه شاذا فحسب، بل كذلك أمرا لا يتفق وقواعد الأخلاق (قال الطلبة: لا نظن ذلك!) ولذا فقد حرموه تحريما باتا.»
وبدت على وجوه المستمعين له نظرة الدهشة وعدم التصديق.
لقد أدهشهم أن يسمعوا أن الأطفال المساكين لم يسمح لهم بإمتاع أنفسهم، ولم يسعهم إلا عدم التصديق.
قال المدير: «حتى المراهقون من أمثالكم ...» - «مستحيل!» - «كانوا يحرمون قليلا استمتاع الفرد بنفسه - خفية - استمتاعا جنسيا، أو تبادل المتعة الجنسية بين أفراد الجنس الواحد. المتعة الجنسية محرمة كل التحريم.» - «كل التحريم! عجبا!» - «أجل، هو كذلك في أكثر الأحوال، حتى يربى الفرد على العشرين من عمره.»
فردد الطلبة هذه الكلمات: «العشرين من العمر!» في صوت واحد ينم عن عدم التصديق.
وكرر المدير كلمة «العشرين»، ثم قال: «لقد قلت لكم إنكم سوف تجدون الأمر بعيد التصديق!»
فسأل الطلبة: «وما الذي حدث؟ وماذا كانت النتيجة؟» «كانت النتيجة مزعجة.» ثم رن وسط حديثهم صوت عميق، أثار فيهم الذعر الشديد.
والتفتوا خلفهم، فإذا برجل غريب ربعة، أسود الشعر، ذي أنف مدبب، وشفتين حمراوين ممتلئتين، وعينين سوداوين نافذتين، يقف عند طرف تلك المجموعة الصغيرة.
وكان المدير في تلك اللحظة، قد جلس على أحد المقاعد المصنوعة من الصلب والمطاط، التي كانت تنتشر بصورة مريحة خلال الحدائق، ولكنه عند مرأى هذا الرجل الغريب، نهض واقفا واندفع إلى الأمام ويداه مبسوطتان، يبتسم بملء فيه، مبديا كل أسنانه.
فصاح به المدير: «أهلا بالمراقب! يا له من سرور غير منظور! فيم تفكرون أيها الأولاد؟ هذا هو المراقب، هذا صاحب السيادة مصطفى مند.»
حينئذ دقت الرابعة في وقت واحد، أربعة آلاف ساعة كهربية، من الأربعة آلاف حجرة التي يتألف منها المركز، وخرجت من أفواه الأبواق أصوات كأنها صادرة من أجسام حية، وكانت تردد هذا القول: «الآن ينتهي عمل الدور الأول من النهار، ويبدأ عمل الدور الثاني، انتهى دور النهار الأول ...»
وكان هنري فستر ومدير المصائر المساعد بالمصعد، في طريقهما إلى الغرف العليا للتبادل، وقد وليا برنارد ماركس من رجال مكتب علم النفس ظهريهما فجأة، فابتعدا عن رجل له سمعة سيئة.
وما برح طنين الآلات الخافت ودويها يتردد في الجو القرمزي داخل مخزن الأجنة، والرجال الذين يتناوبون العمل يروحون جيئة وذهابا. هذا وجه يعاني السل الجلدي يخلي السبيل لوجه آخر، والحمالون يزحفون قدما بأنوف شامخة وبغير انقطاع، يحملون رجال المستقبل ونساءه.
وسارت ليننا كراون مسرعة نحو الباب.
كان ذلك الرجل صاحب السيادة مصطفى مند! وكادت أعين الطلبة أن تخرج من رءوسهم تحية له، ذلك هو مصطفى مند المراقب المقيم بغرب أوروبا، وهو أحد مراقبي العالم العشرة، وقد جلس مع المدير على المقعد، وسوف يمكث معهم ويتحدث إليهم فعلا، فيدونون مذكراتهم رأسا من فيه، أي رأسا من فم فورد نفسه.
وبرز من الغابة المجاورة طفلان في لون برغوث البحر البني، فحدقا فيهم لحظة بأعين واسعة دهشة، ثم عادا إلى لهوهما بين أوراق الأشجار.
وقال المراقب بصوته القوي العميق: «أحسب أنكم تذكرون جميعا قول فورد الجميل، الذي أوحى له به، وذلك أن التاريخ أكذوبة لذيذة.» وكرر هذه العبارة في بطء شديد.
ثم لوح بيده، وكأنه يزيل التراب بمذبة من الريش لا ترى، ذلك التراب هو ما يروى عنه هاربا
Harappa
وأور
Ur
في كلديا، وكأنه كذلك يبدد نسيج العنكبوت، وذلك النسيج هو ما يروى عن طيبة وبابل وكنسس
Cnossos
وميسيني
Mycenae ، وكأنه بالمذبة كذلك يبدد الأوديسي، وأيوب ، والآلهة جوبتر وجوتما
Gotama
ويسوع، وكأنه بالمذبة يزيل تلك البقع القذرة العتيقة، التي نسميها أثينا وروما وبيت المقدس والمملكة الوسطى، وكأنه بها كذلك يمحو المكان الذي كانت تقوم عليه إيطاليا، وبها كذلك يمحو الكنائس الكبرى، والملك لير، وآراء باسكال، وبالمذبة كذلك يبدد العواطف، وصلاة الجنازة، والسمفوني و... و...
وسأل مساعد مدير المصائر هنري قائلا: «هل أنت ذاهب هذا المساء إلى دار الصور المحسة؟ لقد سمعت أن الصورة الجديدة في الهمبرا ممتازة، وأن بها منظر حب فوق سجادة من جلد الدب، يقولون: «إنه جد عجيب، وإن كل شعرة من شعر الدب أمكن إخراجها، وهذه أعجب الصور المحسة».»
قال المراقب: «وذلك هو السبب في أنكم لا تتعلمون التاريخ، أما الآن فقد حان الوقت ...»
ونظر إليه المدير وهو في حالة عصبية؛ فقد نمت إليه تلك الإشاعات العجيبة، عن الكتب القديمة المحرمة المخبأة في إحدى الخزانات في مكتب المراقب، كالإنجيل ودواوين الشعر، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا فورد.
واعترض مصطفى مند نظرته الحائرة، والتوت زوايا شفتيه الورديتين تهكما وسخرية، وقال في نغمة تنم عن الازدراء الخفيف: «حقا أيها المدير إنني لن أفسدهم.»
وغلب على المدير الارتباك.
إن أولئك الذين يشعرون باحتقار الآخرين لهم محقون حين ينظرون إلى غيرهم بعين الاحتقار، ولقد ارتسمت على ثغر برنارد ماركس ابتسامة الازدراء، هل أمكن حقا إخراج كل شعرة من شعرات الدب!
وقال هنري فستر: «سوف أهتم بالذهاب.»
وانحنى مصطفى مند إلى الأمام، وهز لهم إصبعه، وقال وقد بعث صوته في حجبهم الحاجزة هزة غريبة مثيرة: «حاولوا أن تدركوا كيف كانت الحال حينما كانت الأمهات تتناسل.»
تلك الكلمة الفاحشة مرة أخرى! ولكن أحدا منهم لم يدر بخلده هذه المرة أن يبتسم. «حاولوا أن تتصوروا معنى «عيش الفرد مع أسرته».»
ولقد حاولوا، وكان من الواضح أنهم لم يصيبوا أدنى نجاح. «وهل تعرفون ما «البيت»؟»
فهزوا رءوسهم.
وصعدت ليننا كراون سبعة عشر طابقا من غرفتها السفلى المظلمة القرمزية، وخرجت من المصعد، ثم التفتت يمينا، وسارت بحذاء ممر طويل، وفتحت الباب الذي كتب عليه «حجرة اللبس للبنات»، وغاصت في خضم مضطرب من الأذرعة والصدور والأردية الداخلية، وكان هناك مائة حمام، تندفع فيها أو تنبجس منها سيول الماء الساخن، وكنت تسمع الدوي والأزيز يصدر عن ثمانين آلة من آلات التدليك المفرغة المذبذبة، وهي تدلك وتجفف في وقت واحد الأجسام الصلبة، التي لفحتها الشمس بحرارتها لثمانين نموذج رفيع من نماذج الإناث، وكانت كل منهن تتكلم بأعلى صوتها، وكانت هناك كذلك آلة للموسيقى المركبة، تنشد نغمة فردية كأنها من بوق عظيم.
وقالت ليننا إلى الشابة التي كان إلى جوارها المشاجب والصندوق المقفل: «أهلا فاني.»
وكانت فاني تعمل بغرفة القوارير، وكان اسم أسرتها كذلك كراون، ولكن حيث إن الألفي مليون من السكان الذين يقطنون هذا الكوكب، لم يكن لهم سوى عشرة آلاف اسم لهم جميعا، فإن تشابه الأسماء لم يكن أمرا عجيبا.
وجذبت ليننا مشبك سترتها إلى أسفل، وقد أشارت بيديها إلى الفتاتين، اللتين أمسكتا بالسراويل أن يخلعاها، وأشارت إلى غيرهن أن يحللن رداءها السفلي، ثم انطلقت نحو الحمامات، وما برحت تلبس حذاءها وجواربها.
البيت وما أدراك ما البيت: «هو بضع حجرات صغيرة، يزدحم إلى حد الاختناق بساكنيه، وهم رجل، وامرأة تلد بين الحين والحين، وثلة من البنين والبنات من مختلف الأعمار، الهواء فيه منعدم، والفضاء منعدم، كأنه سجن قذر، ينتشر فيه الظلام والمرض والروائح الكريهة.» (وكان تعبير المراقب شديد الوضوح جدا، حتى إن ولدا من الأولاد، أشد حساسية من الآخرين، شحب لونه عند مجرد الوصف، وأوشك أن يخر عليلا.)
وخرجت ليننا من الحمام، وجففت نفسها بالمنشفة، وأمسكت بأنبوبة طويلة مرنة مثبتة في الحائط، ووضعت طرفها فوق ثديها كأنها تزمع الانتحار، ثم ضغطت على المفتاح الضابط إلى أسفل، فإذا بزوبعة من الهواء الدافئ تنثر فوقها مسحوق تالكم الدقيق، وكان فوق حوض الغسيل ثمانية أنواع مختلفة من العطور والكولونيا تتدفق من الصنابير، وقد فتحت الصنبور الثالث من جهة الشمال، وبللت نفسها «بالشبر»، وحملت حذاءها وجواربها في يدها، ثم خرجت لعلها تجد إحدى الآلات المفرغة المذبذبة خالية من العمل.
والبيت قذر من الوجهة النفسية، كما هو قذر من الوجهة المادية، فهو من الوجهة النفسية أشبه ما يكون بجحر الأرنب أو كومة القاذورات، الحياة فيه مكدسة أشد التكديس؛ ولذا يكثر فيه الاحتكاك وتضطرم العواطف. وما أكثر ما ينشب بين أعضاء الأسرة من تقارب خانق وعلاقات خطرة جنونية فاسدة! والأم تحنو على أطفالها (وأقول أطفالها هي) كالمجنونة، إنها تحنو عليهم كما تحنو الهرة على الهريرات، ولكنها هرة تستطيع الكلام، وتسطيع أن تقول وتكرر قولها: «ولدي، ولدي، هيه يا ولدي، إنه فوق صدري، ما أصغر يديه، إنه جائع، ما أشد سروري به رغم إيلامي! وأخيرا ينام ولدي على جانب فمه فقاعة من اللبن الأبيض، إنه ينام ...»
قال مصطفى مند وقد أومأ برأسه: «نعم، لكم أن ترتعدوا.»
وعادت ليننا من عملية الآلة المفرغة المذبذبة، كأنها لؤلؤة تضيء من داخلها، وتومض ببريق قرنفلي، ثم سألت: «مع من سوف تخرجين هذا المساء؟» - «لا أحد.»
فرفعت ليننا حاجبيها من الدهش.
قالت فاني: «لقد شعرت أخيرا بشيء من التوعك، فنصحني الدكتور ولز أن آخذ «عوضا عن الحمل».» - «ولكنك بلغت التسع عشرة من العمر فقط يا عزيزتي، وعوض الحمل الأول لا يتحتم إلا في الحادية والعشرين.» - «أعرف ذلك يا عزيزتي، ولكن من الناس من يتحسن لو بكر به. لقد خبرني الدكتور ولز أن السمراوات ذوات الحوض الواسع من أمثالي، يجب أن يأخذن عوض الحمل الأول في السابعة عشرة؛ ولذا فإني في الواقع تأخرت عامين، ولم أبكر بهما.» وفتحت باب خزانتها وأشارت إلى صف من الصناديق، وإلى القوارير ذوات البطاقات فوق الرف العلوي.
وقرأت ليننا العبارات بصوت مرتفع: «هذه عصارة بعض خلايا المبيض، أوفارين، طازج مضمون، لا يستعمل بعد أول أغسطس من عام 632ف، خلاصة الغدة الثديية، تؤخذ ثلاث مرات كل يوم، قبل الوجبات، مع قليل من الماء، المشيمة: ه ج ج، يستعمل للحقن مرة كل ثلاثة أيام.» فارتعدت ليننا وقالت: «أوه إنني أكره حقن الوريد، ألست مثلي؟»
قالت فاني وهي فتاة حساسة جدا: «أجل، ولكنها حين تنفع المرء ...»
كان فورد - أو فرويد، كما كان يحب أن يسمي نفسه (لسبب لا نفهمه)، كلما تحدث عن الشئون النفسية - أول من كشف عن الأخطار المروعة في الحياة العائلية. كان العالم مليئا بالآباء - ولذا كان مليئا بأسباب الشقاء، وكان مليئا بالأمهات - ولذا كان مليئا بكل نوع من أنواع الشذوذ من السادزم (أو الولع بتعذيب الآخرين) إلى العفة، وكان مليئا بالإخوة والأخوات والأعمام والعمات - ولذا فهو مليء بالجنون والانتحار. - «ومع ذلك فمتوحشو ساموا، في بعض الجزر البعيدة عن ساحل غنيا الجديدة ...»
وسطعت الشمس الاستوائية كالشهد الدافئ، فوق أجساد الأطفال العارية، الذين يتقلبون بغير نظام بين زهرات الباسية، وكان البيت في أي منزل من المنازل العشرين ذات السقوف المصنوعة من النخيل، وكان الحمل عند أهل طروبرانده عمل الأسلاف البائدين، ولم يسمع أحد بالأب.
قال المراقب: «إن المتناقضات تتلاقى، لا لشيء إلا لأنها خلقت لكي تتلاقى.» - «يقول الدكتور ولز: إن الاستعاضة عن الحمل ثلاثة شهور، يكون لها أثر كبير في صحتي خلال السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة.»
قالت ليننا: «أرجو أن يكون مصيبا، ولكن هل تقصدين حقا أن تقولي، يا فاني، إنك خلال الأشهر الثلاثة المقبلة لا يصح أن ...» - «كلا يا عزيزتي، إنما يكون ذلك لمدة أسبوع أو أسبوعين فقط، سأقضي هذا المساء في النادي، ألعب البريدج الموسيقي، وأظن أنك ستخرجين، أليس كذلك؟»
فأومأت ليننا برأسها. - «مع من؟» - «مع هنري فستر.» - «مرة أخرى؟» وبدا على وجه فاني الشفيق الشاحب كالقمر، تعبير غير ملائم، ينم عن دهشة الألم وعدم الموافقة، ثم قالت: «هل تقصدين أن تقولي إنك لا زلت تخرجين مع هنري فستر؟»
الأمهات والآباء، الإخوة والأخوات، وكان هناك كذلك الأزواج والزوجات والعاشقون، وكان هناك كذلك الزواج من واحدة والهيام.
قال مصطفى مند: «وإن كنتم ربما لا تعرفون ما هذه الأشياء.» فهزوا رءوسهم. «الأسرة والزواج من واحدة، والهيام، في كل هذا تلمس التحديد والاهتمام المركز، وتوجيه الدوافع النفسية والنشاط في قناة ضيقة.»
ثم اختتم حديثه مرددا المثل الهينوبيدي: «كل فرد يتعلق بكل فرد آخر.»
فأومأ الطلبة برءوسهم بالموافقة مؤيدين عبارة سمعوها أكثر من 62 ألف مرة في الظلام، مما جعلهم لا يقبلون صدقها فحسب، بل يعتبرونها بدهية توضح نفسها، لا جدال البتة فيها.
واحتجت ليننا قائلة: «ولكني لم ينقض علي أكثر من أربعة أشهر تقريبا منذ رفقتي لهنري.»
قالت فاني: «أربعة أشهر فقط! إني أحب ذلك.» ثم واصلت حديثها مشيرة بأصبعها، كأنها تتهم غيرها، وقالت: «وأكثر من ذلك، لم يكن هناك غير هنري طوال هذه المدة، أليس كذلك؟»
فاحمرت ليننا خجلا، وتوردت وجنتاها، ولكنها تحدت زميلتها بنظرة عينيها ونغمة صوتها، وأجابت في شراسة شديدة، قالت: «كلا، لم يكن هناك رجل آخر، ولست أرى البتة لماذا يكون هناك ثان.»
ورددت فاني عبارتها: «لست أرى البتة لماذا يكون هناك ثان.» وكأنها توجه الخطاب إلى منصت غير مرئي خلف كتف ليننا اليسرى، ثم غيرت نغمة صوتها فجأة، وقالت: «ولكني أظن حقا - وأنا جادة - أنك ينبغي أن تحرصي. إن دوام صحبتك لرجل واحد سيئ جدا، إذا كنت في الأربعين أو الخامسة والثلاثين، فإن الأمر لا يكون سيئا إلى هذا الحد، ولكنه لا يليق بك البتة في سنك يا ليننا، وأنت تعلمين كيف يعترض المدير بشدة على كل تركيز أو مواصلة في أي شأن من الشئون، أربعة شهور مع هنري فستر، دون أن يكون لك رجل آخر، أحسب أنه يغضب لو عرف ...»
قال المراقب: «تخيلوا الماء تحت الضغط في إحدى الأنابيب.» فتخيل الطلبة ذلك، ثم قال: «سأطعنه مرة، وسوف ترون مقدار انبثاقه.»
وطعنه عشرين مرة، فتفجرت عشرون نافورة صغيرة، يتحدر منها قطرات صغيرة من الماء. - «ولدي، ولدي! ...» - «أماه!» إن الجنون معد. - «حبيبي، وحيدي، عزيزي، عزيزي ...»
الأم والزواج من واحدة والهيام. وانبثقت مياه النافورات إلى أعلى، وكان انبجاسها مزبدا شديدا، ولم يكن للدافع سوى مخرج واحد، حبيبي، ولدي. لا عجب إن كان هؤلاء القوم المساكين السابقون لأبناء العصر الحديث مجانين خبيثين تعساء؛ فإن دنياهم لم تسمح لهم أن يكونوا أصحاء العقول فاضلين سعداء، ذلك أنهم كانوا يعانون وجود الأمهات والمحبين، والمحرمات التي لم يألفوا اقترافها ، ووسائل الإغراء ووخزات الضمير عند الوحدة، والأمراض وآلام العزلة التي لا تنتهي، والشكوك والفقر، وإذا كان إحساسهم بذلك شديدا، يزداد في حالات العزلة الفردية التي لا رجاء فيها، فكيف يستقرون؟ - «ليس ثمة بك حاجة إلى التخلي عنه، ولكن ليكن لك غيره من حين إلى آخر، هذا كل ما في الأمر، فإن لديه بنات أخريات، أليس كذلك؟»
فاعترفت بذلك ليننا. - «بالطبع، وثقي أن هنري فستر هو الرجل المهذب الكامل، وهو دائما على صواب، ثم هناك المدير تعتبرين به، أنت تعرفين أنه يصر على أن ...»
وأومأت ليننا برأسها وقالت: «لقد ضربني من الخلف ضربة خفيفة اليوم بعد الظهر.»
فانتصرت فاني وقالت: «ها أنت ذا، إن هذا يبين لك عقيدته، التقيد بالقديم إلى أبعد الحدود.»
وقال المراقب: «الاستقرار، الاستقرار، لا حضارة بغير استقرار اجتماعي، ولا يكون الاستقرار الاجتماعي بغير استقرار الفرد.» وكان صوته كالبوق، استمع إليه الطلبة فأحسوا بالعظمة وبالدفء.
إن الآلة تدور ثم تدور، إنها تدور إلى الأبد بغير انقطاع، والموت إن وقفت، إن ألف مليون نقشوا قشرة الأرض، ثم بدأت العجلات تسير، وفي خلال مائة وخمسين عاما كان هناك ألفا مليون، ولو وقفت العجلات جميعا هبط العدد مرة أخرى إلى ألف مليون فقط في مائة وخمسين أسبوعا، فإن ألف ألف ألف رجل وامرأة يهلكون ويفنون.
يجب أن تدور العجلات بغير انقطاع، ولكنها لا تدور بغير رقابة، لا بد من وجود الرجال الذين يرقبونها، رجال في ثبات العجلات فوق محاورها، رجال عقلاء، مطيعون، ثابتون في قناعتهم.
ولكنهم يصيحون: «ولدي، أمي، وحيدي، حبيبي الأوحد.» ويثنون قائلين: «خطيبتي، إلهي الجبار.» ويصيحون متألمين، ويدندنون من الحمى، ويولولون من الشيخوخة والفقر؛ فكيف يعنون بالعجلات؟ وإذا لم يعنوا بها ... إن جثث ألف ألف ألف رجل وامرأة يشق دفنها أو إحراقها.
قالت فاني متلطفة: «وفي النهاية ليس هناك ما يؤلم أو ينفر، إن كان لك إلى جانب هنري رجل آخر أو رجلان، فإن أدركت هذا، فإنه ينبغي لك أن تكوني على شيء من الفوضى ...»
وأصر المدير على أن «الاستقرار هو حاجتنا الأولى والأخيرة، الاستقرار هو سبب كل هذا».
ولوح بيده مشيرا إلى الحدائق، وإلى البناء الضخم، مركز التكييف، وإلى الأطفال العارين، وقد تواروا بين الأشجار أو انطلقوا خلال الحقول.
وهزت ليننا رأسها وقالت: «إنني لم أحس أخيرا بالرغبة الشديدة في الفوضى، إن الإنسان لا يحس ذلك في بعض الأحايين، ألم تصلي إلى هذا أنت كذلك يا فاني؟»
فأومأت فاني برأسها دليلا على العطف والإدراك، ثم قالت في إيجاز: «ولكن لا بد للمرء من بذل الجهد، لا بد له من تمثيل الدور، فكل فرد يتعلق بكل فرد آخر.»
وكررت ليننا هذه العبارة: «أجل، إن كل فرد يتعلق بكل فرد آخر.» في بطء شديد، ثم تنهدت وصمتت لحظة، وتناولت يد فاني وضغطت عليها بخفة، وقالت: «لقد أصبت يا فاني، وسأبذل الجهد كالمعتاد.»
وبعدما تتدفق القطرات المحبوسة، التي تسبب الانفعال، ينبثق فيض من الشعور، أو فيض من العواطف، أو حتى من الجنون؛ فإن ذلك يتوقف على قوة التيار، وعلى ارتفاع الحاجز وقوته، فالتيار الذي لا يقف في سبيله شيء يتدفق بيسر خلال مجاريه المعينة، فيكون الهناءة والهدوء والجنين جائع، والأيام تتوالى ومضخة الدم تدور بغير انقطاع دوراتها الثمانمائة كل دقيقة، ويصيح الطفل في القارورة، فتظهر في الحال مربية ومعها زجاجة من الإفراز الخارجي، ويكمن الشعور في تلك الفترة من الزمن التي تقع بين الرغبة وإنجازها، وإذا قصرت تلك الفترة حطمت كل تلك الحواجز القديمة غير الضرورية.
وقال المراقب: «ما أسعد حظكم يا أبنائي! إننا لم ندخر وسعا في أن نجعل حياتكم سهلة من الناحية العاطفية، لكي نحفظكم - كلما أمكن ذلك - من أن يكون لكم أي نوع من أنواع العواطف.»
وتمتم المدير قائلا: «إن فورد في سيارته الرخيصة،
1
وكل شيء في الدنيا على ما يرام.»
وردد هنري فستر سؤال مساعد مدير المصائر وهو يزم سراويله: «ليننا كراون؟» ثم قال: «إنها فتاة عظيمة، هوائية بدرجة تدعو إلى العجب، ويدهشني أنك لم تظفر بها.»
قال مساعد مدير المصائر: «لا أستطيع أن أتصور كيف كان ذلك، سوف أظفر بها في أول فرصة تسنح.»
وكان برنارد ماركس في الجانب الآخر من الممر في حجرة التغيير، وقد استمع إلى ما كانا يتحدثان به، وشحب لونه.
قالت ليننا: «وأصدقك القول، لقد بدأت أن أمل بعض الشيء ألا يكون غير هنري كل يوم.» وجذبت جوربها الأيسر وسألت بنغمة عرضية جدا، كان من الجلي أنها اضطرت إليها اضطرارا، قالت: «هل تعرفين برنارد ماركس؟»
فبدا الذعر على فاني، وقالت: «لعلك لا تقصدين ...؟» - «ولماذا لا أقصد؟ فإن برنارد من النوع (+أ)، ثم إنه فوق ذلك طلب إلي أن أذهب معه إلى أحد الأماكن المخصصة للمتوحشين، وكنت دائما أتوق إلى أن أرود أحد تلك الأماكن.» - «ولكن سمعته؟» - «فيم تهمني سمعته؟» - «يقولون إنه لا يحب لعبة جولف الموانع.»
وقالت ليننا ساخرة: «إنهم يقولون ويقولون.»
وقالت فاني في صوت ينم عن الرعب: «ثم هو يقضي أكثر وقته وحيدا منعزلا.» - «لكنه لن يكون وحيدا وهو معي، ثم إني لا أدري لماذا تغلظ قلوب الناس معه إلى هذا الحد؟ أظن أنه على كثير من الظرف.» ثم ابتسمت لنفسها، لقد كان يخجل بدرجة غير معقولة - بل قل كان يخشاها - كأنها مراقبة عالمية وهو عامل من نوع «−ج» من عمال الآلات.
قال مصطفى مند: «فكروا في حياتكم، هل اصطدم أحدكم مرة ما بعقبة لا يمكن التغلب عليها؟»
فكانت الإجابة بالصمت الذي يدل على النفي. «وهل اضطر أحدكم إلى أن يعيش فترة طويلة من الزمن بين الإحساس بالرغبة وتحقيقها؟»
وهم أحد الأولاد بالإجابة، ثم تردد.
فقال له المدير: «انطق، ولا تجعل صاحب السيادة في انتظارك.» - «اضطررت مرة أن أنتظر نحو أربعة أسابيع قبل أن تسمح لي فتاة اشتهيتها بحيازتها.» - «وهل أحسست بعاطفة قوية نتيجة لذلك؟» - «بل مزعجة.»
قال المدير: «هي حقا مزعجة، ولقد بلغ بأسلافنا الغباء وقصر النظر أنهم قاطعوا المصلحين الأوائل، الذين تطوعوا لإنقاذهم من هذه العواطف المزعجة.»
واصطكت أسنان برنارد وهو يقول: «إنهم يتحدثون عنها كأنها قطعة من اللحم، يظفر بها هذا أو يظفر بها ذاك كأنها لحم الضأن، إنهم ينحطون بها فيعاملونها كأنها ضأن، لقد قالت إنها سوف تفكر في الأمر، وقالت إنها سوف تجيبني هذا الأسبوع، أي فورد، يا فورد.» وكان يحب أن يتوجه إليهما ويضربهما على وجهيهما ضربا شديدا مرة بعد أخرى.
وكان هنري فستر يقول: «نعم، إني حقا أنصح لك أن تجربها.
خذوا مثالا ميلاد الأطفال بغير حمل، لقد رسم بفتسنر وكواجوشي الطريقة الفنية لذلك كاملة، ولكن هل أعارتها الحكومة اهتماما؟ كلا، فلقد كان هناك شيء اسمه المسيحية، وكان النساء يرغمن على أن يبقين من الكائنات التي تتناسل بالحمل.»
قالت فاني: «ما أقبحه!» - «ولكني أحب ملامحه.» - «وهو صغير الحجم جدا!» وقطبت فاني وجهها؛ لأن صغر الحجم كان دليلا على انحطاط النوع وبشاعته.
قالت ليننا: «أظن ذلك محببا نوعا ما، فالمرء يحس بالميل إلى تدليله، كأنه قط.»
وكانت تلك صدمة لفاني، قالت: «يقولون إن أحد العمال أخطأ معه - وهو ما يزال في القارورة - حسبه من «ج» ووضع الكحول في دمه، وهذا هو السبب في نقص نموه.»
فقالت ليننا حانقة: «ما هذا الهراء!» - «كان التعلم أثناء النوم محرما بالفعل في إنجلترا، وكان هناك شيء اسمه الحرية، وأصدر البرلمان - إن كنتم تعرفون ما هو - قانونا ضدها، وما زالت السجلات باقية، لدينا خطب عن حرية الموضوع، والحرية في أن تكون عاجزا بائسا، والحرية في أن يضع المرء نفسه موضعا شاذا.»
وربت هنري فستر على كتف مساعد مدير المصائر، وقال: «ولكن أؤكد لك يا عزيزي أنك سوف تلقى ترحيبا، وعلى كل حال؛ فإن كل فرد يتعلق بكل فرد آخر.»
وفكر برنارد ماركس وهو متخصص في التعليم أثناء النوم (هبنوبيديا)، في التكرار مائة مرة ثلاث مرات في الأسبوع لمدة أربع سنوات، إن التكرار 624000 مرة يكون حقيقة واحدة، يا لهم من بلهاء! - «أو نظام الطبقات، كانوا يقترحونه دائما، وينبذونه دائما، وكان هناك شيء اسمه الديمقراطية، كأن الناس كانوا متساويين في ناحية أخرى غير مساواتهم الجثمانية الكيميائية.» - «كل ما أستطيع أن أقوله أني سوف أقبل دعوته.»
وكان برنارد يمقتهما كل المقت، ولكنهما اثنان، عظيمان، قويان. - «بدأت حرب السنوات التسع عام 141ف.» - «إن ذلك لن يكون حتى لو صدق ما قيل عن الكحول في دمه.» - «فسجين وكلوروبكربن واثيليود واكيتيت وديفينيلكيانارسين وتركلور مثيل كلورفورميت وكلوروثيل سلفايد، ولا داعي لذكر حامض هيدروكيانك.»
واختتمت ليننا الحديث قائلة: «وهو ما لا أصدقه.» - «الضجة التي تحدثها أربعة عشر ألف طائرة تتقدم بنظام صريح، ولكن في كورفرستندام وارندسمنت الثامن، لا يكاد صوت انفجار قنابل الحجرة يعلو على فرقعة كيس من الورق منفوخ.» - «ذلك لأني أحب أن أرى أحد الأماكن المخصصة للمتوحشين.
ك ن
3
ك
6
يد
2 (زا
2 ) + ر (ك زا
2 ) = ماذا؟ جحر كبير في الأرض، وكومة من البناء، وقطع من اللحم والمخاط، وقدم لا زالت تلبس الحذاء، تطير في الهواء ثم تسقط على الأرض، وتحدث صوتا وسط نباتات إبرة الراعي - القرمزي منها خاصة، لقد كان معرضا فاخرا في ذلك الصيف!» - «لا رجاء منك يا ليننا، لقد يئست منك.» - «وكانت الطريقة الروسية الفنية لإفساد موارد المياه طريقة فريدة تدل على النبوغ.»
واستمرت فاني وليننا في التغيير صامتتين، وقد ولت كل منهما الأخرى ظهرها. - «حرب السنوات التسع، والانهيار الاقتصادي الكبير، كان الناس أمام أمرين: إما السيطرة على العالم أو دماره، إما الاستقرار أو ...»
وقال مساعد مدير المصائر: «إن فاني كراون فتاة جميلة كذلك.»
انتهى الدرس الأول في شعور الطبقات في حجرات الأطفال، وكانت الأصوات توائم بين الطلبة والإمداد الصناعي في المستقبل، وتهمس قائلة: «أحب الطيران، أحب الطيران، أحب الحصول على الملابس الجديدة، أحب ...» - «ماتت الحرية بالطبع من أثر قنبلة الحجرة، ولكنك مع هذا لا تستطيع أن تفعل شيئا بالقوة.» - «ليست هوائية كليننا.»
واستمر الهمس الذي لا يفتر يقول: «ولكن الملابس العتيقة رديئة جدا، إننا دائما نطرحها جانبا. الاستغناء عنها خير من إصلاحها، الاستغناء عنها خير من إصلاحها، الاستغناء عنها خير ...» - «الحكم يتم بالجلوس لا بالضرب، فأنت تحكم بالعقل والأرداف، ولا تحكم بقبضة اليد، فكان هناك مثلا تجنيد الاستهلاك.»
قالت ليننا: «أنا مستعدة، دعنا نقيم الصلح يا عزيزتي فاني.» ولكن فاني بقيت صامتة متحولة عنها. - «كل رجل وكل امرأة وكل طفل يرغم على استهلاك قدر معين كل عام، وذلك لمصلحة الصناعة، والنتيجة الوحيدة ...» - «الاستغناء خير من الإصلاح، كلما زاد الرتق قلت الثروة، كلما زاد الرتق ...»
قالت فاني مؤكدة في نغمة محزنة: «سوف يشكل عليك الأمر في يوم من الأيام.» - «اعتراض الضمير الحي بدرجة هائلة، أي شيء لا يستهلك، عود إلى الطبيعة.» - «إني أحب الطيران، إني أحب الطيران.» - «عود إلى الثقافة، نعم إلى الثقافة فعلا، إنك لا تستهلك كثيرا، إذا جلست صامتا وأخذت تقرأ الكتب.»
وسألت ليننا: «هل أنا حسنة المظهر؟» وكانت سترتها مصنوعة من قماش حامض الزجاج الأخضر، وعلى سوارها وبنيقتها فراء لزج. - «إن ثمانمائة رجل ممن يعيشون عيشا بسيطا، حصدتهم المدافع الآلية عند جولدرز جرين.» - «الاستغناء خير من الإصلاح، الاستغناء خير من الإصلاح.»
سراويل قصيرة من المخمل المخطط الأخضر، وجوارب بيضاء من الصوف اللزج مطوية إلى أسفل تحت الركب. - «ثم جاءت مجزرة المتحف البريطاني الشهيرة، ألفا مروحة ثقافية مزودة بغاز دكلورثل سلفايد.»
وكانت تظلل عيني ليننا قبعة خيال ملونة بالأخضر والأبيض، وحذاؤها أخضر لامع، شديد الصقل.
قال مصطفى مند: «أدرك المراقبون في النهاية أن القوة لا تفيد، إن طريقة التناسل بغير حمل والتكييف على طريقة بافلوف الجديدة، والتعلم أثناء النوم أبطأ ولكنها آكد جدا ...»
وأدارت حول خصرها حزاما موشى بالفضة أخضر اللون، مصنوعا من جلد كجلد مراكش، يبرز منه المدد المقرر من المواد التي تمنع الحمل (لأن ليننا لم تكن خنثى). - «إن مكتشفات بفتسنر وكاواجوشي انتفع بها أخيرا، والدعاية الكبيرة ضد التناسل بالحمل ...»
وصاحت فاني متحمسة: «ما أكملك!» إنها لم تستطع مرة من المرات أن تقاوم سحر ليننا طويلا، ثم قالت: «وما أحلى هذا الحزام المالتسي!» - «مصحوبة بحملة ضد الماضي، وبإغلاق المتاحف، وتحطيم الآثار التاريخية (ولحسن الحظ تحطم أكثرها في حرب السنوات التسع)، وبإعدام كل الكتب التي نشرت قبل عام 150ف.»
قالت فاني: «لا بد لي من الحصول على واحد مثله.» - «كانت هناك - مثلا - أشياء تسمى الأهرام.» - «إن حزامي القديم الأسود اللامع ...» - «ورجل يسمى شيكسبير، إنكم بالطبع لم تسمعوا بهم.» - «إن حزامي هذا شائن لي جدا.» - «هذه هي مزايا التربية العلمية الحقيقية.» - «كلما زاد الرتق قلت الثروة، كلما زاد الرتق قلت ...» - «إن إدخال نموذج فورد الأول رقم «ت» ...» - «إنه عندي منذ ثلاثة أشهر تقريبا.» - «اختير بداية لتأريخ العهد الحديث.» - «الاستغناء خير من الإصلاح، الاستغناء خير ...» - «وكان هناك - كما قلت من قبل - شيء اسمه المسيحية.» - «الاستغناء خير من الإصلاح.» - «إن قواعد الأخلاق والفلسفة التي تتعلق بنقص الاستهلاك ...» - «أحب الملابس الجديدة، أحب الملابس الجديدة، أحب ...» - «كانت ضرورية جدا عندما كان الإنتاج ناقصا، أما في عصر الآلات وتثبيت النتروجين، فهي قطعا جريمة ضد المجتمع.» - «لقد أعطاني إياه هنري فستر.» - «لقد أزيلت رءوس الصلبان جميعا فأصبحت كالحرف
T ، وكان هناك شيء يسمى الله.» - «إنه من جلد مراكش الجديد الأصلي.» - «عندنا الآن حكومة عالمية، وعندنا الاحتفالات بيوم فورد، وأغاني الجماعة، وصلوات التماسك.»
وكان برنارد ماركس يفكر ويقول لنفسه: «وحق فورد إني لأمقتهما أشد المقت!» - «وكان هناك شيء اسمه السماء ... ولكنهم كانوا برغم ذلك يشربون كميات كبيرة من الكحول.» - «مثل اللحم، مثل كمية من اللحم.» - «وكان هناك شيء اسمه الروح، وشيء اسمه الخلود.» - «اسألي هنري من أين أتى به.» - «ولكنهم كانوا يتعاطون المورفين والكوكايين.» - «ومما يزيد الأمر سوءا أنها تحسب نفسها كاللحم.» - «وفي عام 178ف أعين بالمال ألفا عالم من علماء العقاقير وعلماء الكيمياء الحيوية.»
قال مساعد مدير المصائر مشيرا إلى برنارد ماركس: «إنه عابس.» - «وبعد ست سنوات أصبحوا ينتجون هذه العقاقير كاملة التركيب، ويعرضونها في السوق.» - «دعنا نغريه.» - «مخدر سار يبعث على اختلاط العقل.» «إن ماركس عابس كالح الوجه.» وقد نبهته ضربة على الكتف فنظر إلى أعلى، فإذا بذلك الرجل القاسي هنري فستر يقول: «إنك بحاجة إلى جرام من السوما.»
2 - «كل مزايا المسيحية والكحول، ولا شيء من عيوبهما.» «وحق فورد إني أتمنى أن أقتله!» ولكنه اكتفى بقوله: «كلا، أشكرك.» ونبذ أنبوبة الأقراص التي قدمت له. - «تأخذ من الواقع عطلة كلما أردت، وتعود بغير صداع أو خرافة.»
وألح هنري فستر قائلا: «خذها ، خذها.» - «لقد تأكد الاستقرار عمليا.»
قال مساعد مدير المصائر مرددا عبارة من الحكم الهبنوبيدية المألوفة: «إن سنتيمترا مكعبا واحدا يشفي عشرا من العواطف الحزينة.
ولم يبق إلا أن نتغلب على الشيخوخة.»
وصاح برنارد ماركس قائلا: «تبا لك.» - «على رسلك.» - «هرمونات جونادال
Gonadal ، ونقل دم الشباب، وأملاح المغنزيوم ...» - «أذكر أن الجرام خير من التباب.» ثم انصرفوا ضاحكين. - «إن كل الوصمات الجثمانية للشيخوخة، قد أزيلت وزالت معها بالطبع ...»
قالت فاني: «لا تنسي أن تسأليه عن ذلك الحزام المالتسي.» - «وزالت معها كل الخصائص العقلية عند الشيوخ، فالشخصية تبقى ثابتة طوال الحياة.» - «... بقي شوطان من جولف الموانع نتمها قبل الظلام، لا بد أن أطير.» - «العمل واللعب. إن قوانا وذوقنا تبقى في الستين على ما كانت عليه في السابعة عشرة، لقد اعتاد الشيوخ في الأيام السالفة السيئة أن يبتعدوا، ويعتزلوا، ويتدينوا، وينفقوا الوقت في القراءة والتفكير، التفكير!»
وكان برنارد ماركس يقول لنفسه وهو يسير في الممر صوب المصعد: «يا لهم من حمقى خنازير!» - «نعم هذا هو التقدم، الشيوخ يعملون، والشيوخ ينكحون، إن الوقت لا يتسع للشيوخ، فهم لا يفرغون من المتعة، ولا يجدون لحظة واحدة يجلسون فيها للتفكير، وإذا سنحت لهم - لسوء حظهم - فرجة من الوقت تشق لهوهم المتصل، فهناك السوما اللذيذة، يتناولون منها نصف جرام لعطلة نصف اليوم، وجراما لعطلة نهاية الأسبوع، وجرامين لرحلة إلى بلاد الشرق العظيمة، وثلاثة لرحلة أزلية مظلمة في القمر، ثم يعودون من فراغهم آمنين مطمئنين إلى عملهم اليومي المستقر وإلى لهوهم، يفرون من دار من دور الصور المحسة إلى آخر، ومن فتاة إلى أخرى هوائية، ومن شوط من الجولف الممغطس الكهربائي إلى ...»
وصاح المدير غاضبا: «انصرفي أيتها الفتاة الصغيرة، انصرف أيها الغلام! ألستما تريان أن صاحب السيادة منهمك في العمل؟ انصرفا وتلهيا بالحب في مكان آخر.»
وقال المراقب: «يا لهم من أطفال مساكين!»
وسار الحمالون مبطئين متعاظمين، مصحوبين بدوي الآلات الخفيف، يقطعون ثلاثة وثلاثين سنتيمترا في الساعة، وتألق في الظلام الأحمر عدد من الياقوت لا يحصى.
الفصل الرابع
1
كان المصعد يغص بالرجال من حجرات «أ» للتغيير، وقد قوبلت ليننا عند دخولها بالإيماء الودي والابتسام تحية لها، فلقد كانت فتاة محببة إلى الجميع، قضت مع كل منهم تقريبا ليلة في وقت من الأوقات.
وقالت لنفسها وهي ترد التحية: «إنهم أولاد أعزاء، لهم سحر وفتنة!» وبرغم هذا فكم كانت تود لو لم تكن أذنا جورج أدزل بهذا الحجم الكبير (ربما أعطى نقطة أكثر مما ينبغي من باراثيرويد عند المتر 328)، ونظرت إلى بنتو هوفر فلم يسعها إلا أن تذكر أنه حقا يبدو كثيف الشعر عندما يخلع ملابسه.
والتفتت إلى إحدى الزوايا بعين حزينة، لذكرى شعر بنتو الأسود المجعد، فرأت برنارد ماركس بجسمه الصغير النحيل، ووجه المكتئب الحزين.
فتوجهت نحوه، وقالت: «برنارد! لقد كنت أبحث عنك.» ورن صوتها في وضوح، وعلا على دوي المصعد وهو يرتفع، والتفت الآخرون مستطلعين الخبر، قالت: «كنت أود أن أتحدث معك عن خطة المكسيك الجديدة التي وضعناها.» واستطاعت أن ترمق بطرف عينها بنتو هوفر وهو فاغر فاه من الدهشة، فساءها انفراج فمه، وقالت لنفسها: «يدهشني أني لم أتوسل إليه أن أرافقه مرة أخرى!» ثم رفعت عقيرتها بالكلام مرة أخرى، وقالت بحرارة لم تألفها: «إني أحب أن أرافقك أسبوعا في شهر يوليه.» (وكانت على أية حال تبرهن علانية على خيانتها لهنري، وينبغي أن تسر فاني لذلك، حتى إن كانت الخيانة مع برنارد)، وابتسمت له ليننا ابتسامة حلوة لها معناها، وقالت: «هذا إن كنت لا تزال تحب رفقتي.»
فتدفق الدم في وجه برنارد الشاحب، وساءلت ليننا نفسها متعجبة مندهشة: «ما الذي يدعو إلى ذلك؟» ولكنها في الوقت نفسه تأثرت لهذه الاستجابة العجيبة لنفوذها.
وقال برنارد وهو يتلجلج: «ألا يجدر بنا أن نتحدث في ذلك في مكان آخر؟» وبدا عليه عدم الارتياح بصورة مزعجة.
وقالت ليننا لنفسها: «كأنني أتحدث عن شيء منفر، لا أحسب أنه يشمئز أ كثر من ذلك، لو أني تفكهت بنكتة قذرة - كأن أسأله من تكون أمه، أو ما شابه ذلك.»
وارتبك واضطرب ، ثم قال: «أقصد أنه مع وجود كل هؤلاء حولنا ...»
وضحكت ليننا ضحكة صريحة، لا تنم عن شيء من الحقد، وقالت: «يا لك من رجل مضحك.» وكانت بالفعل تحسبه رجلا مضحكا، وقالت بنغمة أخرى: «إنك سوف تنذرني قبل الموعد بأسبوع على الأقل، أليس كذلك؟ أظن أننا سوف نستقل الصاروخ الهادئ الأزرق، هل يبدأ من برج شارنج-ت أو من هامستد؟»
وقبل أن يستطيع برنارد الإجابة وقف المصعد.
ونادى صوت له صرير: «السطح!»
وكان عامل المصعد مخلوقا صغيرا كالقرد، يرتدي قميصا أسود من قمصان أنصاف المعتوهين من نوع «−ه». - «السطح!»
وفتح الأبواب على مصاريعها، وقد ارتعد قليلا واهتزت جفونه، عندما التقت عيناه بضياء الشمس الدافئ الرائع، بعد ظهر ذلك اليوم، فكرر لفظة «السطح!» في صوت المبتهج، وكأنه تنبه فجأة من سبات مهلك مظلم، فسر لذلك كثيرا، وصاح: «السطح!»
وابتسم في وجه الراكبين ابتسامة المترقب المعجب، فبرزوا إلى الضياء وهم يتكلمون ويتضاحكون، وكان عامل المصعد يرعاهم وهم يخرجون.
وقال مرة أخرى متسائلا: «هذا هو السطح؟»
ثم دق أحد الأجراء، وكان بسقف المصعد مكبر للصوت، أخذ يصدر أوامره بصوت ناعم ثابت.
قال الصوت: «اهبطوا، اهبطوا، الطابق الثامن عشر. اهبطوا، اهبطوا الطابق الثامن عشر. اهبطوا ...»
وأغلق عامل المصعد الأبواب محدثا صوتا عاليا، ثم مس بيده أحد الأزرار، وهبط المصعد في الحال في فجوة تدوي بالطنين، وعاد العامل إلى ضوء كالشفق، هو ضوء السبات الذي ألف.
وكان الجو على السطح دافئا مضيئا، وكانت ساعة الأصيل في فصل الصيف تبعث على النعاس؛ لما يتردد فيها من طنين السيارات الطائرة
helicopters ، والدوي الشديد الذي تحدثه الطائرات الصاروخية، وهي تخترق السماء اللامعة مسرعة غير مرئية، على ارتفاع خمسة أميال أو ستة، كان أشبه ما يكون بملاطفة الهواء اللين، وشهق برنارد ماكس شهيقا عميقا، ورفع بصره نحو السماء وحول الأفق الأزرق، ثم في النهاية إلى وجه ليننا.
وقال في صوت مرتعش: «أليس هذا جميلا!»
فتبسمت له معبرة عن إدراكها لما يعنيه مع عطفها الشديد عليه، وأجابت وهي في نشوة من السرور : «الجو أصلح ما يكون للعبة جولف الموانع، والآن لا بد لي من أن أطير يا برنارد، إن هنري يغضب إذا خليته منتظرا. أخبرني في الوقت المناسب عن التاريخ.» ثم لوحت بيدها، وجرت إلى الجانب الآخر من السطح الفسيح المستوي صوب حظائر الطائرات، ووقف برنارد يرقب بريق الجوارب البيضاء وهي تعود القهقري، والركبتين المحترقتين من حرارة الشمس، وهما تنثنيان ثم تستقيمان بنشاط بالغ مرة بعد أخرى، والسراويل القصيرة المخملية المخططة الملتصقة بجسمها، وهي تدور برفق تحت سترتها التي هي في خضرة القوارير، وارتسمت على وجهه ملامح الألم.
وسمع خلفه صوتا مرتفعا مبتهجا يقول: «لا بد لي أن أعترف بجمالها.»
فتنبه برنارد وتلفت حوله، فإذا بوجه بنتو هوفر الأحمر المنتفخ، يشرق عليه بشيء من الإخلاص البادي، وكان بنتو معروفا بطبعه الطيب، مؤاخذا عليه، ويقول عنه الناس: إنه يستطيع أن يشق طريقه في الحياة دون أن يمس السوما، ولم يصب قط بالحقد وحدة المزاج، التي تصيب غيره من الناس فيستأجزونها، وكانت الحقيقة تسطع دائما لبنتو مشرقة كالشمس.
قال بنتو: «هو هوائي أيضا، ولكن كيف كان ذلك!» وبنغمة أخرى قال: «ولكني أراك مكتئبا، إنك في حاجة إلى جرام من السوما.» ودفع يده في الجيب الأيمن من سرواله، وأخرج منه قنينة، ثم قال: «إن سنتيمترا واحدا مكعبا يشفي عشرة مكتئبين ... ولكن اسمع يا ...»
والتفت برنارد فجأة، ثم انطلق.
وتابعه بنتو بالنظر محدقا فيه، وقال متعجبا: «ماذا عسى أن يكون بهذا الرجل؟» ثم هز رأسه، وقرر أن قصة صب الكحول في دم هذا المسكين، لا بد أن تكون صادقة، ثم قال: «أظن أنه مس ذهنه.»
ثم أعاد قنينة السوما إلى جيبه، وأخرج صندوقا صغيرا من لبان الهرمونات الجنسية، وملأ أحد شدقيه بقطعة منه، وسار متباطئا نحو حظيرة الطائرات، وهو يمضغ اللبان.
وكانت طائرة هنري فستر قد أخرجت على عجلاتها من مخبئها، وكان وقتما وصلت ليننا معتليا مكان السائق منتظرا.
ولما اتخذت مكانها إلى جانبه لم يزد على قوله: «لقد تأخرت أربع دقائق ...» ثم سير الآلات وأعد طائرته للتحليق، فاندفعت الآلة رأسا في الفضاء، وزاد هنري من سرعتها، وتحول طنين المحرك من صوت الدبور الكبير إلى صوت الدبور الصغير ثم إلى صوت الناموسة، وأظهر مقياس السرعة أنهما كانا يرتفعان ما ينيف عن الكيلومترين في الدقيقة، وتضاءلت لندن تحت بصريهما، وأصبحت المباني ذات السطوح المستوية - بعد بضع ثوان - كحوض من نبات الفطر هندسي الشكل، ينبت وسط خضرة البساتين والحدائق. ووسط تلك المباني كان برج شارنج - ت، وهو كساق نبات الفطر الدقيق، غير أنه أطول منها وأرق - يرفع صوب السماء قرصا من الخرسانة اللامعة.
وانطلقت في السماء الزرقاء، فوق رءوسهم كسف من السحاب كاللحم المترهل، وهي أشبه ما تكون بجذوع الرياضيين الخياليين، ذات الأشكال الغامضة.
قال هنري: «ذلك هو الصاروخ الأحمر، قدم الآن من نيويورك.» ونظر إلى ساعته، وهز رأسه قائلا: «لقد تأخر سبع دقائق، هذه الطائرات التي تعبر الاطلانطيق تخلف مواعيدها بدرجة مشينة.»
ورفع قدمه عن محرك السرعة، فهبط دوي اللوالب فوق رأسه ثماني درجات صوتية ونصف، فسمع مرة أخرى صوتا كصوت الدبور الصغير، فالدبور الكبير، فالنملة، فالخنفساء. وهبطت سرعة الاندفاع إلى أعلى، وبعد لحظة كانا معلقين في الفضاء بلا حراك، ودفع هنري أحد الروافع، فسمعت طقطقة، وبدأ المحرك يدور أمام أعينهما، في حركة بطيئة أول الأمر، ثم أخذ يسرع شيئا فشيئا، حتى أصبح كالضباب المستدير، وأخذت الريح تهب من سرعة الانطلاق الأفقي، وتصفر في الحواجز ويعلو صفيرها شيئا فشيئا، وثبت هنري نظره في عداد الدورات، فلما مست الإبرة العلامة التي تدل على 1200 أوقف لوالب الطائرة، ولكن الآلة تحتفظ بقوة اندفاع تكفي طيرانها بغير محرك.
ونظرت ليننا إلى أسفل خلال النافذة السفلية بين قدميها، فعرفت أنهما كانا يطيران فوق منطقة الستة كيلومترات من الحدائق، التي تفصل وسط لندن عن الحلقة الأولى من ضواحيها التابعة لها، وقد بدت الأحياء فوق الخضرة كالديدان لبعدها عن النظر، وكانت العمدان المتكاثفة للعبة التنس الجديدة تتألق بين الأشجار، وعند شجيرة الراعي كان ألفا شخص من طراز «−ب»، يختلطون أزواجا أزواجا، ويلعبون تنس ريمان ، واصطف في الطريق الرئيسي من نتنج هل إلى ولزدن، صف مزدوج من نوع خاص من الدرج المتحرك، وفي ملعب إيلنج عرض لألعاب جماعة من طراز «د» وغناء جمعي.
وقالت ليننا: «ما أقبح اللون الكاكي.» مرددة ما أوحي إلى أبناء طبقتها بطريقة التعلم أثناء النوم.
وكانت مباني مسرح هاوتسلو للصور المحسة تغطي سبعة هكتارات ونصف،
1
وإلى جوارها جيش من العمال يرتدون الأسود والكاكي، منهمكين في إعادة تزجيج سطح طريق الغرب الكبير، وكانت إحدى البوتقات الضخمة تقرع وهما يطيران فوقها، ويصب الحجر المنصهر في مجرى يعبر الطريق من جانب إلى آخر ويتوهج توهجا يبهر العين، وأسطوانات الاسبستس (وهو مادة لا تحترق) تتحرك جيئة وذهابا، وفي ذيل عربة للري معزولة، كانا يريان البخار يرتفع على هيئة سحب بيضاء.
وعند برنتفورد بدا مصنع شركة التلفزيون كالمدينة الصغيرة.
قالت: «لا شك أنهم يغيرون الدور.»
وتجمع البنات من طراز «ج» اللائي كن في خضرة أوراق الشجر، وأنصاف المعتوهين السود، حول المداخل كما تتجمع الندوات العسلية أو النمال، ووقف بعضهن في صفوف؛ كي تأخذ كل منهن مكانها بدورها في عربات الترام، التي تسير على قضيب واحد، أما الأشخاص من طراز «−ب» الذين كانوا في لون التوت، فكانوا يسيرون جيئة وذهابا بين الجمهور المحتشد، وكان سقف البناء الرئيسي يموج بحركة الصعود في طائرات الهلكبتر والرحيل على متنها.
قالت ليننا: «كم أنا مسرورة لأني لست من الطراز «ج».»
وبعد عشر دقائق بلغوا ستوك بوجز، وبدءوا الشوط الأول من لعبة جولف الموانع.
2
أسرع برنارد إلى الجانب الآخر من السطح، وعيناه في أكثر الوقت منكستان، وإذا وقعتا على زميل ما تحولا عنه بغتة وخلسة، وكأنه رجل مطارد، يقتفي أثره أعداء لا يحب أن يراهم؛ خشية أن يظهروا له أشد عداوة مما كان يحسب، وخشية أن يزيد إحساسه بالإثم وبالعزلة التي ليس له فيها معين.
هناك مثلا بنتو هوفر، ذلك الرجل البشع، كان رجلا حسن النية، ولكن ذلك كان يزيد الأمر سوءا من ناحية ما، فإن أولئك الذين حسنت نياتهم كانوا لا يختلفون في سلوكهم عن أولئك الذين ساءت نياتهم، ولقد كان يقاسي حتى من ليننا، وتذكر تلك الأسابيع التي لازمه فيها الجبن والتردد، حينما كان يتطلع ويتشوق، ولكنه يائس من التشجع على سؤالها، هل كان يجرؤ على مواجهة الخطر الذي ينشأ عن إذلاله برفض مشوب بالازدراء؟ ولكنها إن قالت نعم شاع في قلبه السرور، والآن ها هي ذي تقول نعم، ولكنه لا يزال بائسا حزينا؛ لأنها رأت مساء ذلك اليوم خير الأمسية للعبة جولف الموانع، فهرولت للقاء هنري، ولأنها حسبته رجلا غريب الأطوار؛ لأنه لم يرد أن يتحدث علنا في أخص شئونهما. إنه - بعبارة أخرى - بائس؛ لأنها سلكت كما تسلك أية فتاة إنجليزية صحيحة البدن، ولم تسلك سلوكا آخر شاذا غير عادي.
وفتح باب محبسه ونادى خادمين مسترخيين من طراز «−د»، وطلب إليهما أن يدفعا طائرته إلى الخارج فوق السطح، وكان يقوم بالعمل في حظائر الطائرات جماعة بوكانوفسكية واحدة، والرجال هناك توائم متشابهون، صغار الحجوم، سود يبعثون التقزز والاشمئزاز. وألقى برنارد أوامره في نغمة حادة، تشف عن الاستعلاء بل والاعتداء، وهي النغمة التي يتحدث بها الرجل، إذا لم يكن مطمئنا إلى سموه على غيره، وكان برنارد دائما يشعر بالضيق الشديد عند التعامل مع أفراد الطبقات الدنيا؛ لأن تركيبه الجثماني - لسبب ما - لم يكد يتفوق على التركيب الجثماني للفرد المتوسط من طراز «ج» (ويحتمل جدا أن تكون الإشاعة السائدة عن وجود الكحول في دمه صحيحة؛ لأن أمثال هذه الحوادث قد تقع). كان طوله ينقص ثماني سنتيمترات عن رجل أصيل من الطراز «أ»، وكان نحيفا نسبيا، وكان اتصاله بالأفراد من الطبقات الدنيا دائما يذكره بهذا النقص الجثماني ويؤلمه، وكان يردد في نفسه هذا القول: «وددت لو لم أكن كما أنا.» وكان إحساسه بنفسه شديدا وباعثا على الضيق، وكلما التقى برجل من طراز «د»، ورأى أنهما في مستوى واحد، وأنه لا ينظر إليه من عل، أحس بالذلة والخنوع، وتساءل هل يعاملني هذا المخلوق بالاحترام الواجب لأبناء طبقتي؟ وكان هذا السؤال يؤرقه في كل حين ، وله في ذلك المعذرة؛ لأن «ج ، د، ه» قد تكيفوا إلى حد ما على ربط ضخامة الجسم بعلو المكانة الاجتماعية، وفي الحق: إن شيئا من الإعجاب بالضخامة كان شائعا من أثر الإيحاء أثناء النوم، ومن ثم كان النساء اللائي يتقرب إليهن يسخرن منه، وأضرابه من الرجال يهزءون به، فكان من أثر السخرية يحس بأنه رجل غريب، ويدفعه هذا الإحساس إلى أن يسلك سلوك الغريب، فكان ذلك يزيد من التحيز ضده، ويقوي الاحتقار والازدراء والعداوة، التي تثيرها عيوبه الجثمانية، وهذا بدوره يزيد من إحساسه بالغرابة والعزلة، وتولد لديه خوف دائم من استخفاف الناس به، فكان يتحاشى أضرابه، ويقف ممن دونه موقف الرجل، لا يفارقه الإحساس بكرامته، وكان شديد الحسد للرجال من أمثال هنري فستر وبنتو هوفر - أولئك الذين لا يشعرون بضرورة الصياح للناس من طراز «ه»، كي يطاع لهم أمر، أولئك الذين لا يفكرون في مراكزهم، أولئك الذين يتحركون وسط هذا النظام الطبقي، كما تتحرك السمكة في الماء، فهم مطمئنون أشد الاطمئنان حتى إنهم لا يدركون وجود أنفسهم، ولا يدركون العناصر النافعة المريحة التي نشئوا في أحضانها.
وظن برنارد أن الخادمين التوءمين أخرجا طائرته إلى السطح على عجلاتها متباطئين متمنعين.
فقال ثائرا: «أسرعوا!» فرمقه أحدهم بنظرة، وهل كان ما يراه في أعينهم الرمادية، التي لا يرتسم عليها شيء، ضربا من ضروب الاحتقار الدنيء؟ فعلا صوته بالصياح قائلا: «أسرعوا!» وكان بصوته خشونة قبيحة.
واعتلى الطائرة، وحلق بها بعد دقيقة واحدة جنوبا صوب النهر.
كان مقر مكاتب الدعاية المختلفة وكلية هندسة العواطف، في بناء واحد من ستين طابقا في شارع فليت، وكنت ترى بالدور السفلي وفي الطوابق الدنيا مطابع ومكاتب صحف لندن الثلاثة الكبرى، وهي: «راديو الساعة»، وهي صحيفة للطبقة العليا، و«الغازيت «ج»» ذات اللون الأخضر الشاحب، و«المرآة «د»» وهي صحيفة لونها كاكي وكل كلماتها من مقطع واحد، وتأتي بعد ذلك على التتابع مكاتب الدعاية بالتليفزيون، وبالصور المحسة، وبالصوت الصناعي والموسيقى، وهي تشغل اثنين وعشرين طابقا، وتعلوها معامل البحث والحجرات المبطنة ، التي يؤدي فيها كتاب الشارات الصوتية والمؤلفون الصناعيون عملهم الدقيق، أما الطوابق الثمانية عشر العليا فكانت تشغلها كلية هندسة العواطف.
وهبط برنارد بطائرته على سطح بيت الدعاية، ثم نزل منها.
وأمر حمالا من طراز «+ه» أن يدق الجرس لمستر هلمهلتز واطسن، ويخبره أن برنارد ماركس بانتظاره فوق السطح.
ثم جلس وأشعل لفافة تبغ.
وكان هلمهلتز واطسن يكتب حينها بلغته الرسالة.
فرد قائلا: «قل له إني آت في الحال.» ثم علق السماعة، والتفت إلى سكرتيرته وقال لها محتفظا بنغمة الكلام الرسمية غير الشخصية: «سأتركك لتحفظي أشيائي هذه.» وتجاهل ابتسامتها المشرقة، ونهض وسار بهمة نحو الباب.
كان رجلا قوي البنية، واسع الصدر، عريض المنكبين، ضخما غير أنه سريع الحركة، خفيف لدن العود، ويرتكز فوق عمود رقبته القوي المستدير رأس جميل التكوين، شعره أسود مجعد، وملامحه واضحة القسمات، شديد الأناقة، قوي التأثير في الناظر إليه، وكل سنتيمتر منه يدل على أنه «+أ»، كما تقول سكرتيرته وتكرر القول بغير كلال، مهنته محاضر بكلية هندسة العواطف (قسم الكتابة)، وفي فترات تتخلل أعماله التعليمية يشتغل كمهندس للعواطف، وكان يكتب بانتظام في «راديو الساعة»، ويؤلف صورا للسينما المحسة، بارعا أشد البراعة في صياغة كلمات الشعار، ونظم عبارات الإيحاء الهبنوبيدي.
يحكم عليه رؤساؤه أنه «قدير، وربما كانت قدرته أشد مما ينبغي»، ويقولون عنه ذلك وهم يهزون رءوسهم، ويخفضون أصواتهم تخفيضا له مغزاه.
أجل لقد كانت قدرته أشد مما ينبغي، ولقد أصابوا فيه الحكم، وقد أحدث التفوق العقلي في هلمهلتز واطسن آثارا شديدة الشبه، بما أحدثه النقص الجثماني في برنارد ماركس، كان برنارد قليل العظام كثير العضلات، فانعزل عن قرنائه. ولما كان هذا الإحساس بالعزلة بكل المعايير السائدة تفوقا عقليا، فقد أصبح بدوره سببا في زيادة الاعتزال، وكذلك شدة اقتدار هلمهلتز جعلته شديد الإحساس بنفسه وبعزلته بدرجة مقلقة، فكان الرجلان يشتركان في العلم بأنهما فريدان بين أضرابهما - كان برنارد ذو العيب الجثماني يعاني طوال حياته من إحساسه بالعزلة، ولكن هلمهلتز واطسن لم يدرك تفوقه العقلي إلا منذ عهد قريب جدا، فأصبح كذلك يدرك الخلاف بينه وبين الناس المحيطين به، كان هذا الرجل بطلا في لعبة السكواش على الدرج المتحرك، كان عاشقا لا يفتر (يقال إنه اتصل بستمائة وأربعين فتاة مختلفة في أقل من أربع سنوات)، ولكنه أدرك فجأة أن الألعاب والنساء والنشاط الاجتماعي بالنسبة إليه مزايا ثانوية، أما في الواقع وفي حقيقة الأمر فقد كان يهتم بشيء آخر، ولكن بماذا؟ تلك هي المشكلة التي أتى برنارد ليناقشه فيها - أو قل إنه أتى ليستمع إلى صديقه مرة أخرى وهو يناقشها؛ لأن هلمهلتز كان دائما يقوم وحده بالحديث.
والتقى به وهو يخرج من المصعد ثلاث فتيات فاتنات، من مكتب الدعاية بالصوت الصناعي.
فتعلقن به وتوسلن إليه قائلات: «عزيزنا هلمهلتز، رجاؤنا أن ترافقنا إلى إكسمور، وتتناول معنا طعام العشاء.»
فهز رأسه وشق طريقه وسطهن قائلا: «كلا، كلا.» - «إننا لن ندعو رجلا آخر.»
ولكن هلمهلتز لم يهتز حتى بعد هذا الوعد الجميل، فأجاب قائلا: «كلا، إنني مشغول.» وواصل سيره في عزم شديد، فتعلق البنات بأذياله، ولم ييئسن من متابعته إلا بعدما اعتلى فعلا طائرة برنارد وأغلق بابها، ولم يخل من تأنيبهن.
وارتفعت الطائرة في الفضاء وهو يقول: «عجبا لهؤلاء النسوة!» وهز رأسه وقطب جبينه، ثم قال: «ما أشد إزعاجهن!» ووافقه برنارد نفاقا ودهانا، متمنيا - وهو يتفوه بالكلام - أن يكون له من البنات ما لهلمهلتز وبقليل من المشقة مثله، ثم استولت عليه فجأة رغبة ملحة في الزهو بنفسه فقال: «إنني سوف أصطحب ليننا كراون إلى المكسيك الجديدة.» وقد تكلف أن يكون الحديث عرضيا غير مقصود.
ولم يهتم هلمهلتز البتة لذلك فقال: «أفهذا صحيح؟» وصمت برهة ثم قال: «لقد انقطعت خلال الأسبوع أو الأسبوعين السابقين عن جمعياتي وفتياتي جميعا، ولا تستطيع أن تتصور الضجة التي أحدثوها في الكلية من أجل ذلك، ولكن الأمر كان يستدعي ذلك فيما أظن، والنتائج ...» وهنا تردد في الكلام ثم قال: «ماذا أقول؟ إنها عجيبة جدا.»
إن النقص الجثماني قد يسبب فيض النشاط العقلي، والظاهر أن العكس صحيح، فالنشاط العقلي المتوفر يجوز - لأغراضه الخاصة - أن يؤدي بصاحبه إلى عزلة مقصودة، يتكلف فيها العمى والصمم، كما يؤدي إلى الزهد، الذي يتصنع فيه العجز المطلق.
ولبثا بقية الرحلة الهوائية القصيرة صامتين، ولما بلغا غرفة برنارد واستلقيا مسترخيين فوق الأرائك الهوائية عاد هلمهلتز إلى الحديث.
فقال في بطء شديد: «هل أحسست مرة كأن شيئا بداخلك ينتظر منك أن تتيح له الفرصة كي ينطلق؟ ضربا من ضروب القوة الفائضة التي لا تستخدمها - كالماء الذي يتدفق من المساقط بدلا من أن يتخلل الآلات البخارية.» وألقى على برنارد نظرة المستفهم. - «تقصد العواطف التي يحس بها المرء، حينما تسير الأمور على غير ما يهوى؟»
فهز هلمهلتز رأسه، وقال: «ليس هذا بالضبط ما قصدت إليه، إنما أقصد ذلك الشعور العجيب الذي ينتابني أحيانا، وهو الشعور بأن لدي أمرا هاما أريد أن أعبر عنه، كما أن لدي القدرة على التعبير، غير أني لا أدري ما هو، فلا أستطيع أن أستفيد من قدرتي على التعبير، لو كانت هناك طريقة أخرى للكتابة ... أو لو كان هناك شيء آخر أكتب عنه ...» وسكت عن الكلام لحظة، ثم عاد يقول: «إنني بارع في اختراع التعابير - إنك تعرف ذلك الضرب من الكلمات، التي تجعلك تثب بغتة كأنك جالس على دبوس، لقد بلغت هذه الكلمات درجة كبيرة من الجدة والقدرة على الإثارة والتنبيه، حتى إن كانت تعبر عن شيء واضح من وجهة الإيحاء النومي، ولكن هذا لا يكفي، لا يكفي أن تكون العبارات جيدة، وإنما ينبغي كذلك أن تؤدي بها عملا طيبا.» - «ولكن أعمالك طيبة يا هلمهلتز؟»
فهز هلمهلتز كتفيه وقال: «هي كذلك إلى حد ضئيل، فهي ليست من الأهمية بمكان، وإني أحس أنني أستطيع أن أؤدي عملا أكثر من ذلك أهمية، وأكثر غزارة وأشد عنفا، ولكن ماذا عسى أن يكون ذلك؟ وماذا عساي قائل مما هو أكثر أهمية؟ وكيف يستطيع المرء أن يكون عنيفا في الأشياء التي ينتظر منه أن يكتب عنها؟ إن الكلمات يمكن أن تكون كأشعة إكس إذا أحسنت استعمالها - إنها تخترق أي شيء ، تقرؤها فتطعنك. هذه إحدى الأشياء التي أحاول أن أعلمها تلاميذي: كيف يكتبون كتابة تطعن القارئ، ولكن ما الجدوى من إحساس القارئ بالطعنات من مقال عن الغناء الجمعي، أو عن أحدث التحسينات في أعضاء الشم؟ ثم هل تستطيع أن تجعل الكلمات طاعنة حقا - كأقوى أشعة إكس - حينما تكتب عن مثل هذه الأشياء؟ هل تستطيع أن تقول شيئا عن لا شيء؟ هذا ما يئول إليه الأمر في النهاية، إني أحاول وأحاول ...»
وقال برنارد بغتة: «أنصت!» ورفع إصبعه منذرا صاحبه، وأصغيا، ثم همس قائلا: «أعتقد أن أحدا ما عند الباب.»
فنهض هلمهلتز، وسار على أطراف أصابعه إلى الجانب الآخر من الغرفة، وفتح الباب على مصراعيه بحركة حادة سريعة، ولكنه بالطبع لم يجد أحدا.
فقال برنارد وقد أحس بسخفه، وبدا عليه هذا الإحساس، آسف، وما أحسب إلا أن أعصابي مضطربة بعض الاضطراب، إذا ارتاب الناس في أمرك داخلتك الريبة في أمورهم.
وحرك يده فوق عينيه، ثم تنهد، وقال يبرر نفسه في صوت الشاكي: «لو عرفت ما كان ينبغي لي أن أقاسي في العهد الأخير، لو علمت ذلك ...» وامتلأت عيناه بالدموع، وأشفق على نفسه إشفاقا، انبثق منه كما تنبثق مياه النافورة، إذا أطلقتها بغتة.
واستمع إليه هلمهلتز واطسن وقد أحس بشيء من القلق، وقال محدثا نفسه: «مسكين برنارد!» ولكنه أحس في نفسه الوقت بالخجل من أجل صاحبه، وود لو أن برنارد أظهر شيئا من الكبرياء أكثر من ذلك.
الفصل الخامس
1
لما بلغت الساعة الثامنة أخذ الضوء يتلاشى، وبدأ مضخم الصوت في برج نادي ستوك بوجس، يعلن انتهاء أشواط اللعب في صوت أقوى من صوت الإنسان، فكفت ليننا وهنري عن اللعب وسارا عائدين نحو النادي، وسمع خوار آلاف الماشية صادرا من ميادين «اتحاد الإفراز الداخلي والخارجي»، وهي الماشية التي تمد بهرموناتها وألبانها المواد الخام للمصنع العظيم في فارنهام الملكي.
وملأ الجو ساعة الأصيل دوي طائرات الهلكبتر الذي لا ينقطع، وكان دق الجرس وصياح الصفافير يعلن كل دقيقتين ونصف قيام إحدى القاطرات الخفيفة، التي تسير على قضيب واحد حاملة لاعبي الجولف، من الطبقات الوضيعة من ميدانهم المنفصل إلى العاصمة.
واعتلت ليننا وهنري طائرتهما ثم انطلقا، وعلى بعد ثمانمائة قدم مس هنري المفاتيح ليبطئ سرعة الطائرة، ولبثا معلقين دقيقة أو دقيقتين فوق المناظر الطبيعية المتلاشية، ووقعت أبصارهما على غابة برنام من أشجار الزان، وكأنها بركة عظيمة من الظلام، تمتد نحو الأفق الغربي المشرق بالضياء، واختفت الشمس الغاربة تحت الأفق القرمزي خلال اللون البرتقالي، الذي تعلوه الصفرة فاللون الأخضر الشاحب المائي، وفي الشمال خلف الأشجار وفوقها كان النور الكهربي القوي اللامع، يشع من نوافذ الطوابق العشرين، التي يتألف منها مصنع الإفرازات الخارجية، وتحتها تقع مباني نادي الجولف - الثكنات الضخمة للطبقة الدنيا، وعلى الجانب الآخر من حائط فاصل البيوت الصغيرة، المحجوزة للأعضاء من طراز «أ» و«ب»، واسودت مشارف محطة القطار الذي يسير على قضيب واحد بأبناء الطبقة الدنيا، الذين كانوا يدبون كالنمال المتكاثرة، ومن تحت القبو الزجاجي اندفع في الفضاء قطار مضيء، وسار في طريقه الجنوبي الشرقي يخترق السهل المظلم، فانجذبت عيون الناس نحو المباني الفخمة التي كانت تستخدم كحمأة لإحراق الجثث، وكان لها أربع مداخن طويلة ينعكس عليها الضوء، وعلى قممها علامات الخطر القرمزية لهداية الطائرات التي تحلق أثناء الليل، فكان المكان علما من معالم الطريق.
وسألت ليننا قائلة: «لماذا وضعت حول المداخن هذه الأشياء التي تشبه الشرفات؟»
فأخذ هنري يشرح لها في عبارة موجزة إيجاز البرقيات، قال: «استرداد الفسفور، إن الغازات في سيرها إلى أعلى المداخن تمر بأربع عمليات، كان فر
2
2
فيما مضى يخرج من الدورة رأسا كلما أحرقوا شخصا من الأشخاص، أما الآن فهم يستردون أكثر من 98 في المائة منه، وذلك أكثر من كليو ونصف من جثة الرجل البالغ، ويكون ذلك أكثر من أربعمائة طن من الفسفور كل عام في إنجلترا وحدها.» وكان هنري يتحدث في سرور وإعجاب، مبتهجا بكل قلبه بهذه النتيجة، كأنها نتيجة عمله الخاص، ثم قال: «ما أجمل أن نعرف أننا نبقى نافعين للمجتمع حتى بعد الممات! إننا نساعد النبات على النمو.»
وكانت ليننا في تلك الأثناء قد حولت عينيها عن هذا المنظر، وصوبت نظرها عموديا إلى أسفل عند محطة القطار الذي يسير على قضيب واحد، وقالت: «أجل هذا جميل، ولكن من العجب أن الأفراد من «أ» و«ب» لا ينبتون زرعا أكثر من أفراد «ج» و«د» و«ه» الصغار القذرين الذين أراهم تحت بصري.»
فقال هنري موجزا: «كل الناس متساوون في التركيب الطبيعي والكيمائي، ثم إن الأفراد جميعا حتى من طراز «ه» يؤدون خدمات لا غنى عنها.»
وذكرت هذه العبارة «حتى الناس من طراز «ه» ...» ليننا فجأة بحادث وقع لها أيام أن كانت طفلة بالمدرسة، وذلك أنها تيقظت مرة في منتصف الليل، وأدركت لأول مرة الهمس الذي كان لا يبارحها كلما نامت، عاد إلى ذاكرتها شعاع القمر، وصف الأسرة الصغيرة البيضاء، ورن في أذنها ثانية ذلك الصوت الناعم الذي كان يردد هذه العبارة: «كل فرد يعمل للأفراد الآخرين، إننا لا نستغني عن أحد، حتى أبناء «ه» نافعون، لسنا بغنى عنهم، كل فرد يعمل للأفراد الآخرين، إننا لا نستغني عن أحد ...» (وقد ذكرت الكلمات بنصها، ولم تغب عن ذاكرتها - ولن تغيب - بعد تكرارها عدة ليال طوال)، وتذكرت ليننا أول صدمة من صدمات الخوف والاندهاش، وتأملاتها خلال نصف ساعة من ساعات اليقظة، ثم تذكرت ما كان يحدث لها تحت تأثير ذلك التكرار، الذي لا ينتهي من هدوء عقلي تدريجي، هدوء يزحف عليها خفية وخلسة.
وقالت بصوت مرتفع: «أظن أن أفراد «ه» لا يهمهم فعلا أنهم من طراز «ه».» - «طبعا لا يهمهم ذلك، وكيف يهتمون وهم لا يعرفون كيف يكون المرء غير ذلك، نحن طبعا يهمنا الأمر، ولكن ذلك لأننا تكيفنا بطريقة أخرى، ثم إنا فوق ذلك نبدأ بوراثة تختلف عن وراثتهم.»
قالت ليننا وهي واثقة: «أحمد الله أني لست من «ه».»
قال هنري: «ولو كنت من «ه» لتكيفت على صورة تجعلك تحمدين الله، على أنك لست من الألف أو الباء.» وأدار المحرك الأمامي ودفع بالطائرة نحو لندن، وكاد يتلاشى خلفهم في الغرب لون السماء القرمزي والبرتقالي، وزحفت سحب الظلام إلى كبد السماء، وبينما كانا يطيران فوق محرقة الجثث، اندفعت الطائرة إلى أعلى في عمود الهواء الساخن المرتفع من المداخن، ثم هبطت بغتة عندما مرت بالمنطقة الباردة خلف المداخن.
وضحكت ليننا مسرورة وقالت: «ما أعجب هذه الحركة الرجعية!»
ولكن هنري أخذ يتحدث في اكتئاب فترة وجيزة من الزمن، قال: «هل تعلمين ما هذه الحركة الرجعية؟ هي كائن بشري اختفى نهائيا، لقد ارتفع في دفعة من الغاز الساخن، وإنك لتعجبين من يكون ذلك الشخص - رجلا أو امرأة، من الألف أو الهاء ...» ثم تنهد وختم حديثه بصوت ينم عن الابتهاج والعزيمة، قائلا: «على أية حال، هنالك أمر واحد نستطيع أن نكون منه على ثقة، أيا كان ذلك الشخص فقد كان سعيدا حينما كان على قيد الحياة، فإن كل إنسان اليوم سعيد.»
ورددت ليننا عبارته قائلة: «أجل إن كان إنسان اليوم سعيدا.» فقد سمعا هذه الكلمات تتكرر مائة وخمسين مرة كل مساء مدة اثني عشر عاما.
وهبطت الطائرة فوق سطح بيت هنري ذي الطوابق الأربعين في وستمنستر، فتوجها توا إلى قاعة الطعام، حيث تناولا معا وجبة فاخرة وهما يصيحان من فرط السرور، أخذت ليننا قرصين زنة الواحد منهما نصف جرام، وأخذ هنري ثلاثة. ولما بلغت الساعة التاسعة والثلث عبرا الشارع إلى مرقص (كاباريه) وستمنستر آبي الذي افتتح من عهد قريب، وكانت ليلة غير مقمرة صافية مرصعة بالنجوم، ولكن هنري وليننا لم يدركا - لحسن الحظ - هذه الحقيقة المقبضة؛ لأن «علامات السماء» الكهربية أخفت الظلام الخارجي كل الإخفاء، وطالعا هذه العبارة «كالفن ستو بز وفرقته المكونة من ستة عشر عازفا على السكسوفون»، وقد كتبت خارج مرقص آبي الجديد بخط عريض براق يجذب المارين، وطالعا كذلك هذه العبارة: «أجمل أراغين لندن للعطور والألوان، أحدث موسيقى مركبة.»
ودخلا المرقص، وكان الهواء حارا ساكنا تشم فيه عبير العنبر وخشب الصندل، وعلى قبة سقف الردهة كان أرغن الألوان في تلك اللحظة، يشع ضياء كضياء الشمس الغاربة في المناطق الحارة، وكان العازفون على السكسوفون الست عشرة ينشدون الأغنية القديمة المحبوبة ، التي تبدأ بهذه العبارة: «ليس في العالم كله قارورة مثل قارورتي الصغيرة العزيزة.» وكان بالقاعة أربعمائة زوج يدورون حول أرض الردهة الصقيل، وهم يرقصون الرقصة ذات الخمس خطوات، وسرعان ما انضم هنري وليننا إلى هذه المجموعة الراقصة، وكانت آلات السكسوفون تنوح كأنها القطط ذات الصوت الرخيم تحت القمر، وتئن بصوت مرتفع مرة ومنخفض مرة أخرى كأن الموت يقترب منها، والجوقة ذات الصوت المرتجف - وهي غنية بما تعرف عن علم قواعد الألحان - علت نغماتها حتى بلغت القمة، لقد أخذت تعلو ثم تعلو حتى لوح في النهاية رئيس الفرقة بيده، فانطلقت النغمة الأخيرة للموسيقى الأثيرية وقضت على غيرها من النغم، وبذا بدد الرئيس الستة عشر عازفا من البشر العادي من الوجود، وقصف الرعد من أحد المفاتيح، ووسط الضجيج والأضواء ارتفعت بالتدريج نغمة عجيبة، وأخذت نغمة أخرى في الانخفاض شيئا فشيئا، وظلت خافتة فترة ما، فكانت مجموعة عجيبة من الأنغام، وأخيرا حدث انفجار فجائي، صحبه الستة عشر عازفا منشدين:
قارورتي، كنت دائما بحاجة إليك!
قارورتي، لماذا أفرغوني منك؟
السموات بداخلك زرقاء،
والجو هناك دائما جميل؛
إذ ليس في العالم بأسره قارورة
مثل قارورتي.
وما عتم هنري وليننا يرقصان رقصة الخطوات الخمس مع الأربعمائة الآخرين حول وستمنستر آبي، وكأنهما يرقصان في عالم آخر ... عالم إجازة السوما الدفيء الغني بالألوان، العالم الودي إلى أقصى الحدود. كان كل امرئ شفيقا، جميل المحيا، مسليا يبعث على السرور! «قارورتي، كنت دائما بحاجة إليك ...» ولكن هنري وليننا ظفرا بما كانا يطلبان ... فهما في الداخل، في تلك اللحظة وفي ذلك المكان - مطمئنون في الداخل مع الهواء العليل، والسماء ذات الزرقة الدائمة، ولما أنهك الموسيقيون الست عشرة طرحوا سكسفوناتهم جانبا، وأخذ جهاز الموسيقى المركبة يترنم بأحدث الأنغام والأغاني، حينئذ شعر هنري وليننا كأنهما جنينان توءمان يترجحان معا فوق محيط قنيني من الدم الجديد.
وألقت مضخمات الصوت أوامرها مستترة في أدب موسيقي بهيج، قالت: «عموا مساء يا أصدقائي الأعزاء، عموا مساء يا أصدقائي الأعزاء، عموا مساء ...»
وخلف هنري وليننا المكان طائعين مع الآخرين جميعا، وكانت النجوم التي تبعث في النفوس الضيق، قد تقدمت في مسيرها مسافة طويلة في السماء، ومع أن الستار الحاجز من «علامات السماء»، قد تبدد الآن إلى حد كبير، غير أن الفتى والفتاة ما برحا ينعمان بجهلهما حقيقة المساء.
وقبل موعد الإغلاق بنصف ساعة، كانا قد تناولا الجرعة الثانية من السوما، فأقامت بين عقليهما وبين العالم الواقعي سدا منيعا، وعبرا الطريق وهما يحسان كأنهما في القوارير، وكذلك اعتليا المصعد إلى حجرة هنري في الطابق الثامن والعشرين، كانت ليننا تحس كأنها في القارورة، وكانت قد تناولت جراما ثانيا من السوما، ولكنها برغم ذلك لم تنس أن تتخذ كل احتياط ضد الحمل وفقا للقواعد المتبعة، وكانت تتخذ هذا الاحتياط بطريقة آلية كلمح البصر من أثر الإيحاء، أثناء النوم الذي تعرضت له سنوات عدة، ومن أثر التدريب المالتسي الذي خضعت له بين الثانية عشرة والسابعة عشرة ثلاث مرات كل أسبوع.
وقالت وهي عائدة من الحمام: «إن هذا يذكرني بأن فاني كراون تريد أن تعرف أنى لك هذا الحزام الأخضر الجميل، المصنوع من جلد كالجلد المراكشي الذي أعطيتنيه.»
2
كانت أيام الخميس الجديدة هي الأيام التي يؤدي فيها برنارد صلاة الجماعة، يتناول عشاءه مبكرا في الأفروديتيم (التي انتخب لها هلمهولتز من عهد قريب وفقا للبند الثاني)، ثم يستأذن صاحبه، وينادي سيارة أجرة فوق السطح، ويطلب إلى سائقها أن يطير به إلى بيت الغناء الجمعي لصاحبه فوردسن، فترتفع السيارة مائتي متر، ثم تتجه رأسا نحو الشرق، وعند دورانها يرى برنارد أمام عينيه بيت الغناء، وهو بناء ضخم جميل، من المرمر الأبيض طوله 320 مترا، ينعكس فوقه الضوء فيشرق فوق لدجيت هل متوهجا كالثلج الناصع، وله رصيف للطائرات، عند كل ركن من أركانه الأربعة حرف
T
ضخم، يتلألأ باللون القرمزي أثناء الليل، وبالمكان أربعة وعشرون بوقا ذهبيا كبيرا، تتجلجل من أهوائها موسيقى مركبة مقدسة.
ولما وقعت عينا برنارد على «ساعة هنري الكبيرة» في بيت الغناء، قال محدثا نفسه: «ألا لعنة الله علي ! لقد تأخرت.» ودقت الساعة فعلا وهو يدفع للسائق أجره، ورددت الأبواق الذهبية في صوت منخفض غليظ هذه الكلمة: «فورد، فورد، فورد ...» وترنمت بها تسع مرات، وركض برنارد صوب المصعد.
وكانت قاعة الاجتماعات الكبرى التي يقام فيها الاحتفال بعيد فورد، كما تلقى فيها الأناشيد الدينية الجمعية في أسفل البناء، وفوق هذه القاعة سبعة آلاف حجرة، مائة في كل طابق، تستخدمها «فرق الجماعة» في صلواتهم التي يؤدونها مرة كل أسبوعين، وهبط هنري إلى الطابق الثالث والثلاثين، وانطلق في دهليزه مسرعا، ثم وقف خارج الغرفة رقم 3210 برهة من الزمن مترددا، ثم التوى بجسمه وفتح الباب ثم ولج الغرفة.
وحمد برنارد فورد أن لم يكن آخر الداخلين، فقد بقيت ثلاثة مقاعد من الاثني عشر المنظمة حول المائدة المستديرة فارغة، فدلف إلى أقربها، وحاول ما استطاع ألا يلحظه أحد، وتأهب للغضب عند دخول القادمين بعده في أي وقت يصلون.
والتفتت نحوه الفتاة التي كانت على يساره وسألته: «ماذا كنت تلعب بعد ظهر اليوم؛ الموانع أو المغناطيسية الكهربية؟»
ونظر إليها برنارد، ولشد ما كانت دهشته لما عرف أنها مرجانة رستشيلد، واعترف لها في خجل شديد أنه لم يلعب هذه أو تلك، فحدقت فيه مرجانة في دهشة شديدة، ثم كانت فترة من الصمت يسودها القلق.
والتفتت بغتة إلى الرجل الرياضي الذي كان إلى يسارها ووجهت إليه الخطاب.
واكتأب برنارد وظن أن تلك اللحظة كانت بداية صالحة لصلاة الجماعة، وارتقب لنفسه الفشل مرة أخرى في أن يظفر بالتكفير، وكان يود لو أنه أعطى لنفسه الفرصة، كي يتلفت حواليه بدلا من الإسراع إلى أقرب المقاعد، كان يستطيع أن يجلس بين فيفي برادلاف وجوانا ديرل، ولكنه استقر إلى جوار مرجانة بغير تفكير. لك الله يا مرجانة! يا لحاجبيها الأسودين - أو حاجبها على الأصح - لأنهما كانا يلتقيان فوق أنفها. عجبا! وعلى يمينه كلارا دترتدنج، حقا إن حاجبيها لم يلتقيا، ولكنها كانت هوائية جدا، في حين أن فيفي وجوانا كانتا كاملتين من جميع النواحي، كانتا ممتلئتين، شقراوين، متوسطتي الجسم ... وقد ظفر بالمقعد المتوسط بينهما ذلك الفظ الغليظ توم كاواجوشي.
وكانت ساروجيني انجلز آخر من حضر.
فقال لها رئيس الجماعة في قسوة شديدة: «لقد تأخرت، وأرجو ألا يحدث ذلك مرة أخرى.»
فاعتذرت ساروجيني واتخذت لنفسها مقعدا بين جم بوكانوفسكي وهربرت باكونن، واكتملت الفرقة الآن، وأمست جماعة الصلاة تامة لايشوبها نقص. وقد جلسوا حول المائدة في دائرة كاملة، كل رجل إلى جوار امرأة، وكل امرأة إلى جوار رجل، كانوا اثني عشر شخصا مستعدين لأن يندمجوا في واحد، ويرتقبون التماسك والاندماج التام، فيفقد كل منهم مميزاته الشخصية، ويتلاشى في كائن واحد كبير.
ونهض الرئيس على قدميه، ورسم علامة الحرف
T ، وأدار الموسيقى المركبة، وأطلق دق الطبول المستمر، وجوقة من الآلات الموسيقية المختلفة، التي أخذت تردد في نغمة مثيرة الألحان القصيرة، ذات الأثر الشديد في النفوس من نشيد الجماعة الأول، وتكرر النشيد مرة بعد أخرى، ولم يستمع الحاضرون إلى نغمة النابض بآذانهم، وإنما استمعوا إليه بحجبهم الحاجزة، ولم يؤثر عويل تلك النغمات المتكررة ورنينها في العقول، وإنما كان يلعب بعواطف الرحمة والشفقة في نفوسهم.
ورسم الرئيس حرف
T
مرة أخرى ثم جلس، وبذلك بدأت الصلاة، وقد وضعت أقراص السوما المهداة وسط مائدة الطعام، ودارت كأس الحب من يد إلى أخرى، وقد أترعت بعصير الشليك المثلج الممزوج بالسوما، ونهلوا منها جميعا مرددين هذه العبارة: «إني أشرب نخب فنائي.» ثم ترنموا جميعا بنشيد الجماعة الأول على إيقاع جوقة الموسيقى المركبة، وهذا هو النشيد:
أي فورد، نحن اثنا عشر، اللهم فاجعل منا واحدا،
فنصبح كقطرات الماء يتكون منها تيار الجماعة.
اللهم مكنا الآن من أن نجري معا
مسرعين كسيارتك الرخيصة اللامعة.
وأنشدوا اثنتي عشرة فقرة في شغف شديد، ثم دارت عليهم كأس الحب مرة أخرى، فتناولوها مرددين الآن هذه العبارة: «إني أشرب نخب الكائن العظيم.» وشربوا جميعا، وأخذت الموسيقى تصدح بغير انقطاع، ودقت الطبول، وعلت النغمات وتضاربت واشتد تأثيرها في العواطف حتى أشبعتها، وأخذوا يترنمون بنشيد الجماعة الثاني قائلين:
هيا، أيها الكائن الأكبر، يا صديق الجماعة،
يا من فنينا فيك وحدك نحن الاثني عشر.
إننا نشتهي الموت ؛ لأن حياتنا الكبرى
لا تبدأ إلا بعد الممات.
وأنشدوا اثنتي عشرة فقرة أخرى، وبعدئذ أخذت السوما تفعل فعلها، فأبرقت العيون، وتوردت الخدود، وأشرقت الوجوه ببسمات السعادة والود، وقد بعثها ضياء الخير العام، حتى إن برنارد نفسه أحس بشيء من النشوة، فلما التفتت إليه مرجانة رستشيلد وأشرقت عليه، سعى جهده أن يبادلها الإشراق - ولكن حاجبها - ذلك الحاجب المزدوج - كان للأسف ما يزال ملحوظا لا يستطيع تجاهله مهما حاول ذلك، ولم تبلغ النشوة به حدا كبيرا، وربما لو كان جالسا بين فيفي وجوانا ... وللمرة الثالثة دارت كأس الحب، وقالت مرجانة رستشيلد: «إني أشرب نخب قرب مجيئه.» وقد جاء دورها أن تكون هي من بين أعضاء الدائرة جميعا هي البادئة بالشعائر، وكان صوتها مرتفعا متهللا، وشربت وسلمت الكأس لبرنارد فكرر بعدها هذه العبارة: «إني أشرب نخب قرب مجيئه.» وقد حاول مخلصا أن يحس بقرب المجيء، غير أن الحاجب ما عتم متسلطا على ذهنه، و«المجيء» بالنسبة إليه جد بعيد، وشرب وناول الكأس كلارا دتردنج، وقال محدثا نفسه: «إني واثق من فشلي مرة أخرى.» ولكنه ما برح يبذل جهده كي يبدو مشرق الجبين.
ودارت كأس الحب دورة كاملة، فأشار الرئيس للجمع رافعا يده، فصاحت الجوقة فجأة مترنمة بنشيد الجماعة الثالث:
ألا تشعرون كيف يقبل علينا الكائن الأكبر؟!
ابتهجوا، حتى تموتوا من شدة الابتهاج!
ولتذب نفوسكم في موسيقى الطبول؛
ذلك لأني أنا أنت وأنت أنا.
وتلاحقت الفقرات المنظومة، وأخذت أصواتهم تشف عن التأثر العميق، وكان إحساسهم بقرب المجيء شبيها بالتوتر الكهربي في الهواء، وأسكت الرئيس الموسيقى، وعند النغمة الأخيرة من الفقرة الأخيرة ساد الصمت الشامل؛ صمت الارتقاب الطويل الذي يسري في النفس، ويهزها كأنه الكهرباء، ومد الرئيس يده، وإذا بصوت مفاجئ يسمعونه فوق رءوسهم، صوت قوي عميق، فيه نغم موسيقى لا يتوفر للصوت الإنساني المجرد! صوت غير بشري، غني، حار، يدل على الحب والشوق والرأفة، صوت عجيب غريب غير مألوف. قال الصوت: «أي فورد، فورد، فورد» في بطء شديد ، وبنغمة تنخفض شيئا فشيئا، وشع من الشباك العصبية المعوية إحساس بالدفء، أثار كل الأطراف من أجسام المستمعين، وتحدر الدمع في أعينهم، وأحسوا كأن قلوبهم وأمعاءهم تتحرك في داخلهم كأن بها حياة مستقلة وذابوا وتحللوا عند سماعهم هذه الكلمة «فورد، فورد»، ثم صدر الصوت مرة أخرى وكأنه من بوق، وقال بغتة، وبنغمة أخرى تثير الذعر: «أنصتوا، أنصتوا!» فأنصتوا، وبعد فترة سكون وجيزة تحول الصوت إلى همس، ولكنه همس أشد نفاذا من أعلى صياح، وأخذ يكرر هذه العبارة: «هذا وقع أقدام الكائن الأكبر.» ثم كاد الهمس يتلاشى ثم قال: «إن أقدام الكائن الأكبر فوق الدرج.» ثم ساد الصمت مرة أخرى، وكانت الأعصاب قد توترت من الانتظار، ثم استرخت برهة، فتوترت الآن مرة أخرى، وكادت أن تتمزق من شدة التوتر ارتقابا للقادم، فلقد سمعوا أصوات الكائن الأكبر، وهي تدب دبا خفيفا فوق الدرج، وتقترب شيئا فشيئا فوق السلم غير المرئي، وظلوا ينصتون إلى وقع أقدام الكائن الأكبر، وأخيرا بلغ بهم التوتر أقصاه، ووثبت مرجانة رستشيلد على قدميها، وحملقت بعينيها، وانفرجت شفتاها، ثم صاحت قائلة: «إني أسمعه!»
وصاحت ساروجيني انجلز، وقالت: «إنه آت.»
وهب توم كاواجوشي وفيفي برادلاف على الأقدام في وقت واحد معا، وقالا: «أجل إنه آت، وإني لأسمعه.»
وأكدت جوانا صدق قولهما في لفظ غير واضح.
وصرخ جم بوكانوفسكي قائلا: «إنه آت.»
وانحنى الرئيس إلى الأمام، وبلمسة خفيفة أطلق الأصناج تهذي والآلات النحاسية ترن، ودقت الطبول كأنها محمومة.
وصاحت كلارا دتردنج قائلة: «آه إنه آت.» وكأن أحدا يحز رقبتها.
وأحس برنارد أنه قد حان له أن يفعل شيئا ما، فقفز إلى أعلى وصرخ قائلا: «إني أسمعه، إنه آت.» ولم يكن صادقا، فإنه لم يسمع شيئا، ولم يكن هناك بالنسبة إليه أحد مقبل، برغم الموسيقى وبرغم الاضطراب المتزايد، ولكنه هز ذراعيه، وصاح مع خيارهم، ولما بدأ الآخرون يرقصون ويدبون ويتنقلون، رقص وتنقل معهم.
وساروا في موكب مستدير وهم يرقصون، وقد وضع كل منهم يديه على مؤخرة الراقص السابق، وأخذوا يدورون في المكان صائحين معا، وهم يدبون على أنغام الموسيقى ، ويرقصون على توقيعها وأيديهم فوق أدبار السابقين، وكانت أيديهم جميعا تضرب معا كأنها يد واحدة، والأدبار ترد صدى الضربات معا كأنها ألواح، فكان الاثنا عشر شخصا كأنهم شخص واحد، ثم قالوا معا: «إني أسمعه، إني أسمع قدومه.» وأسرعت الموسيقى، ودبت الأقدام مسرعة، وأسرعت الأيدي الموزونة في وقعها على الأدبار، وانفجرت بغتة نغمة مركبة عظيمة، معلنة اقتراب التكفير وبلوغ الاتحاد حده الأقصى، وقدوم الاثني عشر موحدين في فرد واحد، والكائن الأكبر المجسد، وردد النغم هذه الكلمات: «شولم، شولم»، بينما واصلت الطبول دقها كأنها محمومة:
شولم، شولم، يا فورد يا مبعث السرور،
قبل البنات واجعل منهن واحدة،
وانشر السلام فوق البنات والبنين موحدين.
شولم، شولم، إنك تحرر النفوس.
وردد الراقصون هذه العبارات الدينية وكرروها، وبدأت الأضواء تتلاشى مبطئة وهم يغنون - وتلاشت الأضواء وازدادت في الوقت نفسه دفئا وغنى وحمرة، حتى باتوا في النهاية يرقصون في الشفق القرمزي، الذي يشاهد في مخزن الأجنة، وفي هذا الظلام الدموي الذي يشبه الضوء في بيوت الأجنة، واصل الراقصون دورانهم، وظلوا يرقصون على هذا النغم الذي لا يفتر، مرددين تلك العبارات الدينية «شولم، شولم ...» ثم ترنحت دائرتهم وانحلت، وانفرط عقدها فوق حلقة الأرائك، التي كانت تحيط بالمائدة ومقاعدها الاثني عشر - دائرة حول أخرى، وتغنى «الصوت» العميق برفق، وترنم بالنشيد الديني مرددا: «شولم، شولم ...» وكأن حمامة ضخمة سوداء كانت في ذلك الشفق الأحمر، تنشر جناحي الخير، وهي تحلق فوق الراقصين وقد انبطحوا الآن أرضا، واستلقوا على ظهورهم.
كانوا واقفين فوق السطح، وقد دقت ساعة هنري الكبرى الحادية عشرة منذ لحظة، وكان المساء هادئا دفيئا.
وقالت فيفي برادلاف: «ألم يكن الأمر جد عجيب؟» ونظرت إلى برنارد وفي عينيها نشوة السرور، ولكنه السرور الذي لا تلمس فيه بارقة من الاضطراب أو التأثر؛ لأن الاضطراب معناه أن الشخص لا يزال يتطلب المزيد، وأحست بالنشوة الهادئة التي يشعر بها كل من يبلغ مأربا، كما أحست بنوع من الطمأنينة التي لا يبعثها مجرد الإشباع أو الفراغ، وإنما تلك الطمأنينة التي تبعثها الحياة المتزنة ، والنشاط المستقر المعتدل، وهي طمأنينة قوية حية؛ لأن صلاة الجماعة قد أعطتهم بمقدار ما أخذت، وسحبت من نفوسهم لتعيد امتلاءها، فكانت ممتلئة النفس، كاملة، وما برحت تحس كأنها أكبر من نفسها، وأصرت على سؤالها السابق لبرنارد وهو: «ألست تظن أن الأمر كان عجيبا؟» وحدقت في وجهه بعينين لامعتين خارقتين للطبيعة.
وقال كاذبا: «أجل، لقد ظننت الأمر عجيبا.» ثم أشاح بوجهه، وكان منظر وجهها الذي تغيرت ملامحه تهمة له بانفصاله ومذكرا ساخرا بذلك، وأحس حينئذ بعزلة البائس كما أحس بها عندما بدأت الصلاة، بل لقد أحس بزيادة العزلة من جراء فراغ نفسه الذي لم يمتلئ وشبعه القاتل. كان منفصلا بذاته لم يشعر بغفران ذنوبه، في حين أن الآخرين قد اندمجوا في الكائن الأكبر. أحس بالعزلة حتى وهو بين أحضان مرجانة - بل أشد عزلة من أي عهد سبق له في حياته، وشعر بأنه لم يتغير بتاتا، فشاع اليأس في نفسه، ولقد خرج من ذلك الشفق القرمزي إلى الضوء الكهربي العام، وقد تعزز شعوره بنفسه إلى حد الإيلام، كان بائسا كل البؤس، وربما كانت تلك غلطته الشخصية (وقد اتهمته بذلك عيناها البراقتان)، وكرر قوله: «كان الأمر عجيبا جدا.» ولكنه لم يفكر إلا في حاجب مرجانة.
الفصل السادس
1
لقد حكمت ليننا على برنارد ماركس بالشذوذ الخارق، وقد بلغ به الشذوذ أنها ساءلت نفسها خلال الأسابيع التالية أكثر من مرة: «هل لا تستطيع أن تغير رأيها في عطلة المكسيك الجديدة، وتستبدل بها رحلة إلى القطب الشمالي مع بنتو هوفر، ولم يقلقها إلا أنها كانت تعرف القطب الشمالي، وأنها زارته مع جورج إدزل في الصيف الماضي، وأنها - فوق ذلك - وجدته مكانا شديد العبوس، لم تجد هناك ما يشغلها، والفندق قديم الطراز جد عتيق، ولم يكن بحجرات القوم تلفزيون، ولم يكن هناك أرغن العطور، ولم تسمع غير الموسيقى المركبة الفاسدة، ولم يكن هناك أكثر من خمسة وعشرين ملعبا للعبة «سكواش السلم المتحرك» لأكثر من مائتي زائر. كلا، لقد قر رأيها على أنها لا تستطيع أن تجابه القطب الشمالي مرة أخرى، ثم إنها - فوق ذلك - لم تزر أمريكا غير مرة واحدة، وحتى تلك الزيارة لم تكن كافية، لقد زارت نيويورك في عطلة من عطلات نهاية الأسبوع الرخيصة، ولم تذكر إن كانت تلك الزيارة برفقة جين جاك حبيب الله أم بوكانوفسكي جونز، غير أنها كانت - على أية حال - عديمة الأهمية، فكان الأمل في الطيران غربا مرة أخرى مدة أسبوع كامل شديد الإغراء لها، ثم إنهما - فوق ذلك - سوف يقضيان ما لا يقل عن ثلاثة أيام من هذا الأسبوع في الأماكن المخصصة للمتوحشين، ولم يزر هذه الأمكنة أكثر من ستة أشخاص في المركز كله، وكان برنارد بوصفه عالم نفس من درجة «+أ»، أحد الرجال القلائل الذين يستطيعون - فيما تعلم - الحصول على التصريح بالزيارة، وكانت تلك فرصة نادرة لليننا، ولكن شذوذ برنارد كذلك نادر جدا، حتى لقد ترددت في انتهاز الفرصة، وفكرت فعلا في المخاطرة بزيارة القطب الشمالي مرة أخرى مع بنتو الصديق المضحك القديم، فلقد كان بنتو على الأقل رجلا طبيعيا في حين أن برنارد ...»
وكانت فاني تعلل شذوذه بوجود الكحول في دمه، ولكن هنري شبه برنارد المسكين بوحيد القرن ذات مساء، وهو في الفراش مع ليننا، عندما تباحثا معا بشأنه في شغف شديد؛ لأنه كان عشيق ليننا الجديد.
قال هنري بأسلوبه الموجز القوي: «إنك لا تستطيعين أن تعلمي وحيد القرن حيلة جديدة، ومن الرجال من يشبه هذا الحيوان، فهم لا يستجيبون استجابة صحيحة لعملية التكييف. مساكين أمثال هؤلاء، وبرنارد واحد منهم، ولكنه - لحسن حظه - ممتاز في عمله، وإلا لما احتفظ به المدير.» ثم قال معزيا: «ولكني أظن - على أية حال - أنه عديم الأذى.»
ربما كان عديم الأذى، ولكنه كان كذلك شديد الإزعاج، فعنده أولا ذلك الجنون الذي يحبب إليه العمل وهو منعزل، ومعنى ذلك عمليا أنه لا يعمل البتة شيئا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يؤدي عملا وهو وحيد (إذا استثنينا طبعا ساعات النوم، ولا يستطيع أن يقضي فيها المرء عمره). أجل لم يكن هناك ما يستطيع المرء أن يؤديه وحيدا إلا القليل النادر، وكان أول يوم خرجت فيه ليننا مع برنارد ساعة الأصيل معتدلا جميلا، فاقترحت ليننا أن يسبحا في نادي توركي الريفي، ثم يتناولا العشاء في اتحاد إكسفورد، ولكن برنارد خشي كثرة الزحام، فاقترحت ليننا شوطا من لعبة الجولف المغناطيسي المكهرب في سنت أندروز، ولكن برنارد رفض مرة أخرى؛ لأنه كان يعتبر هذه اللعبة مضيعة للوقت.
فسألته ليننا في شيء من الاندهاش: «وما فائدة الوقت إذن؟»
الوقت عنده - على ما يبدو - ينبغي أن ينفق في النزاهة، سيرا على الأقدام في منطقة البحيرات، وقد اقترح ذلك الآن، وأراد أن يهبطا فوق قمة مكدو، ثم يسيران ساعتين فوق العشب في العراء: «معك وحدك يا ليننا.» - «ولكننا سنقضي الليل كله وحدنا يا برنارد.»
فاحمر برنارد خجلا وأشاح بوجهه، وتمتم قائلا: «إنما قصدت أننا سنكون وحدنا نتحدث.» «نتحدث؟ فيم؟» المشي والحديث؛ تلك طريقة شاذة جدا في قضاء اليوم بعد الظهر.
وأغرته في النهاية - برغم إرادته - على أن يطيرا إلى أمستردام؛ ليشهدا المباراة الشبيهة بالنهائية بين النساء لبطولة المصارعة بين ربات الوزن الثقيل.
وتذمر قائلا: «هذا زحام كالمعتاد.» وبقي طيلة عصر ذلك اليوم مكتئبا معاندا، لم يتحدث إلى أصدقاء ليننا (وقد قابلا منهم عشرات في مقصف السوما الممزوجة بالقشدة المثلجة بين أشواط المصارعة). وبرغم بؤسه رفض رفضا باتا، أن يتناول نصف الجرام من كاساتا التوت، الذي قدمته له، قائلا: «إني أوثر أن أكون أنا نفسي، في اكتئابي، على أن أكون شخصا آخر مهما يكن مرحا.»
فأجابت ليننا قائلة: «إن الجرام الواحد في حينه يغنيك عن تسعة إذا فات الأوان.» وهي في هذا التعبير إنما تستعيد ثروتها القيمة من الحكمة التي لقنتها أثناء النوم.
ولكن برنارد أبعد الكوب الذي قدم إليه وقد عيل صبرا.
فقالت له: «لا تحتد، واذكر أن سنتيمترا واحدا مكعبا يشفي عشرا من العواطف الحزينة.»
فصاح بها: «وحق فورد لتسكتن.»
فهزت ليننا كتفيها وقالت: «إن الجرام خير دائما من ضيق النفس.»
وختمت حديثها محتفظة بكرامتها، وشربت الكساتا بنفسها.
وأصر برنارد ، وهما في طريقهما عائدين فوق القنال الإنجليزي، أن يوقف محرك طائرته، وأن يحلق باللوالب على ارتفاع مائة قدم من الموج؛ لأن الجو قد ساء، وعصفت ريح جنوبية غربية، وتكاثفت السحب في السماء.
وقال آمرا: «انظري!»
قالت ليننا: «الجو مريع.» ثم انكمشت وراء النافذة، فلقد راعها فراغ الليل المقبل، والمياه التي رقش سطحها الزبد المكفهر، وهي تجيش تحت بصريهما، ووجه القمر الشاحب وقد بدا تحت السحب المسرعة نحيلا مشتتا، ثم قالت: «هيا بنا نفتح الراديو بسرعة!» ومدت يدها نحو المفتاح فوق اللوحة الأمامية وأدارته حيثما اتفق.
فإذا بستة عشر صوتا أجش مذبذبا تذيع: «السموات زرقاوات بداخلكم، أما الجو فدائما ...»
ثم أعقب ذلك فواق (زغطة) وصمت، وأوقف برنارد تيار الإذاعة، وقال: «إني أحب أن أنظر إلى البحر وأنا هادئ مطمئن، إن المرء لا يستطيع أن ينظر إليه وسط هذا الضجيج المزعج.» - «ولكنه ممتع، وأنا لا أحب أن أنظر إلى البحر.» - «ولكني أحب، ويجعلني ذلك كأني ...» وتردد قليلا باحثا عن الكلمات التي يعبر بها عن نفسه، ثم قال: «كأني أكثر مما أنا - إذا كنت تفهمين ما أعني، أكثر من نفسي على ألا تتغير طبيعة نفسي، ولا أقصد أن أكون جزءا من شيء آخر مختلف عني كل الاختلاف، لا أحب أن أكون خلية في جسم المجتمع فحسب، ألا يبعث فيك هذا المنظر شعورا كهذا يا ليننا؟»
ولكن ليننا ما برحت تصيح مرددة: «إنه مزعج، إنه مزعج.» ثم قالت: «وكيف تستطيع أن تبوح بحديث كهذا، وتقول إنك لا تحب أن تكون جزءا في جسم المجتمع؟ ألا ترى أن كل فرد يعمل لكل فرد آخر؟ إننا لا نستغني عن أحد، حتى «الهاء» ...»
قال برنارد بازدراء: «أجل إني أعلم ذلك، وأعرف «أن «الهاء» نفسها نافعة!» بل حتى أنا، وكم وددت لو لم أكن.»
وصعقت ليننا لهذا الكفران، واحتجت عليه بصوت ينم عن الدهشة والضيق، قالت: «برنارد، كيف تستطيع ذلك؟»
وقال متفكرا، وفي صوت مختلف مرددا عبارتها: «كيف أستطيع؟ كلا، إن المشكلة الحقيقية هي هذه، كيف لا أستطيع ، أو بعبارة أخرى (لأني أعرف تمام المعرفة لماذا أستطيع)، كيف تكون حالي لو استطعت، ولو كنت حرا غير مستعبد لما كيفت عليه.» - «برنارد، إنك تصرح تصريحات خطيرة.» - «ألست تتمنين أن تكوني حرة يا ليننا؟» - «لست أدرك ما تعني، إنني حرة، وأستطيع لو شئت أن أقضي وقتا سعيدا، كل فرد سعيد في هذه الأيام.»
فضحك وقال: «أجل «إن كل فرد سعيد في هذه الأيام.» ونحن نعلم الأطفال هذه الحقيقة وهم في الخامسة، ولكن ألا تحبين يا ليننا أن تكون لك الحرية، في أن تسعدي بطريقة أخرى؟ ولتكن تلك مثلا طريقتك الخاصة، لا طريقة كل فرد آخر.»
وكررت قولها: «لست أدرك ما تعني.» ثم التفتت إليه، وقالت متوسلة إليه: «هيا بنا نعود يا برنارد، إني أمقت هذا المكان مقتا شديدا.» - «ألا تحبين رفقتي؟» - «إني طبعا أحب ذلك يا برنارد، ولكني أمقت هذا المكان المريع.» - «ظننت أننا نكون ألصق رفقة هنا - وليس حولنا إلا البحر والقمر، هنا نكون ألصق صحبة منا وسط الزحام، أو حتى في حجراتي، ألست تفهمين ذلك؟»
فأجابت مصممة: «لست أفهم شيئا!» وقد اعتزمت أن تحتفظ بعدم إدراكها بغير مساس، وواصلت حديثها بنغمة أخرى، قالت: «لست أفهم شيئا.» وبخاصة لماذا لا تتناول السوما عندما تساورك هذه الأفكار المزعجة، إنك لو فعلت لنسيتها بتاتا، ويحل المرح الشديد في نفسك محل الشقاء، ثم انفرجت شفتاها عن ابتسامة، قصدت من ورائها أن تداهنه وترغبه وتثير شهوته، برغم ما كان يجول في عينيها من القلق والحيرة.
ونظر إليها صامتا بوجه لم يتأثر بها، عليه سيما الجد، وحدق فيها، وبعد بضع ثوان حولت ليننا عنه عينيها، وصدرت منها ضحكة يسيرة عصبية، وحاولت أن تفكر في موضوع تتحدث فيه فلم تستطع، وامتد بهما الصمت زمنا.
وأخيرا تكلم برنارد بصوت منخفض متعب، قال: «سوف نعود كما أردت.» وداس مفتاح السرعة بشدة فانطلقت الطائرة في الهواء، وعند رقم أربعة آلاف أدار المحرك، وطارا صامتين دقيقة أو اثنتين، ثم بدأ برنارد يضحك بغتة ، وكان الضحك في رأي ليننا شاذا ، ولكنه ضحك على كل حال.
ثم تجرأت ووجهت إليه هذا السؤال: «هل أنت الآن أحسن شعورا؟» وبدلا من أن يجيبها على ذلك رفع إحدى يديه من الآلات التي تسير الطائرة، ووضع ذراعه حول خصرها وبدأ يداعب ثدييها.
فقالت لنفسها: «أحمد الله، لقد اطمأن ثانية.»
وبعد نصف ساعة كانا في حجراته، وابتلع برنارد أربعة أقراص من السوما دفعة واحدة، وأدار الراديو والتلفزيون، وبدأ يخلع ملابسه.
ولما تقابلا في عصر اليوم التالي فوق السطح، سألته ليننا في مكر شديد قالت: «هل تظن أننا تمتعنا بالأمس؟»
فأومأ لها برنارد برأسه، ثم اعتليا الطائرة، وبعد هزة خفيفة انطلقت بهما.
وقالت ليننا مفكرة، وهي تربت على ساقيها: «يقول الناس جميعا إني هوائية جدا.»
قال هنري: «جدا.» وفي عينيه تعبير عن الألم، ودار بخلده أنها «كاللحم»، ورفعت بصرها في قلق شديد، وقالت: «ولكن لعلك لا تراني سمينة جدا!» فهز رأسه، وكانت في نظره كاللحم المكتنز.
قالت: «هل تراني صالحة؟» فأومأ بالإيجاب ... قالت: «من جميع النواحي؟»
فقال بصوت مرتفع: «أنت كاملة.» ثم فكر في نفسه: «إنها تحب نفسها كذلك، وإنها لا يهمها أن تكون كاللحم.»
وابتسمت ليننا ابتسامة الظافر، غير أن رضاها كان سابقا لأوانه، وبعد فترة سكون واصل الحديث قائلا: «ولكني - برغم ذلك - كنت أحب أن ينتهي الأمر على خلاف ما حدث.» «على خلاف ما حدث؟» هل هناك نهايات أخرى؟
ففسر ما قصد إليه قائلا: «لم أر أن ينتهي الأمر بذهابنا إلى الفراش.»
فذهلت ليننا. - «لا يكون ذلك بغتة، ولا يكون في اليوم الأول.» - «وإذن فماذا ...؟»
فشرع يتحدث حديثا لا معنى له خطرا غير مفهوم، وبذلت ليننا جهدها محاولة ألا تستمع إلى الحدث أو تتفهمه، ولكنه كان بين الفينة والفينة يصر على أن يلقي عبارته بدرجة مسموعة، سمعته يقول: «... كي أجرب أثر كبح دوافعي.» وكأن هذه الكلمات مست زنبركا في عقلها.
فقالت جادة: «لا تؤجل إلى الغد ما تستطيع اليوم من لهو.»
فلم يجب على ذلك بأكثر من قوله: «التكرار مائتي مرة، مرتين كل أسبوع، من الرابعة عشرة إلى السادسة عشرة والنصف.» وهكذا واصل كلامه الجنوني السيئ بغير انقطاع، وسمعته يقول: «أحب أن أعرف ما الهوى، أحب أن أحس بشيء ما إحساسا قويا.»
ونطقت ليننا هذه العبارة: «إذا أحس الفرد، ترنحت الجماعة.» - «ولماذا لا تترنح قليلا؟» - «برنارد!»
ولكن برنارد لم يشعر بالخزي.
واستمر يقول: «الكبار من الناحية العقلية وأثناء ساعات العمل، والصغار فيما يمس مشاعرهم ورغباتهم.» - «إن إلهنا فورد قد أحب الصغار.»
وتجاهل برنارد هذه المقاطعة وواصل حديثه، قال: «لقد طرأ لي فجأة ذات يوم أنه من الجائز أن يبقى الإنسان راشدا كل الوقت.»
وقالت ليننا بصوت ثابت: «إني لا أفهم.» - «أعرف أنك لا تفهمين، ومن أجل هذا ذهبنا أمس إلى الفراش معا - كالأطفال - بدلا من أن نبقى راشدين فننتظر.»
قالت ليننا: «ولكننا تمتعنا، أليس كذلك؟»
فأجاب بقوله: «أجل، لقد كانت متعة كبرى.» ولكن صوته كان حزينا وقسمات وجهه جد بائسة، حتى إن ليننا أحست أن كل انتصارها قد تبخر فجأة، ربما وجدها سمينة جدا.
ولما عادت ليننا وأسرت لفاني بمكنون صدرها، قالت لها فاني: «لقد قلت لك ذلك، إنه الكحول الذي وضعوه في دمه.»
فأجابت ليننا: «ولكني برغم ذلك أحبه، ما أجمل يديه، وما أرقه حينما يحرك كتفيه - إنه حينئذ يجذبني جذبا شديدا.» وتنهدت ثم قالت: «ولكني أود لو لم يكن شاذا كما هو.»
2
وقف برنارد لحظة خارج غرفة المدير، ثم تنفس نفسا عميقا ورفع كتفيه، واستعد للقاء البغضاء والرفض داخل الغرفة، وقرع الباب ثم دخل.
وقال وهو مبتهج قدر استطاعته: «هذا تصريح لتوقع عليه أيها المدير.» ثم وضع الورقة على المكتب.
ورمقه المدير بنظرة مريرة، ولكنه لمح في أعلى الورقة ختم «مكتب المراقب المالي»، وفي أسفلها توقيع مصطفى مند بخط أسود كبير، وكان كل شيء على أتم نظام، فلم يكن للمدير بعد هذا خيار، فوقع اسمه بالقلم الرصاص، وتوقيعه عبارة عن حرفين صغيرين باهتين حقيرين تحت توقيع مصطفى مند، وأوشك أن يرد الورقة بغير تعليق وبغير السرعة الفوردية الطبيعية، لولا أن جذبت عينه كلمة مسطورة خلال عبارة التصريح.
قال: «إلى المنطقة المكسيكية الجديدة؟» وقد بدا في صوته وفي وجهه الذي رفعه إلى برنارد نوع من الاضطراب والاندهاش.
ودهش برنارد لدهشته وأومأ برأسه، ثم ساد الصمت.
واستند المدير إلى كرسيه مقطبا جبينه، وقال وكأنه يحدث نفسه ولا يخاطب برنارد: «منذ متى كان ذلك؟ أظن أنه كان منذ عشرين عاما، أو قرابة خمسة وعشرين عاما، لا بد أني كنت في مثل سنك ...» ثم تنهد وهز رأسه.
وأحس برنارد بالقلق الشديد، وتعجب كيف أن رجلا كهذا المدير محافظا على التقاليد، مستقيما إلى درجة الوسوسة، يخلط هذا الخلط في الكلام! فكان برنارد يود لو أخفى وجهه أو يخرج من الغرفة مسرعا، لا لأنه كان هو شخصيا يعترض على حديث الناس عن الماضي في حد ذاته، فإن ذلك كان من الأهواء الإيحائية التي خيل لنفسه أنه تخلص منها بتاتا، وإنما الذي أخجله هو أنه أدرك أن المدير رفض الطلب، وبرغم هذا الرفض كان هو نفسه قد ارتكب هذا الأمر المحرم، ولكن تحت أي دافع باطني يا ترى؟ لقد أنصت له برنارد بشغف وهو في قلق شديد.
كان المدير يقول: «لقد طرأت لي مثلك هذه الفكرة بعينها، وأردت أن أشاهد المتوحشين، وحصلت على تصريح لزيارة المكسيك الجديدة، وقضيت هناك عطلة الصيف مع الفتاة التي كنت أرافق في ذلك الحين، وكانت «−ب» وأظن (وهنا أغمض عينيه) أنها كانت ذات شعر أصفر. وكانت على أية حال هوائية جدا، وإني لأذكر ذلك جيدا، ذهبنا معا إلى هناك وألقينا على المتوحشين نظرة، وركبنا الخيل وطفنا بالمكان وما إلى ذلك، وبعدئذ - وكان ذلك في آخر يوم من أيام عطلتي - ضلت سبيلها، لقد صعدنا راكبين أحد تلك الجبال الثائرة، وكان الجو شديد الحرارة ثقيلا، ثم استغرقنا في النوم بعد الغداء، أو على الأقل استغرقت وحدي، ولا بد أن تكون قد خلفتني ومشت وحدها، وعلى كل حال فإني لم أجدها إلى جواري عندما تيقظت، وقد بدأت تهب علينا أشد عاصفة شهدت في حياتي، وأمطرت السماء وأرعدت وأبرقت ، وانحلت الخيل وانطلقت وحدها، وحاولت أن ألحق بها ولكني تعثرت وآذيت ركبتي وتعسر علي المسير، غير أني لم أكف عن البحث والصياح، ولكني لم أعثر لرفيقتي على أثر، فرجحت أنها عادت وحدها إلى الاستراحة، فدلفت إلى الوادي واتبعت الطريق الذي سلكناه عند مجيئنا، وكانت ركبتي تؤلمني أشد الإيلام، وكنت قد فقدت ما عندي من السوما، فاستغرق الطريق مني ساعات، ولم أبلغ الاستراحة إلا بعد منتصف الليل، غير أني لم أجدها، لم أجدها.» ثم ساد الصمت.
واستأنف الحديث أخيرا قائلا: «وفي اليوم التالي واصلنا البحث، ولكنا لم نجدها، ورجحنا أنها وقعت في أحد الخنادق في مكان ما، أو ربما التهمها سبع جبلي، والعلم عند فورد، كان الأمر عجيبا وقد أزعجني كثيرا في ذلك الحين، أزعجني أكثر مما ينبغي؛ لأنه حادث قد يقع لأي إنسان، وجسم الجماعة بالطبع باق كما هو مهما تغيرت الخلايا التي يتركب منها.» ولكن يظهر أن العزاء الذي تلقنه أثناء النوم لم يكن شديد الأثر، فهز رأسه وواصل حديثه بصوت منخفض، قال: «إني - في الواقع - أحلم بهذا الحادث أحيانا، أحلم كأني أستيقظ على قصف ذلك الرعد فلا أجدها، وأحلم كأني أبحث عنها تحت الأشجار.» ثم استرسل في صمت الذكريات.
قال برنارد وهو يكاد يحسده: «أحسب أنها كانت صدمة شديدة لك.»
ولما قرع صوته مسمع المدير، تنبه إلى موقفه وأحس كأنه آثم، فرمق برنارد بنظرة سريعة، ثم حول عنه عينيه وأظلم وجهه خجلا، ثم عاود النظر إليه بشيء من الريبة المباغتة، وغضب لكرامته، وقال: «لا تتصور أني كنت على صلة خبيثة مع هذه الفتاة، لم نتبادل العواطف ولم نتعمق في العلاقات، إنما كانت الصلة بيننا طيبة طبيعية إلى كل حد.» ثم سلم برنارد الجواز قائلا: «إني لست أعرف حقا لماذا ضايقتك بهذه القصة التافهة.» وثار على نفسه؛ لأنه أفشى سرا مشينا، فانفجر في برنارد غاضبا، واتقدت عيناه بالشر الصريح، ثم قال: «وإني لأحب أن أنتهز هذه الفرصة يا مستر ماركس؛ كي أذكر لك أني لست راضيا البتة عن التقارير ، التي وردت إلي عن سلوكك في غير ساعات العمل، قد تقول إن هذا ليس من شأني، ولكني أقول لك إنه ... فإن سمعة المركز تهمني، ولا بد أن يترفع عمالي عما يثير الريب، وبخاصة إن كانوا من الطبقات الراقية، فنحن نكيف أبناء طبقة «أ» بحيث لا يضطرون إلى تكلف السلوك الصبياني في عواطفهم، ويقتضيهم ذلك أن يبذلوا جهدا خاصا في العمل وفقا لما نريد، إن من واجبهم أن يكونوا كالأطفال، حتى إن كان ذلك ضد ميولهم؛ ولذا فلست أظلمك إن أنا أنذرتك يا مستر ماركس.» واهتز صوت المدير هزة الغضب، وكان في غضبه عادلا غير متحيز - فهو يعبر عن عدم رضا المجتمع نفسه، ثم قال: «فلو نمي إلي مرة أخرى أنك انحرفت عن المستوى الصحيح للسلوك الصبياني، فسوف أطلب نقلك إلى مركز فرعي - وإني عندئذ أختار لك أيسلنده، والآن اذهب مع سلامة الله.» ثم استدار في كرسيه، وأمسك بالقلم وشرع يكتب.
وقال محدثا نفسه: «هذا درس له.» ولكنه أخطأ فيما زعم؛ لأن برنارد خرج من الغرفة مترنحا، ثم أغلق الباب محدثا خلفه صوتا عاليا، هو مغتبط لأنه يقف وحده في كفاحه ضد النظم القائمة، نشوان لأنه ثمل من إحساسه بأهمية شخصيته المستقلة وخطرها، حتى إن فكرة الاضطهاد نفسها لم تزعجه، بل لقد أكسبته قوة أكثر مما أكسبته انقباضا، وأحس بالقدرة الكافية على ملاقاة المصائب والتغلب عليها، وعلى أن يواجه أي شيء حتى أيسلنده، وقد عزز هذه الثقة في نفسه؛ لأنه لم يعتقد لحظة أنه سيدعى فعلا لملاقاة أي خطر. إن الناس لا ينقلون لمثل هذه الأسباب، وليست أيسلنده سوى وعيد وتهديد، وهو وعيد منبه للنفس وباعث على الحياة، وسار في الردهة وهو يصفر فعلا.
وكان كالأبطال ذلك المساء وهو يروي ما دار بينه وبين المدير، وختم الرواية قائلا: «ولذا فقد طلبت إليه أن يعود إلى الماضي السحيق، ثم تركت الغرفة، وهذا كل ما حدث.» ونظر إلى هلمهلتز واطسن يترقب منه ما يستحق من عطف وتشجيع وإعجاب جزاء له على ما فعل ، ولكن هلمهلتز لم ينبس ببنت شفة، ولبث صامتا محدقا في أرض الغرفة.
كان يحب برنارد، وكان شاكرا له؛ لأنه الصديق الوحيد الذي يستطيع أن يتحدث معه في الموضوعات التي يؤمن بأهميتها، ولكن برنارد - برغم ذلك - كانت له صفات لا يحبها، منها - مثلا - هذا الزهو، وما يستتبعه من تحمسه في إشفاقه على نفسه إشفاقا شديدا، ومنها تعوده الجرأة عقب كل حادث، وحضور بديهته بدرجة غير مألوفة، وهو بعيد عن ذلك الحادث، وهي عادة ممقوتة، كان يكره منه هذه الصفات؛ لأنه كان يحبه، ومرت الثواني وما فتئ هلمهلتز يصوب نظره نحو الأرض، واحمر برنارد خجلا ثم انصرف بغتة.
3
لم يقع أثناء الرحلة حادث ما، وبلغت طائرة الباسفيك الأزرق الصاروخية نيو أورليانز مبكرة دقيقتين ونصف، وضيعت أربع دقائق في العاصفة التي هبطت على تكساس، ولكنها طارت في تيار هوائي ملائم عند خط الطول 95 غربا، واستطاعت أن ترسو عند سانتا فيه، وقد تأخرت أقل من أربعين ثانية عن الموعد المقرر.
قال: «أربعون ثانية في رحلة جوية دامت ست ساعات ونصف، لا بأس.» وأذعنت له ليننا.
وناما تلك الليلة في سانتا فيه في فندق فاخر، لا يقاس إليه البتة - مثلا - فندق أورورا بورا بالاس المريع، الذي عانت فيه ليننا كثيرا في الصيف السابق، كل غرفة هنا مزودة بالهواء السائل، والتلفزيون وبآلة التدليك المفرغة المذبذبة، والراديو، ومحلول الكافيين المغلي، وأدوية حارة ضد الحمل، وثمانية أنواع مختلفة من العطور، وكانت آلة الموسيقى المركبة تعزف عندما دخلا القاعة الكبرى، ولم يبق لهما ما يشتهيان، وقرآ في المصعد إعلانا بأن الفندق به ستون ملعبا لسكواش السلم، وأن جولف الموانع والجولف المغناطيسي المكهرب يمكن كلاهما أن يلعبا في الحديقة.
فصاحت ليننا قائلة: «ما أجمل هذا! وودت لو أقمنا هنا ستون ملعبا لسكواش السلم ...»
فأنذرها برنارد قائلا: «ولكنك لن تجدي في منطقة المتوحشين ملعبا واحدا، ولن تجدي هناك عطورا أو تلفزيونا، بل ولا ماء ساخنا، فإن كنت تعتقدين أنك لا تحتملين ذلك، فالبثي هنا حتى أعود.»
فامتعضت ليننا وقالت: «أستطيع بالطبع أن أحتمل ذلك، وإنما قلت: إن المكان جميل هنا؛ لأن ... لأن التقدم جميل، أليس كذلك؟»
فأجاب برنارد وكأنه يحدث نفسه من شدة الانهيار: «التكرار خمسمائة مرة كل أسبوع، من الثالثة عشرة حتى السابعة عشرة.» - «ماذا تقول؟» - «قلت: إن التقدم جميل؛ ومن ثم فلا ينبغي لك أن تأتي إلى منطقة المتوحشين إلا إن كنت حقا تحبين ذلك.» - «إني لأحب ذلك.»
فقال لها برنارد، وكأنه يهددها: «حسنا، وليكن ذلك.»
وكان جوازهما يقتضي توقيع حارس المنطقة، فقدما له نفسهما في مكتبه في الوقت المناسب في اليوم التالي، وتسلم بطاقة برنارد بواب زنجي من طراز «+ه»، وسمح لهما بالدخول فورا.
وكان الحارس رجلا أشقر اللون، صغير الرأس، من نوع «−أ»، قصيرا متوردا، وجهه كالقمر، عريض المنكبين، ذا صوت قوي مرتفع، يلائم أشد الملاءمة النطق بحكم الإيحاء أثناء النوم، وكانت لديه ثروة من المعارف التي لا تتصل بالموضوع، يسدي النصيحة الطيبة دون أن يطلب ذلك إليه أحد، وإن بدأ أخذ يتدفق بصوت كقصف الرعد. - «خمسمائة وستون ألف كيلومتر مربع، مقسمة إلى مناطق فرعية منفصلة، يحيط بكل منها سور من الأسلاك الشديدة التوتر.»
وفي هذه اللحظة ولغير ما سبب واضح، تذكر برنارد فجأة أنه ترك صنبور الكولونيا في حمامه، مفتوحا يتصبب منه العطر. - «وتستمد التيار من محطة المجاري المائي الكهربي الكبير.»
ورأى برنارد بمخيلته الإبرة فوق مقياس العطر، تتقدم تدريجا بسرعة النملة ولكنها لا تفتر، فقال: «إن ذلك يكلفني ثروة طائلة حتى أعود، فخابروا هلمهلتز تلفونيا على عجل.» - «أكثر من خمسة آلاف كيلومتر من الأسوار بقوة ستين ألف فولت.»
فقالت ليننا: «لا تقل ذلك.» ولم تدرك البتة ما قاله الحارس، ولكنها فهمت ما يعني تلميحا من سكوته، الذي كان يحاكي سكوت الممثلين، وكانت قد ابتلعت نصف جرام من السوما دون أن يراها أحد، قبلما يشرع الحارس في الكلام بصوته المجلجل، فكانت النتيجة أنها استطاعت الآن أن تجلس هادئة غير مصغية، لا تفكر في شيء مطلقا، وعيناها الزرقاوان الواسعتان محدقتان في وجه الحارس كأنها متنبهة مشغوفة.
وقال الحارس جادا: «ومن يلمس السور يمت في الحال، وليس من منطقة المتوحشين مفر.»
وقد أوحت هذه الكلمة الأخيرة «مفر» لبرنارد، أن ينهض قليلا ويقول: «يجب أن نفكر في الانصراف الآن.» وقد تخيل الإبرة الصغيرة السوداء دائبة في مسيرها، كالحشرة تأكل ما له قضما مع كر الساعات.
فرده الحارس إلى كرسيه، وكرر قوله: «لا مفر.» وحيث إنه لم يوقع بعد على الجواز فلم ير برنارد بدا من الطاعة، ثم قال الحارس: «إن أولئك الذين يولدون في المنطقة، لا بد لهم أن يموتوا فيها.» ثم قال وقد نظر إلى ليننا شزرا ورمقها بنظرة فاحشة، وتحدث في همس غير مألوف: «اذكري يا آنستي العزيزة أن الأطفال لا يزالون يولدون في المنطقة. أجل إنهم ليولدون، وقد يبدو لك ذلك أمرا منفرا ...» (وكان يأمل أن تخجل ليننا هذه الإشارة إلى موضوع مخجل، ولكنها اكتفت بالابتسام وتكلفت الإدراك، وقالت: «لا تقل ذلك.» فشعر الحارس بالخذلان).
لا بد أن يموتوا ... عشر لتر من الكولونيا كل دقيقة، أي ست فترات في الساعة، فحاول برنارد الكلام مرة أخرى، قال: «يجب أن نفكر في ...»
وانحنى المدير إلى الأمام، وقرع المائدة بسبابته وقال: «تسألونني كم من الناس يعيش في المنطقة، وأجيبكم أني لا أعرف، لكني أستطيع أن أحدس.» وأحس بإحساس الرجل الظافر. - «لا تقل ذلك.» - «آنستي العزيزة، إني أقول لذلك.»
6 × 24، بل ما يقرب من 6 × 36، فاستولى القلق على برنارد وشحب وجهه وارتجف، ولكن جلجلة الحارس استمرت بغير انقطاع. - «ما يقرب من ستين ألف هندي ومولد ... في منتهى التوحش ... ومفتشونا بين الفينة والفينة يزورون ... وإلا انقطعت كل صلة لهم بالعالم المتمدن ... لا يزالون يحتفظون بعاداتهم وطبائعهم المنفرة ... الزواج، إن كنت تفهمين ما أعني يا آنستي العزيزة، والعائلات ... وعدم التكييف ... والخرافات الشنيعة ... والمسيحية والطوطمية
1
وعبادة الأسلاف ... واللغات البائدة مثل لغة زوني والأسبانية والأثباسكانية ... والسبع الجبلي والقنافد والحيوانات المفترسة الأخرى ... والأمراض المعدية ... والقسس ... والسحليات السامة ...» - «لا تقل ذلك!»
وانصرفا أخيرا! فأسرع برنارد إلى التليفون، ولكنه استغرق ما يقرب من خمس دقائق حتى استطاع أن يتصل بهلمهلتز واطسن، وشكا قائلا: «ربما كنا الآن بين المتوحشين بالفعل، ألا قاتل الله العجز!»
واقترحت عليه ليننا أن يتناول جراما.
ولكنه رفض وآثر أن يبقى غاضبا، وأخيرا حمد فورد؛ لأنه استطاع أن يتصل بهلمهلتز فشرح له ما حدث، ووعده هلمهلتز أن يذهب رأسا إلى الصنبور فيغلقه، ولكنه انتهز هذه الفرصة، وبلغه ما قاله المدير علنا مساء الأمس.
فقال برنارد في صوت ينم عن الألم: «ماذا؟ لعله يبحث عن أحد يحله محلي، وهل انتهى الأمر على ذلك؟ هل ذكر أيسلنده؟ تقول إله؟ يا لله! أيسلنده ...» ثم علق السماعة والتفت إلى ليننا، وكان وجهه شاحبا وعلى وجهه سيما الحزن الشديد.
فسألته: «ما الأمر؟»
وأجابها: «الأمر أنني سوف أبعث إلى أيسلنده.» ثم خر على أحد المقاعد متثاقلا.
ولطالما تعجب في الماضي ماذا يكون إحساس المرء، إذا أصابته محنة أو ألم أو تعرض لاضطهاد (وهو لا يتناول السوما، ولا يعتمد إلا على موارده الباطنية)، بل لقد كان يود لو أصابته إحدى الملمات، ومنذ أسبوع واحد فقط، وهو في مكتب المدير، تخيل أنه سوف يقاوم بشجاعة، وسوف يتقبل المصيبة هادئا دون أن يتفوه بكلمة واحدة، وقد جعله تهديد المدير يحس بعلو النفس فعلا، ويشعر كأنه أعظم من الحياة نفسها، ولكنه أدرك الآن أنه إنما أحس بذلك؛ لأنه لم يتلق التهديد جادا، ولم يعتقد أن المدير سوف يبرم أمرا عندما يتحرج الموقف، والآن حينما أدرك برنارد أن المدير سوف ينجز بالفعل ما هدد به من قبل أصابه ذعر شديد، ولم تبق بنفسه بارقة من ذلك الهدوء الذي كان يتخيله أو تلك الشجاعة النظرية.
ثار في وجه نفسه - يا له من أحمق! - وثار ضد المدير - إنه لم يكن عادلا؛ لأنه لم يعطه الفرصة الأخرى، التي لم يشك الآن في أنه كان دائما يعتزم انتهازها، ثم إن أيسلنده، أيسلنده ...
وهزت ليننا رأسها وقالت: «لقد جعلتني وسوف تجعلني عليلة، سأتناول جراما وأعود كما كنت.»
وفي النهاية أغرته أن يبتلع أربعة أقراص من السوما ، وبعد خمس دقائق اختفت الجذور والثمار ،
2
ولم تبق إلا زهرة الحاضرة متوردة متفتحة، ثم بلغهما حارس الباب رسالة من الحارس، فحواها أن حارسا من حراس المنطقة قد وصل بطائرته، وهو بانتظارهما فوق سطح الفندق فصعدا في الحال، وحياهما رجل يجري فيه بعض دم الزنوج، ويرتدي زيا أخضر كزي طبقة «ج»، ثم شرع يتلو برنامج الصباح.
نظرة عاجلة لعشر قرى أو اثنتي عشرة قرية من قرى الزنوج الكبرى، ثم يهبطان للغداء في وادي مالبي في بيت مريج، وفي تلك القرية يحتمل أن يكون المتوحشون محتفلين بعيد الصيف، ويكون ذلك الاحتفال إذن خير مكان يقضيان فيه المساء.
واتخذا مكانهما من الطائرة وانطلقا، وبعد عشر دقائق كانا يعبران الحدود، التي تفصل المدنية من الهمجية في الأودية وفوق التلال، وعبروا الصحراوات الملحية والرملية، وخلال الغابات، وفي أعماق الأخاديد البنفسجية اللون، وفوق القمم والصخور الناتئة والهضاب المستوية، وكأنه الخط المستقيم أو الرمز الهندسي، الذي يدل على قوة الإرادة الإنسانية التي لا تقاوم، وعند سفح السور، هنا وهناك، كانت العظام البيضاء الشبيهة بالفسيفساء، والجثث التي لم تتعفن بعد الملقاة على الأرض التي لفحتها الشمس، تدل على أن الغزلان والعجول والسباع والقنافد والذئاب وذكور الباز الشرهة، قد جذبتها رائحة الجيف، وكأن العدالة الإلهية قد أثارت سخطها، فاقتربت جدا من الأسلاك المهلكة.
قال السائق ذو الزي الأخضر: «إنهم لا يتعلمون أبدا.» وأشار إلى الهياكل الملقاة على الأرض تحت أبصارهم، ثم قال: «ولن يتعلموا!» وضحك كأنه انتصر شخصيا على الحيوانات التي قتلتها الكهرباء.
وضحك برنارد كذلك، وكان قد تناول جرامين من السوما، فتصور أن النكتة طيبة لسبب ما، ضحك ثم غلبه النعاس في الحال، وحلق وهو نائم فوق تاوز وتسك، وفوق ناسب ويكيورس بوجوك، وفوق سيا وكوشيتي، وفوق لاجونا وأكوما وميزا المسحورة، وفوق زولي وكيبولا وأوجو كالينتيه، ثم تيقظ أخيرا فألفى الطائرة واقفة فوق الأرض، وليننا تحمل حقائب الملابس في بيت صغير مربع، والحارس الذي يجري فيه الدم الزنجي، والذي يرتدي زي «ج» الأخضر يتحدث حديثا غير مفهوم مع رجل هندي شاب.
وقال قائد الطائرة حينما كان برنارد خارجا منها: «نحن في مالبي، وهذه هي الاستراحة، وفي عصر هذا اليوم رقص في قرية الزنوج.» وأشار إلى الرجل الهمجي الشاب المكتئب قائلا: «إنه سوف يصحبك إلى هناك.» ثم قال متجهما: «إنه مضحك، وكل ما يفعله الناس من أمثاله يثير الضحك.» ثم نزل في الطائرة وأدار المحركات، وقال: «سأعود غدا» - ثم قال لليننا مؤكدا عليها: «واذكري أنهم في منتهى الألفة، إن هؤلاء الهمج لن يصيبوك بأذى، إن لديهم تجارب كافية عن القنابل الغازية، فهم يدركون أن العبث لا يجوز.» وحرك لوالب الطائرة وهو ما يزال يضحك، وزاد من سرعتها، ثم اختفى.
الفصل السابع
كانت الهضبة شبيهة بسفينة راسية في بوغاز من رمال لونها كلون الأسد، والقنال يلتوي بين السواحل الرأسية، وينحرف من حائط إلى آخر عبر الوادي شريط أخضر - وذلك هو النهر وما حوله من حقول، وفي مقدمة تلك السفينة الصخرية وسط المضيق، كانت تقع قرية مالبي للزنوج، وكأنها جزء من المقدمة، وهي نتوء صخري عار ذو شكل هندسي، وكنت ترى البيوت سامقة طابقا فوق طابق، وكل طابق أصغر مما تحته، كأنها أهرام مدرجة مبتورة تناطح السماء الزرقاء، وتقع عند سفوحها مبان منخفضة متناثرة، وهي عبارة عن مجموعة من الحوائط المتقاطعة، وجوانب الهضبة من ثلاث جهات تنحدر رأسا في قلب الوادي، وكانت بعض أعمدة الدخان ترتفع رأسا في الهواء الساكن، ثم تختفي.
فقالت ليننا: «يا للعجب، يا للعجب!» وقد اعتادت هذه الكلمات إذا سخطت على شيء، ثم قالت: «إني لا أحب هذا النظر، ولا أحب ذلك الرجل.» وأشارت إلى المرشد الهندي الذي عين لمرافقتهما إلى القرية، وكان من الجلي أن الرجل يبادلها مقتا بمقت، حتى إن ظهره وهو يتقدمهم كان ينم عن العداوة والازدراء والغم الشديد.
وأخفضت صوتها وقالت: «وفضلا عن ذلك؛ فإن له لرائحة كريهة.»
ولم يحاول برنارد أن ينكر ذلك، ثم تابعا المسير.
وشعرا فجأة كأن الهواء قد تحرك، ونبضت عروقهما بحركة الدم التي لا تفتر، وكانت الطبول تدق في مالبي، فوقعا بأقدامهما على ذلك النغم العجيب، ثم أسرعا الخطى، وأدى بهما الطريق إلى سطح الجرف، وكانت جوانب الهضبة تعلوهما وترتفع ثلاثمائة قدم.
قالت ليننا وقد نظرت باستياء شديد إلى سطح الصخر المرتفع الأجرد: «وددت لو أنا أحضرنا معنا الطائرة، فإني أكره المشي، كما أن المرء يشعر بصغره الشديد، وهو على الأرض عند سفح التل.»
وسارا معا مسافة ما في ظل الهضبة، ودارا حول نتوء صخري، فإذا بهما عند أخدود شقته المياه، فأخذا يصعدان الدرج المرافق، وكان الطريق إلى أعلى شديد الانحدار يلتوي من جانب إلى آخر فوق سطح الأخدود، وكان دق الطبول حينا ضعيفا غير مسموع، وحينا قويا كأنه على مقربة شديدة منهما.
ولما بلغا منتصف الطريق إلى أعلى طار إلى جانبهما نسر، وكان قريبا منهما جدا حتى إن الريح التي حركتها جناحاها هبت باردة على وجهيهما، وفي فجوة من فجوات الصخر شاهدا كومة من العظام، وكان كل شيء جد عجيب، ورائحة الهندي الكريهة تشتد شيئا فشيئا، وخرجا أخيرا من الأخدود إلى ضوء الشمس القوي، وكانت قمة الهضبة سطحا مستويا من الصخور.
فقالت ليننا: «ما أشبهه ببرج شارنج-ت.» غير أن الفرصة لم تتح لها كي تستمتع بهذه المشابهة القوية طويلا، فقد سمعا وقع أقدام لينة فالتفتا إليه، فإذا باثنين من الهنود يركضان فوق الطريق، وهما عاريان من العنق إلى السرة، وجسماهما الأسمران القاتمان ملونان بخطوط بيضاء (وقد شبهتهما ليننا فيما بعد بملاعب التنس الأسفلتية)، ووجهاهما أسودان كالحديد ملطخان باللوثات القرمزية، فهما لا يشبهان الوجوه البشرية، وشعرهما الأسود مضفور بفراء الثعلب والفانلة الحمراء، وتتطاير فوق أكتافهما عباءة من ريش الديكة الرومية، ويتوجان رأسيهما بأكاليل الريش الضخمة الزاهية، وأساورهما الفضية وعقودهما الثقيلة المصنوعة من العظم ومن حبات الفيروز تجلجل وتخشخش كلما خطوا إلى الأمام، وتقدما صامتين، وأسرعا هادئين في أخفاف من جلد الغزال، وأمسك أحدهما بفرجون من الريش، وحمل الآخر في كلتا يديه أشياء، بدت على بعد كأنها ثلاثة قطع أو أربع من الحبال، وأحد هذه الحبال يلتوي بعسر شديد، وأدركت ليننا بغتة أن هذه الحبال إن هي إلا ثعابين.
واقترب الرجلان، وحدقا فيهما بعيونهما السود، ولكن دون أن تصدر منهما إشارة تدل على معرفتهما، أو أية علامة تشير إلى أنهما قد رأياها فعلا أو أدركا وجودها، وارتخى الثعبان الملتوي مرة أخرى، وتدلى على بقية الثعابين، ثم مر الرجلان.
قالت ليننا: «إنني لا أحب هذا المنظر بتاتا.»
وكانت أشد مقتا لما لقيته عند مدخل القرية، حيث خلفهما المرشد ودخل البلد كي يتلقى الأوامر. تقززت ليننا أولا من القاذورات ومن أكوام النفايات والتراب والكلاب والذباب، فتجعد وجهها والتوى اشمئزازا، ورفعت منديلها إلى أنفها.
وانفجر صوتها حانقة لا تكاد تصدق ما ترى، وقالت: «كيف يمكنهم العيش هنا؟ (ولقد كان العيش بالفعل مستحيلا في ذلك المكان).»
وهز برنارد كتفيه متفلسفا وقال: «على أية حال، إنهم عاشوا هنا حتى الآن خمسة آلاف عام أو ستة آلاف؛ ولذا فإني أظن أنهم الآن متعودون.»
وأصرت ليننا قائلة: «ولكن النظافة من الإيمان.»
واستمر برنارد قائلا: «نعم والمدنية تعقيم.» مرددا في سخرية الدرس الإيحائي الثاني من مبادئ علم الصحة، ثم قال: «ولكن هؤلاء الناس لم يسمعوا بفورد وهم غير متمدنين؛ ولذا فلا يهم ...»
وقضبت على ذراعه مذعورة، وقالت: «انظر!»
وكان حينذاك رجل هندي عار كله تقريبا، يهبط على السلم المتنقل مبطئا من ردهة الطابق الأول في المنزل المجاور، وأمسك بالقضيب تلو القضيب، وهو يرتجف من الحرص كأنه شيخ عجوز، وكان وجهه أسود عميق التجاعيد، كأنه قناع من الصخر اللامع، وانفرج ثغره عن فم بغير أسنان، وفي طرفي شفتيه وعلى جانبي ذقنه أبرقت بضع شعرات خشنة طويلة بيضاء وسط البشرة السوداء، وتدلى شعره الطويل غير مضفور في خصل رمادية حول وجهه، وقد احدودب ظهره وهزل جسمه، حتى برزت عظامه وتغضن لحمه، وهبط في بطء شديد، وكان يقف عند كل قضيب من قضبان السلم، قبل أن يجرؤ على الهبوط درجة أخرى.
فهمست ليننا قائلة: «ما علته؟» وقد انفرجت عيناها فزعا ودهشة.
فأجابها برنارد بقدر ما استطاع من إهمال قائلا : «كل ما في الأمر أنه عجوز !» وقد أصابه هو كذلك الذعر، غير أنه بذل الجهد في إخفاء تأثره.
فرددت لفظه قائلة: «عجوز؟ إن المدير عجوز، وكثير من الناس عجائز، ولكنهم ليسوا كهذا الرجل.» - «ذلك لأننا لا نسمح لهم أن يظهروا بهذا المظهر، فنحن نحميهم من الأمراض، ونحفظ لهم إفرازهم الداخلي بطريقة صناعية، على حاله كما كان أيام الشباب، إننا لا نسمح لما عندهم من مغنزيوم الكلسيوم أن يهبط نسبته إلى أقل مما كانت عليه في الثلاثين، إننا ننقل إليهم دماء الشباب، وكذلك نقوي فيهم دائما القدرة على تجديد ما يستهلكون من أبدانهم؛ ولذا فهم بالطبع لا يظهرون بهذا المظهر، ويرجع ذلك - إلى حد ما - إلى أن أكثرهم يموتون قبل أن يبلغوا سن هذا المخلوق العجوز، إنهم يحتفظون بفتوة الشباب كاملة حتى الستين، ثم تنتهي حياتهم فجأة.»
ولكن ليننا لم تصغ إليه، بل كانت ترقب العجوز وقد هبط في بطء شديد، ومست قدماه الأرض ثم التفت، ولمعت عيناه ببريق غير معهود، وهما غائرتان في محجريهما، وصوبهما نحوها برهة طويلة. لا يدلان على شيء، ولا يعبران عن دهشة، كأنها لم تكن هناك، ثم أخذ يحجل متباطئا إلى جوارهما ببطء شديد وبظهر محدودب، ثم اختفى.
فهمست ليننا قائلة: «إنه مريع، إنه مخيف، وما كان ينبغي لنا أن نأتي إلى هذا المكان.» وفتشت في جيبها عن السوما - فوجدت أنها تركت الزجاجة في الاستراحة سهوا، وهو ما لم يحدث لها من قبل، وكذلك كانت جيوب برنارد فارغة.
ولبثت ليننا في مالبي تواجه الفزع بغير معين، وقد تكاثرت أسباب الفزع حولها وتلاحقت، أخجلها مشهد سيدتين في سن الشباب، وقد قدما أثداءهما لصغارهما فأشاحت عنهما بوجهها، إنها لم تر في حياتها منظرا بشعا كهذا. ومما زاد الطين بلة أن برنارد بدلا من أن يتجاهله بلباقة، بدأ يعلق صراحة على هذا المنظر المنفر الذي يدل على التناسل بطريقة غير طريقة التفريخ، وكان أثر السوما قد زال، فأحس بالخجل من الضعف الذي أبداه في الفندق ذلك الصباح، وأراد أن يظهر قوته وعدم تقيده بالأصول المرعية .
وقال في ثورة متكلفة: «ما أجمل تلك العلاقة وما أحبها إلى النفوس، وما أغزر ذلك الشعور الذي تولده هذه العلاقة! لطالما جال بخاطري أن المرء يفقد شيئا ما إذا لم تكن له أم، ولربما فقدت الكثير يا ليننا؛ لأنك لم تكوني أما، تصوري نفسك جالسة هناك ومعك طفلك الصغير الخاص ...»
وقالت: «كيف تجرؤ على هذا القول يا برنارد؟» ثم صرفها عن غضبها مرور امرأة عجوز، مصابة بالرمد وبمرض جلدي.
ثم قالت: «دعنا ننصرف، إني لا أحب هذه المناظر.»
وعندئذ عاد مرشدهما وأشار إليهما أن يتقفيا أثره، ثم تقدمهما وسار نحو الطريق الضيق الذي يقع بين البيوت، وساروا جميعا حول أحد الأركان، وأبصرا كلبا ميتا ملقى على كومة من المخلفات القذرة، وامرأة تضخمت غدتها الدرقية تبحث عن القمل في شعر فتاة صغيرة، ثم وقف المرشد عند أسفل أحد السلالم المتنقلة، ورفع يده عمودية ثم دفعها أفقية إلى الأمام، وفعلا ما أمرهما به بالإشارة دون الكلام، فتسلقا السلم، وولجا الباب الذي يؤدي السلم إليه، فإذا بهما في غرفة طويلة ضيقة، مظلمة تنتشر فيها رائحة الدخان والدهن المطبوخ والملابس البالية القذرة، وكان في الطرف الآخر من الغربة باب آخر ينفذ منه شعاع من ضوء الشمس وضجيج الطبول القريبة.
ووطئت أقدامهما عتبة الباب فألفيا نفسهما في دهليز فسيح، وتحت أبصارهما ميدان القرية تتحوطه المنازل المرتفعة من جميع النواحي ويموج بالهنود، فلمحوا الأردية البراقة، والريش في الشعر الأسود، ولألأة الفيروز، والجلود السوداء التي تلمع وتشع الحرارة، فوضعت ليننا منديلها على أنفها مرة أخرى، وكان بالفضاء الذي يقع وسط الميدان رصيفان مستديران مشيدان من الصلصال المضغوط - ومن الواضح أن تلك كانت سطوح حجرات تحت الأرض؛ لأنهما شاهدا وسط كل رصيف بابا مفتوحا، يخرج منه سلم يبرز من الظلام السفلي، وطرق أسماعهما مزمار يعزف في باطن الأرض، غير أنه يكاد يتلاشى في دق الطبول الثابت المتصل الذي لم يعبأ بأحد.
وكانت ليننا تحب دق الطبول، فانغمضت عيناها واسترسلت مع ذلك الصوت المتكرر الذي يشبه قصف الرعد، ومكنته من أن يتغلغل في شعورها وإحساسها شيئا فشيئا، حتى لم يبق في العالم في نهاية الأمر، سوى نبضات الطبل الشديدة المتوالية، وذكرها ذلك الصوت تذكيرا قويا بالضوضاء المصطنعة، التي تحدث في صلاة الجماعة وفي الاحتفال بعيد فورد، فدمدمت قائلة «شولم، شولم.» إذ إن الطبل الذي طرق سمعها كان يدق على هذا النغم.
ثم تفجر الغناء بغتة فتنبهت ليننا. كانت أصوات المئات من الذكور تصيح معا بشدة، وكأنها رنين المعدن الغليظ، وأنشد المغنون بضع نغمات طويلة ثم صمتوا، وبقيت الطبول وحدها تجلجل كالرعد، ثم أجاب النسوة بصوت حاد كأنه الصهيل المرتفع، ثم عادت الطبول إلى دقها، وعاد الرجال المتوحشون إلى غنائهم، بصوت عميق يؤكد رجولتهم. عجيب حقا، كان ذلك المكان عجيبا، وكذلك كانت الموسيقى، وكذلك كانت الأزياء والغدد الدرقية المتضخمة، والأمراض الجلدية والشيوخ المسنون، أما الأداء نفسه فلم يكن فيه ما يستدعي العجب بصفة خاصة.
وقالت لبرنارد: «يذكرني هذا بالغناء الجماعي للطبقات الوضيعة.»
ولكن بعد فترة قصيرة لم يعد هذا الغناء يذكرها - كما كان يفعل من قبل - بغناء الطبقات الفقيرة الذي لا يعود على أحد بالضرر، إذ إنها شهدت بغتة جماعة شاحبة اللون، من أولئك المتوحشين تخرج من تلك الحجرات السفلية وتتجمهر، وكان أفراد تلك الجماعة يبدون في هيئة زرية، يختلفون عن البشر في مظهرهم كل الاختلاف، وقد بدءوا يدبون حول الميدان، وهم يرقصون رقصة غريبة مرتخية، وأخذوا يدورون حول الميدان مرة بعد أخرى مغنين وهم يرقصون - وكانوا يسرعون في كل رقصة عن الرقصة السابقة. وتغير دق الطبول وأسرع في النغم، حتى أصبح مسمعها كنبض الحمى في الآذان، وشرعت الجماهير تغني مع الراقصين، وعلا غناؤهم، وقد صاحت إحدى النسوة، ثم تبعتها ثانية فثالثة كأنهن يقتلن، وبعدئذ خرج عن الصف بغتة قائد الفرقة الراقصة، واندفع نحو صندوق خشبي كبير قائم في طرف من أطراف الميدان، ثم رفع الغطاء وأخرج ثعبانين أسودين، فانفجرت الجماهير صائحة، وجرى بقية الراقصين نحوه ومدوا له أيديهم، فألقى الثعبانين على أول القادمين ، ثم أدخل يده في الصندوق ليخرج غيرهما، وتكاثرت الثعابين، منها الأسود ومنها البني ومنها المرقش - وقد طوحها جميعا، ثم بدأ الرقص مرة أخرى على نغمة أخرى، فداروا حول الميدان يحملون الثعابين ويتلوون مثلها، ويتماوجون تماوجا خفيفا عند الركب والأرداف، ثم أشار لهم قائدهم، فألقيت الثعابين واحدا بعد الآخر وسط الميدان، وظهر حينئذ رجل عجوز من تحت الأرض ونثر فوقها دقيق الحنطة، وخرجت من الفتحة الأخرى امرأة رشت فوقها الماء من وعاء أسود، وعندئذ رفع الشيخ يده، فصمت الجميع مذعورين خائفين، وكفت الطبول عن الدق وكأن الحياة قد انعدمت من كل شيء، وأشار الشيخ صوب الفتحتين اللتين تؤديان إلى العالم السفلي، وقد برز من إحداهما تمثال نسر ملون، رفعته في بطء شديد أياد مختفية، وبرز من الفتحة الأخرى تمثال رجل عار مسمر فوق صليب، وبقيا هناك معلقين، وكأن كلا منهما يقيم نفسه، وكأنهما يرقبان. وصفق الشيخ بيديه، وتقدم من الجمع الحاشد غلام في الثامنة عشرة من العمر تقريبا، عاري الجسد لا يتستر إلا بقطعة يسيرة من القماش عند ردفيه، ووقف أمام الشيخ، ويداه متصالبتان فوق صدره، ورأسه منحن، فرسم الشيخ فوقه علامة الصليب ثم انصرف، فشرع الغلام يسير مبطئا حول كومة الثعابين الملتوية، وبعد ما أتم الدورة الأولى وقطع من الثانية نصفها، تقدم نحوه من بين الراقصين رجل طويل القوام، يتقنع بجلد الذئب ويمسك في يده سوطا من الجلد المضفور، فتحرك الغلام كأنه لا يعلم بوجود الرجل، فرفع الرجل المستذئب سوطه، وتعلقت الأنفاس لحظة طويلة في ارتقاب ما عساه يحدث، ثم تحرك الرجل حركة سريعة أعقبها صفير السوط وهو يهبط، وصوته الضخم وهو يمس جسد الغلام، واهتز جسم الصبي، ولكنه لم يحدث صوتا، بل واصل سيره محتفظا بخطوته البطيئة الثابتة، وأخذ الرجل المستذئب يضربه مرة بعد أخرى، وعند كل ضربة يعلو من الجمهور اللهاث، الذي يعقبه الأنين العميق، وظل الغلام يدور للمرة الثانية، فالثالثة، فالرابعة، والدم يتدفق منه، ثم دار للمرة الخامسة فالسادسة، فحجبت ليننا لفورها وجهها بيديها، ثم أجهشت بالبكاء ، وقالت متوسلة: «أوقفوهم، أوقفوهم.» ولكن السياط توالت بغير انقطاع، ودار الغلام دورته السابعة، ثم ترنح وخر على وجهه صريعا دون أن ينبس ببنت شفة، فانحنى فوقه الشيخ ومس ظهره بريشة طويلة بيضاء، ثم رفع الريشة ليراها الناس، فإذا بها قرمزية اللون، ثم هزها ثلاث مرات فوق الثعابين، وسقطت بضع قطرات، ثم شرعت الطبول تدق مرة أخرى مسرعة تثير الرعب، وسمعت صيحة عالية فاندفع الراقصون إلى الأمام، والتقطوا الثعابين وجروا بعيدا عن الميدان، وتبعهم الرجال والنساء والأطفال وكل الجمع المحتشد، وبعد دقيقة خلا الميدان ولم يبق به غير الغلام، منكفئا على وجهه ساكنا حيث خر، وخرج ثلاث من النسوة العجائز من أحد المنازل، ورفعنه في شيء من المشقة ثم أدخلنه الدار، وبقي النسر والرجل المصلوب برهة يحرسان القرية الخاوية، ثم هبطا مبطئين خلال الفتحتين واختفيا في العالم السفلي، وكأنهما اكتفيا بما شاهدا.
وما برحت ليننا تبكي وتكرر قولها: «هذا شيء مريع! تلك الدماء!» ولم يجدها عزاء برنارد نفعا، وارتعدت رعبا وفزعا، ثم قالت: «وددت لو تناولت السوما.»
وسمع في الغرفة الداخلية وقع أقدام، فلم تتحرك ليننا، بل لبثت مكانها ووجهها بين يديها، في عزلة عن العالم، لا ترى شيئا، والتفت برنارد وحده.
وبرز إلى الدهليز شاب في زي الهنود، غير أن شعره المضفور كان في لون القش، وعيناه زرقاوان شاحبتان، وجلده أبيض برنزي.
قال هذا الرجل الغريب في لغة إنجليزية عجيبة برغم خلوها من الخطأ: «أهلا، عموا غدا، إنكم قوم متمدنون، أليس كذلك؟ أتيتم من العالم الآخر خارج هذه المنطقة.»
فدهش برنارد وبدأ الكلام بقوله: «من ذا عسى أن يكون ...؟»
فتنهد الشاب وهز رأسه وقال: «إنه رجل بائس!» ثم أشار إلى لوثات الدم وسط الميدان، وقال: «هل ترون تلك البقعة اللعينة؟» وقد تهدج صوته من شدة العطف.
وقالت ليننا من خلف يديها بطريقة آلية: «جرام واحد خير من اللعنة، وددت لو تناولت السوما!»
واستمر الشاب في كلامه، قال: «كان ينبغي أن أكون هناك، لم لم أكن ضحيتهم؟ إذن لاستطعت أن أدور عشر مرات - بل اثنتي عشرة، بل خمسة عشر، أما بالوهتوا فلم يعد السبع، كانوا يستطيعون أن يظفروا من دمي بضعف ما ظفروا منه، يظفرون ببحار واسعة من الدم القاني.» ومد ذراعيه بحركة عنيفة، ثم أرخاهما قانطا وقال: «ولكنهم لم يرضوا بي، إنهم يمقتونني من أجل بشرتي، وقد كانوا كذلك دائما، دائما.» وتجمع الدمع في مقلتيه فخجل وانصرف.
وأنسى الذهول ليننا حرمانها من السوما، ثم كشفت عن وجهها وألقت على الغريب أول نظرة وسألته: «هل تعني أنك كنت تريد أن تضرب بذلك السوط؟»
وكان الشاب منصرفا عنها، ولكنه أشار بالإيجاب وقال: «ومن أجل القرية - كي تهطل الأمطار وينمو القمح؛ ولكي يرضى بوكونج ويسوع؛ ولكي أبرهن أني أستطيع أن أتحمل الألم بغير بكاء.» وتغيرت نغمة صوته، وأدار منكبيه معجبا ورفع ذقنه متحديا متشامخا، وقال: «كي أبرهن على رجولتي.» وشهق ثم صمت وفغر فاه. لقد كانت تلك أول مرة في حياته يشهد فيها فتاة وجهها ليس كالشكولاته أو جلد الكلب لونا، وشعرها مصفر دائم التموج، وملامحها تنم عن الخير، وذلك شيء عجيب غير مألوف، وابتسمت له ليننا، وقد أعجبت أشد الإعجاب بحسن مظهره وجمال قوامه، فتدفق الدم في وجنتي الشاب، وأرخى جفنيه، ثم رفعهما بعد لحظة فوجد أنها ما تزال تبتسم له، فغلبه الخجل والتفت إلى وجهة أخرى، وتظاهر بالتحديق في شيء ما في الجانب الآخر من الميدان.
وأنقذ برنارد الموقف بما وجه إلى الشاب من أسئلة: «من يكون؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن أين؟» وثبت الشاب نظره في وجه برنارد (لأنه كان يتحرق شوقا ليرى ليننا وهي تبسم، حتى إنه لم يجرؤ على مجابهتها بالنظر)، وحاول أن يشرح حقيقة أمره. كان هو وأمه لندا (وقد بدا القلق على ليننا عندما سمعت لفظة الأم) غريبين في تلك المنطقة، فلقد أتت لندا قبل مولده مع أبيه من العالم الآخر، وهنا رفع برنارد أذنيه مصغيا، ثم قال الشاب: «إن أمه تجولت في تلك الجبال وحدها، وسارت نحو الشمال، ثم سقطت من مكان مرتفع شديد الانحدار وآذت رأسها .» قال برنارد متهيجا: «أسرع، أسرع!» فوجدها بعض الصيادين من مالبي وصحبوها إلى القرية، ولم تر لندا أباه بعد ذلك الحين، وكان اسمه توماكين (وتوماس هو الاسم الأول للمدير)، ولا بد أن يكون قد عاد طائرا إلى العالم الآخر بغير الأم - لقد كان سيئ الخلق قاسيا شاذا.
وختم حديثه قائلا: «وهكذا ترون أنني ولدت في مالبي.» ثم هز رأسه.
ما أقذر ذلك المنزل الصغير الذي يقع في ضاحية من ضواحي القرية!
كانت تفصله عن القرية أرض فضاء تغطيها الرمال والغابات.
وكان لدى كومة القاذورات، عند الباب، كلبان جائعان ينبحان نباحا فاحشا، ولما ولجوا الدار فاجأتهم رائحة كريهة وطنين الذباب.
وصاح الشاب مناديا: «لندا!»
فأجابته من الغرفة الداخلية بصوت نسائي أجش قائلة: «إني آتية.»
وانتظروا، ووقعت أبصارهم على بقايا وجبة، أو وجبات عديدة من الطعام في الأواني الملقاة فوق الأرض.
وانفتح الباب، فإذا بامرأة من الهنود الأمريكيين، بدينة شقراء تطأ العتبة، ثم تقف ناظرة إلى الغريبين محدقة فيهما، فاغرة فاها لا تصدق ما ترى، وتقززت ليننا عندما لاحظت أن المرأة كان ينقصها اثنتان من الأسنان الأمامية، وأن لون ما بقي لها من أسنان ... واقشعر بدنها، لقد كانت أسوأ من الشيخ، بدينة، وجهها مجعد، مترهلة، متغضنة، وقد تجوف خداها وتلطخا بلوثات أرجوانية اللون، وظهرت الحمرة في عروق أنفها، والتهبت عيناها، وما أقبح جيدها، وذلك القماش الغليظ الذي غطت به رأسها، ما أقذره وما أشد تمزيقه، وقد برزت بطنها وردفاها وثدياها تحت ذلك الرداء البني الذي يشبه الجوال. حقا لقد كانت أسوأ من الرجل العجوز! وتفجر هذا المخلوق فجأة بتيار جارف من الكلام، ثم اندفعت نحوها بذراعين ممدودتين، يا لله يا لله! لقد كانت منفرة جدا، ولو بقيت لحظة أخرى لخرت ليننا عليلة، ثم التصق بها نتوء بطنها وثدييها وقبلتها. يا لله! أفتقبلها، وقد سال لعابها وانتشرت منها الرائحة الكريهة؟! لا شك أنها لم تستحم قط، وكانت تفوح منها رائحة تلك المادة الكريهة، التي توضع في قوارير «د» و«ه» (وليس صحيحا ما يقال عن برنارد)، وتنتشر منها رائحة الكحول ، فحاولت ليننا أن تفر بأسرع ما استطاعت، فالتقت بوجه شائه باك، فقد كانت المرأة تبكي بصوت مرتفع.
وأخذت العجوز تتدفق في الكلام وهي تبكي، وقالت: «عزيزتي، لو عرفت مقدار سروري - بعد كل هذه السنوات - لرؤية وجه متمدن، وزي متمدن، لقد كنت أحسب أني لن أرى قطعة من حرير الحامض مرة أخرى.» ثم لمست بأصبعها كم قميص ليننا، وكانت أظافرها سوداء، ثم قالت: «وهذه السراويل القصيرة الباهرة من المخمل اللين! هل تعلمين يا عزيزتي أني ما زلت أحتفظ في أحد الصناديق بملابسي القديمة التي قدمت فيها أول مرة، وسوف أطلعك عليها فيما بعد، وإن تكن الخروق قد كثرت في الحرير الحمضي، ولكن ما أجمل حزام الكتف الأبيض، وإن كنت أقر بأن حزامك المراكشي الأخضر أجمل منه، غير أني لم أفد كثيرا من حزامي.» وبدأ الدمع ينحدر من عينيها ثانية، ثم قالت: «أحسب أن جون قد أخبرك، لقد عانيت كثيرا، ولم يكن عندي جرام واحد من السوما، لم يكن لدي سوى شراب المسكال، أتناول منه الفينة بعد الفينة، كلما أتاني به بوبي، وبوبي هذا ولد عرفته، ولكن هذا الشراب له أثر سيئ على الحس فيما بعد، إنه يصيب شاربه بمرض البيوتل، وهو فوق ذلك يبعث في الشارب في اليوم التالي إحساسا شديدا بالخجل، ولقد خجلت جدا، هل تتصورون أني حملت وأنا من «ب»، ضعوا أنفسكم مكاني (وهذه الإشارة المجردة أصابت ليننا بالرعدة)، ولكني أقسم لكم إن الخطأ لم يكن مني؛ لأني ما زلت أجهل كيف حدث هذا، وقد قمت بالتدريب المالتسي كله - وهو بالعدد كما تعلمون: 1، 2، 3، 4 - وأقسم أني ما قصرت، ولكن الحادث برغم ذلك قد وقع، وبالطبع لم يكن هنا مركز للإجهاض. وبهذه المناسبة، هل لا يزال مركز الإجهاض في شلسي؟ (فأجابتها ليننا بالإيجاب) وهل لا تزال تنعكس فوقه الأضواء أيام الثلاثاء والجمعة؟ (فأجابت ليننا بالإيجاب مرة أخرى) ما أجمل ذلك البرج الزجاجي القرنفلي!» ورفعت لندا المسكينة رأسها، وبعينين مغمضتين أعادت إلى مخيلتها - وهي مذهولة - صورة ذلك البرج اللامع، ثم قالت في همس: «وما أبدع النهر في المساء!» وتسرب الدمع الغزير على مهل من بين جفنيها المغمضين، ثم قالت: «وأذكر أنا كنا نعود بالطائرة مساء من ستوك بوجس، ثم نأخذ حماما ساخنا ونستخدم آلة التدليك المذبذبة المفرغة ... ولكن كفى كفى!» وتنهدت تنهدا عميقا، وهزت رأسها، وفتحت عينيها ثانية، واستنشقت مرة أو مرتين، ثم أفرغت مخاط أنفها فوق أصابعها، ومسحته في الجزء الأسفل من ردائها، وكشرت ليننا اشمئزازا وهي لا تشعر، فأجابتها لندا قائلة: «إني آسفة وما كان ينبغي لي أن أفعل ذلك، إني آسفة، ولكن ماذا يفعل المرء إذا لم يكن لديه منديل؟ أذكر كيف كنت أتقزز من مثل هذه القذارة، وليس عندي مطهر، ولقد أصبت بجرح كبير في رأسي عندما أتوا بي هنا أول مرة، وإنك لا تتصورين المادة التي وضعوها عليه، قذارة، وليس غير. وكنت دائما أقول لهم: «المدنية تعقيم.» وأخذت أنشدهم - كأنهم أطفالي - محببة إلى نفوسهم النظافة والحمامات والمراحيض، ولكنهم بالطبع لم يفقهوا قولي، وكيف يفقهون؟ ولكني أعتقد أني اعتدت طبائعهم في نهاية الأمر. وعلى أية حال، كيف يستطيع المرء أن يحتفظ بنظافة الأشياء، إذا لم يكن لديه ماء ساخن، ثم انظري إلى هذه الملابس، إن هذا الصوف الخشن ليس كالحرير الحمضي، إنه يتحمل كثيرا، وعلينا أن نرتقه إن تمزق، ولكني من «ب» وكنت أعمل في حجرة التلقيح، ولم أتعلم شيئا مثل هذا، فلم يكن من عملي، ثم إني تعلمت أن رتق الملابس ليس من الصواب في شيء، كنا نرميها إذا ظهرت فيها الخروق ونشتري غيرها، ومبدؤنا «إذا كثر الإصلاح قل الثراء» أليس كذلك؟ فإصلاح الأشياء ليس أمرا اجتماعيا، ولكن الأمور هنا تسير على غير ذلك، وكأننا نعيش مع المجانين، كل ما يفعلونه يدل على الجنون، ثم تلفتت حولها، وعرفت أن جون وبرنارد قد تركاها وأخذا يسيران جيئة وذهابا في التراب والقاذورات خارج البيت، ولكنها برغم ذلك أخفضت صوتها، وأسرت إلى ليننا وقد مالت عليها والتصقت بها، حتى إن هبوب دخان سم الجنين قد هز الشعر فوق خدها (وقد تصلبت ليننا وانكمشت)، وهمست بصوت خشن قائلة: «خذي مثلا علاقة أحدهم بالآخر هنا، إنهم مجانين كما قلت لك، بل وفي منتهى الجنون، نحن نعلم أن كل فرد يتعلق بكل فرد آخر، أليس كذلك؟» ثم جذبت كم ليننا وهي تتحمس في كلامها، فحولت ليننا عنها رأسها وأومأت إيجابا، ثم أطلقت نفسها المكتوم واستطاعت أن تتنفس تنفسا آخر غير ملوث نسبيا، وواصلت الأخرى حديثها قائلة: «أما هنا؛ فإن الفرد لا يتعلق بأكثر من فرد واحد، فإذا كانت علاقة أحد الأفراد بالآخرين كما عهدنا، ظنه الناس شريرا يعادي المجتمع، وكرهوه وازدروه، وقد حدث مرة أن جماعة من النسوة أتين إلي، وتشاجرن لأن رجالهن قد أتوني، ولماذا لا يأتون؟ واندفعن نحوي، وكان منظرا مريعا، لا أستطيع أن أحدثك عنه.» وغطت لندا وجهها بيديها وارتعدت فرائصها، ثم قالت: إنني أمقت النساء هنا أشد المقت، إنهن مجنونات قاسيات، وهن بالطبع لا يعرفن شيئا عن تدريب مالتس، أو القوارير، أو التفريغ، أو ما شابه ذلك؛ ولذا فهن يلدن دائما - كالكلاب، وهو شيء منفر، وإني لأصعق حينما أذكر أني ... يا لله، يا لله! ومع ذلك فلقد كان لي في جون عزاء جميل، ولست أدري ماذا كنت أصنع بغيره، وذلك رغم أنه يرتبك أشد الارتباك كلما رأى رجلا ... حتى حينما كان طفلا صغيرا. ولقد حاول مرة - لما شب قليلا ما - أن يقتل وايهو سيده المسكين - أو لعله كان بوبي - لأنه كان يتردد علي بين الحين والحين؛ وذلك لأني لم أستطع قط أن أفهمه أن ذلك هو ما ينبغي للمتمدنين أن يفعلوا، وإني أعتقد أن الجنون معد، ويظهر أنه انتقل من الهنود إلى جون؛ لأنه كان يرافقهم كثيرا، وذلك رغم قسوتهم عليه وحرمانه من أداء ما يفعل غيره من الصبيان، وكان ذلك حسنا من ناحية؛ لأنه يسر لي تكييفه إلى حد ما، وإن كنت لا تتصورين ما لاقيت في ذلك من مشقة، وكثير من الأمور لا يعلمه المرء، ولم يكن من شأني أن أعلم به، وأعني أن الطفل يسألك: «كيف تسير الطائرة؟ أو من خلق الدنيا؟ فبماذا تجيبين إن كنت من «ب» تشتغلين دائما في حجرة التلقيح؟ بماذا تجيبين؟»
الفصل الثامن
كان برنارد وجون يسيران مبطئين جيئة وذهابا خارج البيت، في التراب وفوق القاذورات (وكانت الكلاب عندئذ أربعة).
قال برنارد: «يشق علي كثيرا أن أدرك أو أن أتصور، لكأننا نعيش فوق كوكب آخر وفي قرن غير هذا القرن، ما معنى الأمهات، وهذه القاذورات، والآلهة، والشيخوخة، والمرض ...» ثم هز رأسه وقال: «تلك الأشياء لا يكاد يتصورها العقل، ولن أفهم حتى تشرح لي.» - «أشرح ماذا؟» «هذا» وأشار إلى القرية و«ذلك» مشيرا إلى المنزل الصغير خارج القرية، «اشرح لي كل شيء، وفسر لي حياتك كلها». - «ولكن ماذا عساي قائل؟» - «ابدأ من أول الأمر، وعد بذاكرتك إلى الماضي على قدر ما تستطيع.»
فقطب جون جبينه مرددا: «سأعود بذاكرتي إلى الماضي على قدر ما أستطيع.» ثم كان صمت طويل.
كان الجو حارا وقد تناولا قدرا كبيرا من خبز المكسيك ومن الحنطة الحلوة، وقالت لندا: «تعال أيها الطفل وارقد.» واستلقت إلى جانبه فوق السرير الضخم، وأخذت تتغنى بنشيد من أناشيد الأطفال، فيه حث على النظافة وفيه إشارة إلى التفريغ، ثم انخفض صوتها شيئا فشيئا.
وعلا الضجيج فاستيقظ ابنها مذعورا، وإذا برجل ضخم مربع يقف إلى جوار السرير، وكان يلقي بحديث إلى لندا، ولندا تضحك، وكانت لندا قد رفعت غطاءها حتى ذقنها، فجذب الرجل الغطاء إلى أسفل، وكان شعره كحبلين أسودين، وحول ذراعه سوار فضي جميل مرصع بالأحجار الزرقاء، وقد أعجب السوار ابنها ولكنه ذعر برغم ذلك، فأخفى وجهه في جسم لندا، ووضعت لندا يده فوقه فأحس بالطمأنينة، ووجهت إلى الرجلين كلاما لم يدركه كل الإدراك، قالت: «لا تفعل، وجون هنا.» فوجه الرجل إليه بصره، ثم وجهه إلى لندا، وأسر إليها بضع كلمات بصوت ناعم، أجابته لندا بقوله: «لا.» غير أن الرجل انحنى على السرير نحوه، وكان وجهه ضخما مربعا، وقد مس الغطاء بشعره الأسود المضفور، فكررت ليننا قولها: «لا .» وأحس الولد بيدها تضغط عليه بشدة وهي تقول: «كلا، كلا!» ولكن الرجل قبض على إحدى يديه، وآلمته فصاح، وأخرج الرجل يده الأخرى ثم رفعه إلى أعلى، وما برحت لندا ممسكة به، وهي تقول: «كلا، كلا.» وتفوه الرجل غاضبا بكلمات موجزة وأبعد يديها بغتة، فركله الطفل بقدميه وتلوى قائلا: «لندا، لندا.» لكن الرجل حمله إلى الباب في جانب الغرفة الآخر، وألقى به أرضا وسط الغرفة الأخرى، ثم انصرف بعدما أغلق خلفه الباب، فنهض الولد، وركض نحو الباب، ووقف على أطراف أصابعه حتى استطاع أن يبلغ المزلاج الخشبي الكبير، فرفعه ودفع الباب ولكنه لم ينفتح، فصاح: «لندا، لندا»، ولكنها لم تجبه.
وتذكر غرفة ضخمة حالكة الظلام، تحتوي على أشياء خشبية كبيرة ترتبط بحبال رفيعة، وتقف حولها ثلة من النساء - يصنعن الأغطية كما تقول لندا، وطلبت إليه أن يجلس في ركن الغرفة مع الأطفال الآخرين؛ كي تذهب هي إلى النسوة وتمد إليهن يد المعونة، وظل يلعب مع الأطفال مدة طويلة، ثم بدأ الناس يتحدثون فجأة بصوت مرتفع، ودفع النسوة لندا بعيدا عنهن، فصاحت وتوجهت نحو الباب فتبعها، وسألها فيم غضبهن، فأجابت: «لأني كسرت شيئا.» ثم غضبت هي كذلك، وقالت: «كيف أعرف أن أنسج مثلهن، هؤلاء الهمج المتوحشون؟» فسألها ما تعني بالمتوحشين، ولما عادا إلى البيت كان بوبي بانتظارهما لدى الباب، فدخل معهما، وكانت معه جرة كبيرة ملأى بمادة تشبه الماء وليست به، هي مادة ذات رائحة كريهة تحرق في الشارب وتجعله يسعل، وقد تناولت منها لندا قليلا، كما تناول بوبي، ثم قهقهت لندا بالضحك وتكلمت بصوت مرتفع، ثم رافقت بوبي إلى الغرفة الأخرى، ولما انصرف بوبي، توجه إلى الغرفة فألفى لندا في الفراش مستغرقة في النوم، ولم يستطع إيقاظها.
واعتاد بوبي أن يتردد على البيت، وقال: «إن المادة التي كانت تحتويها الجرة تسمى «مسكال»»، ولكن لندا قالت: «إنها يجب أن تسمى سوما»، غير أنها تصيب الشارب بالمرض، وكان الولد يكره بوبي، بل كان يكره كل الرجال الذين يأتون لزيارة لندا، وفي عصر ذات يوم - يذكر أنه كان باردا، وأن الثلوج كانت تعمم الجبال - اشترك مع الأطفال الآخرين في اللعب، ثم عاد إلى البيت وسمع في غرفة النوم أصواتا غاضبة، وكانت أصوات جماعة من النسوة يتفوهن بكلمات لم يفقه لها معنى، ولكنه عرف أنها كلمات مريعة، وإذا بشيء ينقلب فجأة ويحدث صوتا عاليا فهاج الناس وماجوا، ثم حدث الصوت مرة أخرى، وأعقبه ضجيج كضجيج البغل قليل العظام حين يضرب، وصاحت لندا «لا تفعلوا، لا تفعلوا، لا تفعلوا!» وجرى نحو الصوت فإذا بثلاث نساء متشحات بإزار أسود، وكانت لندا على فراشها، وإحدى النساء تمسكها من معصميها، والأخرى ترقد فوق ساقيها وتمنعها من الركل بقدميها، والثالثة تضربها بالسوط، وقد ضربتها ثلاث ضربات ضجت منها لندا بالعويل، فتعلق الولد بذيل رداء هذه المرأة، وأخذ يصيح قائلا: «أرجوك وأتوسل إليك!» فدفعته بعيدا عنها بيدها الطليقة، وهبط السوط مرة أخرى فولولت لندا ثانية، فأمسك بين يديه بيد المرأة وهي يد ضخمة سمراء اللون، وعضها بكل قوته، فصاحت وخلصت يدها ودفعته دفعة قوية، خر لإثرها طريحا فوق الأرض، وضربته بالسوط ثلاث ضربات وهو مستلق فوق الأديم، وشعر بألم لم يشعر بمثله من قبل - كأنه النار، ثم نهض، ووقع عليه السوط مرة أخرى فخر ثانية، ولكن لندا هي التي صاحت هذه المرة.
وسألها في تلك الليلة: «لماذا أرادوا إيذاءك يا لندا؟» وكان يبكي؛ لأن علامات السياط الحمراء فوق ظهره ما برحت شديدة الإيلام، ولكنه كان كذلك يبكي لأن الناس متوحشون ظالمون إلى حد كبير؛ ولأنه طفل صغير لم يستطع أن يفعل بهم شيئا، وكانت لندا كذلك تبكي، أجل لقد كانت كبيرة ولكنها لم تبلغ من الضخامة حدا يمكنها من العراك مع ثلاثة أشخاص، لقد ظلمها النسوة، وكرر الولد سؤاله: «لماذا أرادوا إيذاءك يا لندا؟» «لست أدري، وكيف أدري؟» وكان من العسير أن تسمع ما تقول؛ لأنها كانت مستلقية على بطنها ووجهها مطمور في الوسادة، وواصلت الحديث قائلة: «إنهن يزعمن أن أولئك الرجال رجالهن.» وكأنها لم تكن تتحدث إلى الصبي، بل كأنها تتحدث مع إنسان بداخلها، وألقت حديثا طويلا لم يفقه له معنى، وأخذت في النهاية تصرخ صراخا عاليا ليس لها به عهد. - «لا تصرخي يا لندا، لا تصرخي.»
وضمها إليه، وطوق جيدها بذراعه، فصاحت في وجهه لندا: «مهلا، مهلا، كتفي! أوه!» ودفعته بشدة بعيدا عنها، فاصطدم رأسه بالحائط، ثم صاحت: «يا لك من غر أحمق!» وبدأت تصفعه فجأة، وتوقع عليه الصفعات واحدة تلو الأخرى.
فصاح قائلا: «لندا، أماه، لا تفعلي.» - «لست أمك، ولن أكون لك أما.» «ولكن يا لندا ...» فصفعته على خده وصاحت: «لقد انقلبت امرأة همجية لي صغار كالحيوان، لولاك لذهبت إلى المفتش ولاستطعت الفرار، ولكني لن أفر ومعي طفل، إن هذا لعار كبير.»
ولاحظ أنها تهم بضربه ثانية فرفع ذراعه يحمي بها وجهه، وقال: «بربك لا تفعلي يا لندا.»
فجذبت ذراعه إلى أسفل وانكشف وجهه، وقالت له: «أيها الوحش الصغير.»
فأغمض عينيه وقال لها: «لا تفعلي يا لندا!» وقد توقع أن تضربه، ولكنها لم تفعل، وبعد برهة فتح عينيه ثانية ولاحظ أنها كانت تنظر إليه، وحاول أن يبتسم لها، وطوقته بذراعها بغتة وانهالت عليه بالقبلات.
وكانت لندا أحيانا تلزم الفراش أياما عدة وهي حزينة، وأحيانا تتعاطى شيئا من المادة التي أحضرها بوبي، وتضحك كثيرا ثم تستغرق في النوم، وأحيانا تنتابها العلة، وكثيرا ما كانت تنسى أن تغسل ابنها، ولم يكن لديه ما يأكله سوى الخبز المكسيكي البارد، وتذكر المرة الأولى التي وجدت فيها تلك الحيوانات الصغيرة في شعره، وتذكر كيف صاحت حينئذ وعلا صياحها.
وكانت أحب الأوقات إلى نفسه تلك التي كانت تحدثه فيها عن العالم الآخر، فسألها: «وهل يستطيع المرء حقا أن يطير حيثما شاء؟» «أجل حيثما شاء.» ثم تحدثه عن الموسيقى الحلوة التي تصدر عن صندوق، وعن الألعاب الجميلة كلها التي يستطيع أن يلعبها الإنسان، وما لذ من مأكل ومشرب، وعن الضوء الذي يظهر عندما يضغط المرء على شيء صغير في الحائط، وعن الصور التي تسمع حديثها وتحسها وتشم رائحتها، كما تستطيع أن تراها، وعن الصندوق الذي يصنع الروائح العطرة، وعن المنازل القرنفلية والخضراء والزرقاء والفضية التي تبلغ الجبال طولا، وكل امرئ سعيد، لا يحزن ولا يغضب، وكل فرد يتعلق بكل فرد آخر، وتحدثه عن الصناديق التي ترى فيها وتسمع ما يحدث في الجانب الآخر من العالم، وعن الأطفال في القوارير الجميلة النظيفة، وكل شيء بالغ النظافة، لا تشم رائحة كريهة، ولا تقع العين على قذارة، هناك لا يشكو الناس العزلة، بل يعيشون معا في سرور وسعادة، كما ترى الناس هنا في مالبي أيام الرقص في الصيف، بل أسعد كثيرا، لا تفارقهم السعادة في يوم من الأيام.
وكان يصغى لها ساعات متواليات، وأحيانا عندما يمل اللعب مع الأطفال الآخرين - يحدثهم أحد شيوخ القرية في لغة عجيبة عن المحور الأكبر للدنيا، وعن الصراع الطويل بين اليد اليمنى واليد اليسرى، وبين الرطوبة والجفاف، وعن أونا ولونا الذي أوجد حوله وهو يفكر في أثناء الليل ضبابا كثيفا، ومن هذا الضباب الكثيف خلق العالم بأسره، ويحدثهم عن الأرض أما والسماء أبا، وعن أهايوتا ومارسليما وهما توءما الحرب والصدفة، وعن يسوع ويوكونج، وعن مريم واتساناتلهى، وهي المرأة التي تستطيع أن ترد الشباب إلى نفسها، وعن الحجر الأسود عند لاجونا والنسر الأكبر وسيدتنا الأكومية وكلها قصص عجيبة، يزيدها عجبا أنها تحكي بتلك اللغة الغريبة، فلا يفهمها تمام الفهم، وحينما يستلقي في الفراش يفكر في السماء وفي لندن وفي سيدتنا الأكومية، وفي الصفوف العديدة من الأطفال المحفوظين في القوارير النظيفة، وفي يسوع وهو يطير ولندا وهي تطير، وفي المدير الأكبر لمعامل التفريخ وفي أوناولونا.
وجاء لزيارة لندا رجال عديدون، وبدأ الصبية يشيرون إليها بأصابعهم، وفي لغتهم الغربية قالوا إن لندا امرأة سيئة، ونبذوها بشتائم لم يفهم لها معنى، ولكنه أدرك أنها شتائم، وأخذوا ذات يوم يرددون أغنية بشأنها، فقذفهم بالحجارة، وقذفوه، فجرح خده حجر حاد وتدفق الدم وتلوث به.
وعلمته لندا القراءة، ورسمت على الحائط صورا بقطعة من الفحم، رسمت حيوانا قابعا وطفلا داخل قارورة، ثم سطرت بعض الحروف، وكتبت «القط فوق الحصير، والطفل في الإناء»، وتعلم الولد بسرعة وسهولة ، ولما استطاع أن يقرأ كل الكلمات التي كتبتها على الحائط، فتحت لندا صندوقها الكبير الخشبي وأخرجت من تحت السراويل الصغيرة العجيبة الحمراء، التي لم تلبسها قط كتابا صغيرا هزيلا، ولطالما وقعت عيناه على هذا الكتاب من قبل، وكانت تقول له: «تستطيع أن تقرأه عندما تكبر.» وها هو ذا الآن كبير، وبنفسه فخور، ولكنها تقول له: «أخشى ألا تجده شيقا.» ثم تنهدت وقالت: «ولكن ليس عندي سواه، آه لو شهدت آلات القراءة الجميلة التي كانت لدينا في لندن!» ثم بدأ يقرأ: «تكييف الأجنة الكيمائي والبكتريولوجي، إشارات عملية لعمال مخزن الأجنة من النوع «ب»»، واستغرق ربع ساعة في قراءة العنوان وحده، ثم ألقى الكتاب على الأرض وقال: «ما أشنع هذا الكتاب!» ثم بدأ يصيح.
وما برح الصبية ينشدون نشيدهم المريع عن لندا، وكانوا كذلك أحيانا يسخرون من ثيابه الرثة، وكانت لندا لا تعرف كيف تصلح ملابسه إذا تمزقت، وتقول له: «إن الناس في العالم الآخر ينبذون الملابس ذات الخروق ويستبدلون بها الجديد.» واعتاد الصبية أن يسخروا منه بقولهم: «الخرق البالية، الخرق البالية.» ويقوله لنفسه: «ولكني أستطيع أن أقرأ وهم لا يستطيعون، بل إنهم لا يعرفون ما القراءة.» وكان من اليسير عليه - إذا أنعم الفكر في القراءة - أن يتظاهر بعدم الاهتمام بسخريتهم منه، فطلب إلى لندا أن تعيد إليه الكتاب.
وكلما تمادى الصبية في الإشارة إليه وفي الغناء أمعن في القراءة، وسرعان ما أتقن قراءة الكلمات كلها حتى أطولها، ولكنه سأل لندا عن معناها، غير أن المعنى لم يتضح له حتى حينما كانت لندا تستطيع الإجابة، وكانت في الجملة تعجز عن الإجابة بتاتا.
سألها: «ما هي المواد الكيميائية.»
قالت: «هي مواد مثل أملاح المغنزيوم، والكحول الذي يجعل طبقة «ء» و«ه» صغيرة متأخرة، وكربونات الكلسيوم للعظام، وما شابه ذلك.» - «ولكن كيف تصنعون المواد الكيمائية يا لندا؟ ومن أين تأتي؟» - «لست أعرف، إنها تستخرج من القوارير، وعندما تفرغ القوارير ترسلها إلى مخزن المواد الكيمائية للمزيد، وأحسب أن الموظفين في المخزن هم الذين يصنعون هذه المواد الكيمائية، أو ربما يطلب موظفو المخزن هذه المواد من المصنع. لست أعرف، ولم أشتغل بالكيمياء يوما ما، ولقد كان عملي دائما يختص بالأجنة.»
وكذلك كان الأمر في كل سؤال وجهه إليها، وكأن لندا لم تعرف شيئا، وكان عند شيوخ القرية إجابات أشد من ذلك قطعا. - «بذور الناس وبذور المخلوقات جميعا، وبذور الشمس وبذور الأرض وبذور السماء - كل ذلك خلقه أو ناولونا من ضباب التكاثر، والعالم أربعة أرحام، وقد وضع البذور في أحط هذه الأرحام الأربعة، وبدأت البذور تنمو تدريجا ...»
وذات يوم (حسبه جون فيما بعد وعلم أنه لا بد أن يكون عقب ميلاده الثاني عشر)، عاد إلى البيت وألفى كتابا لم يره من قبل ملقى على الأرض في غرفة النوم، وكان كتابا غليظا عليه سيما القدم، وقد أكلت الفيران جلده، وتفككت بعض صفحاته وتغضنت، فالتقط الكتاب ونظر إلى صفحة العنوان، وقرأ عليها ما يأتي: «مجموعة مسرحيات وليم شيكسبير».
وكانت لندا مستلقية على فراشها ترشف من الكأس شراب المسكال ذا الرائحة الكريهة الشنيع، قالت: «لقد أحضره بوبي.» وكان صوتها غليظا خشنا كأنه صوت شخص آخر، ثم قالت: «كان هذا الكتاب ملقى في أحد صناديق انتلوب كيفا، والمفروض أنه لبث هناك مئات السنين، وأحسب ذلك صحيحا؛ لأني تصفحته وبدا لي كأنه ملئ بالخرافات، إنه كتاب همجي، ولكنه يصلح لتدريبك على القراءة.» ثم تناولت من الكأس الجرعة الأخيرة، وألقتها على الأرض إلى جانب الفراش، وانقلبت على جنبها، وشهقت مرة أو مرتين ثم استغرقت في النوم، وفتح الغلام الكتاب حيثما اتفق وقرأ فيه ما يلي: «عجبا كيف يعيش المرء في عرق كريه على فراش رث، يدب فيه الفساد، وكيف ينعم ويعشق في بيت قذر كبيوت الخنازير ...»
1
ودارت هذه الكلمات العجيبة في رأسه، ورنت في أذنه كالرعد إذا تكلم، أو كالطبل في رقصات الصيف إذا استطاعت الطبول أن تتحدث، أو كالرجال وهم يتغنون بنشيد الحصاد. كان رنينها في الأذن رائعا، تدفع السامع إلى الصياح، كأنها حديث من حديث متسما العجوز، ينطق بكلمات السحر وهو يتزين بالريش، ويمسك بالعصى المنقوشة ويقطع من العظام والحجارة - ويتفوه بألفاظ لا معنى لها، غير أن الألفاظ التي قرأها خير من ألفاظ متسما السحرية؛ لأنها تدل على معان أكثر منها؛ ولأنها تحدثه، وتتحدث بشكل يدعو إلى الإعجاب ولا تفهم كل الفهم، هذه كلمات سحرية جميلة مريعة عن لندا، وهي هناك على فراشها تغط في نومها، وإلى جوار فراشها كأس فارغة ملقاة على الأرض، هذه كلمات عن لندا وبوبي.
واشتد مقته لبوبي، وأدرك أن المرء قد لا يفتر ثغره عن الابتسام وهو وضيع دنيء، يا له من وغد ميت الضمير خائن، داعر غير رفيق، وما معنى تلك الكلمات التي قرأ؟ إنه أدركها إدراكا ناقصا، غير أن سحرها قوي، وما فتئت ترن في أذنه، وأحس كأنه لم يكره بوبي من قبل قط، لم يكرهه لأنه لم يستطع يوما أن يعبر عن مقدار كرهه له، أما الآن فلديه هذه الألفاظ التي تشبه الطبل والغناء والسحر. هذه الكلمات وتلك القصة العجيبة التي اقتبست منها (إنه لم يفهم للقصة مغزى، ولكنها برغم ذلك عجيبة جدا) بررت له كره بوبي، وجعلت كرهه له أمرا حقيقيا، بل جعلت بوبي نفسه شخصا أكثر واقعية في عينيه.
وعاد ذات يوم من اللعب وألفى باب الغرفة الداخلية مفتوحا، ووجدهما مستلقيين على الفراش معا ومستغرقين في نومهما - لندا البيضاء، وبوبي إلى جانبها يكاد يكون أسود اللون، وإحدى ذراعيه تحت كتفيها، واليد الثانية السوداء على صدرها، وإحدى ضفائر شعره الطويل ملقاة حول عنقها، كأنها حبة سوداء تحاول خنقها، وجرة بوبي وإحدى الكئوس ملقاة على الأرض إلى جانب السرير، ولندا تغط في نومها.
وكأن قلبه اختفى وخلف مكانه ثغرة، كان فارغا باردا وكأنه عليل به دوار، فاستند إلى الحائط كي يعتدل، وجال بخاطره أن الرجل ميت الضمير، خائن، داعر ... وتذكر تلك الألفاظ التي تشبه الطبل، أو تشبه نشيد الحصاد، أو السحر، وأخذت الكلمات تدور في رأسه مرة بعد أخرى، واستحالت برودته بغتة إلى حرارة، واحترقت وجنتاه من الدم المتدفق، وغامت الغرفة أمام عينيه وأظلمت، واصطكت أسنانه، وردد قوله: «سوف أقتله، سوف أقتله.» وتذكر فجأة هذه الكلمات: «حينما يكون مستغرقا في نومه ثملا، أو في ثورة من الغضب، أو في متعة الفراش زانيا مع امرأة لا يجوز له أن يقترن بها ...»
إن هذا السحر يشد أزره، وهو سحر يفسر له ما غمض ويصدر له الأوامر بما يصنع، فتقهقر إلى الغرفة الخارجية، وردد هذه العبارة: «حينما يكون مستغرقا في نومه ثملا ...» وكانت سكين اللحم ملقاة على الأرض إلى جانب النار، فالتقطها وسار على أطراف أصابعه نحو الباب ثانية، وردد مرة أخرى: «حينما يكون مستغرقا في نومه ثملا ...» وعبر الغرفة على عجل وطعن الرجل. يا للدماء! ثم طعنه مرة أخرى، وتحرك بوبي من نومه فرفع يده كي يطعنه طعنة ثالثة، ولكن يدا قبضت على معصمه وأمسكت بها ولوتها ليا شديدا، فلم يستطع أن يتحرك، ووقع في الشراك، ورأى عيني بوبي الصغيرتين السوداوين المتقاربتين وهما تحدقان في عينيه، فصرف عنه البصر، ورأى جرحين في كتف بوبي اليسرى، وصاحت لندا قائلة: «انظروا إلى الدماء، انظروا إلى الدماء!» ولم تستطع يوما أن تحتمل رؤية الدماء، ورفع بوبي يده الأخرى كي يضربه - كما ظن جون، فتصلب استعدادا للقاء الضربة، ولكن اليد التي ارتفعت عادت به تحت ذقن الرجل، ولوت وجهه بحيث لم يسعه إلا أن يحدق في عيني بوبي، وبقي على ذلك ساعات طوالا، ثم لم يسعه بعدئذ إلا أن يتفجر بالبكاء، فقهقه بوبي ضاحكا، وقال له باللغة الهندية العجيبة: «اذهب يا أهايوتا، إنك شجاع.» فانطلق إلى الغرفة الأخرى؛ كي يخفي دموعه.
وقال له متسما العجوز باللغة الهندية: «أنت في الخامسة عشرة من عمرك، وأستطيع الآن أن أعلمك كيف تشتغل بالصلصال.»
وجلسا القرفصاء على شاطئ النهر وأخذا يشتغلان معا.
وتناول متسما بين يديه قطعة من الصلصال المبتل، وقال: «لنعمل أولا قمرا صغيرا.» وصنع الرجل العجوز من كتلة الصلصال قرصا، ثم ثنى أطرافه إلى أعلى، فأصبح القمر كأسا ضحلة.
وقلد جون حركات الرجل العجوز الدقيقة ببطء وبغير مهارة.
وطرق متسما قطعة أخرى من الصلصال، وصنع منها أسطوانة طويلة لينة، ثم صنع منها حلقة مستديرة ولصقها على حافة الكأس قائلا: «قمر فكأس فثعبان، ثم آخر فآخر.» وهكذا كون متسما جوانب الوعاء من تكرار الحلقات، وكان أسفله ضيقا، ثم انتفخ ثم ضاق ثانية عند العنق، وظل متسما يكور ويدحو، ثم يربت ويكشط حتى تكون الوعاء، وأضحى في شكله كجرة الماء المألوفة في مالبي، غير أنه في بياض القشدة بدلا من السواد، ناعم الملمس. وإلى جوار الوعاء الذي صنعه متسما وعاء آخر يغايره شكلا، خشن غير مستقيم، وهو من صنع جون، فنظر إلى الوعاءين ولم يسعه إلا أن يضحك، ثم قال: «سيكون الثاني خيرا من هذا.» وشرع يبلل قطعة أخرى من الصلصال.
وأحس بنشوة من السرور وهو يشكل الصلصال ويصوره، ويشعر بأصابعه وهي تكتسب مهارة وقوة، وأخذ يغني لنفسه وهو يعمل ويقول: «أ، ب، ج، فيتامين ء، الدهن في الكبد، والحوت في البحر.» وتغنى كذلك متسما بأغنية عن قتل الدب، واشتغلا طيلة النهار، وأحس كل الوقت بسعادة عظيمة أنسته كل شيء.
وقال له متسما العجوز: «في الشتاء القادم سأعلمك صناعة القوس.»
ووقف زمنا طويلا خارج البيت، وأخيرا انتهت الحفلات التي أقيمت بداخله، وفتح الباب وخرجا منه، وظهر كوثلو أولا، وذراعه اليمنى ممتدة، ويده مقبوضة بشدة كأنه يمسك بجوهرة ثمينة، وتبعته كياكيمي ويدها كذلك مقبوضة وذراعها ممتدة، وسارا صامتين، وجاء في إثرهما الإخوة والأخوات وأبناء العم ورتل من العجائز، وهم كذلك صامتون.
وخرجوا من القرية وعبروا الهضبة المستوية، وعند حافة الهضبة كفوا عن المسير وقد طالعتهم الشمس المشرقة، ففتح كوثلو يده، فظهرت على كفه كمية يسيرة من دقيق الحنطة الأبيض، تنفس عليها وتمتم ببضع كلمات ثم رمى بها نحو الشمس، وكأنها قبضة من التراب الأبيض، وفعلت كياكيمي مثل ما فعل، وعندئذ تقدم أبوها ورفع عصا مريشة يستخدمها عند الصلاة، ودعا دعاء طويلا، ثم قذف العصا في اتجاه الدقيق.
وعندئذ قال متسما العجوز بصوت مرتفع: «انتهى الأمر وأصبحا زوجين.»
وعندما هموا بالانصراف قالت لندا: «كل ما أستطيع أن أقوله أنها جعجعة كبيرة من أجل طحن قليل، أما في الأمم المتمدنة؛ فإن الولد حينما يشتهي الأنثى ليس عليه إلا أن ... ولكن إلى أين أنت ذاهب يا جون؟»
فلم يعرها التفاتا، وأخذ يهرول ويبتعد كي يبلغ مكانا يعتزل الناس فيه.
انتهى الأمر، وتردد صدى كلمات متسما العجوز في فؤاده، انتهى، انتهى ... وفي هذا السكون وذلك المكان القصي نبض قلبه بحب كياكيمي، ولكن بغير أمل أو رجاء، فلقد انتهى الأمر، وهو الآن في السادسة عشرة من عمره.
كانت الأسرار تفشى، بل تؤدى وتحمل في ليالي البدر الكامل في كهف انتلوب، يدخل الأولاد الكهف ويخرجون منه رجالا، وكانوا جميعا في خوف وقلق، وأخيرا حل اليوم الموعود، وغربت الشمس وطلع القمر، فذهب أحد الغلمان مع الآخرين، وكان الرجال واقفين لدى مدخل الكهف كالأشباح في ضوء القمر، وأنزل السلم في أعماق الكهف وقد أشرقت جوانبه بضياء أحمر، وبدأ زعماء الأولاد يهبطون، وتقدم أحد الرجال بغتة، وأمسك الغلام من ذراعه وأخرجه من الصفوف، ولكنه أفلت من قبضته وعاد إلى مكانه بين الآخرين، فضربه الرجل وجذبه من شعره، وقال رجل آخر: «لا عليك يا صاحب الشعر الأبيض، لا عليك يا بن الكلبة.» وضحك الأطفال، وقيل له: «اذهب!» وصاح به الرجال: «هيا اذهب!» وما برح يتلكأ عند أهداب الجماعة، وانحنى أحد الرجال والتقط حجرا ثم رماه قائلا: «اذهب!» ثلاث مرات، ثم كان بعد ذلك وابل من الحجارة، فانطلق الغلام في الظلام وهو يدمى، وعلت من الكهف الأحمر ضوضاء الغناء، وذلك عندما هبط الغلام الأخير على السلم، وكان صاحبنا وحيدا.
بقي وحيدا خارج القرية فوق الهضبة الجرداء، وكانت الصخور في ضوء القمر كالعظام البيضاء، والذئاب تعوي تحت ضوء القمر في بطن الوادي، وقد آلمته الجروح وتدفقت منها الدماء، ولكنه لم ينتحب من أثر الجراح، وإنما كان يبكي وحدته؛ لأنه طرد وحيدا فوق هذه الصخور التي تشبه في ضوء القمر هيكل العظام، فجلس عند حافة الهضبة، والقمر خلفه، وألقى بصره إلى ظل الهضبة الحالك، أو ظل الموت الأسود، فما عليه إلا أن يخطو إلى الأمام خطوة ثم يقفز ... ومد يمناه في ضوء القمر، وما برحت الدماء تتدفق من معصمه، وتسقط قطرات كل بضع ثوان، وهي تكاد تكون عديمة اللون في ذلك الجو القاتم، سالت الدماء نقطة نقطة، وكأنها تقول له: «غدا، غدا، غدا ...»
في تلك العزلة أدرك صاحبنا الزمان، والموت، والله ...
وكان الشاب يقول: «كنت دائما وحدي.»
فكان لهذه الألفاظ صدى أليم في صدر برنارد، فقال لصاحبه وقد أولاه كل ثقته: «كنت دائما وحدك، وإني لكذلك في عزلة تامة.»
فسأله جون في دهشة بالغة: «هل أنت وحيد؟ لقد كنت أحسب أنكم في العالم الآخر ... أعني أن لندا كانت تقول لي دائما: «إن المرء هناك لا يشعر بالعزلة البتة.».»
فساور القلق نفس برنارد وتدفق الدم في وجنتيه من شدة الخجل، وقال متمتما وقد حول عنه عينيه: «أحسب أني على خلاف مع أكثر الناس، فالمرء إذا أفرغ من القارورة بطريقة مخالفة ...»
فأومأ الشاب برأسه قائلا: «أجل، هو ذاك، إن المرء إذا اختلف عن غيره، فلا مندوحة له عن الشعور بالوحدة، وحينئذ يقسو عليه العالم. هل تعلم أنهم يبعدونني عن كل شيء كل الإبعاد؟ فعندما أرسلوا الغلمان الآخرين؛ ليقضوا المساء فوق الجبال (وأنت تعلم بالطبع شعور المرء عندما يرغم على أن يحلم بالحيوان الذي يجب عليه أن يقدسه) لم يسمحوا لي برفقتهم ولم يبوحوا لي بسر من أسرارهم، ثم قال: «ولكني فعلت ذلك بنفسي، فلم أتناول طعاما مدة خمسة أيام، ثم خرجت ذات مساء وحدي إلى تلك الجبال.» وأشار إليها.
وابتسم له برنارد ابتسامة العطف وسأله: «وهل حلمت بشيء ما؟»
فأومأ الشاب بالإيجاب وقال: «ولكن لا ينبغي لي أن أذكر لك ما حلمت به.» ثم صمت برهة من الزمن، واصل حديثه بعدها بصوت منخفض، قال: «لقد فعلت مرة أمرا لم يفعله غيري من الآخرين، وقفت تجاه صخرة في رابعة النهار صيفا، وذراعاي ممتدتان إلى جانبي كالمسيح فوق الصليب.» - «عجبا! ولماذا فعلت هذا؟» - «أردت أن أحس بشعور المصلوب، وبقيت هناك في الشمس معلقا ...» - «ولماذا؟»
فقال مترددا: «لماذا؟ ... لأني شعرت بضرورة هذا العمل ما دام المسيح قد استطاعه، ثم إن المرء إذا أخطأ ... وكنت فوق ذلك تعسا، وهذا سبب آخر.»
قال برنارد: «يبدو لي أن هذه طريقة عجيبة لعلاج شقاوتك.» ولكن بعدما عاود التفكير في الأمر، قرر أنها طريقة لا تخلو من المغزى، فهي خير من تناول السوما.
ثم قال الشاب: «وأغمي علي بعد فترة ما، وانكفأت على وجهي، ألا ترى أثر الجرح في وجهي؟» وأزاح شعره الأصفر الغزير عن جبهته، وظهر أثر الجرح على صدغه الأيمن شاحب اللون مغضنا.
ونظر إليه برنارد ثم حول عنه بصره سريعا، وقد أصابته رعدة خفيفة؛ لأنه كيف على أن يكون شديد الاشمئزاز أكثر منه رءوفا رحيما، فإن مجرد الإشارة إلى المرض أو الجراح لا ترعبه فحسب بل تنفره وتقززه، كما تفعل القذارة أو التشويه أو الشيخوخة؛ ولذا أسرع في الانتقال إلى موضوع آخر.
فسأل صاحبه قائلا: «هل لك أن تعود معنا إلى لندن؟» وكان هذا السؤال الحركة الأولى من الحملة التي كان يدبر خطتها سرا مذ أدرك وهو في البيت الصغير من يكون «والد» هذا الشاب الهمجي، ثم قال: «هل تحب ذلك؟»
فتهلل وجه الشاب وقال: «هل تقصد حقا ما تقول؟» - «بالطبع، إذا استطعت أن أحصل على الإذن بذلك.» - «ولندا كذلك؟»
فساورته الشكوك لحظة وتردد في الإجابة، فلقد كانت لندا مخلوقا منفرا، كلا، هذا مستحيل، ما لم ... وطرأ لبرنارد فجأة أن تنفيرها نفسه قد يكون مغنما كبيرا، فقال: «بالطبع!» وعلا صوته كي يعوض تردده الأول، وبالغ في إظهار الإخلاص.
وتنفس الشاب نفسا عميقا وقال: «ما أشد دهشتي حين أفكر في أن ما حلمت به طوال حياتي قد يتحقق، هل تذكر ما تقول ميراندا؟» - «ومن تكون ميراندا؟»
وكان من الجلي أن الشاب لم يسمع السؤال واستمر يقول: «يا للعجب!» وأبرقت عيناه وتورد وجهه وقال: «كم من مخلوق طيب في ذلك المكان! ما أجمل الإنسان!» وزادت حمرة خديه فجأة، فلقد انصرف ذهنه إلى ليننا، إلى ملاك في زي لزج لونه كخضرة الزجاج، يتألق من عنفوان الشباب ومن دهان البشرة، ممتلئ الجسم، على شفتيه ابتسامة تنم عن الخير، وتهدج صوته، ثم بدأ يقول: «ما أعجب العالم الجديد!» ثم قاطع نفسه فجأة، وزالت حمرة وجنتيه، وأصبح شاحبا كالورق، ثم قال: «هل أنت متزوج منها؟» - «هل أنا ماذا؟» - «متزوج، أعني إلى الأبد، إنهم يقولون «إلى الأبد» في لغة الهنود، إنها علاقة لا تنفصم.»
فلم يتمالك برنارد نفسه من الضحك وقال: «كلا وحق فورد.»
وضحك جون كذلك، ولكن الباعث مختلف، فلقد ضحك من فرط السرور.
وكرر جون قوله: «ما أعجب العالم الجديد؟ ما أعجب هذا العالم الجديد الذي يشتمل على أمثال هؤلاء الناس! لتبدأ رحلتنا توا بغير توان»، فحملق برنارد في الشاب في دهشة وارتباك وقال: «إن لك في بعض الأحايين طريقة غريبة في الحديث، وعلى أية حال ألا يجدر بك أن تنتظر حتى ترى العالم الجديد فعلا؟»
الفصل التاسع
أحست ليننا بعد هذا اليوم الغريب المرعب أنها قمينة بعطلة تامة مطلقة، فما إن عادا إلى الاستراحة حتى ابتلعت ستة أقراص من السوما، زنة القرص الواحد نصف جرام، واستلقت على سريرها، وفي خلال عشر دقائق أقلعت إلى عالم الخلد القمري، ولا بد من أن تنقضي ثمانية عشرة ساعة على الأقل قبل أن تعود إلى وعيها.
وفي تلك الأثناء استلقى برنارد في الظلام، واسترسل في الفكر وعيناه مفتوحتان، ولم يستغرق في النوم إلا بعدما انتصف الليل بأمد طويل. ولكن أرقه لم يكن بغير جدوى، فلقد دبر لنفسه خطة محكمة.
وفي صبيحة اليوم التالي خرج الرجل الزنجي المولد، ذو الرداء الأخضر من طائرته في تمام الساعة العاشرة، وكان برنارد بانتظاره وسط أشجار الصبر، فقال له: «إن المس كراون قد رحلت في عطلة السوما، ولا أظنها عائدة قبل الخامسة، وهذا يوفر لنا سبع ساعات.»
فهو يستطيع أن يطير إلى سانتافي ويقضي بها وطره، ثم يعود إلى مالبي قبل يقظتها بوقت طويل. - «وهل تكون هنا آمنة وهي وحيدة؟»
فأكد له الزنجي أنها سوف تكون آمنة كالطائرة.
وامتطيا الطائرة وأقلعا في الحال، وفي الساعة العاشرة والدقيقة الرابعة والثلاثين، هبطا على سطح مكتب البريد في سانتافي، وفي الساعة العاشرة والدقيقة السابعة والثلاثين، وصل برنارد إلى مكتب المراقب العالمي في هوايت هول، وفي الساعة العاشرة والدقيقة التاسعة والثلاثين، كان يتحدث إلى السكرتير الخاص الرابع لسيادته، وفي الرابعة والأربعين بعد العاشرة كان يكرر قصته إلى السكرتير الأول، وفي السابعة والأربعين والنصف بعد العاشرة، رن في أذنيه صوت مصطفى مند نفسه وهو صوت عميق رنان.
فقال برنارد متلجلجا: «لقد جرؤت على الظن بأن سيادتك قد تجد للأمر أهمية علمية كافية ...»
فرد عليه بصوته العميق قائلا: «أجل، إني أجد له أهمية علمية كافية، عد بهذين الشخصين إلى لندن.» - «إن سيادتك تعلم أني سوف أحتاج إذنا خاصا ...»
قال مصطفى مند: «إن الأوامر الضرورية ترسل في هذه اللحظة إلى حارس منطقة المتوحشين، فتوجه لتوك إلى مكتب الحارس، ورافقتك السلامة يا مستر ماركس.»
وساد الصمت برهة، ثم علق برنارد السماعة، وأسرع إلى السطح.
وقال للزنجي الأخضر «د»: «إلى مكتب الحارس.»
وفي الساعة العاشرة والدقيقة الرابعة والخمسين كان يصافح الحارس.
وبصوت مجلجل يدل على الإكرام قال الحارس: «إني جد مسرور يا مستر ماركس، لقد تسلمنا منذ لحظة أوامر خاصة ...»
فقاطعه برنارد قائلا: «أعرف ذلك، إذ كنت أتحدث إلى سيادته تلفونيا منذ لحظة.» وقد تكلم بنغمة مملة، تدل على أنه اعتاد الحديث إلى سيادته في كل يوم من أيام الأسبوع، ثم خر في أحد المقاعد، وقال للحارس مؤكدا: «هل تتكرم باتخاذ الخطوات الضرورية بأقصى ما تستطيع من سرعة؟» وكان في مرح شديد.
وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثالثة، كانت الأوراق الضرورية كلها في جيبه.
وصحبه الحارس حتى أبواب المصعد، وهناك ودعه بعطف شديد.
ثم قصد الفندق، واستحم، وتدلك بالآلة المذبذبة المفرغة، وحلق بالكهرباء، واستمع إلى أنباء الصباح تذاع بالراديو، وشاهد صور التلفزيون نحوا من نصف ساعة، ثم تناول غداء خفيفا وهو خالي البال، وفي منتصف الساعة الثالثة عاد مع الزنجي طائرا إلى مالبي.
وكان الشاب واقفا خارج الاستراحة.
فصاح: «برنارد، برنارد.» غير أنه لم يظفر برد.
فصعد السلم مسرعا في خف من جلد الغزال لم يحدث به صوتا، وحاول أن يفتح الباب، ولكنه كان موصدا.
عجبا، لقد رحلا! وكان هذا الحادث أشق ما وقع له في حياته، لقد طلبت إليه أن يأتي لرؤيتهما، وها هما ذا الآن قد رحلا، فجلس على السلم وبكى.
وبعد نصف ساعة طرأ له أن يطل من النافذة، وكان أول ما وقعت عليه عيناه حقيبة ملابس خضراء، كتب على غطائها بالألوان هذان الحرفان ل. ك، فاشتعلت نفسه من فرط السرور، والتقط حجرا، وتحطم الزجاج ووقع على الأرض مصلصلا، وكان بداخل الغرفة بعد لحظة، وفتح الحقيبة الخضراء، ففاح منها عبير العطور التي كانت تحملها ليننا، وامتلأت رئتاه برائحتها وذكراها، وأسرعت دقات قلبه، وغاب عن رشده لحظة ثم انحنى على الصندوق الثمين، ومس ما به، ورفعه إلى الضياء وفحصه، ورأى على سروالها القصير اللين المصنوع من المخمل مشبكا حيره أول الأمر، ثم حل لغزه فهش له، وقد افتتن للسهولة التي يفتح بها هذا المشبك السروال ثم يسده، وكان أجمل ما وقعت عيناه عليه خفها الأخضر، وفض رداء داخليا لها يتكون من سترة وسروال متصلين، وينفتح وينسد بمشبك سهل الانزلاق، فاحمرت وجنتاه خجلا، ثم أعاد الرداء إلى الحقيبة على عجل، ثم قبل منديلا من حرير الحمض معطرا، ولف حول رقبته كوفية، وفتح أحد الصناديق فصعدت منه سحابة من المسحوق العطر، وبيض المسحوق يديه، فمسح بهما على صدره وعلى منكبيه وعلى ذراعيه العاريتين، ما ألذ تلك العطور! ثم أغمض عينيه، ومسح خده على ذراعه التي بيضها المسحوق، فأحس بملمس الجلد الناعم على وجهه، وبعطر المسك في أنفه - بل قل أحس بوجوده الحقيقي فهمس قائلا: «ليننا، ليننا!»
وسمع صوتا ارتاع له، وأحس بجرمه فالتفت، وجمع مسروقاته على عجل في الحقيبة وأغلق غطاءها، ثم أنصت ثانية والتفت، فلم تبد له شارة أو صوت يدل على الحياة، ولكنه لم يشك في أنه سمع صوتا ما - صوتا يشبه التنهد، أو يشبه صريف الألواح، فسار إلى الباب على أطراف أصابعه، وفتحه بحرص شديد فألفى نفسه مطلا على عتبة فسيحة، وفي الجانب الآخر من العتبة باب آخر، مفتوح على مصراعيه فتقدم ورفع الباب وأطل منه.
فإذا بليننا مستلقية على سرير منخفض أزيح فراشه إلى الوراء، مرتدية بيجاما ذات مشبك سهل الانزلاق قرنفلية اللون تتكون من قطعة واحدة، مستغرقة في النوم، رائعة في شعرها المتموج، في سذاجة الطفل بأصابع قدميها الحمراء ووجهها الناعس الجاد، تبعث الطمأنينة بيديها المرتختين العاجزتين وبأطرافها المستلقية، رأى ذلك فتجمع الدمع في مآقيه.
ولج الغرفة بمنتهى الحيطة التي لا لزوم لها؛ لأن ليننا لن تتيقظ من عطلة السوما قبل الموعد المحدد، اللهم إلا إن حدثت إلى جوارها ضجة لا تقل عن صوت انطلاق المسدس، وجثا على ركبتيه إلى جوار سريرها، وحملق فيها وقبض يديه وتحركت شفتاه، وتمتم قائلا:
يا لعينها، يا لشعرها، وخدها، وقدها، وصوتها!
يا لها وهي تلوح في حديثها بتلك اليد،
التي تزري ببياضها كل بياض،
والتي تفوق في نعومتها زغب الأوز ...
وعندئذ طنت حولها ذبابة، فطردها وتذكر هذه الأبيات:
إن الذباب فوق يد جوليت العزيزة ذات البياض العجيب،
قد يستولي ويسرق من شفتيها البركة الخالدة،
وهما تخجلان في تواضع طاهر عذري،
كأنهما تحسبان قبلاتهما إثما من الآثام.
ومد يده في بطء شديد وبحركة تدل على التردد، كأنه يمدها ليربت بهما على طائر خجول لا يخلو من الخطر، وظلت يده معلقة في الفضاء، وهي ترتعد على بعد بوصة من أصابعها المرتخية، وقد أوشك أن يمسها، ولكن هل يجرؤ أن يدنس بيده النجسة تلك ... كلا، إنه لم يجرؤ، فالطائر شديد الخطر، وأرخى يده، ما أجملها! ما أروعها!
وطرأ له فجأة أن يمسك بالمشبك عند عنقها ويجذبه إلى أسفل جذبة قوية طويلة، ما عليه إلا أن يفعل ذلك ثم ... وأغمض عينيه وهز رأسه بحركة كحركة الكلب يهز أذنيه وهو يخرج من الماء، لقد كانت فكرة ممقوتة! وخجل من نفسه. إن تواضعها طاهر عذري .
وسمع في الهواء طنين، فهل كانت ذبابة تحاول أن تسرق البركة الخالدة؟ أو دبور؟ وتلفت حواليه فلم تقع عينه على شيء، وعلا الطنين وتركز خارج النوافذ الخشبية، إنها لطائرة! ونهض على قدميه مذعورا وهرول إلى الغرفة الأخرى، وأطل من النافذة المفتوحة، وأسرع في مسيره فوق الممر الذي يتخلل أشجار الصبر، ولم يتأخر عن استقبال برنارد ماكس، وهو يخرج من الطائرة في الوقت المناسب.
الفصل العاشر
أشارت الأربعة آلاف ساعة كهربية جميعا في الأربعة آلاف غرفة، التي يتكون منها مركز بلومز بري إلى الساعة الثانية والدقيقة السابعة والعشرين، وكانت «هذه الخلية الصناعية» - كما كان المدير يغرم بتسميتها - تطن من ضوضاء العمل طنينا عاليا، وكان كل فرد منهكا في عمله، وكل شيء يسير في حركة منظمة، والحيوانات المنوية تبدو تحت المناظير المكبرة، وهي تقتحم البيض برأسها وتضرب بذيولها الطويلة في هياج شديد، والبيض يتمدد بالتلقيح وينقسم، وإن كان ما تجري عليه عملية بوكالوفسكي يفرخ ويتهشم مخرجا شعبا بأسره من الأجنة المنفصلة، والسلالم المتحركة في «حجرة القضاء والقدر الاجتماعي» تهبط إلى الطابق السفلي محدثة ضجيجا عاليا، وهناك في الظلام القرمزي تنمو الأجنة رويدا رويدا، وهي ساخنة كالطعام المسلوق مستقرة على وسادات من البريتون، ومشبعة بالدم المستحدث والهرمونات، وبعضها يسمم فيضعف، ويكف عن النمو ويمسي من الطراز «ه»، والرفوف المتحركة تزحف زحفا بطيئا لا يدركه الرائي محدثة طنينا خافتا وجلجلة خفيفة، وتستعيد في سيرها تطور السنين والقرون، حتى تبلغ حجرة التفريغ حيث الأطفال الذين خرجوا حديثا من قواريرهم يصيحون صيحات الذعر والدهشة الأولى.
ومولدات القوى الكهربية تموء في حجرات تحت الأرض، والمصاعد تنطلق إلى أعلى وإلى أسفل، وقد حان وقت الإطعام في الطوابق الإحدى عشرة الخاصة بصغار الأطفال، وإذا بألف وثمانمائة طفل قد خرجوا من ألف وثمانمائة قارورة، وعلى كل منهم بطاقة واضحة يرضعون في وقت واحد الكمية المقررة (وهي نصف لتر لكل منهم) من الإفراز الخارجي المعقم على طريقة باستير.
وفوقهم على عشر طبقات متتابعة من غرف النوم الصغار من البنين والبنات، الذين لا يزالون بحاجة إلى النوم بعد الظهيرة، وهم جميعا - وإن كانوا لا يدرون - منهمكون في العمل، شأنهم في ذلك شأن كل فرد آخر، كانوا جميعا ينصتون على غير وعي منهم إلى الدروس التي تلقى أثناء النوم، وكان الدرس حينئذ في علم الصحة وأصول الاجتماع، وفي شعور الطبقات وفي حياة الحب عند الأطفال، وفوق غرف النوم هذه حجرات اللعب، حيث تسعمائة طفل أكبر سنا من هؤلاء يتلهون - وقد أمطرت السماء - بصنع الطوب وتشكيل الصلصال، وبالألعاب المستحدثة وتبادل الغزل.
والخلية لا تفتر عن الطنين، والكل مرح مشغول، وغناء البنات فوق أنابيب الاختبار بهيج، ورجال القضاء والقدر يصفرون أثناء العمل، والعمال في غرفة التفريغ يتبادلون النكات البارعة فوق القوارير الفارغة، غير أن المدير دخل غرفة التلقيح حينئذ مع هنري فستر، بوجه عابس يكاد يتصلب من قسوة الرجل.
وكان يقول: «هنا في هذه الغرفة مثال للجمهور، فهي تحتوي على عمال من الطبقة العليا، أكثر مما تحتويه أية غرفة أخرى في المركز بأسره، وقد طلبت إليه أن يقابلني هنا في منتصف الساعة الثالثة.»
وعلق هنري بقوله: «إنه يتقن عمله كل الإتقان.» وكان في ثنائه هذا منافقا كريما. - «أعرف ذلك، وأرى فيه سببا آخر لقسوتي. إن تفوقه الفكري تقابله تبعات خلقية عليه أن يحملها، كلما اشتد نبوغ الإنسان زادت قدرته على التضليل، ولأن يشقى فرد واحد خير من أن يفسد أفراد كثيرون، فكر في الأمر غير متأثر بالعواطف يا مستر فستر، تجد أن السلوك الذي لا يتفق والتقاليد إثم، لا يساويه إثم آخر في شناعته، إن القاتل يودي بحياة فرد واحد - ثم ما هو الفرد؟» وبحركة سريعة أشار إلى صفوف المناظير المكبرة، وإلى أنابيب الاختبار والمحاضن وقال: «إننا نستطيع أن نصنع شخصا جديدا بسهولة عظمى - بل نستطيع أن نصنع من الأشخاص بقدر ما نريد، أما السلوك الشاذ فهو يهدد أكثر من مجرد حياة الفرد، إنه يصيب المجتمع في الصميم، إي والله إنه ليفعل ذلك، انظر! ها هو ذا آت.»
ودخل برنارد الغرفة، وتقدم نحوهما خلال صفوف الملقحات، وقد أخفى اضطرابه العصبي بطلاء خفيف من الثقة في النفس وخفة الروح، وقال: «عم صباحا أيها المدير» بصوت مرتفع سخيف، وبنغمة أخرى ناعمة كالصرير تثير الضحك، صحح خطأه قائلا: «لقد طلبت إلي أن آتي للتحدث هنا معك.»
فأجابه المدير بصوت ينذر بالسوء: «نعم يا ماركس، لقد طلبت إليك أن تأتيني هنا، وقد عدت من عطلتك مساء الأمس كما أعلم.»
فأجابه برنارد: «نعم.»
وردد المدير قوله: «نعم.» وقد أطال الميم في «نعم» مدمدما بها. ثم رفع صوته بغتة وانطلق كالبوق قائلا: «سيداتي وسادتي.»
وكف البنات فجأة عن الغناء فوق أنابيب الاختبار، وتوقف عن الصفير والعمل عمال المناظير المكبرة، وساد صمت عميق، وتلفت كل امرئ حواليه.
وكرر المدير قوله: «سيداتي وسادتي، عفوا إن قطعت عليكم حبل العمل، فإن واجبا أليما يدفعني إلى ذلك دفعا، إن أمن الجماعة واستقرارها في خطر، أجل في خطر أيها السادة، إن هذا الرجل ...» وأشار إلى برنارد متهما إياه: «الذي يقف أمامكم هنا، إن هذا الرجل من طبقة «+أ» الذي نال الكثير، وأصبحنا نتوقع منه لذلك الكثير، إن زميلكم هذا - أو هل لي أن أسبق الحوادث وأقول هذا الزميل السابق؟ - قد خان العهد الذي وضعناه في عنقه خيانة عظمى، إنه بزندقته فيما يخص الرياضة والسوما، وبحياته الجنسية المشينة الشاذة، وبرفضه أن يطيع تعاليم فورد ويسلك خارج ساعات العمل، كما يسلك الطفل في قارورته (وهنا رسم المدير هذه العلامة:
T ) إنه بذلك برهن على أنه عدو للمجتمع، وإنه ثائر - أيها السادة - على النظام والاستقرار ومتآمر على الحضارة نفسها؛ لهذا أقترح أن نفصله عن الوظيفة التي كان يشغلها في هذا المركز موصوما بالخزي والفضيحة، وأقترح أن نطلب نقله فورا إلى مركز فرعي من أحط المراكز، وإننا بعقوبته نخدم مصلحة الجماعة؛ لأننا سوف نبعده على قدر ما نستطيع عن كل مركز هام من مراكز السكان، إنه لن يجد في إيسلندة إلا فرصة ضئيلة، تمكنه من تضليل الآخرين بسلوكه الذي يخالف به شريعتنا. وسكت المدير لحظة، ثم ضم ذراعيه واتجه ببصره نحو برنارد، وقال له بنغمة مؤثرة: «هل تستطيع أن تذكر لنا، يا ماركس، سببا يدعو إلى عدم تنفيذ الحكم الذي أصدرناه بشأنك الآن؟»
فأجاب برنارد بصوت مرتفع جدا: «نعم أستطيع.»
فقال المدير: «إذن فاذكره.» وقد ارتاع قليلا، ولكنه ما برح شامخا بأنفه.
قال برنارد: «بالتأكيد، ولكنه في الممر، انتظروني لحظة.» وهرع إلى الباب وفتحه، ثم قال آمرا: «ادخل» ودخل السبب وظهر للعيان.
وشهق الجميع وتمتموا بالدهشة والفزع، وإذا بفتاة صغيرة تصيح، ووقفت إحدى الحاضرات على أحد المقاعد؛ كي تتمكن من مشاهدة المنظر، فانقلبت أنبوبتان من أنابيب الاختبار مليئتان بالحيوانات المنوية، وتقدمت لندا داخل الغرفة وجلست خلال الأبدان الفتية الشابة ذات الوجوه النضرة، وهي امرأة متورعة مترهلة كالوحش المفزع الغريب في منتصف العمر، تبسم ابتسامة مداعبة خفيفة لها طابع غريب، وقد قصدت أن تخطر بصورة تثير الشهوة، فهزت ردفيها الغليظين وهي تمشي، وسار إلى جوارها برنارد.
وأشار إلى المدير قائلا: «ها هو ذا.»
فقالت لندا غاضبة: «وهل كنت تحسب أني لم أعرفه؟» ثم التفتت إلى المدير، وقالت: «عرفتك بالطبع، وكنت أعرفك يا توما كين في أي مكان لو كنت بين ألف، ولكن ربما نسيتني، ألست تذكر؟ ألست تذكر يا توماكين، لنداك.» ووقفت تنظر إليه ورأسها على جانب، ولا زالت باسمة غير أن ابتسامتها أصبحت تدريجا - لقاء ما بدا على المدير من تقزز وتحجر - تنم عن نقص في ثقتها بنفسها، كانت ابتسامة حائرة، ثم تلاشت في النهاية، وكررت سؤالها في صوت متهدج «ألست تذكر يا توماكين؟!» وبدا في عينيها القلق والألم، وتغيرت ملامح وجهه الملطخ المترهل بصورة عجيبة، وظهر عليه تجهم يدل على الحزن العميق، ومدت ذراعيها قائلة: «توماكين.» وبدأ أحد الحاضرين يضحك همسا.
وقال المدير: «ما معنى هذا المزاح ...؟»
وهرولت نحوه تجرر أذيالها وتنادي: «توماكين!» وطوقت جيده بذراعيها، وأخفت وجهها في صدره.
وتعالى الضحك المكبوت.
وصاح المدير متمما حديثه: «هذا المزاج الوحشي.»
واحمر وجهه وحاول أن يتخلص من عناقها، وتعلقت به مستيئسة، وقالت: «ولكني أنا لندا، أنا لندا!» وضاع صوتها وسط الضحكات العالية، ثم صاحت وعلا صياحها على اللغط، وقالت: «لقد جعلتني آتي بطفل.» فسكت الجميع فجأة مذعورين، وبدا على العيون القلق، ولم يدر أصحابها إلى أين ينظرون، وشحب المدير بغتة، وكف عن النضال، ووقف ممسكا بمعصميها ومحدقا فيها مذعورا، قالت: «نعم، طفل - وكنت له أما.» وقد ألقت هذا الكلام الفاحش كأنها تتحدى الحاضرين في ثورتهم الصامتة، وأفلتت منه بغتة وغطت وجهها بيديها، وأخذت تنتحب من شدة الخجل، ثم قالت: «لم يكن خطئي يا توماكين؛ لأني كنت دائما أدرب نفسي، أليس كذلك؟ كنت دائما أفعل ذلك ولست أعرف كيف ... آه لو علمت يا توماكين شناعة ... ولكنه كان لي برغم ذلك سلوى.» والتفتت نحو الباب ونادت: «جون، جون!»
فدخل في الحال، ووقف داخل الغرفة برهة، وتلفت حوله، ثم عبر الغرفة مسرعا في خفيه المصنوعين من جلد الغزال، فلم يحدث صوتا ما، وجثا على ركبتيه أمام المدير، وقال في صوت واضح: «أبي!»
وهذه الكلمة البذيئة المضحكة خففت الضغط على الأعصاب التي كانت قد توترت إلى درجة لا تحتمل (ولم تكن كلمة «الأب» فاحشة بمقدار ما كانت سخيفة سمجة، كانت كلمة يمجها السمع من ناحية الذوق الأدبي، أكثر مما يمجها من الناحية الخلقية؛ لأنها تدل على شيء من الابتعاد عن حمل الأطفال، الذي تشمئز منه النفوس، وينم عن الانحراف الخلقي)، وانفجر الحاضرون بالضحك، ولم يكفوا عن القهقهة العالية كأن بهم مسا من جنون، إنه ينادي المدير بأبي! أبي! يا للعجب! حقا إنه لأمر لا يحتمل، وتجدد الشهيق والصياح، وأوشكت الوجوه أن تنبسط، وتدفق الدمع مدرارا، وانقلبت أنابيب اختبارية أخرى مليئة بالحيوانات المنوية، أبي! عجبا!
وحملق المدير حواليه شاحب اللون، وحشي النظرات، وقد أحس بألم الحيرة والإذلال.
أبي! لقد علا الضحك مرة أخرى بعد ما فتر قليلا، فوضع يديه على أذنيه وانطلق من الحجرة.
الفصل الحادي عشر
وبعد الحادث الذي وقع في حجرة التلقيح، كانت الطبقة العليا كلها في لندن تتأجج شوقا؛ لرؤية ذلك المخلوق العجيب، الذي جثا على ركبتيه أمام مدير التفريخ والتكييف (أو قل أمام المدير السابق؛ لأن المسكين استقال فورا بعد ذلك الحادث، ولم يطأ بقدمه المركز منذ ذلك التاريخ)، وركع تجاهه وناداه ب «أبي» (وكانت النكتة أبرع من أن يؤمن بها السامع) أما لندا - فعلى نقيض ذلك - لم تثر اهتماما، ولم يشعر أحد بالرغبة في رؤيتها؛ لأن وصف المرأة «بالأم» لم يعد من الفكاهة في شيء، إنما كان فحشا من القول، وفوق ذلك فإنها لم تكن همجية حقا، إنما خرجت من قارورة وتكيفت كأي فرد آخر؛ ولذا فلم تكن لديها آراء غريبة حقا، ثم إن مظهر المسكينة - فوق هذا وذاك - كان أقوى الأسباب التي نفرت الناس من الرغبة في رؤيتها. كانت بدينة، وقد فقدت شبابها، وفسدت أسنانها، وتلطخت بشرتها، يا لله! إنك لا تستطيع أن تنظر إلى قوامها دون أن تشمئز نفسك؛ ولذا فإن خيار الناس قد صمموا ألا يشاهدوا لندا، ولندا من ناحيتها لم ترغب في مشاهدتهم، إن العودة إلى المدنية كانت في رأيها عودة إلى السوما، وإلى إمكان ملازمة الفراش في عطلة متصلة، لا يعاني فيها النائم صراعا أو نوبة قيء، ودون أن يحس بذلك الإحساس الذي يشعر به المرء بعد أن يتناول «البيوتل»، كأنك قمت بعمل مشين ضد الجماعة فلا تستطيع أن ترفع رأسك مرة أخرى، أما السوما فلا تفعل شيئا من هذا، والعطلة التي تعطيها لمن يتناولها كاملة، فإذا كان الصباح التالي غير مقبول، فهو ليس كذلك بطبيعته، وإنما بالمقارنة مع متع العطلة، والعلاج هو أن تكون العطلة متصلة، فكانت دائما تضج في شراهة تطلب المزيد وبكميات وافرة، وعارضها الدكتور شو أول الأمر، ثم سمح لها أن تتعاطى ما تريد، فكانت تتناول مقدار عشرين جراما في اليوم الواحد.
وأسر الطبيب إلى برنارد قائلا: «وسيقضي عليها ذلك في خلال شهر أو شهرين، إن مركز التنفس عندها سوف يشل يوما ما، وتكف عن التنفس، وتنتهي من الحياة، وهو شيء جميل، إننا لو استطعنا تجديد الشباب لاختلف الأمر، ولكنا لا نستطيع تجديد الشباب.»
ولشد ما كانت دهشة الناس أجمعين، عندما تقدم جون معترضا؛ (لأن لندا كانت خلال عطلة السوما في حالة شاذة جدا).
قال: «ألستم تقصرون حياتها بإعطائها هذا المقدار كله؟»
فوافقه الدكتور شو قائلا: «هذا صحيح من ناحية، ولكنا من ناحية أخرى نطيل حياتها.» فحملق الشاب لأنه لم يدرك ما أراد الطبيب، واستمر الطبيب يقول: «إن السوما قد تفقدك بضع سنوات من الزمن، ولكن هل فكرت في الآماد الطويلة، التي لا تحد والتي تعطيكها السوما خارج الزمن؟ إن كل عطلة سومية جزء مما كان يسميه أسلافنا الخلود.»
فبدأ جون يدرك ما يعني الطبيب وقال مدمدما: «إن الخلود كان على شفاهنا وفي أعيننا.» - «ماذا؟» - «لا شيء.»
واستمر الدكتور شو يقول: «وأنت بالطبع لا تستطيع أن تسمح للناس، أن تتسلل إلى الخلود إن كانت لديهم عمل جدي لا بد لهم من أدائه، ولكن لما لم يكن لديها عمل جدي ...»
وأصر جون قائلا: «وبرغم ذلك؛ فإني لا أعتقد في صواب ذلك.»
فهز الطبيب كتفيه وقال: «بالطبع إذا كنت تؤثر أن تراها تصيح كالمجنونة كل الوقت ...»
واضطر جون في النهاية إلى التسليم، وتناولت لندا نصيبها من السوما، ومن ذلك الحين بقيت في غرفتها الصغيرة في الطابق السابع والثلاثين من عمارة برنارد، ولزمت الفراش، والراديو والتلفزيون دائران بغير انقطاع، وعطر البتشولي يتصبب قطرات من الصنبور، وأقراص السوما في متناول يدها. هناك لبثت لندا، ومع ذلك فإنها لم تكن هناك البتة، بل كانت متغيبة كل الوقت، بعيدة جدا في عطلة تامة، في إجازة في عالم آخر، حيث موسيقى الراديو عبارة عن تيه من الألوان الرنانة، تيه زلق نابض، يؤدي (بطريق ملتو جميل لا مناص منه) إلى مركز مضيء من الثقة المطلقة، حيث الصور الراقصة في صندوق التلفزيون، صور لممثلين في دار الصور المحسة الغنائية الممتعة بدرجة تفوق الوصف، حيث عطر بتشولي المتقطر أكثر من عطر عادي - هو الشمس، أو هو ألوف من السكسوفونات، أو هو بوبي في عشقه، بل هو أكثر من ذلك بدرجة لا تقارن ولا تحد.
وختم الدكتور شو حديثه قائلا: «كلا، إننا لا نستطيع أن نجدد الشباب، ولكنني مسرور إذ أتيحت لي هذه الفرصة؛ لكي أرى مثلا من الشيخوخة في الإنسان، وإني أشكرك كثيرا لاستدعائي.» وصافح برنارد بحرارة شديدة.
وإذن فلقد كان جون هو هدفهم الذي كانوا جميعا يقصدون، ولما كان لا يمكن أن يرى إلا عن طريق برنارد ولي أمره المفوض، فقد وجد برنارد أنه لأول مرة في حياته، لا يعامل معاملة عادية فحسب، ولكنه يعامل كشخص ذي أهمية بارزة، فلم يعد أحد يذكر الكحول في دمه، ولم يعد أحد يسخر من مظهره الشخصي، وأصبح هنري فستر - على غير عادته - يتودد إليه، وقدم له بنتو هوفر هدية من ست لفافات من لبان الهرمونات الجنسية، وأتاه مساعد مدير المصائر وتطفل عليه بشكل زري، يطلب عودته إلى إحدى حفلات برنارد المسائية، أما عند النساء فلم يكن على جون إلا أن يشير إشارة طفيفة إلى إمكان دعوتهن، فيظفر بمن يحب.
وصرحت فاني وهي تشعر بشعور الظافر: «إن برنارد قد دعاني إلى لقاء الهمجي يوم الأربعاء المقبل.»
فقالت ليننا: «إني جد مسرورة، ولعلك تعترفين الآن أنك كنت مخطئة في تقدير برنارد، ألا ترينه عذبا حقا؟»
فأومأت فاني برأسها، وقالت: «ولا بد أن أقر أني دهشت جدا وسررت.»
وتودد إلى برنارد عدد لا يحصى من الوجهاء - منهم رئيس القوارير ومدير المصائر، وثلاثة من وكلاء مساعدي الملقحين العامين، وأستاذ الصور المحسة في كلية هندسة العواطف، وعميد معهد الغناء الجمعي بوستمنستر، ومراقب عمليات بوكانوفسكي.
وأسر إلى هلمهلتز واطسن قائلا: «وكان عندي ست بنات في الأسبوع الماضي: واحدة يوم الاثنين، واثنتان يوم الثلاثاء، واثنتان أخريان يوم الجمعة، وواحدة يوم السبت، ولو توفر لي الوقت أو لو كان لدي الميل، لظفرت على الأقل باثنتي عشرة بنتا غير هؤلاء كن يتحرقن شوقا ...»
وأصغى هلمهلتز إلى مفاخرته في صمت يدل على عدم الرضا والاكتئاب؛ مما جعل برنارد يستشعر منه الإساءة.
فقال: «أنت حسود.»
فهز هلمهلتز رأسه وأجاب بقوله: «إني حزين، وهذا كل ما في الأمر.»
وانصرف برنارد حانقا، وصمم في نفسه ألا يكلم هلمهلتز مرة أخرى.
ومرت الأيام، وانتشى برنارد من اطراد النجاح، وشعر خلال ذلك بالتوافق التام بينه وبين العالم (كما يفعل أي مخدر جيد)، وكان حتى آنئذ ساخطا عليه، ورضي عن النظام القائم ما دام يعترف له بالأهمية، غير أنه برغم ما كان بينه وبين النظام القائم من وفاق من أثر النجاح، أبى أن يتخلى عن حقه الممتاز في نقد هذا النظام؛ لأن النقد كان يقوي إحساسه بأهميته ويجعله يحس بالعظمة، ثم إنه كان فوق ذلك يعتقد بإخلاص أن هناك من الأمور ما يستحق النقد (وهو في نفس الوقت يحب أن ينجح، وأن يظفر بكل من يريد من البنات)، فكان برنارد يتظاهر بالخروج على التقاليد، وبالنقد أمام أولئك الذين يتوددون الآن من أجل الهمجي، وكان الناس يصغون إليه مؤدبين، ولكنهم يهزون رءوسهم من خلفه، ويقولون: «إن مصير ذلك الشاب سوف يكون سيئا.» متنبئين وهم واثقون أنهم هم أنفسهم سوف يعملون بأشخاصهم في الوقت المناسب على سوء المصير، ثم يقولون: «إنه لن يجد همجيا آخر يعينه على النجاة مرة أخرى.» ولكن الهمجي الأول كان على أية حال لا يزال ماثلا أمامهم، فكانوا متأدبين، وما داموا كذلك فقد كان برنارد يحس بعظمته الشامخة، كان يحس بالعظمة كما يحس بنشوة الغرور، وكأنه أخف من الهواء.
وقال برنارد مشيرا إلى أعلى: «أخف من الهواء.»
وتلألأ منطاد مصلحة الجو الأسير وردي اللون في ضياء الشمس، كأنه لؤلؤة في السماء، تعلو عليهم علوا كبيرا.
وجاء في أوامر برنارد أن: «هذا الهمجي يجب أن يطلع على الحياة المتحضرة من جميع وجوهها ...»
وكان الهمجي آنئذ يشرف من أعلى على هذه الحياة، ويلقي عليها نظرة عامة من رصيف برج تشيرنج-ت، وقام بإرشاده ناظر المحطة وعالم الطبيعيات المقيم، ولكن برنارد هو الذي تكفل بالقسط الأوفر من الحديث، وكان سلوكه - في نشوته - كأنه على الأقل مراقب عالمي زائر - أخف من الهواء.
وسقط من السماء صاروخ بومباي الأخضر، ونزل منه الركاب، وأطل من النوافذ الجانبية لإحدى غرف الصاروخ ثمانية توائم درافيديين (أي غير آريين) على صورة واحدة، يلبسون الكاكي - وأولئك هم خدام السفينة الطائرة.
وقال ناظر المحطة مؤكدا: «ألف ومائتان وخمسون كيلومترا في الساعة، ما رأيك في هذا أيها الهمجي؟»
وكانت تلك السرعة مدهشة حقا في رأي جون، غير أنه قال: «لكن أربيل يستطيع أن يطوق الأرض في أربعين دقيقة.»
وكتب برنارد في تقريره لمصطفى مند: «من العجيب أن الهمجي يبدي دهشة قليلة جدا - أو رهبة - من مخترعات المدنية، ولا شك أن هذا من ناحية يرجع إلى أنه سمع لندا ... تتحدث عنها». (وقطب مصطفى مند جبينه، وقال: «هل يحسب هذا الغبي أن التقزز يبلغ بي حد الاشمئزاز من رؤية الكلمة مكتوبة بتمامها؟».) «ويرجع من ناحية أخرى إلى تركيزه اهتمامه فيما يسميه «الروح» التي يصر على اعتبارها كائنا مستقلا عن البيئة الطبيعية، في حين أني حاولت أن أفهمه ...»
وغض المراقب طرفه عن العبارات التالية، وأوشك أن يقلب الصفحة باحثا عن شيء مادي أكثر تشويقا، عندما وقعت عيناه على سلسلة من العبارات البالغة في الغرابة، فقرأ ما يلي: «... ولكني أقر أني أوافق الهمجي على أن الطفولة في حياة المدنية يسيرة جدا، أو أنها - على حد تعبيره - تكلفنا أقل مما ينبغي، وأحب أن أنتهز هذه الفرصة؛ لأنبه سيادتكم إلى أن ...»
وتحول غضب مصطفى مند في الحال إلى مرح شديد، فإن تعرض هذا المخلوق لمحاضرته - هو بالذات - بشأن النظام الاجتماعي كان حقا مما يدعو إلى السخرية، لا بد أن يكون الرجل قد أصيب بمس من جنون، وتحدث إلى نفسه قائلا: «ينبغي لي أن ألقي عليه درسا.» ثم طرح رأسه إلى الوراء وقهقه ضاحكا، ولم يستطع - في تلك الآونة على الأقل - أن يلقي ذلك الدرس.
كان مصنعا صغيرا لأجهزة الضوء في الطائرات، وهو فرع من شركة الإعداد الكهربائي، وقابلهم على السطح نفسه كبير الفنيين ومدير العنصر الإنساني؛ (لأن خطاب التوصية الدوري الذي حرره المراقب كان له تأثير سحري)، وهبطوا إلى المصنع في الطابق السفلي.
وأخذ مدير العنصر الإنساني يشرح لهم، قال: «إن كل عملية تتم على قدر المستطاع بمجهود جماعة واحدة بوكانوفسكية.»
وكان ثلاثة وثمانون شخصا سودا فطس الأنوف دقاق الرءوس من طراز «ء»، يقومون فعلا بعملية ضغط البرودة، وكان يدير الآلات الست والخمسين ذوات المغازل الأربعة التي تنقنق وهي تسير، ستة وخمسون شخصا من طراز «ج» الأشقر ذي الأنف الأقنى، وكان يشتغل في المسبك مائة شخص وسبعة من السنغاليين من طراز «ه»، الذي تكيف بالحرارة، وكان يقطع اللوالب ثلاثة وثلاثون أنثى من طراز «ء»، من ذوات الرءوس الطويلة واللون الرملي والأحواض الضيقة، طول كل منهن متر وتسعة وستون سنتيمترا، لا يزيد على ذلك ولا ينقص أكثر من عشرين مليمترا، وفي حجرة الاجتماع كان يضم المحركات الكهربائية، بعضها إلى بعض، مجموعتان من الأقزام من طراز «+ج»، ومنضدتا العمل المنخفضتان متقابلتان، يزحف بينهما حامل عليه أشلاء متناثرة، وهنا يجابه سبعة وأربعون رأسا أشقر اللون سبعة وأربعين رأسا أخرى سمراء، وسبعة وأربعون أنفا أفطس سبعة وأربعين أنفا مدببا، وسبعة وأربعون ذقنا متراجعة سبعة وأربعين ناتئة. وكان يفحص الآلات الكاملة ثماني عشرة بنتا في صورة واحدة، ذوات شعر مجعد، سمراوات، يلبس زي «ج» الأخضر، ويجمعها في الأقفاص أربعة وثلاثون شخصا، قصار السوق، أيسرين، ذكورا، من طراز «−ء»، ويحملهما في عربات تنتظرها وفي سيارات للنقل ثلاثة وستون شخصا، زرق العيون، يلبسون الكتان، ذوي بشرات منقوطة، ومن طراز «ه»، أنصاف معتوهين.
ووجد الهمجي أن ذاكرته اللعينة قد ذكرته بكلمات ميراندا: «ما أعجب هذا العالم الجديد الذي يحتوي على أمثال هؤلاء الناس».
وختم مدير العنصر الإنساني كلامه، وهم يخرجون من المصنع قائلا: «وإنني أؤكد أننا لا نكاد نجد مشقة مع العمال من أي نوع كان، إننا نجد دائما ...»
ولكن الهمجي اعتزل رفاقه بغتة، وكان يتهوع بعنف خلف مجموعة من الأكاليل، كأن الأرض كلها طائرة هبطت في جيب من الهواء.
وجاء في تقرير برنارد أن الهمجي يأبى أن يتناول السوما، وهو في نكد شديد؛ لأن المرأة لندا، أمه ... في عطلة دائمة. ومما يجدر ذكره أن الهمجي، برغم شيخوخة أمه ... وبشاعة مظهرها القصوى، كثيرا ما يذهب لزيارتها، والظاهر أنه شديد الولع بها، وهو مثال شائق للطريقة التي يمكن أن يتم بها التكييف في سن باكرة لتعديل الدوافع الطبيعية، بل لنقضها نقضا تاما (والدافع في هذه الحالة هو النفور من الأشياء الكريهة).
وهبطوا في أيتن فوق سطح المدرسة العليا، وفي الجانب الآخر من فناء المدرسة، كان برج لوبتن بطوابقه الاثنين والخمسين، يتألق ناصع البياض في ضياء الشمس، والكلية إلى يسارهم، ومعهد الغناء الجمعي على يمينهم، ترتفع فيها أكوام هائلة من الأسمنت المسلح بالحديد والزجاج، الذي يمكن للأشعة فوق البنفسجية أن تتخلله، وفي وسط الفناء المستطيل يقوم تمثال فورد العجيب العتيق، مصنوعا من الصلب المصبوغ بالكروم.
واستقبلهم الدكتور جافني مدير المدرسة، والمس كيت كبيرة المعلمات، وهم يخرجون من الطائرة.
وألقى الهمجي هذا السؤال متخوفا: «هل عندكم توائم كثيرة هنا؟» وذلك عندما بدءوا طوافهم للتفتيش.
فأجابه المدير: «كلا، إن أيتن محجوزة كلها للبنين والبنات من الطبقة العليا، أبناء البيضة الواحدة التي تنتج فردا بالغا واحدا، وهذا يجعل التربية عسيرة بطبيعة الحال، ولكن ذلك أمرا لا مناص منه؛ لأن طلبة هذه المدرسة سوف يدعون لتحمل التبعات ولمعالجة مشاكل غير منظورة.» ثم تنهد.
وفي تلك الأثناء أحس برنارد بميل شديد نحو مس كيت، وكان يقول لها: «إذا فرغت في أحد أيام الاثنين أو الأربعاء أو الجمعة مساء ...» وهز إبهامه نحو الهمجي وقال: «اعلمي أنه عجيب، وغريب.»
وتبسمت مس كيت (وكانت بسمتها فاتنة في عينه)، وقالت: «شكرا لك، يسرني أن أحضر إحدى حفلاتك.» وفتح المدير الباب.
إن خمس دقائق في غرفة الدرس تلك الخاصة بالطلبة من طراز «+ +أ» قد حيرت جون قليلا ما.
وأسر إلى برنارد سائلا: «ما هي مبادئ النسبية؟» وحاول برنارد أن يشرح له ما هي، ثم عدل عن الشرح واقترح زيارة غرفة دراسية أخرى.
وسمعوا من خلف باب في الدهليز، الذي يؤدي إلى حجرة الجغرافيا للطلبة «−ب» صوتا عاليا يرن مناديا: «واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة.» ثم ينادي بعد ذلك بصوت يدل على القلق والتعب: «عودوا كما كنتم».
فشرحت لهم كبيرة المعلمات ذلك قائلة: «هذا تدريب مالتسي، إن أكثر بناتنا خناث بطبيعة الحال، وأنا نفسي خنثى.» وابتسمت لبرنارد ثم قالت: «ولكن لدينا زهاء ثمانمائة فرد غير معقمين بحاجة إلى تدريب مستمر.»
وعرف جون في حجرة الجغرافيا للطلبة «−ب» أن «منطقة المتوحشين مكان لا يستحق تكاليف التمدين نظرا للظروف المناخية أو الجيولوجية غير الملائمة، أو لفقر الموارد الطبيعية»، وسمع طقة خفيفة أظلمت الغرفة بعدها، وبغتة ظهرت على الستار فوق رأس الأستاذ صور «التائبين» في أكوما سجدا أمام العذراء مولولين - كما سمعهم جون من قبل - ومعترفين بآثامهم أمام المسيح المصلوب، وأمام تمثال نسر بوكونج، وحق لشباب أيتن أن يقهقهوا عندئذ ضاحكين، ونهض التائبون على أقدامهم وهم لا يزالون يولولون، ونضوا ثيابهم الخارجية وبدءوا يضربون أنفسهم بسياط معقدة ضربات متواليات، وتعالى الضحك حتى لم تعد أناتهم المسجلة بتمامها تبلغ الأسماع.
وسأل الهمجي في حيرة المتألم: «ولكن لماذا يضحكون؟»
والتفت المدير نحوه بوجه ارتسمت عليه ابتسامة عريضة قائلا: «لماذا؟ لأن هذا أمر غاية في الغرابة.»
وفي ضوء خافت كضوء السينماتوغراف، تجرأ برنارد على حركة ما، كان في الماضي لا يجسر على أدائها حتى في الظلام الدامس، ذلك أنه - وقد شجعته أهميته الجديدة - طوق بذراعه خصر كبيرة المعلمات، وطاوعته وتثنى عودها، وأوشك أن يختطف منها قبلة أو اثنتين وقرصة خفيفة، حينما طقطقت النوافذ ثانية، وهي تتفتح.
فقالت مس كيت: «يحسن أن ننصرف، وسارت نحو الباب.»
وقال المدير بعد لحظة: «وهذه هي غرفة مراقبة التعليم بالايحاء.»
وكانت مئات صناديق الموسيقى المركبة - وقد اختصت كل غرفة من غرف النوم بواحد منها - مصفوفة على الرفوف حول ثلاثة من جدران الغرفة، وعلى الجدار الرابع لفائف من الورق عليها خطوط صوتية، وقد وضعت في عيون وطبعت عليها الدروس الايحائية المختلفة.
وقاطع برنارد الدكتور جافني قائلا: «إنكم تدسون لفافة الورق هنا، وتضغطون على هذا المفتاح إلى أسفل ...»
فصححه المدير مغضبا وقال: «كلا، لا تضغط على هذا المفتاح.» - «إذن فهو هذا، ثم تحل اللفافة، وتحول خلايا السلنيوم الهزات الضوئية إلى موجات صوتية، ثم ...»
وختم الدكتور جافني حديثه قائلا: «وهذا كل ما في الأمر.»
وسأل الهمجي وهم يسيرون في طريقهم إلى معامل الكيمياء الحيوية بجوار مكتبة المدرسة، قال: «هل يقرءون شيكسبير؟» فقالت كبيرة المعلمات، وقد اعتراها الخجل: «كلا بالتأكيد.»
وقال الدكتور جافني: «إن مكتبتنا لا تحتوي إلا على المراجع، فإذا أراد شبابنا الترفيه تلمسوه في دور الصور المحسة، إننا لا نشجعهم على الاعتكاف معتزلين أثناء اللهو.»
وعندئذ انزلق إلى جوارهم على الطريق المزجج خمس سيارات كبيرة، تحمل عددا من البنين والبنات يلقون الأناشيد أو يتعانقون صامتين.
وكان برنارد يسر همسا إلى كبيرة المعلمات يحدد معها موعدا للقاء في ذلك المساء، عندما قال الدكتور جافني: «إنهم عائدون الآن من حمأة إحراق الأجساد، إن تكييف الموت يبدأ بعد ثمانية عشر شهرا، فيقضي كل طفل صغير صباحين من كل أسبوع في مستشفى الموتى، هناك توجد أحسن اللعب، وتقدم إلى الأطفال الشكولاتة بالقشدة في أيام الموت، ويتعلمون أن يتقبلوا الموت كأنه أمر طبيعي.»
وعلقت كبيرة المعلمات على ذلك مبدية أستاذيتها وقالت: «كأية عملية فسيولوجية أخرى.»
في الساعة الثامنة عند سافوي، وتم الاتفاق على كل شيء.
وفي طريق عودتهم إلى لندن وقفوا عند مصنع شركة التلفزيون في برنتفورد، وسألهم برنارد: هل تسمحون بالانتظار هنا لحظة، حتى أذهب وأتحدث بالتلفون ثم أعود؟
وانتظر الهمجي مراقبا. وكان عمال النهار الأساسيون ينصرفون من العمل آنئذ، وجمهور من عمال الطبقة السفلى يصطف واحدا في إثر الآخر أمام محطة الترام، الذي يسير على قضيب واحد سبعمائة أو ثمانمائة رجل وامرأة من «ج، ء، ه»، يشتركون جميعا فيما لا يزيد عن اثنتي عشرة صورة مختلفة من صور الوجوه والقامات، وقد أمد العامل المختص بحجز المحلات لكل منهم - وهم يحملون تذاكرهم - صندوقا صغيرا من الورق الغليظ، يحتوي على حبوب للدواء، وكان الصف الطويل من الرجال والنساء يتحرك إلى الأمام ببطء كما تتحرك الدودة.
ولما عاد إليهم برنارد استفسر منه الهمجي - وقد تذكر قصة «تاجر البندقية» - عما بتلك الصناديق.
فأجابه برنارد بشيء من الغموض قائلا : «ذلك مقرر السوما اليومي.» ويرجع ذلك الغموض إلى أنه كان يلوك في فمه قطعة من لبان بنتو هوفر، ثم قال: «إنهم يتناولونها عقب انتهائهم من العمل، أربعة أقراص زنة الواحد منها نصف جرام، وست يوم السبت.»
وتأبط ذراع جون بعطف شديد، وسارا معا عائدين نحو الطائرة.
وأتت ليننا إلى غرفة التغيير وهي تغني.
قالت فاني: «يبدو لي أنك في نشوة من سرور.»
وأجابت قائلة: «نعم إني جد مسرورة.» وزرت ثيابها ثم قالت: «لقد تحدث إلي برنارد بالتلفون منذ نصف ساعة.» وزرت زرين وبرز ساقاها من سروالها القصير، ثم قالت: «إن لديه موعدا لم يكن يتوقعه.» وزرت زرا آخر «وسألني إن كنت أستطيع أن أصحب الهمجي إلى دار الصور المحسة هذا المساء، فلا بد أن أطير.» وهرولت نحو الحمام.
وقالت فاني محدثة نفسها، وهي تراقب ليننا في ذهابها: «إنها فتاة محظوظة!»
ولم يكن في تعقيبها شيء من الحسد، وإنما كانت فاني - وهي تلك الفتاة الطيبة - تقرر حقيقة واقعة. أجل لقد كانت ليننا سعيدة الحظ، كانت سعيدة؛ لأنها ساهمت مع برنارد بنصيب وافر في شهرة الهمجي الواسعة، وكانت سعيدة لأنها اشتركت بشخصها الضعيف، في إشادة المجد الرفيع الطريف، الذي ساد في ذلك الحين، ألم تطلب إليها سكرتيرة جمعية الشابات الفورديات أن تلقي محاضرة في مغامراتها؟ ألم تدع إلى حفلة العشاء السنوية في نادي أفروديت؟ ألم تظهر في الجريدة الإخبارية في دار الصور الغنائية المحسة؟ لقد ظهرت لملايين لا تحصى من البشر فوق هذا الكوكب، فرأوها وسمعوها وأحسوها.
ولم يكن ما أبداه الأفراد البارزون نحوها من اهتمام بأقل من ذلك دهانا، فقد دعاها إلى العشاء وإلى الإفطار السكرتير الثاني لمراقب العالم المقيم، وقضت عطلة نهاية الأسبوع مرة مع كبير قضاة الدولة، وعطلة أخرى مثلها مع كبير منشدي كنتربري، ولم يفتر عن التكلم معها بالتليفون مدير شركة الإفرازات الداخلية والخارجية، وقد زارت دوفيل مع نائب مدير بنك أوروبا.
واعترفت لفاني بقولها: «حقا إنها لحياة عجيبة، غير أني لا أخلو من الشعور بأني أظفر بهذه الخطوة على دعوى باطلة؛ لأن أول ما يريدون العلم به هو - بالطبع - نوع الشعور الذي يحس به المرء إذا بادله العشق أحد المتوحشين، ولا بد لي أن أقول لهم: إني لا أدري.» وهزت رأسها ثم قالت: «وأكثرهم لا يصدقني بطبيعة الحال، ولكني صادقة وكم وددت لو لم أكن.» ثم تنهدت آسفة وقالت: «إنه جميل للغاية، ألست تظنين ذلك؟»
وسألتها فاني قائلة: «ولكن ألا يحبك؟» - «أظن أحيانا أنه يحبني، وأحيانا أخرى أظن أنه لا يحبني، إنه دائما يبذل ما وسعه من جهد ليتجنبني، فيخرج من الغرفة إذا دخلتها ولا يمسني، بل ولا ينظر إلي، ولكني أحيانا عندما ألتفت فجأة أراه محدقا في، ثم ... أنت بالطبع تعرفين كيف يكون مظهر الرجل إذا أحب المرأة.»
نعم كانت فاني تعرف ذلك.
وقالت ليننا: «لست أدرك الحقيقة.»
إنها لم تدرك الحقيقة، ولم تكن متحيزة فحسب، بل لقد كانت مضطربة كذلك. - «لأني أنا أحبه يا فاني.»
وازداد حبها له تدريجا، والآن أتيحت لها فرصة حقيقية - كما ظنت وهي تشم رائحتها بعد الحمام، تلك فرصة طيبة ارتعدت لها فرائصها، وأخذت تنشد من فرط الطرب:
ضمني إليك يا حبيبي حتى أفقد صوابي،
وقبلني حتى أغيب عن رشدي.
ضمني يا حبيبي، وترفق يا عزيزي؛
فالحب ممتع كالسوما.
كان أرغن العطور يتضوع بأنغام الروائح المختلفة المنعشة الممتعة - من السعتر والخزامي وحصا البان والريحان والآس وغيرها، وتعقب ذلك ألحان جريئة من مفاتيح الطيب والعنبر، ثم يعود الأرغن إلى نشر عبير الصندل والكافور والأرز والبرسيم المحصود من عهد قريب (ويتخلل ذلك بين الفينة والفينة نشاز طفيف من رائحة حلو الكلى، ونفحة خفيفة من روث الخنزير)، ثم يعود إلى العطور الخفيفة التي بدأت بها القطعة العطرية، وتلاشت نغمة السعتر الأخيرة، وأظهر الجميع استحسانهم، وأشعلت الأضواء، وفي أثناء عزف آلة الموسيقى المركبة بدأت تنحل لفافة الورق التي ارتسمت عليها الخطوط الصوتية، وامتلأ الجو الآن بالثالوث الصوتي الرخيم، الذي يتألف من الكمان القوي والكمان الأجوف العظيم والمزمار الطريف، وعزفت الموسيقى ثلاثين أو أربعين نغمة، وفي هذا الجو الموسيقي الآلي، أخذ صوت أرق من صوت الإنسان يتغنى، وكان الصوت يخرج من الحلق حينا، ومن الرأس حينا آخر، أجوف كالناي مرة، ومشبعا بالنغمات المؤتلفة الشائعة مرة أخرى، وهو يتدرج بغير عناء من نغمة جاسبارد فرستر المنخفضة، التي تقع على حافة الأنغام الموسيقية إلى النغمة العالية، التي ترتفع كثيرا عن أعلى «ج»، التي لم يتفوه بها بدقة ووضوح غير لوكربزيا آجوجاري وحدها مرة من بين المغنين جميعا في خلال العصور التاريخية كلها (وذلك في عام 1770 في أوبرا الدوق ببارسا، وقد دهش لها موزار دهشة كبرى).
واستقر الهمجي وليننا في مقعدين منتفخين بالهواء، يستنشقان ويسمعان، ثم جاء دور العيون والجلد.
وأطفئت أنوار البيت وظهرت في الظلام أحرف نارية بارزة، كأنها معلقة في الفضاء لا ترتكز على شيء، وقد كتبت هذه الأحرف بخط عريض «ثلاثة أسابيع بالطائرة، دار للصور المحسة المجسمة ذات الغناء الممتاز، والنطق الصناعي، والألوان، مصحوبة بأرغن العطور في آن واحد».
وهمست ليننا قائلة: «اقبض على هذه العقد المعدنية المتصلة بذراعي مقعدك، وإلا ما أحسست بالآثار الملموسة.»
وفعل الهمجي كما أمرت.
وعندئذ اختفت تلك الأحرف النارية، وأظلم المكان ظلاما تاما نحو عشر دقائق، ظهرت بعدها فجأة صورة مجسمة لزنجي ضخم مع امرأة ذهبية الشعر شابة صغيرة الرأس من طراز «+ب»، وهما متعانقان، والصورة تبهر النظر، وهي أشد تجسيما منها لو كانت حية فعلا دما ولحما بدرجة لا تقارن، واقعية أكثر من الواقع بدرجة كبيرة.
وذعر الهمجي، وكان الإحساس على شفتيه! ورفع إحدى يديه إلى فمه، وسكتت الدغدغة حينا فأرخى يده على العقدة المعدنية، فبدأت من جديد، وأرغن العطور في تلك الأثناء يتنفس عن المسك النقي، وفي النهاية ترنمت حمامة من صندوق صوتي مرددة هذا الصوت «أوه، أوه.» وجاوبتها نغمة محزنة أعمق من النغمة الإفريقية تتذبذب اثنتين وثلاثين مرة في الثانية فقط مرددة هذا الصوت: «آه، آه». وعادت الشفاه المجسمة تردد الصوت الأول، ورددت مرة أخرى المناطق الحسية في وجوه ستة آلاف متفرج في الهمبرا سرورا كهربيا لا يحتمل ، عندما سمعوا هذا الصوت: «أوه ...»
وكان موضوع القصة المصورة غاية في البساطة، فقد حدثت للزنجي حادثة في إحدى الطائرات وسقط على رأسه، وأحست الجباه بوقع الصدمة، وعلت أصوات المتفرجين مرددين هذه الأصوات: «أوه، آه» - وذلك كله بعد بضع دقائق من «الأوهات والآهات» الأولى. (وبعدما تغنت فرقتان معا بنشيد من الأناشيد، وبعدما تمثل دور قصير من أدوار الحب فوق جلد الدب المشهور، وكل شعرة فيه تحس وحدها واضحة - ولقد أصاب مساعد مدير المصائر كل الإصابة).
وحورت الصدمة تكييف الزنجي كل التحوير، فاشتد ميله إلى الفتاة الشقراء من طراز «ب» وجن بها، واحتجت، وأصر على ميله، وظهر له منافس، تشاجر معه وطارده وتهجم عليه، وأخيرا اختطفت الفتاة الشقراء وأثارت بذلك هزة كبرى، واغتصبت الشقراء «ب»، وطارت نحو السماء وبقيت هناك محلقة، ولبثت ثلاثة أسابيع في جدل وحشي غير اجتماعي مع الرجل الأسود المجنون، وأخيرا بعد سلسلة كاملة من المغامرات وألعاب بهلوانية كثيرة، نجح ثلاثة شبان من طراز «أ» في إنقاذها، ونقل الزنجي سريعا إلى مركز لإعادة تكييف البالغين، وانتهت القصة المصورة انتهاء سعيدا لائقا، بعدما أصبحت الشقراء «ب» سيدة على منقذيها الثلاثة، وقد قاطعوا أنفسهم لحظة كي ينشدوا رباعية مركبة مصحوبة بأركسترا رفيعة كاملة ورائحة الجاردينا على أرغن العطور، ثم ظهر جلد الدب للمرة الأخيرة، ووسط دوي السكسوفونات تلاشت في الظلام آخر قبلة مجسمة، وبادت الدغدغة الكهربية الأخيرة على الشفاه، كما تبيد السوسة وهي ترتجف، وأخذت تضعف وتفتر حتى سكنت في النهاية سكونا تاما.
ولكن هذا الإحساس لم يفن عند ليننا كل الفناء؛ فإن أثره ما برح يهتز على شفتيها، وما فتئ يسري في جلدها محدثا رعدة لطيفة من الشوق والسرور، حتى بعد أن أشعلت الأضواء، وهم يخطرون مبطئين مع الجمهور صوب المصاعد، واحمرت وجنتاها، ولمعت عيناها كقطرات الندى، وتنفست الصعداء، ثم أمسكت بذراع الهمجي وضمتها - وهي مرتخية - إلى جنبها، وأطل عليها لحظة، وهو شاحب اللون، متألم، متشوق، وخجل من تشوقه، إنه ليس جديرا ... والتقت عيونهما برهة من الزمن، ورأى في عينيها كنوزا موعودة؛ أنهما ينمان عن مزاج يصح أن تفدى به الملكات، وأشاح ببصره مسرعا، وأطلق ذراعه الحبيسة، وانتابه خوف غامض؛ خشية أن تكف عن ظهورها بمظهر يشعره بأنه غير جدير بها.
قال: «ولست أظن أنه ينبغي لك أن تنظري إلى الأشياء بهذه العين».
وقد حاول في الحال أن ينسب القصور عن الكمال في الماضي، أو احتمال ذلك في المستقبل إلى الظروف المحيطة دون ليننا نفسها. - «أي أشياء؟» - «أمثال هذه القصة المصورة المريعة.»
ودهشت ليننا حقا وقالت: «مريعة؟ إني كنت أحسبها جميلة؟»
فقال محنقا: «لقد كانت وضيعة غير شريفة.»
وهزت رأسها وقالت: «لست أعرف ما تعني.» وتعجبت من شدة غرابته، وتساءلت لماذا يشذ ويفسد الأشياء.
وفي الطائرة التي استأجراها لم يكد ينظر إليها، بل لقد جلس منصرفا عنها في صمت، متقيدا بمواثيق قوية لم ينطق بها أحد، ومطيعا لقوانين لم تسر من زمان بعيد، وأحيانا يهتز جسمه كله بغتة جافلا جفولا عصبيا، كأن أصبعا يضرب على وتر مشدود يكاد ينقطع من التوتر.
وهبطت الطائرة على سطح بيت ليننا، وابتهجت وهي تخرج من الطائرة؛ لأن الرحلة قد بلغت نهايتها، وكأن رفيقها كان غريب الأطوار حتى اللحظة الأخيرة، ووقفت تحت مصباح وتطلعت إلى مرآة يدوية، وأخيرا عادت من رحلتها! وكان أنفها يلمع قليلا فنثرت فوقه مسحوقا دقيقا من قرص ناعم كانت تحمله من أجل ذلك، وانتهزت فرصة الفترة التي كان يدفع فيها أجر الطائرة، ونثرت المسحوق فوق أنفها، وأطفأت بريقه، وفكرت في نفسها: «إنه جميل للغاية، وليست به حاجة إلى الخجل مثل برنارد، ومع ذلك ... فلو كان أي رجل آخر غيره لفعل الفعلة من زمان طويل، والآن لقد انتهت الرحلة.» وطالعتها بغتة ابتسامة من ذلك الجانب من صورة وجهها الذي انعكس في المرآة الصغيرة المستديرة.
وسمعت صوتا مختنقا خلفها يقول: «مساء الخير.» والتفتت ليننا خلفها، فإذا به واقف لدى باب الطائرة وعيناه مثبتتان محملقتان، وكان محدقا فيها طوال المدة التي كانت تمسح فيها أنفها بالمسحوق، منتظرا ولكن لماذا؟ أو مترددا ومحاولا أن يصل إلى قرار، وسابحا كل الوقت في الفكر، ولم تستطع أن تتصور ماذا عسى أن تكون تلك الأفكار الشاذة، وكرر قوله: «مساء الخير يا ليننا.» وتقلص وجهه تقلصا غريبا وهو يحاول الابتسام. - «ولكن، جون ... لقد كنت أحسب أنك ... أعني ... ألست ...؟»
وأغلق الباب وانحنى إلى الأمام كي يسر إلى السائق بكلمة، ثم انطلقت الطائرة في الفضاء، وأطل الهمجي من النافذة التي في أسفلها، فأمكنه أن يرى وجه ليننا وقد التفتت إلى أعلى، شاحبا في ضوء المصابيح الضارب إلى الزرقة، وثغرها منفرج وهي تنادي، وقد تضاءل حجمها وهو ينظر إليه من عل، وأخذ يغيب عنه شيئا فشيئا، وبدا له السطح المربع وهو يتناقص حجما كأنه يهوي في الظلام.
وبعد خمس دقائق كان في غرفته، وأخرج مجلده من مخبأه وقد قرضته الفئران، وقلب صفحاته الملوثة المتغضنة كأنه يتصفح كتابا مقدسا، وشرع يقرأ مسرحية «عطيل»، وتذكر أن عطيلا يشبه بطل «ثلاثة أسابيع في الطائرة» - كلاهما أسود.
وعبرت ليننا السطح تقصد المصعد وهي تجفف عينيها، وفي طريقها إلى أسفل نحو الطابق السابع والعشرين أخرجت زجاجة السوما، وقررت أن جراما واحدا لا يكفي؛ فإن الكارثة التي ألمت بها أفدح من أن يزيلها جرام واحد، ولكنها إن تناولت جرامين تعرضت لتأخير يقظتها في صبيحة اليوم التالي، فاتخذت حلا وسطا، وهزت صندوق السوما وأفرغت منه في راحة يسراها، بعدما جعلتها شبيهة بالكأس ثلاثة أقراص زنة الواحد منها نصف جرام.
الفصل الثاني عشر
واضطر برنارد إلى الصياح خلال الباب المغلق، ولكن الهمجي لم يفتحه. - «إنهم جميعا هناك بانتظارك.»
فرد عليه صوت خافت خلال الباب قائلا: «فلينتظروا.» - «ولكنك تعرف جيدا يا جون أنني دعوتهم عمدا للقائك (وكان من العسير أن يكون حديثه مغريا، وهو يتكلم بأعلى صوته).» - «كان ينبغي لك أن تسألني أولا، إن كنت أريد أن أقابلهم.» - «إنك كنت دائما مقدما يا جون.» - «ومن أجل هذا بالذات لا أحب أن أعود.»
فتودد إليه برنارد وجأر قائلا: «تعال كي تسرني، ألا تحب سروري؟» - «كلا.» - «هل أنت جاد؟» - «نعم.»
وولول برنارد يائسا وقال: «ولكن ماذا عساي صانع؟»
وصرخ جون من الداخل محنقا وقال: «اذهب إلى سقر.»
وكان الدمع ينهمر من عيني برنارد وهو يقول: «ولكن كبير منشدي كانتربري هناك الليلة.»
ولم يستطع الهمجي أن يعبر تعبيرا دقيقا عن إحساسه تجاه كبير المنشدين إلا بلغة زوني، فقال: «آي يا تاكوا!» وبعد فترة عن له أن يقول: «هاني!» ثم قال بوحشية وازدراء: «ستزايد تسارنا.» وبصق على الأرض، كما يفعل بوبي لو كان في موضعه.
واضطر برنارد في نهاية الأمر إلى أن يتسلل - وهو منكمش - إلى مسكنه، ويخبر الجماعة القلقة أن الهمجي لن يظهر ذلك المساء، وقوبل الخبر بالغضب الشديد، وحنق الرجال لأن هذه الخدعة اضطرتهم إلى التأدب في السلوك مع هذا الشخص الزري، صاحب السمعة المنفرة والآراء المتزندقة، وكلما علا الواحد منهم في سلم المراكز الاجتماعية زاد استياؤه.
ولبث كبير المنشدين يكرر قوله: «كيف تسخرون مني أنا هكذا!»
أما النسوة فقد أحسسن وهن حانقات أن مخلوقا من طراز «−ج» الجثماني - رجلا قميئا تعسا صب الكحول في قارورته خطأ - قد خدعهن بالمظاهر الكاذبة؛ فهاج النسوة وعلا صوتهن بالاحتجاج، وكانت كبيرة المعلمات أشدهن شعورا بالإيذاء.
وسكتت ليننا وحدها عن الكلام، وانتحت زاوية من المكان، وعزلتها عمن أحطن بها عاطفة لم يشاركنها الإحساس بها، وشحب لونها وخيمت على عينيها الزرقاوين سحابة من الغم الذي لم تعهده من قبل، لقد أتت إلى هذا الاجتماع يملأ نفسها شعور غريب من الجذل والشوق، كانت تحدث نفسها وهي تدخل الغرفة وتقول: «سوف أراه بعد بضع دقائق، وأتحدث إليه، وأخبره أني أحبه أكثر من أي شخص آخر عرفت (وقد جاءت بهذا العزم المصمم)، وربما يقول لي بعد هذا ...» - «ماذا يقول؟ لقد تدفق الدم في وجنتيها.» - «لماذا كان غريبا جدا تلك الليلة بعد الذي شهدنا في دار الصور المحسة؟ كان غريبا جدا، ولكني برغم هذا على ثقة تامة بأنه يحبني، إني واثقة ...»
وفي تلك اللحظة ألقى برنارد تصريحه بأن الهمجي لن يحضر الجمعية.
فشعرت ليننا فجأة بكل الإحساسات التي تمر بالمرء عادة عند بدء علاج عاطفة عنيفة من العواطف المستحدثة؛ أحست بفراغ مريع، وبخوف تتقطع منه الأنفاس، وبالقرف الشديد، وكأن قلبها قد سكتت نبضاته.
وحدثت نفسها قائلة: «ربما كان ذلك لأنه يحبني.» وقد تحول هذا الشك بغتة إلى يقين، إن جون قد أبى الحضور لأنه لم يحبها، إنه لم يحبها.
وكانت كبيرة معلمات أيتن تقول لمدير الإحراق واسترداد الفسفور: «عندما أفكر أني فعلا ...»
وسمع صوت فاني كراون وهي تقول: «نعم إن رواية الكحول صادقة جدا، إن إحدى صديقاتي كانت تعرف شخصا ممن كانوا يشتغلون في مخزن الأجنة في ذلك الحين، وقد ذكرت ذلك لصاحبتي، وقالت لي صاحبتي ...»
وقال هنري فستر، وهو يعطف على كبير المنشدين: «الأمر سيئ للغاية، وقد يشوقك أن تعرف أن مديرنا السابق أوشك أن ينقله إلى أيسلنده.»
وكان برنارد في نشوة من ثقة النفس، فوخزته كل كلمة قيلت بشأنه، وتزعزعت تلك الثقة من نواح عدة، وأخذ يتجول بين ضيوفه شاحب اللون، ثائرا مخبولا شاعرا بضعته، يتلجلج بعبارات الاعتذار المتفككة مؤكدا لهم أن الهمجي سيحضر قطعا في الاجتماع التالي، ومتوسلا إليهم أن يتريثوا حتى يتناولوا شطيرة من الشريان السباتي وشريحة من فيتامين «أ» باتي وزجاجة من الشمبانيا الجديدة، وانكبوا على الطعام في الحال وقد تجاهلوه، وشربوا، وجابهه بعضهم بالوقاحة، وتحدث بعضهم إلى بعض بشأنه مسيئين إليه وصائحين كأنه لم يكن معهم.
وقال كبير منشدي كانتربري بذلك الصوت الجميل الرنان، الذي كان يلقي به الخطاب يوم الاحتفال بعيد فورد: «والآن يا رفاقي، أظن أن الوقت قد حان ...» ثم نهض وألقى كوبه، وأزال بالفرجون عن صداره الأرجواني اللزج فتات الوجبة الكبيرة التي تناولها في غير أوانها، ثم سار نحو الباب.
وانطلق برنارد كالسهم إلى الأمام كي يقطع عليه الطريق. - «هل لا بد لك حقا يا كبير المنشدين ...؟ ما زال الوقت باكرا جدا، وكنت أتعشم أنك ...»
أجل لقد كان كبير الأمل عندما أسرت إليه ليننا أن كبير المنشدين سيلبي الدعوة إن وجهت إليه، قالت: «أعلم أنه لطيف حقا.» وأطلعت برنارد على المشبك الصغير الذهبي على شكل
T ، الذي أعطاه إياها كبير المنشدين ذكرى لعطلة نهاية الأسبوع التي قضتها في معهد الغناء بمنطقته.
وذكر برنارد في تذاكر الدعوة متفاخرا: «مقابلة كبير منشدي كانتربري والهمجي.» لكن الهمجي اختار هذا المساء دون الأمسية الأخرى جميعا، ليحبس نفسه في حجرته ويصيح: «هاني.» بل ويقول: «سنز ايسو تسانا!» (وكان من حسن حظ برنارد أنه لا يفهم لغة زونو)، وقد انقلبت اللحظة التي كان ينتظر برنارد أن يبلغ فيها القمة في تاريخ حياته كلها إلى لحظة إذلال شديد.
وتلجلج وهو يكرر قوله: «لقد كنت كبير الأمل ...» وقد رفع بصره إلى ذلك الرجل العظيم الكريم، وفي عينيه دلائل التوسل والذهول.
وقال كبير المنشدين في نغمة مرتفعة تنم عن الجد والقسوة: «صديقي الشاب ...» ثم ساد الصمت بين الجميع: «خذ عني هذه النصيحة.» وهز أصبعه في وجه برنارد: «قبل أن يفوت الأوان، إنها نصيحة طيبة (وأصبح صوته كصوت يرتفع من بين القبور)، أحسن سلوكك يا صاح، أحسن سلوكك أيها الشاب.» ورسم علامة
T
فوقه ثم انصرف، ونادى بصوت آخر: ليننا، عزيزتي تعالي معي.
واقتفت ليننا أثره وهو يخرج من الغرفة، مطيعة له غير باسمة ولا متغطرسة (لأنها لم تدرك ما نالها من شرف)، وتبعهم بقية الضيوف بعد فترة لا بأس بها، وأغلق آخرهم الباب محدثا به ضجيجا، وبقي برنارد وحده.
فاستلقى على أحد المقاعد وقد فقد هيبته، وضاعت كل ثقته في نفسه، وحجب وجهه بيديه وبدأ يبكي، ولكنه بعد بضع دقائق تنبه إلى فكرة طيبة، وتناول أربعة أقراص من السوما.
وكان الهمجي في غرفته بالطابق العلوي، يقرأ مسرحية «روميو وجوليت».
ونزلت ليننا وكبير المنشدين على سطح معهد الغناء، ونادى كبير المنشدين من أبواب المصاعد، وهو شديد القلق قائلا: «أسرعي يا صديقتي الشابة، أقصد ليننا.» وكانت ليننا قد تلكأت لحظة تتطلع إلى القمر، فأغمضت عينيها وأسرعت تعبر السطح؛ كي تلحق به.
فرغ مصطفى مند لحظة يسيرة من قراءة صحيفة عنوانها: «نظرية جديدة في علم الحياة»، وجلس فترة ما، متأملا متجهما، ثم التقط قلمه وكتب في الصفحة الافتتاحية: «إن طريقة المؤلف الرياضية في علاج فكرة «الغرض» حديثة تدل على نبوغ عظيم، لكنها زندقة، وهي - فيما يخص النظام الاجتماعي الراهن - خطرة وقد تكون هدامة.» ثم عقب على ذلك بهذه العبارة: «هذا الكلام لا ينشر.» ووضع خطا تحت هذه الكلمات، ثم أضاف إلى ذلك قوله: «إن المؤلف سوف يبقى تحت الرقابة، وقد يصبح نقله إلى محطة الأحياء المائية بسنت هيلانة أمرا لا مندوحة منه.» ووقع باسمه وهو آسف. لقد كان عملا جليلا، ولكن المرء إذا بدأ يقبل التفسير «بالغرض»، فلا يعلم إلا الله ماذا تكون النتيجة، ذلك نوع من الآراء قد يفسد تكييف أصحاب العقول المذبذبة من أبناء الطبقة العليا؛ فيفقدهم عقيدتهم في أن السعادة هي الخير الأسمى، وتحل محل ذلك العقيدة بأن الهدف أبعد من ذلك مدى، وخارج عن الدائرة الإنسانية الحاضرة، وإن الغرض من الحياة ليس المحافظة على الرفاهية، وإنما هو تعزيز الوعي وتهذيبه، أو توسيع المعارف، وذلك - كما رأى المراقب - أمر ممكن صحيح، ولكنه غير مقبول في الظروف الراهنة، والتقط قلمه مرة أخرى ورسم خطا ثانيا تحت هذه العبارة «لا ينشر»، أغلظ وأشد من الخط الأول سوادا، ثم تنهد، وفكر في نفسه قائلا: «ما أشدها مهزلة لو أن المرء لم يضطر إلى التفكير في السعادة!»
وبعينين مغمضتين ووجه يتهلل بشرا، كان جون يخطب للفضاء قائلا:
آه! إنها تعلم المشاعل أن تتوهج وهي تحترق،
وكأنها تتعلق بوجنة الليل،
كالجوهرة الثمينة في أذن الحبشية!
هذا جمال أروع من أن يمتهن، وأعز على الأرض ...
كان الحرف
T
الذهبي متلألئا على صدر ليننا، وأمسك به كبير المنشدين لاهيا، وأخذ يجذبه ويجذبه، فقالت ليننا فجأة بعد صمت طويل كان يسود المكان: «أظن أنه يحسن بي أن أتناول جرامين من السوما.»
كان برنارد حينئذ مستغرقا في النوم، يبسم لفردوس أحلامه الخاصة، لا يفتر ثغره عن الابتسام، وعقرب الدقائق في الساعة الكهربية المعلقة فوق رأسه، يقفز إلى الأمام مرة كل ثلاثين ثانية بغير توان، وهو يدق دقا لا يكاد يلحظه السامع، وتتابعت دقات الساعة حتى كان الصباح، فعاد برنارد إلى ضروب البؤس المختلفة في الزمان والمكان، واستأجر طائرة أقلته إلى مركز التكييف وهو أشد ما يكون اكتئابا، فلقد تبخرت نشوة النجاح، وعاد إليه رشده السابق، وأحس كأن نفسه أثقل من الجو المحيط بها بدرجة لم يسبق لها عنده مثيل، وبخاصة عند مقارنة هذه الحالة النفسية، بالحالة النفسية المؤقتة التي انتابته في الأسابيع الماضية، وكان خلالها فخورا بنفسه مزهوا.
وكان الهمجي شديد العطف على برنارد - بعد ما زال عنه زهوه - بصورة لم تكن متوقعة.
فقال برنارد وهو يقص عليه شكاته: «إنك أشبه بما كنت عليه في مالبي، هل تذكر ساعة تحدثنا معا لأول مرة؟ خارج البيت الصغير، أنت الآن شبيه بما كنت عليه حينذاك.» - «لأن شقاوتي عادت إلي، هذا هو السبب.» - «إني أوثر الشقاء على ذلك الضرب من السعادة الزائفة الكاذبة التي كنت تتمتع بها هنا.»
فقال برنارد بمرارة شديدة: «إني أحب ذلك، وقد كنت أنت السبب في كل ما حدث، أبيت أن تحضر إلى حفلتي فانقلبوا جميعا ضدي!» وكان يعلم أن قوله هذا تعسف باطل، وكان يعترف في دخيلة نفسه - بل وصراحة آخر الأمر - بصدق كل ما كان الهمجي يقول حينئذ عن تفاهة الأصدقاء، الذين ينقلبون أعداء ألداء لمثل هذا الباعث الطفيف، ولكن برغم علمه هذا وإقراره بذلك، وبرغم أن معونة صاحبه له وعطفه عليه هي الآن عزاؤه الوحيد، تمرد برنارد على نفسه وأخذ ينمي في قلبه - إلى جانب محبته الصادقة للهمجي - ضيقا خفيا منه، ويدبر حملة من أنواع الانتقام الخفيفة يصبها فوق رأسه، فإن ضيقه بكبير المنشدين لا يجدي، ولا يمكن له أن ينتقم من رئيس القوارير أو مساعد مدير المصائر، فكانت للهمجي عند برنارد هذه الميزة الكبرى عليهم، وهي أنه سهل المنال، فهو أصلح للتضحية، إن من وظائف الصديق الرئيسية أن يعاني (بصورة خفيفة رمزية) العقوبات التي نحب - ولكنا لا نستطيع - أن نوقعها على الأعداء.
وكان هلمهلتز هو صديق التضحية الثاني لبرنارد، فلما انهزم أتاه مرة أخرى وتودد إلى صداقته، تلك الصداقة التي لم يكن يرى - وهو في أوجه - أنها جديرة بالرعاية، فمنحه هلمهلتز وده، ومنحه إياه بغير تثريب أو تعليق، كأنه نسي ما قام بينهما من شجار، وتأثر برنارد لذلك، وأحس بذلة النفس من نخوة صاحبه - وهي نخوة غير عادية - ولذا فهي شديدة الإذلال؛ لأنها لا تدين للسوما بشيء وتدين لشخصية هلمهلتز بكل شيء، إن هلمهلتز الذي نسي وتسامح هو هلمهلتز في حياته اليومية، وليس هلمهلتز وهو في عطلة نصف جرام من السوما، وكان برنارد له شاكرا (فلقد كان له في عوده إلى صديقه عزاء وسلوى) كما كان عليه ناقما (لأنه مما يسره أن ينتقم من هلمهلتز لكرم أخلاقه).
وعندما التقيا لأول مرة بعد الفراق، تدفق برنارد في حديثه عن أسباب شقائه وتقبل من صاحبه العزاء، ولم يعلم إلا بعد بضعة أيام أنه لم يكن وحده الرجل الذي عانى المشقات (فدهش لذلك وأحس بشيء من الخجل)، فلقد كان هلمهلتز في نزاع مع أصحاب السلطة والنفوذ، وذلك - كما قال - بشأن القوافي، كنت ألقي دروسي المعتادة في الهندسة العليا لطلبة السنة الثالثة، والمقرر يقع في اثنتي عشرة محاضرة، السابعة منها في القوافي - أو هي على وجه الدقة في «استخدام القوافي في الدعاية الخلقية وفي الإعلان»، ومن عادتي أن أوضح محاضرتي بكثير من الأمثلة الفنية، وقد فكرت هذه المرة أن أقدم إليه مثالا مما كتبت بنفسي من عهد قريب، وهذا بالطبع جنون محض - ولكني لم أستطع المقاومة.» وضحك ثم قال: «وكنت مشغوفا بأن أشهد تأثرهم به.» ثم قال في حزم شديد: «وأردت - فوق ذلك - أن أقوم بشيء من الدعاية، كنت أحاول أن أهندسهم حتى يحسوا بإحساسي عندما كتبت تلك القوافي، يا لله!» ثم ضحك مرة أخرى وقال: ما أشد ما أثرت من احتجاج! لقد استدعاني المدير، وهدد بفصلي في الحال، فأنا رجل بارز.
فسأله برنارد: «وماذا نظمت من قواف؟» - «قصيدة في العزلة.»
فرفع برنارد حاجبيه إلى أعلى. «سأنشدك إياها إن أردت.» وأنشد قائلا:
كان الاجتماع بالأمس،
والآن هناك العصي، ولكن الطبول محطمة،
والمدينة في منتصف الليل.
ونفخ في المزامير ولكن في الفراغ،
والشفاه مضمومة، والوجوه ناعمة،
والآلات كلها ساكتة،
والأماكن كلها قذرة بكماء،
بعدما هجرتها الجماهير،
وسكن الهرج والمرج.
فابك (رافعا صوتك، أو خافضا له)،
وتكلم بصوت لست أدري لمن.
قل: إن سوزان غائبة،
وكذلك أجيريا.
أين ذراعاها، وما يقابلهما من نهود؟
أين شفتاها، وأين ردفاها؟
ليس لها من وجود.
لمن هذا الشيء؟ وإني لأتساءل:
أي كنه باطل له؟
هذا الشيء الذي لا وجود له،
وهو مع ذلك يعمر الليل الخاوي
عمرانا أشد كثافة من عضو التناسل؟
ولماذا يبدو لنا كريها هكذا؟ - «قدمت لهم هذه القصيدة مثالا، فرفعوا أمري إلى المدير.»
فقال برنارد: «ليس في هذا ما يدهشني، فهو يعارض بصراحة كل ما تعلموه بالإيحاء، أذكر أنهم أنذروا ربع مليون مرة على الأقل ضد العزلة.» - «أعرف ذلك، ولكني أردت أن أرى ماذا عسى أن يكون الأثر.» - «ولقد رأيت الآن.»
فلم يسع هلمهلتز إلا أن يضحك، وقال بعد فترة سكون: «أشعر كأني بدأت أظفر بموضوع أكتب فيه، كأني بدأت أتمكن من استخدام تلك القوة التي بداخلي - تلك القوة الزائدة الدفينة، كأن شيئا يقبل علي.» وظهر لبرنارد أنه برغم كل متاعبه جد سعيد، وائتلف هلمهلتز مع الهمجي في الحال، وكان ائتلافهما قلبيا حقا، حتى إن برنارد أحس بوخز الغيرة الحاد، فإنه خلال تلك الأسابيع جميعا لم يألف الهمجي تلك الألفة الشديدة، التي حققها هلمهلتز في الحال، وكان أحيانا وهو يرقبهما ويصغي إلى حديثهما، يشتد استياؤه ويود لو أنه لم يجمع بينهما البتة، وخجل من غيرته وقابل ذلك بمجهود إرادي وتناول السوما؛ كي يقي نفسه من الإحساس به، ولكن جهده لم ينجح كل النجاح، وكان لا مناص من أن تقع بين عطلة سومية وأخرى فترة من الغيرة، وعاودته هذه العاطفة الكريهة بين الفينة والفينة.
ولما التقى هلمهلتز بالهمجي للمرة الثالثة أنشد قصيدته في العزلة، وبعدما أتمها سأله: ما رأيك فيها؟
فهز الهمجي رأسه وأجاب قائلا: «أصغ لهذه.» وفض قفل القمطر الذي كان يحفظ فيه كتابه الذي قرضته الفيران، وفتحه وقرأ ما يلي:
ليكن ذلك الطائر الصداح،
فوق تلك الشجرة العربية المنعزلة،
نذير الحزن وبوق ...
وثارت مشاعر هلمهلتز تدريجا وهو يصغي إليه، ولما بلغ الهمجي قوله: «الشجرة العربية المنعزلة» ذعر صاحبه، ولما بلغ قوله: «أنت أيها البشير الصارخ» سر سرورا مباغتا فابتسم، وعند قوله: «كل طائر ذي جناح مستبد» تدفق الدم في وجنتيه، ولكنه شحب وهزته عاطفة لا عهد له بها عند قوله: «الموسيقى البائدة.» وواصل الهمجي القراءة منشدا:
وارتاعت الصفات المشتركة؛
لأن النفس الواحدة قد تقسمت،
والطبيعة واحدة
وإن تعددت أسماؤها ...
وذهل العقل عندما رأى الأجزاء تتحد ...
فقاطع برنارد القراءة بضحكة عالية ممقوتة قائلا: «شولم، شولم، ليس هذا الشعر إلا أنشودة من أناشيد صلاة الجماعة.» وكان ينتقم لنفسه من صديقيه؛ لأن كلا منهما أحب الآخر أكثر مما أحبه.
وكثيرا ما عاد إلى هذه الطريقة الانتقامية في الاجتماعين أو الثلاثة اللاحقة، وكانت طريقة ميسورة وبالغة الأثر؛ لأن هلمهلتز والهمجي كليهما كانا يتألمان أشد الألم، لتهشيم هذه الجوهرة الشعرية المستحبة وتدنيسها، وهدده هلمهلتز في النهاية بطرده من الغرفة، إذا تجرأ على مقاطعتهما مرة أخرى، وعلى ذلك فإنه مما يدعو إلى العجب إن المقاطعة التالية - وهي أشد خزيا من كل ما سبقها - صدرت من هلمهلتز نفسه.
كان الهمجي يقرأ مسرحية «روميو وجوليت» بصوت مرتفع، وكان يقرأ بعاطفة قوية ورعدة شديدة (لأنه كان طوال الوقت يرى نفسه كروميو وليننا كجوليت)، وأصغى هلمهلتز إلى الفصل الذي التقى فيه العاشقان لأول مرة باهتمام تشوبه الحيرة، وسره الشعر الذي جاء في الفصل الذي حدثت وقائعه في الحديقة، لكنه ابتسم للعواطف التي عبر عنها الشاعر، وأضحكه جدا أن يبلغ العاشق تلك الحال لأنه يشتهي فتاة، ولكن التفاصيل الحرفية كانت قطعة رائعة من فن هندسة العواطف! فقال: «إن هذا الرجل القديم يزري كل الزراية بخيرة الفنيين في الدعاية عندنا.» وابتسم الهمجي ابتسام الظافر المنتصر واستأنف القراءة، وسارت الأمور على ما يرام، حتى كان المنظر الأخير من الفصل الثالث، حيث بدأ كابيولت والسيدة كابيولت يهددان جوليت كي تتزوج من بارس، وكان هلمهلتز قلقا خلال المنظر كله، ولكنه انفجر في ضحك لم يستطع كتمانه، عندما مثل الهمجي جوليت بصوت يثير الحزن، وهي تقول:
أليس في السحب شفقة
تنفذ إلى أعماق حزني؟
أماه - يا عزيزتي - لا تنبذيني!
أجلي هذا الزواج شهرا، بل أسبوعا،
وإن لم تفعلي فضعي سرير العرس
في ذلك القبر المظلم، حيث يرقد تايبولت ...
عجبا للأم والأب (ويا لهما من لفظتين غاية في الدنس) يرغمان ابنتهما على الزواج من رجل لا تريده! وعجبا لهذه الفتاة البلهاء لا تقول إن لديها رجلا آخر تؤثره! (في ذلك الحين على الأقل) إن الموقف بسخفه وفحشه يثير الضحك بدرجة لا تقاوم، وقد استطاع - بجهد الأبطال - أن يخفف من حدة نشوته، ولكن «الأم العزيزة» (بنغمة الهمجي المرتجفة التي تنم عن الألم) والإشارة إلى تايبولت وهو جثة هامدة وهي - من الجلي - لم تحرق ففقدت فسفورها في قبر مظلم، ذلك كان أكثر مما يحتمل. فاسترسل في الضحك حتى تحدر الدمع على وجهه - ولم يكف عن الضحك، وكان الهمجي في أثناء ذلك - وقد شحب لونه من إحساسه بثورة النفس - ينظر إليه من فوق كتابه، ولما لم يمتنع صاحبه عن الضحك، أغلق الكتاب حانقا، ونهض من مكانه وأعاده إلى القمطر وأحكم عليه القفل، وكأنه - بحركاته - يخفي جوهرة من وجه خنزير.
ولما استرد هلمهلتز أنفاسه واستطاع أن يعتذر، ومهد الهمجي للإصغاء إلى حديثه قال: «مع ذلك فإني أعلم جيدا أن المرء بحاجة إلى مثل هذه المواقف المضحكة الجنونية، وأعلم أن المرء لا يجيد الكتابة حقا في غير ذلك، لماذا كان ذلك الكاتب القديم فنيا في الدعاية بدرجة تدعو إلى العجب؟ لأنه كانت لديه أشياء عدة جنونية أليمة تثور لها أعصابه، ولا بد للمرء أن يؤذى وأن يضطرب؛ لكي يستطيع أن يصوغ العبارات الجيدة التي تنفذ نفاذ أشعة إكس، ولكن عجبي من الآباء والأمهات!» وهز رأسه ثم قال: «لا تنتظر مني إلا أن أضحك من ذكرهما، ومن ذا الذي يهتم لأن ولدا ظفر بفتاة أو لم يظفر بها ؟» (وجفل الهمجي، ولكن هلمهلتز الذي كان يحدق في الأرض مفكرا، لم يبد عليه أي أثر)، واختتم حديثه متنهدا وقال: «كلا، إن هذا لا يغني، إننا بحاجة إلى نوع آخر من الجنون والعنف، ولكن ماذا عسى أن يكون ذلك؟ وأين يوجد؟» وصمت برهة ثم هز رأسه، وقال أخيرا: «لست أدري، لست أدري.»
الفصل الثالث عشر
ولوح هنري فستر خلال الضوء الخافت في مخزن الأجنة، وقال: «هل تحبين زيارة دار الصور المحسة الليلة؟»
فهزت ليننا رأسها دون أن تنبس ببنت شفة. «هل ستخرجين مع شخص آخر؟» وكان يشوقه أن يعرف من من أصدقائه سيصحب الآخر؟ وسألها: «هل هو بنتو.»
وهزت رأسها ثانية.
وتبين هنري الكلال في تلكما العينين الأرجوانيتين، والشحوب المستتر تحت لمعة السل الجلدي، والحزن الكامن في زوايا فمها القرمزي غير الباسم، وسألها في شيء من القلق: «هل تحسين بالمرض؟» وهو يخشى أن تكون متألمة من الأمراض المعدية القليلة الباقية.
وهزت ليننا رأسها مرة أخرى.
وقال هنري: «ينبغي لك على أية حال أن تزوري الطبيب، فزيارة الطبيب مرة كل يوم تبعد مرض الجمجام.» وأخرج هذه العبارة الأخيرة من قلبه، وكان تأثير هذا القول المأثور الإيحائي قويا في ليننا، وقد ضربها ضربة خفيفة على كتفها، واقترح عليها أنها «قد تكون بحاجة إلى شيء يعوضها عن الحمل، أو علاج بال ع. ع. ج
1
القوي الأثر، فأنت تعلمين أن العاطفة السليمة في العالم الجديد قد لا تكون أحيانا ...»
فقالت ليننا، وقد خرجت عن صمتها العنيد: «بحق فورد لا تتكلم.» والتفتت ثانية إلى أجنتها المهملة.
علاج بال ع. ع. ج. حقا! ولولا أنها كانت على وشك البكاء لضحكت كأنها لا تملك ما يكفيها من ال ع. ع.! وتنهدت تنهدا عميقا وهي تملأ محقنها، وتمتمت لنفسها قائلة: «جون، جون ...» ثم تعجبت قائلة: «يا إلهي! هل أنا أعطيت أو لم أعط هذا الطفل حقنة مرض النوم؟» إنها لم تذكر، وفي النهاية قررت ألا تخاطر بإعطائه حقنة ثانية، وانتقلت إلى القارورة التالية من صف القوارير.
اثنان وعشرون عاما وثمانية أشهر وأربعة أيام من تلك اللحظة، وبعدئذ قد يموت من مرض تربانوسومياسر (مرض النوم) مدير موانزا موانزا من طراز «−أ» وهو في ريعان الشباب - وهذه أولى الحالات لأكثر من نصف قرن - وواصلت ليننا عملها وهي تتنهد.
وبعد ساعة في حجرة التغيير كانت فاني تحتج بقوة، وتقول: «من العبث أن تسمحي لنفسك ببلوغ هذه الحالة، عبث باطل، ولم ذلك؟ من أجل رجل - رجل واحد.» - «ولكنه الرجل الذي أريد؟» - «كأن العالم ليس به ملايين الرجال غيره.» - «ولكني لا أريدهم.» - «كيف تعرفين ذلك حتى تجربي؟» - «لقد جربت.»
وسألتها فاني وقد هزت كتفيها في ازدراء: «كم؟ واحدا أو اثنين؟» «بل عشرات.» وهزت رأسها ثم قالت: «لكنهم لم ينفعوا.»
فقالت فاني في عبارة موجزة: «عليك أن تثابري.» وكان من الجلي أن ثقتها في نصائحها قد تزعزعت، ثم قالت: «إن المرء لا يستطيع أن يتمم شيئا ما بغير مثابرة.» - «ولكني في تلك الأثناء ...» - «لا تفكري فيه.» - «لست أستطيع!» - «إذن فتناولي السوما.» - «إني أفعل.» - «إذن فاستمري.» - «وفي تلك الفترات كنت لا أزال أحبه، وسوف أحبه دائما»، فقالت فاني في عزم شديد: «إذن فإذا كانت هذه هي الحال، فلماذا لا تتوجهين فورا وتحصلين عليه، أراد أو لم يرد.» - «ولكنك لا تعرفين مقدار غرابته!» - «هذا سبب آخر لثباتك وتصميمك.» - «من اليسير أن «تقولي» ذلك.»
وبصوت كالبوق قالت فاني: «لا تتقيدي بباطل من القول، بل اعملي.» وكانت تصلح أن تكون محاضرة في جمعية الشابات الفورديات، تلقي على المراهقين من «−ب» حديثا مسائيا، ثم قالت: «نعم، اعملي - فورا، افعلي ذلك الآن.»
قالت ليننا: «إنني أخشى ذلك.» - «ما عليك إلا أن تتناولي نصف جرام من السوما أولا، والآن سوف أذهب لأستحم». وانصرفت تجرر منشفتها.
دق الجرس، فوثب الهمجي وهرع إلى الباب؛ لأنه كان يأمل أن يزوره هملهلتز عصر ذلك اليوم، وهو شديد القلق (وقد صمم نهائيا أن يتحدث إلى هلمهلتز في شأن ليننا، ولم يحتمل أن يؤجل الإفضاء بالسر دقيقة واحدة بعد ذلك).
وصاح وهو يفتح الباب قائلا: «كنت أتوقع قدومك يا هلمهلتز.»
وإذا بليننا على عتبة الباب ترتدي معطفا من أطلس الملاحين، الأبيض الحمضي، وعلى رأسها قبعة مستديرة بيضاء، تميل فوق أذنها اليسرى بصورة داعرة.
فقال الهمجي: «أوه!» كأن أحدا هوى عليه بضربة قوية.
لقد كان نصف جرام كافيا لأن ينسي ليننا مخاوفها واضطرابها، فقالت: «أهلا بك يا جون!» وهي تبتسم، وسارت إلى جواره في الغرفة، وأغلق الباب وتابعها متابعة آلية، وجلست ليننا، ثم كان صمت طويل.
وأخيرا قالت: «يبدو لي أنك لست شديد الغبطة برؤيتي.»
ونظر إليها الهمجي عاتبا وقال: «لست مغتبطا؟» ثم جثا على ركبتيه بغتة أمامها، وتناول يدها وقبلها باحترام، ثم قال هامسا: «غير مغتبط؟ آه لو عرفت ...» ثم جرؤ على النظر إلى وجهها وقال: «يا معشوقتي ليننا.» ثم قال: «يا من بلغت قمة إعجابي، يا أعز ما في الدنيا.» فتبسمت له برقة شديدة الحلاوة، ومالت نحوه وقد انفرجت شفتاها، وقالت: «ما أكملك إن خلقك لا نظير له!» واشتد قربها منه وقالت: «أنت خير مخلوق.» ثم زادت منه قربا، ووثب الهمجي على قدميه، وقال وهو يتكلم بوجه منصرف: «وهذا هو السبب في أن أقوم بفعل شيء أولا ... أعني أن أظهر أني جدير بك، ولست أقصد أني سوف أظل كذلك دائما، ولكن لأظهر على الأقل أني لم أكن غير جدير بك مطلقا، أردت أن أفعل شيئا.»
وبدأت ليننا تقول: «لماذا تظن أنه من الضروري ...» ولكنها لم تتم عبارتها، وكانت في صوتها نغمة تنم عن التهيج، لقد مالت إلى الأمام، واقتربت منه وقد انفرجت شفتاها، فوجدت فجأة أنها لا تميل إلى شيء مطلقا - وقد نهضت على قدميها كالبلهاء - فحق لها أن تغضب فعلا برغم نصف جرام السوما الذي يجري في دمائها.
وكان الهمجي يتمتم بكلام منقطع ويقول: «في مالبي على المرء أن يأتي لها بجلد ليث جبلي - أقصد لو أراد أن يتزوج من فتاة - أو جلد ذئب.»
وقالت ليننا في لهفة: «ليس في إنجلترا أسد.»
فأجاب الهمجي باستياء مفاجئ مشوب بالازدراء قائلا: «ولو كان بها أسد فما أحسب إلا أن الناس يقتلونها بالغاز السام أو بغيره يسقطونه عليها من الطائرات، ولكني لا أفعل ذلك يا ليننا» ولوى كتفيه، وجرؤ على النظر إليها، وقابلتها بنظرة تنم عن عدم الإدراك المشوب بالغضب، فاضطرب واستمر في حديثه، وقد زاد كلامه تفككا، قال: «سأفعل أي شيء تريدين، إنك تعلمين أن من الأعمال ما هو أليم، ولكنه برغم ذلك يسر فاعله، وهذا هو شعوري، أقصد أني أكنس الأرض إن أردت.»
فردت عليه ليننا وهي في حيرة شديدة، قالت: «ولكن لدينا مكانس مفرغة الهواء، فليست بك حاجة إلى ذلك.» - «نعم ليست بي حاجة إلى ذلك، غير أن بعض الأعمال الوضيعة تؤدى بنبل عظيم، وأحب أن أؤدي عملا بنفس نبيلة، فهل تفهمين؟» - «ولكن إذا كانت هناك مكانس مفرغة الهواء ...» - «لست أرمي إلى ذلك.»
واستمرت تقول: «ويشتغل بها قوم أنصاف معتوهين من طراز «ه»، وإذن فلماذا حقا ...؟» - «لماذا؟ من أجلك أنت، كي أظهر أني ...» - «وإني لأعجب بالعلاقة بين المكانس المفرغة والأسد.» - «كي أظهر مقدار ...» «وما العلاقة بين الأسد وسرورك برؤيتي ...» وزاد حنقها.
فأجاب يائسا: «مقدار حبي لك يا ليننا.»
وتدفق الدم في وجنتي ليننا دليلا على أن تيار الغرور الباطني قد هاج في نفسها، وسألته: «هل تقصد ما تقول يا جون؟»
فصاح الهمجي، وقد ضم يديه إحداهما إلى الأخرى في شيء من الألم، وقال: «لم أقصد أن أقول ذلك، ولن يكون ذلك حتى ... أنصتي إلي يا ليننا، إن الناس في مالبي يتزوجون.»
قالت: «ماذا تعني؟» وعاد الانفعال إلى صوتها، فيم كان يتكلم الآن؟ - «إلى ما شاء الله، إنهما يتواعدان على العيش معا إلى ما شاء الله.» - «ما أبشع هذه الفكرة» وقد صدمت ليننا فعلا. - «إنهما يتلازمان بعد زوال الجمال الظاهري، ولهما عقل أسرع تجددا من فساد الدم.» - «ما هذا؟» - «إنه كالذي جاء في شيكسبير: «إنك إن فضضت بكارتها قبل أن ... الحفلات الدينية بكل طقوسها المقدسة».» - «بربك يا جون، تكلم كلاما معقولا، لست أفهم كلمة واحدة مما تقول، أشرت أولا إلى المكانس المفرغة، ثم إلى البكارة، إنك تدفعني إلى الجنون.» ووثبت من مكانها وأمسكته من معصمه، كأنها تخشى أن يفر منها جسما وعقلا، ثم قالت: «أجب عن هذا السؤال: هل تحبني فعلا أو لا تحبني؟»
وساد الصمت برهة ثم قال بصوت منخفض جدا: «إنني أحبك أكثر من أي شيء في الدنيا.»
فصاحت قائلة: «إذن فلماذا لم تقل ذلك؟» وبلغ بها الحنق أنها دفعت أظافرها الحادة داخل جلد معصمه، ثم قالت: «بدلا من الهذيان بذكر البكارة والمكانس المفرغة والأسد، فتسبب لي البؤس عدة أسابيع متوالية.»
وأطلقت يده وأبعدتها عنها وهي غاضبة، وقالت: «لولا أني شديدة الحب لك لثرت في وجهك.»
وطوقت عنقه في الحال بذراعيها، وأحس بنعومة شفتيها على شفتيه، ما أعذب نعومتهما، ما أحرهما وما أشد ما فيهما من كهرباء، فألقى نفسه مضطرا إلى تذكر العناق الذي حدث في قصة «الأسابيع الثلاثة في الطائرة»، وتذكر آهات الفتاة الشقراء المجسدة، وآهات الزنجي، الحقيقة أكثر من الواقع، يا للفزع ... فحاول أن يتحرر من ليننا ولكنها شددت عليه العناق.
وتراجعت بوجهها كي تتمكن من رؤيته وهمست قائلة: «لماذا لم تقل ذلك؟» وبدا في عينيها عتاب رقيق.
قال: «العرين الحالك الظلمة أكثر الأماكن ملاءمة» (وجلجل صوت الضمير مشبعا بالعاطفة القوية) وقويت عزيمته، على أن أشد إيحاء يصدر عن عبقرية الإنسان السافلة لن يدنس شرفي بالشهوة، لن يكون ذلك أبدا».
وكانت تقول: «ما أسخفك من غلام! لقد كنت شديدة الرغبة فيك، وإن كنت راغبا في، فلماذا لم ...؟»
فبدأ احتجاجه قائلا: «ولكن يا ليننا ...» وظن لحظة - وهي ترخي ذراعيها وتبتعد عنه - أنها أدركت تلميحه الذي لم يصرح به، ولكنها فكت رباط حزامها الأبيض اللامع المخرق، وعلقته بعناية على ظهر مقعد من المقاعد، فبدأ يظن أنه كان مخطئا.
فكرر نداءه وهو خائف وقال: «ليننا!»
ووضعت يدها على جيدها وجذبت جذبة طويلة رأسية، فانشق قميصها الأبيض الذي يشبه قمصان الملاحين حتى الهدب، فتعززت الشكوك في عزيمته الثابتة وقال: «ليننا، ماذا تصنعين؟»
فكان جوابها فك الإزار، ولم تنبس ببنت شفة، وخلعت عنها سروالها الذي تشبه مؤخرته الناقوس ، وظهر رداؤها الداخلي الذي يسترها من الفرع إلى القدم قرنفليا باهتا، وتدلى فوق صدرها الحرف الذهبي الذي منحها إياه كبير المنشدين. «إن هذا الطعام الدقيق اللبني الذي يخترق عيون الرجال من خلف قضبان النوافذ ...» تذكر هذه العبارة برنينها ودويها وسحرها، فتضاعف في عينيه خطرها وتضاعفت فتنتها، ما أشد نعومتها، ولكن ما أشد طعنات هذه النعومة! إنها تثقب حكمته وتخرقها، وتفت من عزمه، «إن أغلظ الإيمان كالهشيم أمام النار التي تتأجج في الدماء، ليشتد زهدك وإلا ...»
وفكت مشبكا آخر فتشتت أجزاء ردائها الداخلي القرنفلي كالتفاحة أحكم تقسيمها، لقد حركت ذراعها حركة طفيفة، ورفعت قدمها اليمنى أولا، ثم قدمها اليسرى ثانيا فسقط الرداء على الأرض متغضنا لا حياة فيه.
وتقدمت نحوه وهي ما تزال ترتدي جواربها وحذاءها وقبعتها المستديرة البيضاء المائلة بشكل داعر، ومدت إليه ذراعيها وقالت: «عزيزي، عزيزي! لماذا لم تقل ذلك؟»
ولكن بدلا من أن يجيبها بقوله مثلها: «عزيزتي! عزيزتي!» وبمد ذراعيه نحوها، تراجع الهمجي مذعورا ملوحا بيديه نحوها، كأنه يحاول أن يبعد حيوانا دخيلا مضطرا، وخطا إلى الخلف أربع خطوات، ثم استند إلى الحائط في مأمن منها.
ووضعت ليننا يديها فوق منكبيه وضمت نفسها إليه ضما شديدا، وقالت: «ما أحلاك!» وأمرته أن يطوقها بذراعيه قائلة: «عانقني يا حبيبي حتى تخدرني!» عجبا! إن في صوتها وهي تأمره لشعرا، وإنها لتعرف كلمات كأنها الغناء أو الرقي أو دق الطبول، وأغمضت عينيها وتكلمت بصوت خافت، كأنه همهمة النائم وقالت: «قبلني حتى أفقد رشدي، عانقني يا حبيبي وأثلج صدري ...»
فأمسك بها الهمجي من معصمها، ونزع يديها من فوق كتفيه، ودفعها بغلظة على بعد ذراع منه.
فتأوهت قائلة: «إنك تؤذينني، إنك ...» وصمت فجأة، لقد أنساها الفزع الألم، وفتحت عينيها وشاهدت وجهه، كلا إنه ليس وجهه، إنما هو وجه رجل غريب متوحش، شاحب اللون، متغضن ملتو من شدة الغضب الجنوني، الذي لم تدرك له سببا، فذهلت وهمست قائلة: «ما بك يا جون؟» فلم يحر جوابا، ولكنه اكتفى بالتحديق في وجهها بتلكما العينين المجنونتين، وارتجفت تلكما اليدان اللتان كانتا تقبضان على معصميها ، وتنفس أنفاسا عميقة بغير انتظام، وسمعت أسنانه بغتة وهي تصطك اصطكاكا خفيفا، لا يكاد يحس ولكنه مفزع مريع، وكادت تصيح قائلة: «ما بك؟»
وكأنها أيقظته بصياحها، فأمسك بها من كتفيها وهزها، وصاح قائلا: «عاهرة! عاهرة! مومس وقحة!»
واحتجت عليه بصوت يرتعد ارتعادا شديدا من أثر هزته، قالت: «لا تفعل، لا تفعل!» - «عاهرة!» - «أرجوك!» - «عاهرة لعينة!»
وبدأت تقول: «إن جراما من السوما خير من ...»
ودفعها الهمجي إلى الوراء بقوة، فترنحت ثم سقطت، فصاح وقد وقف تجاهها يهددها: «اذهبي، واغربي عن نظري وإلا قتلتك» وقبض يديه.
ورفعت ليننا ذراعها كي تخفي وجهها، وقالت: «كلا، أرجوك ألا تفعل، يا جون ...» - «هيا أسرعي.»
ووثبت على قدميها رافعة إحدى ذراعيها، ومتتبعة كل حركة من حركاته بعين مفزعة، وما فتئت تحبو على الأرض وتخفي رأسها، ثم انطلقت إلى الحمام.
وصفعها صفعة قوية أحدثت صوتا كطلق المسدس، فأسرعت في ارتحالها.
وقفزت ليننا إلى الأمام وهي تتأوه.
ولما أوصدت الحمام وأحست بالطمأنينة فرغت لعد جراحها، وولت ظهرها المرآة ولوت رأسها، ونظرت من فوق كتفها اليسرى، فتمكنت من رؤية آثار يد مفتوحة، وقد انطبقت على لحمها اللؤلؤي حمراء جلية واضحة، ومسحت البقعة الجريحة في حرص بالغ كي لا تؤذي نفسها.
وفي الخارج، وفي الغرفة الأخرى، كان الهمجي يذرع الأرض ويسير على موسيقى هذه الكلمات السحرية وطبلها: «إن العصفور يأتيها والذبابة الصغيرة الذهبية تنغمس في الدعارة أمام عيني.»
2
ورنت هذه الكلمات في أذنه جنونيا، «إن القط القذر والجواد الدفيء يأتيانها بشهوة ثائرة، إن الأنثى فيما تحت الخصر حيوان خرافي، وفيما فوقه امرأة من النساء، إنها وريثة الآلهة في نصفها الأعلى، وشيطان في نصفها الأسفل، تلك هي الجحيم، والظلام، وبؤرة الكبريت، تشتعل فيها النار، وتحترق بالماء الساخن، ذلك نتن ودرن، تبا، تبا، تبا، تبا وسحقا، أعطوني درهما من الزباد، وصيدليا ماهرا؛ كي أخفف عن نفسي وطأة الخيال».
وصدر من الحمام صوت ضئيل جريء، ينادي مستعطفا: «جون، جون «إيه أيتها الحشائش، بأروع مظهرك، وما أحلى عبيرك ، إنك تثيرين الحس، هل حرر هذا الكتاب الطيب ليكتب عليه «العاهرة»؟ إن الملائكة نفسها تحب أن تشمها ...»»
وما زال عبيرها يملأ المكان حوله، وقد ابيض معطفه بالمسحوق الذي كانت تعطر به جسمها المخمل: «يا لها من عاهرة وقحة!» وظل يردد هذه العبارة ويتنغم بها: «جون! هل ترى أني أستطيع أن آخذ ملابسي؟»
فالتقط السروال الذي تشبه مؤخرته الناقوس، والثياب العلوي، ورداءها الداخلي.
وأمرها بقوله: «افتحي!» وركل الباب بقدمه.
فأجابته متحدية بصوت خافت: «كلا لن أفعل». - «فكيف إذن تتوقعين مني أن أعطيكها؟» - «ادفع بها خلال النافذة فوق الباب.»
وفعل ما أشارت به وعاد يذرع الغرفة بهدوء، كما كان يفعل من قبل: «عاهرة وقحة، عاهرة وقحة، يا لها من شيطانة مترفة، ضخمة الردفين، صفراء الأصابع ...» - «جون!»
ولكنه لم يجب، بل كان يفكر في ردفها الضخم وأصابعها الصفراء. - «جون!»
فسألها بخشونة قائلا: «ماذا تريدين؟»
قالت: «هل تتكرم باعطائي الحزام المالتسي؟»
وجلست ليننا تصغى إلى وقع الأقدام في الغرفة الأخرى، وتتعجب وهي تصغى إلى متى يحتمل أن يبقى هكذا يذرع الغرفة جيئة وذهابا، وهل لا بد لها أن تنتظر حتى يخرج من البيت، وهل تطمئن - بعدما تترك لسورته فرصة من الوقت تهدأ فيها - إلى فتح الحمام والانطلاق منه.
وإذ هي تسبح في هذه التأملات المقلقة، تنبهت بغتة لجرس التلفون وهو يدق في الغرفة الأخرى، فكف صاحبنا عن المسير فجأة، وسمعت صوت الهمجي، وكأنه يتحدث مع السكون: «هلو.» - «...» - «نعم.» - «...» - «أنا هو إذا لم أخدع نفسي.» - «...» - «أجل، ألم تسمعني أذكر لك، أنا الهمجي أتكلم.» - «...» - «ماذا؟ من المريض؟ الأمر يهمني بالطبع.» - «...» - «ولكن هل المرض خطير؟ وهل هي فعلا في حالة سيئة؟» - «سوف أذهب في الحال ...» - «...» - «ليست في بيتها الآن؟ إلى أين أخذت؟» - «...» - «يا إلهي! ما العنوان؟» - «...» - «3 بارك لين - هل هو هذا؟ 3؟ شكرا.»
وسمعت ليننا طقة السماعة وهو يعيدها إلى مكانها، ثم سمعت خطوات مسرعة، وبابا يغلق بشدة، ثم كان سكون، هل ذهب فعلا؟
ففتحت الباب ربع بوصة بحرص بالغ، وأطلت من الشق، وشجعها منظر الفراغ فزادت من فتحة الباب قليلا، ثم أبرزت رأسها كله، وأخيرا سارت في الغرفة على أطراف أصابعها، ووقفت بضع ثوان بقلب شديد النبض، ولبثت تنصت وتصغي، ثم اندفعت نحو الباب الأمامي، وفتحته وانسلت منه، وأغلقته بشدة، ثم جرت، ولم تشعر بالطمأنينة والأمان حتى كانت في المصعد، تهبط فعلا إلى أسفل.
الفصل الرابع عشر
مستشفى بارك لين للموتى، برج من الآجر الأصفر، يتألف من أربعة وستين طابقا. ولما خرج الهمجي من طائرة الأجرة، قابلته حملة من سيارات الموتى الهوائية، ذات الألوان الزاهية وهي ترتفع من السطح بأزيزها، وتنطلق عبر المستشفى وتتجه غربا تقصد حمأة الإحراق، وعند باب المصعد أجابه كبير الحمالين بما استفسر عنه، فهبط إلى الجناح رقم 081 (وقال عنه الحمال: «إنه جناح الشيخوخة المتقدمة في الطابق السابع عشر»).
وكانت الغرفة فسيحة تتلألأ بضوء الشمس وبالطلاء الأصفر، وتحتوي على عشرين سريرا، كلها مشغول، وكانت لندا تموت مجاعة بجميع أسباب الراحة الحديثة، والأغاني المصطنعة المرحة تملأ الجو ولا تنقطع، وفي أسفل كل سرير صندوق تلفزيون يواجه شاغله وهو في النزع الأخير، والتلفزيون لا يفتر كأنه صنبور يتدفق من الصباح حتى المساء، والعطر السائد في الغرفة يتغير من تلقاء نفسه مرة كل ربع ساعة، وقالت الممرضة التي تولت أمر الهمجي عند الباب: «إننا نحاول أن نخلق هنا جوا ممتعا جدا - شيئا وسطا بين فندق من الدرجة الأولى من دور الصور المحسوسة، إن كنت تفهم ما أعني.»
وسألها الهمجي متجاهلا هذا الشرح الذي ألقته بأدب جم: «أين هي؟»
فاستاءت الممرضة وقالت: «الظاهر أنك على عجل.»
فسألها: «هل هناك أمل؟» «تقصد أملا في عدم موتها؟ (فأومأ برأسه)، كلا ليس هناك بالطبع أمل، عندما يرسل الشخص إلى هذا المكان فليس هناك ...» وراعتها ملامح الغم التي بدت على وجهه الشاحب، فحورت حديثها فجأة وسألته: «ماذا عسى أن يكون الأمر؟» فهي لم تتعود من زائريها ما يشبه ذلك (وليس معنى هذا كثرة الزائرين على أية حال، أو أن هناك ما يدعو إلى كثرتهم) «لعلك لا تحس بالمرض؟»
فهز رأسه، وقال بصوت لا يكاد يسمع: «إنها أمي.»
فرمقته الممرضة بعينين مذعورتين مروعتين، ثم صرفت عنه نظرها بسرعة، وتدفق الدم الحار في وجهها من الحلق إلى العارض.
وقال الهمجي: «أريني السبيل إليها.» وقد بذل جهدا في الكلام بنغمة عادية.
فهدته إلى الجناح السفلي وهي لا تزال في حمرة الخجل، والتفتت إليهما وهما في طريقهما وجوه نضرة، لم تتغضن بعد؛ (لأن الشيخوخة كانت تتقدم بسرعة لم تجد معها الوجوه وقتا تظهر فيه علامات السن - إنما شاخت القلوب والأذهان فقط)، وتبعتهم وهم يتقدمون في مسيرهم عيون الطفولة الثانية الساذجة التي لا تتطلع إلى شيء، وارتعد الهمجي وهو ينظر حواليه.
وكانت لندا ترقد في نهاية صف الأسرة الطويل المحاذي للحائط مباشرة، وكانت ترقب - وهي ترتكز إلى الوسادات - الأشواط النهائية لبطولة تنس سطح ريمان بأمريكا الجنوبية، وهو يلعب في صمت وبصور مصغرة على شاشة صندوق التلفزيون عند أسفل السرير، وكان اللاعبون الصغار (وهم من سكان عالم آخر، صامتون متهيجون) يندفعون بغير ضجيج - كالسمك في حديقة الأسماك - هنا وهناك من أحد جوانب المربع الزجاجي المضيء إلى الجانب المقابل.
وكانت لندا تشاهد الصورة وهي تبسم ابتسامة غامضة تدل على عدم الإدراك، وبدت على وجهها الشاحب المنتفخ الملامح التي ترتسم على وجه السعيد الأبله، وهي تغمض جفنيها الفينة بعد الفينة، وبدت ناعسة لبضع ثوان، ثم تيقظت بشيء من الذعر، فشهدت أبطال التنس الغرباء الصامتين، وسمعت أنشودة «عانقني حتى تخدرني يا حبيبي»، وقد وقعها فوكس ورلتزريانا العجيب، وأحست بتيار من رائحة الليمون يهب من النافذة فوق رأسها - تيقظت على هذه الأشياء، أو قل تيقظت على حلم يتألف من هذه الأشياء العجيبة، بعد ما صورتها وزينتها السوما في دمائها، ثم تبسمت مرة أخرى بسمتها المتقطعة التي لا مغزى لها، والتي تنم عن قناعة الطفولة.
فقالت الممرضة: «لا بد لي أن أنصرف الآن، فعندي مجموعة من الأطفال سوف يقبلون، وعندي - فوق ذلك - رقم 3.» وأشارت إلى أعلى الجناح «وقد أنصرف الآن في أية لحظة، فاطمئن هنا.» ثم انصرفت على عجل وفي نشاط جم.
وجلس الهمجي إلى جانب الفراش.
وهمس قائلا : «لندا» وأمسك بيدها.
وعندما سمعت اسمها ينادى التفتت، وأشرقت عيناها الغامضتان بدور المعرفة، فضغطت على يده، وتبسمت وتحركت شفتاها، ثم سقط رأسها إلى الأمام بغتة واستغرقت في النوم، وجلس يرقبها - يمعن النظر في جسمها المنهوك، فيتذكر ذلك الوجه الشاب المشرق الذي انحنى على طفولته في مالبي، وتذكر (وقد أغمض عينيه) صوتها وحركاتها، وكل ما حدث لهما في حياتهما معا، وتذكر أناشيد الطفولة التي كانت تغنيها له، ما كان أجمل غناءها! وتذكر تلك الأغاني الصبيانية، ما أعجب سحرها وغرابتها!
أ، ب، ج، فيتامين ء.
الدهن في الكبد، والحوت في البحر.
فأحس بالدمع الحار يتجمع خلف جفنيه وهو يتذكر هذه الكلمات، ويذكر صوت لندا وهي تكررها، ثم تذكر دروس المطالعة: «الشراب في الإناء، والقط فوق الحصير.» كما ذكر الإرشادات الأولية لعمال «ب» في مخزن الأجنة، والأمسية الطويلة بجوار النار، أو فوق سطح البيت الصغير في الصيف، حينما كانت تقص له تلك الأقاصيص بشأن العالم الآخر خارج منطقة المتوحشين؛ ذلك العالم الآخر الجميل! إن ذكر هذا العالم - كذكرى السماء - جنة جميلة فيحاء، ولقد احتفظ بها كاملة لم تمس، لم يدنسها الاحتكاك مع الحياة الواقعة في هذه المدينة الواقعة، لندن، وهؤلاء الرجال والنساء الواقعيون المتمدنون.
وسمع ضجة من أصوات خشنة مباغتة ففتح عينيه، وبعدما مسح دموعه على عجل تلفت حواليه، فإذا بتيار لا ينقطع من ذكور التوائم المتشابهين، الذين يبلغون من العمر ثماني سنوات يتدفق داخل الغرفة، ودخلوا توءما بعد توءم وكأنهم حلم مزعج، ووجوههم - أو قل وجههم المتكرر لأنهم كانوا جميعا على صورة واحدة - تحدق كالكلاب، كلها أنوف وعيون شاحبة محملقة، وكانوا يرتدون الكاكي، وأفواههم فاغرة، وولجوا الغرفة وهم يصرخون ويثرثرون، وفي لحظة واحدة اندس الحارس معهم كالسوسة، وتكأكئوا حول الأسرة، وتسلقوها وزحفوا تحتها، وتطلعوا داخل صناديق التلفزيون، وحركوا وجوههم للمرضى كي يزعجوهم.
وأدهشتهم لندا بل وأزعجتهم، فوقفت شرذمة منهم متجمعين عند مؤخرة سريرها، وحملقوا مذعورين كأنهم حيوانات غبية متطلعة، جابهها أمر مجهول مباغت.
وتحدثوا بأصوات منخفضة مروعة قائلين: «انظروا، انظروا، ما بها ؟ ولماذا هي بدينة جدا؟»
ولم يروا وجها كوجهها من قبل، لم يروا وجها غير شاب ولا نضر، ولم يروا جسما زالت عنه نحافته واستقامته، لقد كانوا جميعا في سنوات الموت - بين الستين والسبعين - ولا يزال مظهرهم كالفتيات الصغيرات، أما لندا فقد بدت في الرابعة والأربعين - بالمقارنة مع هؤلاء - وحشا مسنا مترهلا مشوها.
فهمسوا قائلين: «أليست مريعة؟ انظروا إلى أسنانها.»
وأطل فجأة من تحت السرير توءم وجهه كوجه الكلب، بين الحائط ومقعد جون، وبدأ يتطلع في وجه لندا الناعس.
ثم شرع يتكلم، قال: «إني أقول ...» غير أن عبارته انتهت بالصراخ قبل أن تتم، ذلك أن الهمجي قد قبض عليه من بنيقته، ورفعه بجلاء فوق المقعد، وضربه بقبضة يده ضربة حادة على أذنه، ودفعه بعيدا عنه وهو يصيح.
وهرولت لإنقاذه كبيرة الممرضات لما طرقت صيحاته مسمعها.
وسألت بحدة: «ماذا كنت تصنع به؟ إنني لا يرضيني أن تضرب الأطفال.»
فقال الهمجي بصوت يرتعد من شدة الغضب: «إذن فابعديهم عن هذا السرير، ماذا يصنع هؤلاء الأطفال الصغار الوقحون القذرون في هذا المكان؟ إنه أمر مشين!» «مشين؟ ماذا تعني؟ إنهم يكيفون على الموت.» ثم قالت وقد أنذرته بشراسة شديدة قائلة: واعلم أنك لو تدخلت في أمر تكييفهم بعد هذا، فسأرسل في طلب الحمالين؛ كي يقذفوا بك بعيدا عن هذا المكان.
ونهض الهمجي على قدميه وخطا نحوها خطوتين، وقد نمت حركاته وملامح وجهه على التهديد الشديد، فاضطرت الممرضة إلى أن تتراجع مرتاعة مذعورة، ولكنه كبح جماح نفسه بجهد عظيم، وعاد إلى مكانه وجلس إلى جوار السرير، دون أن ينبس ببنت شفة.
وقالت الممرضة، وقد اطمأنت ولكن بعدما اهتزت كرامتها وتزعزعت قليلا: «لقد أنذرتك فاحذر.» ولكنها - مع ذلك - أبعدت التوءمين الفضوليين وأشركتهم في لعبة «صيد المشبك»، التي قامت بتنظيمها إحدى زميلاتها في الجانب الآخر من الغرفة.
وقالت للممرضة الأخرى: «أسرعي الآن يا عزيزتي إلى تناول الفنجان المقرر من محلول الكافيين.» وبهذا الأمر مارست سلطتها فاستردت ثقتها وتحسن شعورها، ثم نادت: «والآن أيها الأطفال!»
وتحركت لندا في عسر شديد، وفتحت عينيها لحظة، ونظرت حولها نظرة غامضة، ثم استرسلت في النوم مرة أخرى، وحاول الهمجي جاهدا وهو جالس إلى جوارها - إنه يسترد حالته العقلية التي كان عليها منذ لحظات، وكرر لنفسه هذه العبارة: «أ، ب، ج، فيتامين ء.» كأن هذه الألفاظ تعويذة ترد الحياة إلى الموتى، ولكن التعويذة كانت عديمة الأثر، فقد أبت بتاتا أن تعود إلى ذاكرته الذكريات الجميلة، ولم يرد على خاطره غير ذكريات الغيرة والقبح والشقاء الكريهة الممقوتة. ذكر بوبي والدم يتقطر من كتفه الجريحة، ولندا وهي مستغرقة في نوم قبيح مرذول، والذباب يطن حول المسكال المسكوب فوق الأرض إلى جانب السرير، والأولاد ينادون تلك الأسماء وهي تمر ... كلا، كلا! فأغمض عينيه وهز رأسه منكرا هذه الذكريات بجهد شاق الكلمات «أ، ب، ج، فيتامين ء ...» لقد حاول أن يذكر تلك الأيام التي كان يجلس فيها على ركبتيها، وتطوقه بذراعيها وتغني له، وتردد الغناء، وتهزه ثم تهزه حتى ينام، وهي تردد هذه الأنشودة: «أ، ب، ج، فيتامين ء، فيتامين ء، فيتامين ء ...»
وارتفعت أنشودة فوكس ولتزريانا الخارقة، حتى أصبحت قطعة موسيقية، عالية باكية، وتلاشت فجأة رائحة الليمون - في نظام الروائح المتتابعة - وحلت محلها رائحة هندية قوية أخرى، واهتزت لندا، ثم تيقظت، وحدقت بضع ثوان متحيرة في اللاعبين في الأشواط النهائية، ثم رفعت وجهها، واستنشقت الهواء بعطره الجديد مرة أو مرتين، وابتسمت فجأة - ابتسامة تنم عن سعادة الطفولة.
وأغمضت عينيها، وتمتمت قائلة «بوبي! إني أحبه حبا جما، إني ...» وتنهدت واسترخت فوق الوسادات.
وتكلم الهمجي متوسلا، قال: «لندا! ألا تعرفينني؟» لقد حاول جهده وبذل ما في وسعه، فلماذا لم تسمح له بالنسيان؟ وضغط على يدها المسترخية بشيء من العنف، كأنه يريد إرغامها على التخلص مما كانت تحلم به من متع غير بريئة، أو من هذه الذكريات الوضيعة الكريهة - كأنه يريد أن يعيدها إلى الحاضر وإلى الواقع - إلى الحاضر المزعج والواقع المر - ولكنه رفيع، ولكنه خطر، ولكنه هام جدا، والسبب هو اقتراب وقوع ذلك الأمر عينه الذي جعله الواقع مخيفا . - «ألست تعرفينني يا لندا؟»
وأجابته بضغط يدها الخفيف الذي أحس به، وانحدر الدمع من عينيه، وانحنى فوقها وقبلها.
وتحركت شفتاها وهمست ثانية بقوله: «بوبي!» وكأن أحدا ألقى في وجهه دلوا مليئا بالروث.
وغلى دمه بالغضب، وكبحت إرادته للمرة الثانية، ووجدت عاطفة الحزن عنده مخرجا آخر، وتحولت إلى ثورة أليمة.
فصاح قائلا: «ولكني جون، أنا جون!» وفي بؤسه وثورته أمسك فعلا بكتفها وهزها.
ففتحت لندا عينيها في الحال، ونظرت إليه وعرفته - «جون» - لكنها غمرت وجهه الواقعي ويديه العنيفتين في عالم خيالي - غمرته في بحر من العطر الهندي المستحدث والورلتز الخارق، والذكريات المتغيرة والإحساسات التي تبدلت تبدلا عجيبا، والتي كان يتألف منها عالم أحلامها، عرفت أنه جون ابنها لكنها تصورت أنه دخيل على مالبي الفردوسية، التي كانت تنفق فيها عطلة السوما مع بوبي، وأغضبه أنها تحب بوبي، وكان يهزها لأن بوبي كان هناك في السرير - كأن هناك خطأ من الأخطاء، وكأن الناس المتمدنين جميعهم لم يفعلوا مثل ذلك؟ «إن كل فرد يتعلق بكل ...» وانخفض صوتها بغتة حتى أصبح كنقيق الضفادع الخافت الذي لا يكاد يسمع، وانفرج فوها، وحاولت مستيئسة أن تملأ رئتيها بالهواء، غير أنها كانت كمن نسي كيف يتنفس، وحاولت أن تصيح - ولكن صوتا لم يرتفع منها، وتبين من فزع عينيها المحملقتين أنها كانت تعاني ألما مبرحا، وارتفعت يداها إلى حلقها، ثم خدشت بمخالبها الهواء - الهواء الذي لم تستطع بعد أن تتنفسه، الهواء الذي لم يكن له - بالنسبة إليها - وجود.
ونهض الهمجي على قدميه، وانحنى فوقها وسألها متوسلا: «ما هذا يا لندا، ما بك؟» وكأنه يطلب لنفسه الطمأنينة.
ورمقته بنظرة مليئة بالرعب الشنيع، وكأنها بهذه النظرة المريعة تلقي عليه اللوم الشديد، وحاولت أن تنهض في فراشها، ولكنها سقطت على الوسادات، وأصبح وجهها شديد التشويه وشفتاها زرقاوين.
فالتفت الهمجي خلفه ثم انطلق إلى الجانب الآخر من الجناح.
وصاح قائلا: «أسرعي، أسرعي!»
وكانت كبيرة الممرضات واقفة وسط حلقة من التوائم تلعب «صيد المشبك» فالتفتت حولها، واستولت عليها للحظة الأولى دهشة، أعقبها في الحال شيء من عدم الرضا، وقالت وهي مقطبة الجبين: «لا تصح واذكر صغار الأطفال، إنك قد تفسد تكييف ... ولكن ما هذا الذي تصنع؟» وكان قد شق طريقه وسط الحلقة، فصاح به أحد الأطفال قائلا: «حذار، حذار.» وأمسك جون بكبيرة الممرضات من كمها وقال لها: «أسرعي، أسرعي!» وسحبها وراءه ثم قال: «أسرعي! إن شيئا قد حدث، لقد قتلتها.»
ولما عادا إلى طرف الجناح كانت لندا قد فارقت الحياة.
ووقف الهمجي لحظة في صمت بارد، ثم جثا على ركبتيه إلى جانب الفراش، وأخفى وجهه بين يديه، ولم يتمالك نفسه من شدة البكاء.
ووقفت الممرضة لا تدري ماذا تصنع، تنظر تارة إلى هذا الجاثي إلى جوار السرير (وهو منظر مشين)، وتارة أخرى إلى التوائم (وهم أطفال مساكين) الذين توقفوا عن اللعب وحملقوا من جانب الجناح الآخر بكل عيونهم وأنوفهم، في هذا المنظر المثير الذي كان يمثل حول السرير رقم 20، هل تتحدث إليه؟ هل تحاول أن تعيده إلى جادة السلوك المهذب؟ هل تذكره بالمكان الذي هو فيه؟ وبالضرر المميت الذي قد يسببه لهؤلاء الأبرياء المساكين؟ إنه قد يفسد تكييفهم على الموت تكييفا صحيا بهذا الصياح المقزز - كأن الموت شيء مريع، وكأن الفرد الواحد قد تكون له كل هذه الأهمية! إن عمله هذا قد يبعث فيهم أسوأ الآراء عن الموضوع، وقد يفسد عليهم أمرهم فيستجيبون بطريقة خاطئة جدا لا تتفق البتة ومصلحة الجماعة.
وتقدمت إلى الأمام خطوة ولمست كتفه، وقالت له بصوت خافت غاضب: «هلا تستطيع أن تحسن السلوك؟» لكنها تلفتت حواليها فوجدت أن ستة توائم قد نهضوا على أقدامهم، وتقدموا إلى الجانب الآخر من الجناح، وانحلت دائرتهم، وبعد لحظة ... كلا، إن الخطر جسيم، والمجموعة كلها قد تتقهقر ستة أشهر وسبعة في عملية التكييف، فهرولت عائدة نحو الأطفال المهددين الذين عهد بهم إليها.
وسألت بنغمة مرتفعة بهيجة، قالت: «من منكم يريد قطعة من الشكلاتة المثلجة؟»
فصاح أفراد الجماعة البوكانوفسكية كلهم في صوت واحد قائلين: «أنا.» ونسي السرير رقم 20 كل النسيان .
وأخذ الهمجي يكرر لنفسه قوله: «يا إلهي، يا إلهي ...» ولم يلفظ بغير هذه الكلمة، وهو في فوضى الحزن وتأنيب الضمير الذي يملأ فؤاده، وهمس ثانية بصوت مرتفع قائلا: «إلهي، يا إلهي ...»
وأجابه صوت قريب منه جدا، واضح، أجش، يتميز وسط أغاني ورلتزر الخارقة، قائلا: «ما هذا الذي يقول؟»
وحملق الهمجي بشدة وعنف وكشف عن وجهه وتلفت حواليه، فرأى خمسة توائم يرتدون الكاكي، يحمل كل منهم في يمناه القطعة التي تبقت من أصبع الشكلاتة المثلجة الطويلة، ووجوههم المتشابهة ملطخة على صور مختلفة بسائل الشكلاتة، وكانوا يقفون في صف واحد يحملقون فيه كالكلاب.
والتقت عيونهم بعينيه وتجهموا جميعا في آن واحد، وأشار أحدهم بقطعة الشكلاتة الباقية في يده، وسأل قائلا: «هل ماتت؟»
وحدق الهمجي فيهم لحظة وهو صامت، ثم نهض على قدميه في صمت، وسار نحو الباب مبطئا في صمت كذلك.
وردد التوءم الطلعة سؤاله وهو يركض إلى جانبه: «هل ماتت؟» فألقى عليه الهمجي نظرة من عليائه ودفعه بعيدا عنه، وهو لا يزال في صمته، وخر التوءم على الأرض وبدأ يعوي في الحال، غير أن الهمجي لم يعره التفاتا.
الفصل الخامس عشر
كانت هيئة الخدم في مستشفى بارك لين للموتى، تتألف من مائة واثنين وستين فردا من طراز «د»، مقسمين إلى مجموعتين بوكانوفسكيتين، تتكون إحداهما من أربع وثمانين أنثى حمراء الرأس، والأخرى من ثمانية وسبعين توءما ذكرا أسمر اللون من ذوي الرءوس المستطيلة، وكانت الطائفتان تجتمعان في السادسة عندما تنقضي ساعات العمل عند مدخل المستشفى، يقدم إليهما مقرر السوما وكيل نائب الخازن.
وخرج الهمجي من المصعد وتوسطهم، غير أنه كان يفكر في أمر آخر، كان يفكر في الموت وفي آلامه وندمه، وبدأ يشق طريقه خلال الزحام بصورة آلية بغير وعي. - «من تدفع؟ وأين تظن أنت ذاهب؟»
ولم يسمع غير صوت اثنين؛ أحدهما صرير مرتفع والآخر هدير منخفض، وكلاهما يخرج من عدد عديد من الحلوق المنفصلة، ولم يلتفت نحوه غير وجهين اثنين غاضبين؛ أحدهما حليق كالقمر به نمش حوله هالة برتقالية، والآخر هزيل كوجه الطائر ذي المنقار وقد نبت فيه الشعر ليومين، وقد تكرر الوجهان إلى ما لا نهاية، كأنهما صورتان في عدد من المرايا، وأيقظته من غفوته كلماتهم وغمزات مرافقهم الحادة في ضلوعه، فتنبه مرة أخرى إلى الحقيقة الخارجية، وتلفت حواليه، وأدرك ما وقعت عليه عيناه - أدركه وقد تزايلت أعضاؤه من الفزع والتقزز، وعرف أنه الهذيان الذي يعاوده صباح مساء، وكابوس من المتشابهات المتجمعة التي لا يتميز أحدها عن الآخر، توائم لا تنتهي ... لقد تجمعوا كالديدان حول لندا، وهي تقضي نحبها بصورة غامضة، وتتابعوا واحدا في إثر الآخر، وها هو ذا الآن يشهد الديدان مرة أخرى، ولكنها أضخم حجما، وأكبر نموا، وهم يقطعون عليه حزنه وندمه، فتوقف عن المسير، وبعينين فيهما الحيرة والفزع حدق حوله في الجمهور الذي يرتدي الكاكي، وتوسطه وهو يعلوهم جميعا برأسه كله، «كم مخلوق طيب هنا! ما أجمل الإنسان! يا له من عالم طريف ...» لقد كانت هذه الكلمات ترن في أذنه وتسخر منه بازدراء.
وارتفع صوت يقول: «توزيع السوما! نرجوكم أن تحتفظوا بالنظام، هلموا.»
وفتح أحد الأبواب، وأدخلت في مكان الاجتماع منضدة ومقعد، وكان المنادي شابا خفيف الروح من طراز «أ»، وكان قد دخل وهو يحمل صندوق نقد من الحديد الأسود، وصدرت من التوائم المنتظرة تمتمة تنم عن الرضا، ونسوا كل ما يتعلق بالهمجي، وركزوا الآن اهتمامهم في الصندوق الأسود، الذي وضعه الشاب فوق النضد، وشرع الآن يفضه، ورفع الغطاء.
وصدرت من المائة واثنين وستين فردا جميعا في صوت واحد صيحة تدل على الدهشة، كأنهم يشاهدون الصواريخ النارية.
وأخرج الشاب ملء قبضة يده من صناديق الحبوب الصغيرة، ثم قال بنغمة حاسمة: «الآن أرجوكم أن تتقدموا، واحدا في إثر الآخر ولا يدفع بعضكم بعضا.»
فتقدم التوائم متتابعين غير متدافعين، وجاء ذكران أولا، ثم أنثى، ثم ذكر آخر، ثم ثلاث إناث، ثم ...
ولبث الهمجي يشاهد ما يجري «يا له من عالم طريف، يا له من عالم طريف! ...» وكأن هذه الكلمات الرنانة قد تغيرت نغمتها في ذهنه، لقد كانوا يسخرون منه وهو في شقوته وندمه، ويزدرونه بنغمة شنيعة تدل على الاستهزاء والسخرية! وقد ضحكوا ضحكات شيطانية، وأصروا على القذارة الوضيعة، وذلك الكابوس القبيح المقزز، والآن ينفخون في الأبواق بغتة للقتال، «يا له من عالم طريف!» كانت ميراندا تنادي بإمكان الجمال، وبإمكان تحويل الكابوس نفسه إلى شيء بديع نبيل، «يا له من عالم طريف!» تلك عبارة تحد، وذلك أمر.
وصاح وكيل نائب الخازن محنقا، قال: «لا يدفع بعضكم بعضا.» وأنزل غطاء الصندوق محدثا صوتا، وقال: «سأكف عن التوزيع ما لم تحسنوا السلوك.»
وزمجر الأفراد من طراز «ء» وتدافعوا قليلا ثم سكنوا، وكان الوعيد مجديا، فقد راعهم أن يحرموا من السوما.
فأعاد الشاب فتح الصندوق وقال: «هذا حسن.»
لقد كانت لندا مستعبدة، ثم ماتت، وسوف يعيش الآخرون أحرارا، وسوف تتزين الدنيا، هذا إصلاح بل واجب، وأشرقت الحقيقة على الهمجي فجأة، وتبين له ما ينبغي له أن يفعل، وكأن نافذة قد فتحت، أو ستارا أزيح.
وقال وكيل الخازن: «والآن ...»
فتقدمت إحدى الإناث خطوة إلى الأمام.
ونادى الهمجي بصوت رنان مرتفع قائلا: «قفوا، قفوا!»
وشق طريقه إلى المنضدة، وحدقت فيه الدالات في دهشة شديدة.
وقال نائب وكيل الخازن في صوت خافت جدا: «يا لفورد، إنه الهمجي!» وأحس بالفزع الشديد.
وصاح الهمجي جادا، قال: «أرجوكم أن تنصتوا، أعيروني آذانا مصغية ...» إنه لم يخاطب الجمهور من قبل قط، فشق عليه الآن جدا أن يعبر عما أراد أن يقول: «لا تأخذوا هذه المادة المريعة، إنها سم، إنها سم.»
فقال له نائب وكيل الخازن وهو يبتسم له ويعطف عليه: «أيها الهمجي، هل تسمح لي أن ...»
سم للروح كما هو سم للبدن. «أجل، ولكن أرجوك أن تدعني أواصل التوزيع، إنك رجل طيب.» وربت على ذراع الهمجي برفق يشوبه الحرص، كأنه يربت على حيوان مفترس شرير، وقال له: «أرجو أن تدعني ...»
فصاح الهمجي: «كلا!» - «ولكن انظر هنا أيها الشيخ ...» - «اقذفوه جميعا، هذا السم المريع.»
وكأن لهذه الكلمات «اقذفوه جميعا» أثر قوي في وعي الدالات، واخترقت طبقات سميكة من الجهل، وعلت زمجرة الجمهور الغاضب.
فقال الهمجي وقد التفت إلى القوائم: «لقد جئت لآتيكم بالحرية، جئت ...»
ولم يعد نائب وكيل الخازن يسمع شيئا، فقد انسل من المكان وكان يبحث عن رقم في دفتر التلفون.
لخص برنارد حديثه بهذه العبارة: «إنه ليس في بيته، وليس في بيتي ولا بيتك، وليس في الأفروديت ولا في مركز الكلية، فإلى أين يا ترى ذهب؟»
فهز هلمهلتز كتفيه، لقد عادا من عملهما وهما يتوقعان أن يجدا الهمجي بانتظارهما في أحد أماكن اللقاء التي ألفاها، ولكنهما لم يعثرا له على أثر، وقد ضايقهما ذلك لأنهما كانا يريدان أن يهطعا إلى بيارتز في سيارة هلمهلتز الخفيفة ذات المقاعد الأربعة، وسوف يفوتهما موعد العشاء إذا لم يعد سريعا.
فقال هلمهلتز: «سوف نعطيه خمس دقائق أخرى، فإذا لم يعد خلالها فسوف ...»
وقاطعه دق جرس التلفون، والتقط السماعة وقال: «هلو، ها أنا ذا أتكلم.» وأنصت فترة طويلة ثم أخذ يسب، ثم قال: «أنا آت على الفور.»
فسأله برنارد: «ما في الأمر؟»
فقال هلمهلتز: «هذا رجل أعرفه في مستشفى بارك لين، الهمجي هناك، والظاهر أنه جن، والأمر عاجل على أية حال، هل ترافقني؟»
فهرولا معا في الدهليز يقصدان المصاعد.
وكان الهمجي يقول لهم، وهم يدخلون المستشفى: «ولكن هل تحبون أن تكونوا عبيدا؟» وتدفق الدم في وجهه واتقدت عيناه من الهياج والحنق، ثم قال: «هل تحبون أن تكونوا أطفالا؟ نعم، أطفالا تبكون وتتقيئون؟» وقد أحنقه غباؤهم الوحشي، فبدأ يقذفهم بالإهانات وهو الذي جاء لإنقاذهم، ونفذت الإهانات خلال غباوتهم السميكة، فحدقوا فيه وقد بدا في عيونهم ما ينم عن الاستياء الثقيل الكئيب، فصاح بهم صيحة عالية وقال: «نعم تتقيئون!» ونسي الآن همه وندمه، وعطفه وواجباته، وتشبع بالكره الشديد لهؤلاء الوحوش المنحطين عن البشر، «ألا تريدون أن تكونوا رجالا أحرارا؟ ألا تفهمون ما الرجولة وما الحرية؟» وجعله الغضب فصيحا، فتدفق الكلام تدفقا، وكرر قوله: «ألا تريدون ذلك؟» غير أنه لم يظفر بجواب لهذا السؤال، وواصل حديثه متجهما، قال: «إذن فلأعلمكم وسوف أحرركم سواء أردتم أو لم تريدوا .» وفتح إحدى النوافذ بقوة، وهي تطل على فناء المستشفى الداخلي، ثم بدأ يقذف في الفضاء بصناديق أقراص السوما الصغيرة قبضة بعد قبضة.
وصمت الجمهور الذي يرتدي الكاكي لحظة، وقد تحجروا دهشة وفزعا لمنظر هذا الانتهاك الفاجر للحرمات.
وهمس برنارد، وقد حدق فيه بعينين واسعتين قائلا: «إنه مجنون، سوف يقتلونه، سوف ...» وارتفعت من الجماهير صيحة عالية، مفاجئة، وقد دفعتها حركة خفيفة نحو الهمجي مهددين، فقال برنارد، وقد التفت ناحية أخرى: «كان فورد في عونه.»
فقال هلمهلتز: «فورد في عون من كان في عون نفسه.» وضحك ضحكة ابتهاج فعلي، وشق طريقه وسط الجماهير.
فصاح الهمجي قائلا: «كونوا أحرارا، كونوا أحرارا.» واستمر يقذف السوما بيد واحدة في الفضاء، وأخذ يلكز باليد الأخرى وجوه المعتدين عليه، تلك الوجوه التي لا يتميز أحدها عن الآخر، «كونوا أحرارا.» وأدرك فجأة أن هلمهلتز صديقه الطيب القديم كان إلى جواره، واستمر يلكز ويقول: «لقد صاروا رجالا في النهاية!» وظل بين الفينة والفينة يقذف السم خلال النافذة المفتوحة، وقد ملأ به قبضة يده مرات عدة، «نعم، رجال! رجال!» ولم يبق شيء من السم، فالتقط الصندوق وأطلعهم على فراغه المظلم، وقال: «إنكم أحرار.»
وأعول الدالات وهاجموه بغضب مضاعف.
ووقف برنارد مترددا في حاشية المعركة، ثم قال: «لقد انتهت حياتهم.» ودفعه باعث مباغت، فهرع لمعونتهم، ثم راجع نفسه ووقف، غير أنه خجل فخطا ثانية إلى الأمام، وراجع نفسه مرة أخرى، ووقف متألما من هذا التردد المذل - يخشى أنهم قد يقتلون إذا لم يقدم لهم يد المعونة، وأنه هو نفسه قد يقتل لو فعل - وفي تلك اللحظة جاء رجال الشرطة مسرعين، عيونهم محملقة، وأنوفهم كأنوف الخنازير وهم يلبسون الأقنعة التي تقيهم الغازات، فحمدا لفورد!
فانطلق برنارد للقائهم، ولوح بذراعيه، وكانت تلك حركة لها قيمتها - وظن أنه قام بعمل شيء ما، وصاح عدة مرات: «المعونة، المعونة!» وعلا صوته تدريجا كي يتوهم المعونة.
فأبعده رجال الشرطة من طريقهم وباشروا عملهم، ونشر بخار السوما في الفضاء سحبا متكاثفة، ثلاثة رجال يحملون آلات للرش شدت إلى أكتافهم، وأخذ اثنان آخران يعملان حول صندوق الموسيقى المركبة الخفيف، وشق طريقهم وسط الجمهور أربعة آخرون يحملون المسدسات المائية محشوة بمخدر قوي، وأخذوا يصرعون أشد المقاتلين افتراسا، ويخدرونهم وهم يطلقون الماء من المسدسات بطريقة منظمة دفعة بعد دفعة.
وصاح برنارد قائلا: «أسرعوا، أسرعوا! إنهم سوف يقتلون إن لم تعجلوا، إنهم سوف ... أوه!» وقد أغضبت ثرثرته هذه أحد رجال الشرطة، فأطلق عليه دفعة من مسدسه المائي، ووقف برنارد لحظة أو لحظتين، وقد جاشت معدته وترنح على ساقيه، كأنهما فقدا العظام والأعصاب والعضلات، فأصبحتا عصوين من الهلام - بل ومن الماء في آخر الأمر، فخر مكوما على الأرض.
وبدأ يتكلم بغتة صوت صادر من صندوق الموسيقى المركبة، وذلك هو صوت العقل، وصوت الشعور الطيب، وانفضت صحيفة الآثار الصوتية، ونطقت عن الخطاب الصناعي رقم 2 (بالقوة المتوسطة) الخاص بمناهضة الثورات، وصدر الخطاب رأسا من أعماق قلب لا وجود له، وقال: «إخواني، أصدقائي!» بنغمة شجية تنطوي على تأنيب بالغ في الرقة، حتى إن عيون رجال الشرطة أنفسهم امتلأت لحظة بالدموع خلف الأقنعة الواقية من الغازات، ثم قال الصوت: «ما معنى هذا؟ لماذا لستم جميعا سعداء طيبين في عشرتكم؟ سعداء طيبين، في سلام آمنين.» ثم ارتعش الصوت وخفت حتى بات همسا ثم تلاشى حينا ما، ثم عاد يقول في حماسة وشغف: «إني أحب لكم السعادة، وإني لا أحب لكم أن تكونوا طيبين! فأرجوكم وألحف في الرجاء، أن تكونوا كذلك وأن ...»
وبعد دقيقتين كان للصوت وبخار السوما أثرهما، فتبادل الدالات القبلات والدمع ينهمر من عيونهم، وتعانقوا - كل ستة توائم دفعة واحدة في عناق شامل، وحتى هلمهلتز والهمجي كانا يبكيان، وجيء من المخزن بمدد جديد من صناديق الحبوب، ووزعت الأقراص على عجل من جديد، وبعدئذ تشتت التوائم على نغمة الوداع الموسيقية المشوبة بالمحبة الحارة، ينفطرون من البكاء حتى توشك قلوبهم أن تتحطم، «وداعا يا أعز أصدقائي، يحفظكم فورد! وداعا يا أعز أصدقائي ... يحفظكم فورد، وداعا يا أعز ...»
ولما اختفى آخر الدالات أوقف أحد رجال الشرطة التيار، فسكت الصوت الملائكي .
وسأل رئيس الشرطة قائلا: «هل لكم أن تنصرفوا هادئين، أو لا بد لنا من عملية التخدير؟» وصوب مسدسه المائي مهددا.
فأجابه الهمجي: «سوف ننصرف هادئين» وهو يمس على التعاقب مسا خفيفا شفته الجريحة، وعنقه المخدوش، ويسراه المعضوضة.
وأومأ هلمهلتز برأسه مؤيدا، وهو لا يزال يضع منديله فوق أنفه الدامي.
وتيقظ برنارد واسترد قدرته على استخدام قدميه، وقد آثر أن يتحرك في هذه الآونة نحو الباب متخفيا جهد المستطاع.
ونادى رئيس الشرطة قائلا: «أنت هناك!» وأسرع إلى الجانب الآخر من الغرفة شرطي مقنع كالخنزير، وألقى يده على كتف الشاب.
فالتفت برنارد وعليه سيما البراءة المشوبة بالحنق، هل كان يفر من المواقف؟ إنه لم يحلم بذلك، وقال لرئيس الشرطة: «إني لا أستطيع أن أتصور لماذا تريدونني؟» - «ألست صديقا للمساجين؟»
فتردد برنارد في الإجابة ولكنه لم يستطع الإنكار، فسأله: «ولماذا لا ينبغي لي أن أكون؟»
فقال له رئيس الشرطة: «إذن فتعال.» وتقدم صوب الباب نحو سيارة الشرطة المنتظرة.
الفصل السادس عشر
كانت الغرفة التي دخلها ثلاثتهم مكتب المراقب.
وقال لهم الساقي «ج»: «سوف يأتيكم سيادته بعد لحظة.» وتركهم وحدهم وانصرف.
فضحك هلمهلتز ضحكة عالية وقال: «إن هذا الاجتماع أشبه بحفلة محلول الكافيين منه بالمحاكمة.» واستوى على أفخر كرسي هوائي، ثم قال: «تشجع يا برنارد» وقد وقع بصره على وجه صاحبه الأخضر التعس، غير أن برنارد لم يتشجع، ولم يحر جوابا، بل ولم يلتفت إلى هلمهلتز، بل سار نحو أسوأ الكراسي في الغرفة وجلس عليه، وقد عني بانتقائه وعنده أمل غامض أنه بذلك يفت - على صورة ما - من حدة غضب السلطات العليا.
وأخذ الهمجي في غضون ذلك يجوس خلال الغرفة قلقا، وتطلع بشغف سطحي غامض إلى الكتب في الرفوف، وإلى صحائف الآثار الصوتية، وإلى أسطوانات آلات القراءة، وقد وضعت كل منها في عين مرقومة، وكان على المنضدة تحت النافذة مجلد ضخم مغلف بجلد بديع أسود طري، ومختوم بحرف
T
المذهب الكبير، فالتقط الكتاب وفتحه، «حياتي وعملي لمؤلفه فورد»، وقد نشرت الكتاب في دتروا جمعية نشر المعارف الفوردية، وتصفح الكتاب ببطء شديد ، وقرأ عبارة هنا وفقرة هناك، وأوشك أن يقرر أن الكتاب لا يشوقه، وعندئذ فتح الباب، ودب في الغرفة المراقب العالمي المقيم لغرب أوروبا.
وصافح مصطفى مند ثلاثتهم، ولكنه وجه الخطاب إلى الهمجي قائلا: «إذن أنت لا تغرم بالمدنية أيها الهمجي.»
فالتفت إليه الهمجي، وكان قد تأهب للكذب والهياج، ولأن يلزم الصمت في اكتئاب، غير أنه آثر الصدق والصراحة، لما اطمأنت نفسه إلى الذكاء وروح الفكاهة الباديين في وجه المراقب، فهز رأسه قائلا: «كلا!»
فذعر برنارد وأصابه الفزع، ماذا يظن المراقب؟ وأزعجه أن تنسب إليه صداقة رجل قال إنه لا يحب المدنية - وقد صرح بذلك إلى المراقب دون الناس أجمعين! وبدأ يقول: «ولكن يا جون ...» غير أن نظرة من مصطفى مند أعادته إلى الصمت والهوان.
واستمر الهمجي في اعترافاته قائلا: «هناك بالطبع أشياء جميلة جدا، فتلك الموسيقى التي تملأ الجو مثلا ...» - «فأحيانا تطن في أذني آلاف الآلات الرنانة، وأحيانا أخرى ترن فيهما الأصوات.»
وتهلل وجه الهمجي بشرا وسرورا، وسأل قائلا: «هل قرأته كذلك؟ كنت أحسب أن هذا الكتاب لم يعرفه أحد في إنجلترا.»
فأجابه بقوله: «يكاد لا يعرفه أحد، وأنا أحد القلائل الذين يعلمون به، إنه محظور، ولكن بما أني أسن القوانين هنا فأنا أستطيع كذلك أن أخرقها، وذلك بغير عقوبة يا مستر ماركس.» والتفت إلى برنارد وقال له: «وهذا ما لا تستطيعه أنت.»
فازداد برنارد شقاء وبأسا.
وسأل الهمجي قائلا: «ولكن لماذا تحظرونه.» وقد ثارت أعصابه؛ لأنه لاقى رجلا قرأ شيكسبير، فنسى في تلك الآونة كل أمر آخر.
وهز المراقب كتفيه وقال: «لأنه قديم، وذلك هو السبب الرئيسي، إننا هنا لا ننتفع بالأشياء القديمة.» - «حتى إن كانت جميلة؟» - «وبخاصة إن كانت جميلة، فالجمال جذاب، ونحن لا نحب أن ينجذب الناس إلى الأشياء القديمة، إنما نريدهم أن يحبوا الأشياء الجديدة.» «لكن الأشياء الجديدة مملة مزعجة، كتلك المسرحيات التي لا ترى فيها سوى الطائرات المحلقة، والتي «تحس» فيها بقبلات الناس.» وقطب جبينه عابسا ثم قال: «أولئك قردة وماعز!» ولم يجد وسيلة كافية للتعبير عن كراهيته وازدرائه، غير هذه الألفاظ التي تفوه بها عطيل.
فتمتم المراقب مقاطعا إياه وقال: «هي على أية حال حيوانات أليفة جميلة.» - «لماذا لا يشهدون «عطيلا» بدلا من ذلك؟» - «قلت لك إنها قديمة، وهم - فوق ذلك - لا يفقهونها.»
نعم ذلك حق، وتذكر كيف كان هلمهلتز يسخر من «روميو وجوليت»، وسكت فترة ثم قال: «إذن فليشاهدوا شيئا جديدا يشبه عطيلا، ويستطيعون إدراكه.»
فرد عليه هلمهلتز وقد شق بقوله صمتا طال أمده، قال: «هذا ما أردنا جميعا أن نكتب.»
وقال المراقب: «وهذا لن تكتبوه قط؛ لأنه لو كان فعلا شبيها بعطيل، فلن يفقهه أحد مهما يكن جديدا، ولو كان جديدا فلا يمكن أن يشبه عطيلا.»
فقال هلمهلتز: «لماذا؟ نعم لماذا؟» وقد نسي هو أيضا حقيقة الموقف التي لا تسر، ولم يذكرها غير برنارد وقد اخضر وجهه من القلق والخوف، وتجاهله الآخرون وكرروا سؤالهم: لماذا؟ «لأن عالمنا يختلف عن عالم عطيل، إنك لا تستطيع أن تصنع السيارات الشعبية بغير صلب - ولن تستطيع أن تكتب المآسي بغير قلق اجتماعي، إن العالم اليوم مستقر، والناس سعداء، يظفرون بما يريدون، ولا يريدون قط ما لا يستطيعون الظفر به، إنهم أغنياء، آمنون، لا يمرضون قط ولا يخشون الموت، ينعمون بجهلهم العواطف والشيخوخة، لا يرزءون بالأمهات والآباء، ليست لهم زوجات ولا أطفال ولا عاشقون يحبونهم حبا جما، وقد تكيفوا بحيث لا يسعهم فعلا إلا أن يسلكوا كما ينبغي لهم أن يفعلوا، وإذا ساء أمر من الأمور فهناك السوما التي قذفت بها من النافذة باسم الحرية أيها الهمجي.» ثم ضحك وقال: «نعم الحرية! لقد كنت تحسب أن الدالات تعرف ما هي! والآن تريدهم أن يفقهوا «عطيلا» يا بني العزيز؟!»
وصمت الهمجي برهة وأصر على عناده، وقال: «ولكن «عطيلا» - برغم ذلك - مسرحية جميلة، إنها خير من تلك الصور المحسة.»
فوافقه المراقب قائلا: «بالطبع هي كذلك، ولكن ذلك هو الثمن الذي ندفعه في سبيل الاستقرار، ليس أمامك إلا أن تختار أحد أمرين: إما السعادة ، وإما ما تعود الناس أن يسموه الفن الرفيع، ولقد ضحينا بالفن الرفيع، وعندنا بدلا منه الصور المحسة وأرغن العطور.» - «ولكنهما لا يعنيان شيئا.» - «إنهما يعنيان نفسهما، ويعنيان للمستمعين كثيرا من الإحساسات المستحبة.» - «ولكن الذي يرويهما أبله.»
فضحك المراقب وقال: «إنك لم تتأدب لصديقك يا مستر واطسن، إن أحد مهندسي العواطف البارزين عندنا ...»
فقال هلمهلتز مكتئبا: «لكنه مصيب، إنك إن أردت تكتب، وليس لديك ما تقول ...» - «بالضبط، ولكن ذلك يقتضي أشد العبقريات نبوغا، إنك تصنع الطائرات الشعبية بأدنى حد من الصلب - والقطع الفنية من لا شيء البتة سوى مجرد الإحساس.»
فهز الهمجي رأسه وقال: «إن ذلك كله يبدو لي غاية في الشناعة.» - «إنه بالطبع يبدو لك كذلك؛ لأن السعادة الحقيقية تبدو قذرة، إذا قورنت بمضاعفة التعويض عن الشقاء، وليس الاستقرار بالطبع براقا كعدم الاستقرار، وليس في القناعة ما يبهر العين مثل النضال الشديد في وجه الكوارث، وليس فيها ما يخطف البصر مثل مكافحة الإغراء، أو الهزيمة القاضية أمام الشك والعاطفة، إن السعادة لا تكون عظيمة إطلاقا.»
فصمت الهمجي برهة ثم قال: «أظن ذلك، ولكن لا بد أن تبلغ من السوء مبلغ هؤلاء التوائم.» ثم فرك يده فوق عينيه كأنه يحاول أن يزيل ذكرى صورة تلك الصفوف الطويلة من الأقزام المتشابهة، عند المناضد المحتشدة، تلك القطعان من التوائم المتتابعة واحدا بعد الآخر، عند مدخل محطة برنتفورد للقطار الذي يسير على قضيب واحد، تلك الديدان البشرية المحتشدة حول فراش موت لندا، ذلك الوجه المتكرر إلى ما لا نهاية من المعتدين عليه، ونظر إلى يسراه المضمدة فارتعد وقال: «هذا مريع!» «لكنه نافع! إني ألاحظ أنك لا تحب مجموعات بوكانوفسكي التي عندنا، لكن أؤكد لك أنها الأساس الذي يقوم عليه كل شيء آخر، هي الميزان الذي يعمل على استقرار طائرة الدولة الصاروخية ويسيرها في طريق مستقيم.» هذا ما أجاب به مصطفى مند بصوته العميق المذبذب الأجش، وهو يلوح بيده ممثلا بها الفضاء الذي تمخر عبابه الطائرة وقوة اندفاعها التي لا تقاوم، وكادت فصاحته أن تبلغ حدود الفصاحة الصناعية.
فقال الهمجي: «كنت أتعجب لماذا تبقون عليهم بعد ما رأيت أنكم تستطيعون الحصول على ما تشاءون من تلك القوارير، لماذا لا تصنعون الناس جميعا من طراز «أ» وهم في دور التكوين؟»
فضحك مصطفى مند وأجاب بقوله: «لأننا لا نحب أن تحز رقابنا، نحن نعتقد في السعادة والاستقرار، وإذا كان المجتمع بأسره من طراز «أ» فلا يسعه إلا أن يكون عديم الاستقرار شقيا، تصور مصنعا كل عماله من «أ» - أي من أفراد منفصلين لا صلة بين أحدهم والآخر، من سلالة طيبة، وقد تكيفوا على القدرة (في حدود معينة) على الاختيار وعلى الاضطلاع بالتبعات، تصور ذلك!»
وحاول الهمجي أن يتصور، لكنه لم يفلح كل الفلاح.
فقال المراقب: «إنه عبث باطل، إن الرجل إذا أفرغ من القارورة على أنه من «أ»، وإذا تكيف على طراز «أ» يجن إذا أرغم على أداء عمل «ه» من أنصاف المعتوهين، إما أن يجن أو يشرع في تحطيم الأدوات، إن (الألفات) يمكن أن ينسجموا مع المجتمع كل الانسجام - ولكن على شريطة أن يقوموا بعمل «أ»، ولا يقوم بتضحيات «ه» إلا رجل من طراز «ه»؛ وذلك لسبب معقول وهو أنه لا يرى أنها تضحيات، إنما هو العمل الذي يتطلب منه أيسر مجهود، لقد مد له تكييفه قضبانا يسير عليها، ولا يسعه إلا أن يتبعها، فقد قضي بذلك عليه، إنه حتى بعد التفريغ يبقى كأنه بداخل القارورة - قارورة لا تراها العين من مقتضيات الأطفال والأجنة»، وفكر المراقب قليلا ثم قال: «إن كلا منا بالطبع يسير في حياته، وكأنه بداخل قارورة، فإن كان من «أ» فإن القارورة تكون ضخمة نسبيا، فيعاني ألما ممضا إذا هو انحصر في حيز ضيق، إنك لا تستطيع أن تصب الشمبانيا الجديدة للطبقات العليا في قوارير الطبقات السفلى، وهذا جلي من الناحية النظرية، وقد ثبتت صحته كذلك من الناحية العملية الواقعية، وقد كانت نتيجة تجربة قبرص جد مقنعة.»
فسأله الهمجي: «وما تلك؟»
فابتسم مصطفى مند وقال: «تستطيع إن شئت أن تسميها تجربة في إعادة الحفظ في القوارير، وكان بدؤها في عام 473 بعد فورد، في ذلك التاريخ أبعد المراقبون عن قبرص كل سكانها الأحياء، وأعادوا تعميرها بطائفة من اثنين وعشرين ألفا من طراز «أ» أعدوا إعدادا خاصا، وسلمت لهم كل المعدات الزراعية والصناعية، وتركوا لإدارة شئونهم بأنسهم، فحققت النتيجة كل النبوءات النظرية بتمامها، فلم تفلح الأرض فلاحة صحيحة، وعم الإضراب جميع المصانع، ولم تراع القوانين وعصيت الأوامر، وأخذ كل امرئ خص بعمل وضيع يدبر الدسائس بغير انقطاع؛ كي يصل إلى الوظائف العليا، ولم يفتأ أصحاب الوظائف العليا يدبرون الدسائس المضادة مهما كلفهم ذلك كي يبقوا في مراكزهم، فاشتعلت بينهم في أقل من ست سنوات حرب أهلية من الدرجة الأولى، وبعدما فني تسعة عشر من اثنين وعشرين ألفا، تقدم الأحياء الباقون إلى المراقبين العالميين بطلب اجتماعي يلتمسون منهم استئناف حكم الجزيرة، فلبى المراقبون الطلب، وكانت تلك نهاية جماعة (الألفات) الوحيدة التي شهدها العالم.»
فتنهد الهمجي تنهدا عميقا.
ثم قال مصطفى مند: «إن السكان الملائمين يصاغون على نسق الجبل الجليدي - تسعة أعشار تحت سطح الماء، والعشر فوقه.» - «وهل هم سعداء تحت سطح الماء؟» - «أسعد منهم فوقه، أسعد من أصدقائك الذين تراهم هنا مثلا.» وقد أشار إليهم. - «برغم ذلك العمل المريع؟» - «مريع؟ إنهم لا يجدونه كذلك، بل إنهم - على العكس من ذلك - ليحبونه، إنه خفيف، وسهل كعمل الأطفال، لا يجهد العقل أو العضل، سبع ساعات ونصف في عمل خفيف لا ينهك، يعقبها مقرر السوما والألعاب والتناكح بغير قيد ودور الصور المحسوسة، ماذا يريدون أكثر من ذلك؟» ثم قال: «نعم إنهم قد يطلبون ساعات أقل، ونستطيع بالطبع أن نعطيهم ذلك، ومن اليسير جدا - من الناحية الفنية - أن نقلل ساعات العمل لجميع أبناء الطبقات الدنيا إلى ثلاثة أو أربعة كل يوم، ولكن هل تزيد بذلك سعادتهم؟ كلا. وقد أجريت التجربة منذ أكثر من قرن ونصف، فإن كل سكان أيرلنده كانوا يعملون أربع ساعات في اليوم الواحد، فماذا كانت النتيجة؟ القلق وزيادة استهلاك السوما زيادة عظمى، ذلك ما حدث، وكانت الساعات الثلاث والنصف التي انضمت إلى أوقات الفراغ أبعد من أن تكون مصدرا للسعادة، حتى وجد الناس أنفسهم مضطرين إلى الاستئجاز منها، ومكتب المخترعات مفعم بالخطط التي يمكن أن تتبع لتوفير العمل، وهناك الألوف منها.» وأشار مصطفى مند بيده إشارة عنيفة ثم قال: «ولماذا لا نضعها موضع التنفيذ؟ من أجل العمال أنفسهم، فإن أصابتهم بزيادة الفراغ قسوة شديدة، وكذلك الأمر في الزراعة، إننا نستطيع أن نصنع كل لقمة من الطعام إن أردنا، ولكنا لا نفعل، فنحن نؤثر أن نبقي ثلث السكان في الأرض، وذلك لمصلحتهم؛ لأن استخراج الطعام من الأرض يستغرق وقتا أطول من استخراجه في المصنع، ثم عندنا فوق ذلك الاستقرار الذي لا بد لنا من مراعاته، إننا لا نحب التغيير، فإن كل تغيير يهدد الاستقرار، وذلك سبب آخر يحفزنا على الحرص عند تطبيق المخترعات الحديثة، فإن كل اكتشاف جديد في العلوم البحتة يحتمل أن يكون هداما، فالعلم نفسه لا بد أن يعالج أحيانا على أنه قد يكون عدوا للناس، نعم حتى العلم.» - «العلم؟» هنا قطب الهمجي جبينه، فقد كان يعرف هذه الكلمة، ولكنه لم يعرف مدلولها بالضبط، إن شيكسبير وشيوخ القرية لم يذكروا العلم قط، ولم يفهم من لندا سوى إشارات عنه غامضة: العلم شيء تصنع منه الطائرات، شيء يضحك المرء في رقصات الحنطة، شيء يحفظك من التعفن ومن فقدان الأسنان - وبذل جهد اليائس كي يدرك ما رمى إليه المراقب.
وكان مصطفى مند يقول: «نعم ذلك شرط آخر من شروط الاستقرار، ليس الفن وحده هو الذي لا يتفق والسعادة، إنما العلم كذلك، إنه خطر، ولا بد لنا من سلسلته وتكميمه بحرص شديد.»
فقال هلمهلتز في دهشة شديدة: «ماذا؟ ولكنا نقول دائما إن العلم هو كل شيء، وتلك حقيقة إيحائية معروفة.»
فقال برنارد: «ثلاث مرات كل أسبوع فيما بين الثالثة عشرة والسابعة عشرة.» - «وكل تلك الدعاية التي ندعوها للعلم في الكلية ...»
فسأله مصطفى مند متهكما، قال: «نعم، ولكن أي نوع من أنواع العلم؟ إنك لم تدرب تدريبا علميا؛ لذلك فأنت لا تستطيع أن تحكم، لقد كنت عالما طبيعيا مجيدا في زماني، كنت مجيدا إلى حد أني أدركت أن علمنا كله ليس إلا بمثابة كتاب في الطهي يحتوي على نظرية تقليدية في الطهي ليس لأحد أن يناقشها، وعلى قائمة من الأوصاف التي لا يجوز الإضافة عليها إلا بإذن خاص من كبير الطهاة، وأنا الآن كبيرهم، ولكني كنت من قبل مساعدا شابا للطاهي كثير السؤال، ثم بدأت أطهي وحدي طهيا غير تقليدي ولا مشروع - أو قل إني في الواقع مارست العلم الحق قليلا.» ثم سكت عن الكلام.
وسأله هلمهلتز واطسن قائلا: «وما الذي حدث؟»
فتنهد المراقب وقال: «حدث ما سوف يحدث لكم تقريبا أيها الشبان، أوشكت أن أنفى إلى إحدى الجزر.»
وهزت هذه الكلمات برنارد هزة عنيفة، فتحرك حركة قوية لا تليق بالمقام، وقال: «هل تنفونني في إحدى الجزر؟» ووثب من مكانه وعبر الغرفة عدوا، ثم وقف أمام المراقب ملوحا بيديه وقال: «إنكم لا تستطيعون إبعادي، إني لم أفعل شيئا، إنما هما الآخران، وأقسم أنهما هما.» وأشار إلى هلمهلتز والهمجي متهما إياهما، وقال: «أرجو ألا تبعث بي إلى أيسلنده، وأعدك أن أفعل ما ينبغي، أعطني فرصة أخرى، أرجو أن تهيئ لي فرصة أخرى.» وانهمر الدمع من عينيه، ثم قال وهو يجهش بالبكاء: «أؤكد لك أنه خطؤها، لا تبعدني في أيسلنده، أتوسل إلى سيادتك، وأرجو ...» وأصابته نوبة من الشعور بالذلة، فارتمى على ركبتيه أمام المراقب، وحاول مصطفى مند أن ينهضه، ولكن برنارد أصر على تذلله، وتدفق منه تيار جارف من الكلام، فاضطر المراقب في نهاية الأمر إلى أن يدق الجرس مستدعيا سكرتيره الرابع.
وأمره قائلا: «أحضر ثلاثة رجال وخذ المستر ماركس إلى حجرة للنوم، وأعطه كمية كافية من بخار السوما، ثم ضعه فوق السرير واتركه وحده.»
وخرج السكرتير الثالث ثم عاد بثلاثة من مشاة التوائم يرتدون الزي الأخضر، وحمل برنارد إلى الخارج، وهو لا يزال يصيح ويبكي.
وقال المراقب عندما كان الباب يغلق: «إن الرائي يحسب أنه سوف يقتل، في حين أنه - لو كان لديه ذرة من عقل - كان يجب أن يدرك أن عقوبته هي في حقيقتها مكافأة حسنة، إنه مبعوث إلى جزيرة، أي إنه مبعوث إلى مكان يلتقي فيه مع أمتع من تجد في هذا العالم من رجال ونساء - كل من أحس بفرديته لسبب ما إلى حد أنه لم يستطع أن ينسجم مع حياة الجماعة، كل من لم يرض بالتقاليد، ومن كانت له آراء مستقلة خاصة، أو بعبارة أخرى كل فرد له شخصية خاصة، إني لأغبطك يا مستر واطسن.»
فضحك هلمهلتز وقال: «وإذن فلماذا لا تقطن أنت إحدى الجزائر؟»
فأجابه المراقب قائلا: «لأني آثرت ذلك في النهاية، خيرت بين أن أبعث إلى جزيرة ما، حيث كنت أستطيع أن أواصل علومي البحتة، أو أن أنضم إلى مجلس المراقبين، مع الأمل في أن أشغل وظيفة المراقب في الوقت الملائم، فاخترت ذلك ونزلت عن العلوم.» وصمت برهة ثم قال: «وإني لأشعر أحيانا بالأسف على العلوم، فإن السعادة سيد شديد القسوة - وبخاصة سعادة الآخرين، إنها أشد من الحقيقة قسوة إذا لم يكيف المرء على قبولها بغير سؤال.» ثم تنهد، وعاد إلى صمته، ثم استمر في حديثه بنغمة مرتفعة، قال: «ولكن الواجب هو الواجب، ولا يستطيع المرء أن يتبع الطريق التي يؤثرها، إنني أهتم بالحقيقة وأغرم بالعلم، لكن الحقيقة تهدد العالم، والعلم خطر على الجمهور، وخطره لا يقل عن نفعه - لقد أعطانا أكثر ما عرف في التاريخ من الاستقرار المتزن، إن استقرار الصين بالنسبة إليه عديم الطمأنينة، بل إن الجماعات الأموية البدائية لم تكن أشد منا ثباتا.» وأقول مرة أخرى: «إن الفضل في ذلك يرجع إلى العلوم، لكنا لا نستطيع أن نسمح للعلم بأن يفسد بنفسه عمله الطيب؛ ولذا فنحن نحدد مجال بحثه بحرص شديد، ومن ثم أوشكت أن أنفى إلى إحدى الجزائر، إننا لا نسمح للعلم أن يعالج غير المشاكل المباشرة في اللحظة الراهنة، أما ما عدا ذلك من بحوث فإنها تقاوم بكل شدة». وسكت لحظة ثم قال: «وإني لأعجب حين أقرأ ما كان الناس في عهد فورد يكتبون عن التقدم العلمي ، يظهر أنهم تصوروا أنه يمكن أن يسير إلى ما لا نهاية بغض النظر عن كل شيء آخر، كانت المعرفة هي الخير كل الخير، وكانت للحقيقة أعلى القيم، وكل ما عدا ذلك ثانوي قليل الأهمية. نعم، إن الآراء قد بدأت تتغير حتى في ذلك الحين، وبذل فورد بنفسه جهدا كبيرا في نقل الاهتمام من الحق والجمال إلى الراحة والسعادة، واقتضى الإنتاج الكبير هذا الانتقال، إن السعادة العامة تجعل العجلات دائمة الدوران، أما الحق والجمال فلا يستطيعان، وبالطبع كلما استولت الجماهير على السلطة السياسية كانت بالسعادة أكثر اهتماما منها بالحق والجمال، ومع ذلك بقي البحث العلمي المطلق مصرحا به بالرغم من كل شيء، وما برح الناس يتكلمون عن الحق والجمال كأنهما أعظم الخير، وبقي الأمر كذلك حتى حرب السنوات التسع، عندئذ استبدلوا بالنغمة القديمة نغمة جديدة، ما الفائدة من الحق والجمال أو المعرفة، إذا كانت القنابل المحرقة تفرقع حولك من جميع الجهات؟ وكان ذلك بدء السيطرة على العلم - بعد حرب السنوات التسع، حينئذ استعد الناس لقبول السيطرة حتى على شهواتهم، وبذلوا كل نفيس في سبيل الحياة الهادئة، ومن ذلك التاريخ لم نفتر عن السيطرة على كل شيء، ولم يكن ذلك بالطبع في مصلحة الحق، ولكنه كان في مصلحة السعادة، إنك لا تحصل على شيء بغير مقابل، فكان لا بد من دفع الثمن للسعادة، وأنت نفسك تدفع ثمنها يا مستر واطسن؛ تدفع ثمنها لأنك تهتم بالجمال، وكنت شديد الاهتمام بالحق فساهمت في دفع الثمن.»
وخرج الهمجي عن صمت طويل وقال: «ولكنك لم تذهب إلى إحدى الجزر.»
فابتسم المراقب وقال: «هكذا دفعت الثمن باختياري أن أخدم السعادة، أقصد سعادة الآخرين - لا سعادتي.» وسكت برهة ثم قال: «ومن حسن الحظ أن بالعالم كثيرا من الجزر، ولست أدري ماذا نصنع لو لم تكن، أحسب أنا كنا نضعكم جميعا في غرفة الموت، وبهذه المناسبة هل تحب جو المناطق الحارة يا مستر واطسن؟ هل تحب جو ماركيزاز - مثلا - أو ساموا؟ أم هل تحب جوا أشد من هذا إنعاشا ؟»
فأجاب هلمهلتز وقد نهض من مقعده الهوائي قائلا: «إني أحب أسوأ أنواع الجو؛ لأني أعتقد أن المرء يحسن الكتاب إذا ساء الجو، وإذا كان هناك - مثلا - كثير من العواصف والأنواء ...»
فأومأ المراقب بالموافقة وقال: «إني أحب فيك هذه الروح يا مستر واطسن، أحبها حبا جما، أحبها بمقدار ما أنكرها، بحكم وظيفتي.» ثم ابتسم وقال: «ما رأيك في جزائر فوكلند؟»
فأجاب هلمهلتز بقوله: «أظنها ملائمة، والآن هل تسمح لي أن أذهب إلى برنارد المسكين كي أرقب تقدمه؟»
الفصل السابع عشر
ولما اختلى الهمجي والمراقب قال له: «الفن والعلم - الظاهر أنكم دفعتم ثمنا عاليا جدا لسعادتكم، وهل هناك شيء آخر؟»
فأجابه المراقب: «نعم، الدين بالطبع، فقد كان هناك شيء اسمه الله قبل حرب السنوات التسع، وقد نسيت أن أذكر لك ذلك، وأظنك تعرف كل شيء عن الله.»
فتردد الهمجي في الإجابة، وأحب أن يقول شيئا عن العزلة وعن الليل، وعن الهضبة وقد شحب لونها في ضوء القمر، وعن حافة الهضبة الرأسية، وعن الانغماس في الظلام الحالك، وعن الموت، أراد الهمجي أن يتكلم، ولكنه كان يفتقر إلى اللفظ، ولم يجده حتى عند شيكسبير.
وفي تلك الأثناء عبر المراقب الغرفة إلى جانبها الآخر، وأخذ يفض مغاليق خزانة ضخمة، أودعت في الحائط بين رفوف الكتب، وبعد ما انفتح بابها الثقيل، أخذ يعبث في ظلامها الداخلي، ثم قال: «إنه موضوع كثيرا ما كان يشوقني.» ثم أخرج مجلدا غليظا أسود اللون وقال: «إنك - مثلا - لم تقرأ هذا.»
فتناوله الهمجي وقرأ عنوانه: «الكتاب المقدس، ويحتوي على العهد القديم والعهد الجديد». «ولا هذا» وكان كتابا صغيرا ضاع غلافه: «الاقتداء بالمسيح.» «ولا هذا» وناوله مجلدا آخر عنوانه: «التجارب الدينية المختلفة» لمؤلفه وليم جيمس.
وعاد مصطفى مند إلى مقعده، واستمر يقول: «عندي كثير غير ذلك، مجموعة كاملة من كتب الأدب الداعر، إن كتب الله في الخزانة، وكتب فورد فوق الرفوف.» وأشار وهو يضحك إلى مكتبته التي نوه عنها؛ إلى رفوف الكتب، والعيون المليئة بأسطوانات آلات القراءة وبلفائف الآثار الصوتية.
وسأله الهمجي محنقا، قال: «ولكن إن كنت تعرف الله فلماذا لا تخبرهم به، ولماذا لا تعطيهم هذه الكتب التي كتبت عنه.» - «لنفس السبب الذي لا نعطيهم من أجله «عطيلا»؛ هي كتب قديمة، وهي عن الإله منذ مئات السنين، وليست عن إله اليوم.» - «ولكن الله لا يتغير.» - «غير أن الرجال يتغيرون.» - «وكيف تتغير الحقيقة بذلك؟»
قال مصطفى مند: «إنها تتغير كل التغيير.» ثم نهض ثانية، وسار نحو الخزانة وقال: «كان هناك رجل اسمه الكاردنال نيومان.» ثم صاح مقاطعا نفسه قائلا: «والكاردنال هو رجل يشبه في عمله كبير المنشدين.» - «لقد قرأت عنهم في شيكسبير»، فقد جاء فيه: «إنا باندلف كاردنال ميلان الجميلة.» - «بالطبع لقد قرأت، كنت أقول: «إنه كان هناك رجل اسمه الكاردنال نيومان، وها هو ذا الكتاب».» وأخرجه، ثم قال: «ولأخرج هذا أيضا فهو قريب منه، إنه من وضع رجل اسمه مين دي بيران، كان فيلسوفا، إن كنت تفهم ما أقصد بهذا اللفظ.»
فأجابه الهمجي على الفور: «تقصد رجلا يحلم بأشياء أقل مما يوجد في الأرض والسماء.» - «بالضبط، وسوف أقرأ لك أحد الأشياء التي حلم بها في إحدى اللحظات، أما الآن فأنصت إلى ما قال هذا المنشد الكبير.» وفتح الكتاب عند الصفحة التي أشير إليها بشريط من الورق، وقرأ ما يلي: «إننا لا نملك أنفسنا أكثر مما نملك ما بأيدينا، إننا لم نخلق أنفسنا، ولا نستطيع أن نعلو على أنفسنا، لسنا سادة على أنفسنا، نحن ملك الله، أليست سعادتنا إذن في هذه النظرة إلى الموضوع؟ هل نسعد أو نطمئن إذا ظننا أننا ملك لأنفسنا؟ قد يحسب ذلك الشباب والمترفون، قد يظن هؤلاء أن تسيير الأمور على هواهم - دون الاعتماد على أحد - أمر عظيم، فلا يفكرون في شيء بعيد عن الأنظار، ويخلصون من مشقة الاعتراف الدائم، والصلاة المتصلة، ونسبة أعمالهم دائما إلى إرادة غير إرادتهم، ولكن كلما تقدم الزمن أدركوا - كما أدرك الرجال الآخرون جميعا - أن الاستقلال لم يخلق للإنسان، وأنه حالة غير طبيعية، وأنه قد يغنينا فترة من الزمن، ولكنه لن يحملنا آمنين حتى النهاية ...» وسكت مصطفى مند لحظة، وألقى الكتاب الأول والتقط الآخر وأخذ يقلب صفحاته، ثم قال: «خذ هذا مثلا.» وشرع يقرأ مرة أخرى بصوته العميق: «إن الإنسان يتقدم في السن، ويحس في نفسه إحساسا قويا بالضعف، والفتور، والقلق، وهي إحساسات تلازم تقدم العمر، ولما كان هذا هو شعور الإنسان فهو يتصور أن به علة من العلل، ويخفف عن نفسه جزعها باعتقاده أن هذه الحالة التي سببت له الضيق، ترجع إلى سبب خاص بأمل أن يشفى منه كما يشفى من أي مرض من الأمراض، ذلك وهم باطل! تلك العلة هي الشيخوخة، وهي علة شنيعة.» يقولون: «إن الخوف من الموت ومما يأتي بعد الموت هو الذي يحول الناس إلى الدين كلما تقدمت بهم السن، ولكن تجربتي الخاصة أقنعتني أن العاطفة الدينية - بغض النظر عن هذه المخاوف والأوهام - تنمو في الإنسان كلما تقدمت به السن، وهي تنمو لأن الميول القوية تهدأ، والخيال والإحساسات تقل حدتها وتضعف قابليتها للتهيج، ويقل اضطراب العقل وما يخيم فوقه من أوهام ورغبات وأسباب للهو يهيم فيها، حينئذ يبرز الله وكأنه يخرج من خلف سحابة، وتحس الروح وترى وتتحول نحو مصدر النور كله تحولا طبيعيا لا مفر لها منه؛ وذلك لأن كل ما كان يعطي الحياة والسحر لعالم الإحساسات بدأ يفلت منا؛ ولأن الوجود الظاهري لم يعد يستند إلى الآثار الباطنة والظاهرة، فنحس بالحاجة إلى الاعتماد على شيء ثابت لا يخدعنا؛ على حقيقة واقعة، أو حق مطلق دائم، نعم لا مفر لنا من التحول نحو الله؛ لأن هذه العاطفة الدينية بطبيعتها صافية، تسر الروح التي تحس بها، فهي تعوضنا كل ما خسرنا.» وأغلق مصطفى مند الكتاب، ثم استند إلى مقعده وقال: «إن من الأشياء العديدة في الأرض والسماء التي لم يحلم بها هؤلاء الفلاسفة هو هذا (ولوح بيديه)، هو نحن، أو العالم الحديث.» لقد قيل: «إنك لا تستقل عن الله إلا إن كان لديك راحة وشباب، ولكن الاستقلال لا يحملك بأمان حتى النهاية . ونحن الآن نتمتع بأسباب الراحة والشباب حتى النهاية، فماذا يتبع ذلك؟ الاستقلال عن الله من غير شك، وقيل: «إن العاطفة الدينية تعوضنا كل ما خسرنا.» وليست لدينا خسائر نعوضها، فالعاطفة الدينية إذن نافلة من النوافل، ولماذا نتصيد عوضا عن رغبات الشباب، إذا كانت رغبات الشباب لا تفتر قط؟ وعوضا عن المسليات، إذا كنا لا ننقطع عن التمتع بالسخافات القديمة حتى النفس الأخير؟ ما حاجتنا إلى الراحة إذا كانت عقولنا وأبداننا تستمر في تمتعها بالنشاط؟ وما حاجتنا إلى السلوى وعندنا السوما؟ وإلى شيء ثابت وعندنا النظام الاجتماعي؟» - «إذن فأنت تعتقد أن ليس هناك إله؟» - «كلا، أظن أنه يحتمل أن يكون هناك إله.» - «إذن فلماذا ...؟»
فأسكته مصطفى مند قائلا: «لكنه يظهر على صور مختلفة لمختلف الرجال، كان يظهر في الأزمنة السابقة للعصر الحديث ذلك الكائن الموصوف في هذه الكتب، أما الآن ...»
فسأله الهمجي: «كيف يظهر نفسه الآن؟» - «إنه يظهر كأنه غائب، أو كأن لا وجود له البتة ...» - «هذا خطؤكم.» - «بل قل إنه خطأ المدنية، إن الله لا يتفق والآلات والطب العلمي والسعادة العالمية، ولا بد من الاختيار، وقد اختارت حضارتنا الآلات والطب والسعادة؛ لذا أراني مضطرا إلى الاحتفاظ بهذه الكتب في خزانة موصدة. إنها بذيئة، ويصدم الناس لو ...»
فقاطعه الهمجي قائلا: «ولكن أليس من الطبيعي أن يشعر المرء بوجود الله؟»
فقال المراقب متهكما: «كأنك تقول أليس طبيعيا أن يزر المرء سراويله بالمشبك، إنك تذكرني برجل آخر من أولئك القدامى اسمه برادلي. إنه عرف الفلسفة بأنها: التعليل السيئ لما يعتقد المرء بالغريزة، كأن المرء يعتقد في أي شيء بالغريزة! إن المرء يعتقد في الأشياء لأنه تكيف على الاعتقاد فيها، إنما الفلسفة هي التعليل السيئ لما يعتقد المرء لأسباب أخرى سيئة، إن الناس يعتقدون في الله؛ لأنهم تكيفوا على العقيدة فيه.»
فأصر الهمجي على رأيه وقال: «ولكن بالرغم من ذلك، أرى أنه من الطبيعي أن يعتقد المرء في الله أثناء الوحدة؛ الوحدة المطلقة، في ظلمة الليل، وهو يفكر في الموت ...»
فأجاب مصطفى مند بقوله : «ولكن الناس لا يكونون اليوم قط في وحدة، إننا نجعلهم يمقتون العزلة، ونرتب حياتهم حتى يكاد يستحيل عليهم أن يجدوها.»
فأومأ الهمجي برأسه مكتئبا، وتذكر أنه عانى كثيرا في مالبي؛ لأنهم أقصوه عن نشاط أهل القرية الاجتماعي، وأنه عانى في لندن كثيرا؛ لأنه لم يستطع أن يفر من ذلك النشاط الاجتماعي، ولم يهدأ وحده لحظة.
وقال الهمجي في النهاية: «هل تذكر هذه الأسطر التي جاءت في رواية «الملك لير»: «إن الآلهة عادلة، فهي تجعل من رذائلنا الممتعة أداء لبلائنا، إن ذلك المكان المظلم المرذول الذي أتى بك فيه قد كلفه عينيه».»
1
وتذكر أن أدمند أجاب على ذلك وهو جريح في نزع الموت بقوله: «لقد أصبت القول، هذا حق، ولقد دارت العجلة دورة كاملة، وها أنا ذا هنا.» فماذا حدث في هذا اليوم؟ أليس يبدو أن هناك إلها يدبر الأمور، ويجزي بالعقوبة والثواب؟
فكرر المراقب نفس السؤال وقال: «أليس يبدو ذلك؟ إنك تستطيع أن تنغمس فيما شئت من رذائل ممتعة مع الخناث، دون أن تفقأ عينيك ربة ابنك. لقد دارت العجلة دورة كاملة، وها أنا ذا هنا. ولكن أين يكون أدمند في هذه الأيام، جالسا في مقعد هوائي مطوقا بذراعه خصر فتاة، يلوك لبان الهرمونات الجنسية ويشاهد الصور المحسة، لا شك أن الآلهة عادلة، غير أن الأفراد الذين ينظمون الجماعة هم الذين يملون القوانين في نهاية الأمر، إن العناية الإلهية تأخذ سرها من الناس.»
فسأله الهمجي: «وهل أنت واثق أن عقوبة أدمند وهو في ذلك الكرسي الوثير، ليست أقل صرامة عنها وهو جريح يدمى حتى الممات؟ إن الآلهة عادلة، أفلا تستخدم رذائله الممتعة أداة للحط من شأنه؟» - «تحطه من أية مكانة؟ ما دام مواطنا سعيدا، مجدا، مستهلكا للسلع فهو إنسان كامل، غير أنك بالطبع إن اخترت معيارا آخر غير الذي نقيس به فقد تحكم عليه بالانحطاط، ولكن ينبغي لك أن تلزم مجموعة واحدة من الفروض، إنك لا تستطيع أن تلعب الجولف الكهربي الممغطس على قواعد التنس الطارد.»
قال الهمجي: «ولكن القيمة لا تنحصر في إرادة معينة، إنها تحفظ للظافر قدره وكرامته، إذا كانت ثمينة في حد ذاتها أو ثمينة من الظافر نفسه.»
فاحتج عليه مصطفى مند قائلا: «مهلا، مهلا، لقد بعدنا عن الموضوع كثيرا، أليس كذلك؟» - «إذا سمحتم لأنفسكم بالتفكير في الله، لم تسمحوا لأنفسكم بالانحطاط بسبب الرذائل الممتعة، إنكم سوف تجدون سببا لتحمل الأرزاء صابرين، وللإقدام على العمل بشجاعة، وقد لاحظت ذلك عند الهنود.»
فقال مصطفى مند: «أنا واثق من أنك لاحظت ذلك، ولكنا لسنا بالهنود، وليست بالرجل المتحضر حاجة إلى أن يتحمل أمرا يضايقه مضايقة شديدة، أما عن أداء العمل فإنا نرجو فورد ألا تتطرق هذه الفكرة إلى رأسه (رأس الرجل المتحضر)، فلو أن الناس يعملون ما تهوى أنفسهم لاضطرب النظام الاجتماعي بأسره.» - «وماذا ترى في إنكار الذات؟» - «لو كان لديكم إله لوجدتم سببا لإنكار الذات.» - «لكن المدنية الصناعية لا تقوم إلا إذا انعدم إنكار الذات، لا بد من الانغماس في شهوات النفس إلى أقصى حد تفرضه قواعد الصحة والاقتصاد، وإلا توقفت العجلات عن الدوران.»
فقال الهمجي: «وسوف تجدون سببا للعفة!» وقد شعر بشيء من الخجل، وهو ينطق بهذه الكلمات. - «لكن العفة معناها حدة العاطفة، ومعناها النورستانيا، والعاطفة والنورستانيا معناهما عدم الاستقرار، وعدم الاستقرار معناه القضاء على الحضارة، لا بد للحضارة الدائمة من كثير من الرذائل الممتعة.» - «لكن الله هو السبب في كل ما هو نبيل وجميل وباسل، لو كان لديكم إله ...»
فقال مصطفى مند: «صديقي الشاب العزيز، إن الحضارة ليست قط بحاجة إلى النبل أو البساطة، إنما هذه الأشياء من أعراض العجز السياسي، أما في الجماعة المنظمة تنظيما صحيحا - كجماعتنا - فإن الفرصة لا تتاح للمرء لكي يكون نبيلا أو باسلا، لا بد أن تضطرب الظروف كل الاضطراب، إذا كان لا بد من توفر المناسبات لذلك، إن من الجلي أن النبل والبسالة لهما مغزاهما في مجتمع يضطرم بالحروب، وينقسم إلى ولايات، به أسباب للإغراء لا بد من مقاومتها، وأشياء عزيزة يحارب المرء من أجلها ويدفع عنها، ولكن ليست هناك في الوقت الحاضر حروب، ونحن نحرص أشد الحرص ألا يغالي المرء في حب شخص ما، ولا ينقسم العالم إلى ولايات، وكل امرئ يكيف على عدم القدرة على التخلص عما ينبغي له أن يفعل، وما ينبغي لك عمله سار جدا، وكثير من الدوافع الطبيعية تجد لها متنفسا ومخرجا، فلم تبق هناك حقا أسباب للإغراء على المرء أن يقاومها، وإذا حدث - بالصدفة العمياء - أمر لا يسر، فهناك السوما، دائما تعطيك إجازة من الحقائق، وهناك السوما دائما تهدئك من ثائرة الغضب، وتوفق بينك وبين أعدائك، وتجعلك صبورا شديد التحمل، كان الإنسان في الماضي لا يستطيع أن يحقق هذه الأشياء إلا بالجهد الشاق، وبعد سنوات من التدريب الخلقي العسير، أما الآن فما عليك إلا أن تبلع قرصين أو ثلاثة، زنة الواحد منها نصف جرام فينتهي كل شيء، يستطيع كل امرئ اليوم أن يكون فاضلا، ويستطيع أن يحمل على الأقل نصف أخلاقه الطيبة في زجاجة. المسيحية بغير دموع: تلك هي السوما.» - «ولكن الدموع ضرورة لازمة، ألست تذكر قول عطيل: «إذا كانت كل عاصفة يعقبها هذا الهدوء، فمرحبا بالرياح تهب حتى توقظ الموتى.» وقد اعتاد أحد شيوخ الهنود أن يقص علينا قصة عن فتاة متساكي، قال: «إن الشبان الذين أرادوا الزواج منها، كان عليهم أن يضربوا في الحديقة بالفأس صباحا كاملا، وقد تحسب ذلك يسيرا، ولكن أذكر أنه كان هناك ذباب وبعوض وسحرة، وأكثر الشبان لم يستطع أن يتحمل العض واللدغ، ومن استطاع فله الفتاة.».»
فقال المراقب: «هذا شيء فاتن، لكنك في البلدان المتحضرة، تستطيع أن تحصل على البنات، دون أن تضرب لهن الحدائق بالفئوس، وليس هناك ذباب أو بعوض يلدغك، فقد تخلصنا منها جميعا منذ قرون.»
فأومأ الهمجي برأسه مقطبا الجبين، وقال: «نعم لقد تخلصتم منها، وهذا شأنكم في كل شيء، تتخلصون من كل ما لا يسر بدلا من أن تتعلموا احتماله، وسواء كان خيرا للمرء أن يتحمل الحظ العاثر بنشابه وسهامه، أو أن يتسلح ضد عواصف المشقات فيقضي عليها بمعارضتها ... ولكنكم لا تفعلون هذا ولا ذاك، لا تعانون ولا تعارضون ، إنكم تكتفون بإلغاء النشاب والسهام، وما أيسر ذلك.»
وسكت عن الكلام بغتة وفكر في أمه، وقد كانت لندا في غرفتها في الطابق السابع والثلاثين، تسبح في بحر من الأضواء المغنية والتدليك المعطر - ثم اختفت من المكان والزمان، ومن سجن ذكرياتها وعاداتها وجسمها المسن المترهل، وما زال توماكين المدير السابق لمعامل التفريخ والتكييف في عطلة من الإذلال والألم، في عالم لا يستطيع أن يسمع فيه تلك الكلمات، وذلك الضحك الساخر، ولا يستطيع أن يرى فيه ذلك الوجه القبيح، ولا يستطيع أن يحس فيه بتلك الأذرع المبتلة المترهلة تطوق جيده، كان في عالم جميل ...
واستمر الهمجي يقول: «إن ما تحتاجون إليه هو شيء يستدر الدموع تغيرون به هذه الحال، لست أرى شيئا هنا له قيمة تذكر.»
وكان هنري فستر قد احتج على الهمجي، حينما ذكر له ذلك وقال: «اثنا عشر مليونا ونصف من الريالات؛ هذه هي تكاليف مركز التكييف الجديد، ولا تقل عن ذلك فلسا واحدا.»
ثم سأل مصطفى مند موجها نحوه بصره، قال: «عرضوا كل ما هو فان غير أكيد لكل ما يستطيعه الحظ والموت والخطر، حتى لو ظفرتم بقشر بيضة واحدة، أليس في هذا مغزى؟» ثم قال: بغض النظر عن الله - وإن يكن الإله بالطبع يكفي سببا لذلك - أليس للحياة الخطرة معنى؟
فأجاب المراقب بقوله: «إن لها لمعنى عظيما، لا بد من تنبيه الغدد التي فوق الكلى عند الرجال والنساء من آن لآخر.»
فلم يفقه الهمجي قوله وقال: «ماذا؟» - «ذلك أحد شروط الصحة الكاملة، ومن أجل ذلك جعلنا علاج ال ع. ع. ج إجباريا.» - «ع. ع. ج؟» - «العاطفة العنيفة الجديدة، مرة كل شهر باطراد، نغمر الجهاز كله بالأدرنين، وذلك مقابل فسيولوجي كامل للخوف والغضب، إننا نحصل بذلك على كل الآثار المقوية، التي نجمت عن قتل دزدمونا، وجريمة القتل التي ارتكبها عطيل، دون أن نتعرض لما لابسها من مضايقات.» - «لكني أحب المضايقات؟»
فأجابه المراقب: «نحن لا نحبها، ونؤثر أن نؤدي أعمالنا مع الراحة.» - «لكني لا أحب الراحة، أريد الله، وأريد الشعر ، وأريد الخطر الحق، وأريد الحرية، وأريد الخير، وأريد الخطيئة.»
فقال له مصطفى مند: «إنك في الواقع تطالب بحقك في أن تكون غير سعيد.»
فقال الهمجي متحديا: «فليكن ذلك، إنني أطالب بحقي في أن أكون غير سعيد.» - «لست بحاجة إلى أن أذكرك بحقك في الشيخوخة والقبح والعجز الجنسي، وبحقك في أن تصاب بالزهري والسرطان، وحقك في قلة الطعام، وحقك في وباء القمل، وحقك في أن تعيش في خوف دائم مما عساه يحدث في الغد، وحقك في الإصابة بالتيفود، وحقك في أن تعاني العذاب من ضروب الآلام المختلفة التي لا توصف.»
وكان صمت طويل.
وقال الهمجي في النهاية: «أطالب بذلك كله.»
فهز مصطفى مند كتفيه وقال له: «مرحبا بك.»
الفصل الثامن عشر
كان الباب على مصراعيه فدخلا. - «جون!»
وصدر من داخل الحمام صوت لا يسر السامع، ولكنه يدل على صاحبه، وصاح هلمهلتز قائلا: هل هناك أمر هام؟
فلم يظفر بجواب، وتكرر الصوت القبيح مرتين، ثم أعقبه سكون. وانفتح باب الحمام عندئذ محدثا صوتا، وخرج منه الهمجي شاحب اللون جدا.
وصاح هلمهلتز جزعا مبلبل الخاطر، قال: «كأن بك علة يا جون!»
وسأله برنارد: «هل أكلت شيئا لم تسغه؟»
فهز الهمجي رأسه قائلا: «لقد أكلت الحضارة.» - «ماذا؟» «سممتني ودنستني.» ثم قال بصوت خافت: «أكلت شقاوتي الخاصة.» - «نعم ولكن ماذا بالضبط؟ أقصد أنك كنت منذ قليل ...» قال الهمجي: «الآن تطهرت، فقد شربت قليلا من الخردل والماء الساخن.»
فحملق فيه صاحباه في دهشة عظيمة.
وسأله برنارد: «هل تقصد أن تقول إنك فعلت ذلك عامدا؟» - «هكذا يطهر الهنود دائما.» ثم جلس وتنهد ووضع يده على جبهته، وقال: «سوف أستريح بضع دقائق فأنا جد منهوك.»
فقال هلمهلتز: «ليس في ذلك ما يدهشني.» ثم صمت برهة وقال: «لقد أتينا للوداع.» ثم بدل من نغمة صوته وقال: «سنرحل غدا صباحا.»
فقال برنارد: «نعم سوف نرحل غدا.» ولحظ الهمجي على وجهه دليلا على الاستسلام المطلق، ثم استمر في الكلام وقد مال على كرسيه إلى الأمام ، ووضع إحدى يديه على ركبة الهمجي ، قال: «وبهذه المناسبة يا جون أحب أن أذكر لك أني أسفت أشد الأسف لما حدث بالأمس.» ثم احمر وجهه خجلا واستمر في الحديث، برغم تذبذب صوته، قال: «ما أشد خجلي! في الحقيقة ...»
فقاطعه الهمجي وتناول يده، وضغط عليها بعطف شديد.
وعاد برنارد إلى الكلام بعدما سكت برهة قصيرة من الزمن، وقال: «لقد كان هلمهلتز عجيبا لي، لولاه ...»
فاحتج عليه هلمهلتز وقال: «كفى، كفى.»
فساد الصمت، وبالرغم مما كان يخيم على الشبان الثلاثة من حزن - بل لسبب هذا الحزن نفسه؛ لأن حزنهم كان دليلا على الحب المتبادل بينهم - كانوا سعداء.
وقال لهم الهمجي في نهاية الأمر: «لقد ذهبت لمقابلة المراقب هذا الصباح.» - «لماذا؟» - «لكي أسأله إن كان يجوز لي أن أرافقكما إلى الجزر.»
ثم سأل هلمهلتز بشغف قائلا: «وماذا قال؟»
فهز الهمجي رأسه وقال: «إنه لم يسمح لي.» - «لماذا.»
قال الهمجي: «قال إنه يريد أن يستمر في التجربة.» ثم تهيج بغتة وقال: «ولكن لعنة الله علي إذا قبلت أن أبقى موضوعا للتجارب، لو أراد ذلك مراقبو العالم أجمعون، ولأرافقنكم غدا.»
فسأله صاحباه معا: «ولكن إلى أين؟»
فهز الهمجي كتفيه وقال: «إلى أي مكان، لا يهمني ذلك ما دمت أستطيع أن أكون وحيدا.»
كان الطريق من جلدفورد ينحدر في اتجاه وادي واي حتى جودلمنج، ومن هناك يسير فوق ملفورد ووتلي إلى هازلمير، ثم يتجه نحو بورتسموث مارا ببيترزفيلد، وبحذائه تقريبا طريق آخر يصعد إلى وربلسدن وتنجهام وبتنهام وألستر وجريشت، وكان بين هجزباك وهندهد نقط لا يفصل الطريقين عندهما أكثر من ستة أو سبعة كيلومترات، وكانت المسافة صغيرة لا تصلح للطائرين المهملين - وخاصة في المساء وعندما يتناولون نصف جرام أكثر من المقرر، فكانت تقع الحوادث، وبعضها خطير - فقرر أن ينحرف عن الطريق الصاعد بضعة كيلومترات نحو الغرب، وكان يعين اتجاه الطريق القديم بين بورتسموث ولندن أربعة فنارات هوائية مهجورة تقع بين جريشت وتنجهام، وقد بدت فوقها السموات ساكنة لا حياة فيها، وأخذت الطائرات الآن تطن وتزأر زئيرا لا ينقطع فوق ملبورن وبوردن وفارنهام .
واختار الهمجي الفنار القديم الذي يقع فوق قمة التل بين بتنهام وألستد صومعة له، وكان البناء مسلحا بالحديد وفي حالة جيدة جدا، ولما طاف الهمجي بالمكان حسبه - لأول نظرة - مريحا جدا، تتوفر فيه أسباب الترف والحضارة، ولكن خاطره هدأ لما وعد نفسه برياضة نفسية شاقة، يعوض بها هذا الترف، وبتطهير كامل شامل، وتعمد أن ينفق أولى لياليه بالصومعة ساهرا يقظا، فقضى ساعات طوالا جاثيا على ركبتيه، يصلي مرة للسماء التي طلب منها كلوديوس الآثم العفو، ومرة بالزوني لاوناولونا، ومرة أخرى للمسيح وبوكونج، ومرة للنسر - وهو الحيوان الذي كان يتولى أمره - وكان يمد ذراعيه الفينة بعد الفينة كأنه مصلوب، ويبقيهما هكذا عدة دقائق، يتزايد فيها الألم تدريجا، حتى يصبح عذابا ممضا ترتعد له فرائصه، وهكذا صلب نفسه عامدا متطوعا، وأخذ يكرر خلال أسنانه المحكمة (والعرق يتصبب فوق وجهه) قوله: «اعف عني! طهرني! أعني على الخير!» مرة بعد أخرى، حتى أوشك أن يخر صريعا من الألم.
ولما أشرق الصباح أحس بأنه اكتسب الحق في سكنى الفنار - برغم وجود الزجاج في أكثر النوافذ، وبالرغم من أن المنظر من الرصيف كان رائعا؛ لأن السبب عينه الذي من أجله اختار الفنار، كاد أن يصبح في الحال سببا في الذهاب إلى مكان آخر، فقد قرر من قبل أن يقطنه لأن المنظر جد جميل؛ ولأنه - من ناحية منفعته الشخصية - كان كأنه يشاهد كائنا سماويا مجسدا، ولكن من يكون هو حتى يدلل بمنظر الجمال كل يوم وكل ساعة؟ ومن يكون هو حتى يسكن في حضرة الله المرئية؟ إن كل ما كان يستحق أن يقطنه حظيرة حيوانات قذرة، أو جحرا في الأرض مظلما، كانت أعضاؤه متصلبة متألمة بعد ليله الطويل الأليم، ولكنه كان لنفس هذا السبب مطمئنا في دخيلة نفسه، وبرغم ذلك تسلق حتى بلغ رصيف برجه، ثم أطل على الدنيا تشرق فيها الشمس اللامعة - الدنيا التي استرد حق سكناها - وكان يحد المنظر من الشمال حافة هجزباك الطباشيرية الطويلة، التي ترتفع خلف آخر طرفها الشرقي بروج ناطحات السحاب السبع التي تتألف منها جلدفورد، فلما رآها الهمجي تجهم لها، ولكنه ألفها بمرور الزمن؛ لأنها كانت في المساء تتلألأ بصورة بهيجة في مجموعات هندسية من النجوم، أو ينعكس عليها الضوء فتشير جادة بأصابعها الوضاءة (بحركة لم يفهم مدلولها في إنجلترا حينذاك أحد غير الهمجي) نحو السماء المستوية الغامضة.
وفي الوادي الذي كان يفصل هجزباك عن التل الرملي الذي يقوم فوقه الفنار، كانت تقع بتنهام؛ وهي قرية صغيرة متواضعة يبلغ ارتفاعها تسعة طوابق، وبها أبراج لتجفيف الحشائش، ومزرعة للدواجن، ومصنع صغير لفيتامين ء، وفي الجانب الآخر من الفنار، نحو الجنوب، كانت الأرض تهبط في منحدرات فسيحة من نبات الخلنج حتى تبلغ سلسلة من البرك.
وخلف تلك المنحدرات، وفوق الغابات المتوسطة، يرتفع برج ألستد ذو الطوابق الأربعة عشر، وهندهد وملبورن بقتامها في الجو الإنجليزي المكفهر، تجذبان العين إلى النظر بعيدا في الزرقة التي تبعث الخيال، ولم يكن ذلك البعد وحده الذي جذب الهمجي إلى فناره، فلقد كان القريب مغريا كالبعيد، كانت الغابات والأراضي الفسيحة الطلقة التي ينمو فيها الخلنج والأشجار الشائكة الصفراء، وسيقان شجر الشربين الاسكتلندي المبتورة، والبرك اللامعة وما يعلوها من أشجار البتولا والنيلوفر، وحقول الحلفاء؛ كان كل ذلك جميلا، وكان مذهلا لعين تعودت جدب الصحراء الأمريكية، وكانت هناك فوق ذلك العزلة! وانقضت أيام كاملة لم ير خلالها إنسانا قط، وكان الفنار على بعد ربع ساعة فقط بالطائرة من برج تشيرنج ت، لكن تلول مالبي لم تكن أشد وحشة من مروج سري هذه، وكانت الجموع التي تترك لندن كل يوم إنما تتركها لتلعب الجولف الكهربي الممغطس، أو لتلعب التنس، ولم تكن ببتنهام ملاعب للجولف، وأقرب ملاعب تنس ريمان لها في جلفورد، فلم يكن هناك ما يجذب العين غير الزهور والمناظر الطبيعية، ولما لم يكن هناك سبب قوي للمجيء، فقد كان المكان غير مطروق، وفي الأيام الأولى كان الهمجي يعيش وحده لا يزعجه أحد.
أنفق جون على معداته أكثر المال الذي كان قد تسلمه عند أول قدومه لنفقاته الشخصية، فاشترى قبل أن يغادر لندن أربعة غطاءات من الصوف اللزج، وحبالا غليظة ودقيقة، ومسامير، وغراء، وبضع آلات، وكبريتا (وإن يكن قد صمم أن يصنع مثاقب نارية في الوقت الملائم) وبضعة أوعية وأوان، وأربعا وعشرين ربطة من الحبوب، وعشرة كيلوجرامات من دقيق القمح (وقد أصر ألا يحمل معه النشاء الصناعي، والدقيق المصنوع من فضلات القطن، حتى إن كان أكثر تغذية)، ولما جاء دور البسكويت المصنوع من مجموعة إفرازات الغدد واللحم البقري الجديد المشبع بالفيتامينات، لم يستطع أن يقاوم اغراء البائع، ونظر الآن إلى العلب فصب على نفسه لوما كبيرا لضعفه، إنها من مواد المدنية الممقوتة! وصمم ألا يأكلها حتى إن أشرف على الموت من شدة الجوع، وفكر في نفسه وهو ناقم: «إن ذلك سوف يكون درسا لهم.» وسوف يكون درسا له كذلك.
وعد ما له، وكان يرجو أن القليل الذي تبقى يكفيه حتى ينقضي فصل الشتاء، ففي الربيع القادم تنتج حديقته ما يكفي استقلاله عن العالم الخارجي، وحتى آنئذ سيتوفر له الصيد دائما، فقد رأى كثيرا من الأرانب وكانت فوق البرك طيور مائية، وشرع يعمل في الحال؛ كي يصنع قوسا وسهاما.
وكان إلى جوار الفنار بعض أشجار لسان العصفور، وغابة بأسرها مليئة بشجيرات البندق المستقيمة الجميلة التي تصلح قنوات للسهام، وبدأ يقطع شجرة صغيرة من أشجار لسان العصفور، وفصل ستة أقدام من السوق التي لا تتصل بها فروع، ونزع عنها قشورها، واحدة بعد الأخرى حتى ظهر الخشب الأبيض، كما علمه متسيما العجوز، حتى استقام له عود يبلغ قامته طولا، قوي في وسطه الغليظ، لين سهل الالتواء عند طرفيه الدقيقين، وأعطاه هذا العمل متعة كبيرة، فقد كان يسره كثيرا أن يؤدي عملا يقتضي الصبر والمهارة، بعد تلك الأسابيع التي قضاها في لندن خاملا بغير عمل، كلما أراد شيئا ضغط على زر أو أدار مقبضا.
ولما أوشك أن يتم تشذيب العود وتسويته، أدرك في شيء من الدهشة أنه كان يغني - نعم يغني! وكأنه دخل على نفسه فجأة من الخارج، فكشفت ما كانت تعمل وأدركها وهي في حرارة الجريمة، فأحس بخطيئته واحمر خجلا، إنه لم يأت إلى هذا المكان للمتعة والغناء، وإنما أتى فرارا من التمادي في الفساد، تصيبه به حياة الحضارة القذرة، أتى هنا ليتطهر ويصبح إنسانا طيبا، أتى هنا ليكفر عن أخطائه فورا، ولشد ما كانت روعته حينما أدرك أنه - وهو منهمك في تسوية القوس - نسي ما أقسم لنفسه أن يذكر دائما؛ لندا المسكينة، وقسوته القاتلة عليها، وتلك التوائم الكريهة، وقد تجمعت كالقمل ولندا تفارق الحياة بصورة غامضة، تسيء بمحضرها الآلهة أنفسهم كما تسيء إليه وهو في محنته وتوبته، أقسم أن يذكر ذلك، وأقسم ألا يكف عن التكفير، وها هو ذا منكب على تسوية قناته وهو منشرح الصدر، ويغني.
فتوارى في الداخل، وفتح صندوق الخردل، ووضع على النار قليلا من الماء يغليه.
وبعد نصف ساعة كان ثلاثة من عمال الأرض من طراز «−ء» من إحدى مجموعات بوتنهام البوكانوفسكية يسوقون سيارة نحو ألستد، وراعهم أن رأوا على قمة التل شابا واقفا خارج الفنار المهجور عاريا حتى خصره، يضرب نفسه بسوط من الحبال المعقدة، وعلى ظهره خطوط أفقية حمراء، وبين الخط والخط تسيل خيوط خفيفة من الدم، واتجه سائق السيارة نحو جانب الطريق ثم حدق هو وزميلاه في ذلك المنظر العجيب وهو فاغر فاه، وأخذوا يعدون الضربات واحدة بعد الأخرى، وبعد الضربة الثامنة قاطع الشاب كفارته وهرع إلى حافة الغابة، واستلقى هناك يعاني ألما ممضا، ولما انتهى ذلك التقط السوط وبدأ يضرب نفسه من جديد، حتى نيفت الضربات على الاثنتي عشرة.
وهمس السائق قائلا: «يا لفورد!» وشاركه الرأي توءماه.
وقالا: «يا لفورد!»
وبعد ثلاثة أيام جاء المراسلون، وكأنهم طيور الباز، وهي تهبط على جثة ميتة.
وانتهى الهمجي من إعداد القوس بعد ما جففه، وشده فوق نار بطيئة من الخشب الأخضر، ثم أخذ يشتغل بإعداد السهام.
وكان قد سوى ثلاثين عودا من شجر البندق، وجففها وركب في أطرافها مسامير حادة، وأعدها إعدادا حسنا لربط حبل القوس فيها، وذات مساء أغار على حقل بنتهام للدواجن، وحصل على ريش يكفي لملء مخزن للأسلحة بأسره، وكان يريش سهامه عندما أتاه أول المراسلين، فوقف المراسل خلفه وهو يرتدي حذاءه الهوائي، فلم يحدث صوتا.
قال المراسل: «عم صباحا أيها الهمجي، أنا مندوب «راديو الساعة».»
فوثب الهمجي على قدميه مذعورا، كأنما لدغته حية، وبدد السهام والريش وآنية الغراء والفرجون أيدي سبا.
فقال المراسل، وقد وخزه ضميره وخزا شديدا: «عفوا، إني لم أقصد ...» ومس قبعته - وهي من الأليومنيم وتشبه أنبوبة الموقد، وكان يحمل فيها جهازه اللاسلكي المستقبل وأداة التحويل، ثم قال: «لا تؤاخذني لأني لم أخلع قبعتي فهي ثقيلة نوعا، كنت أقول لك: إني مندوب «راديو الساعة» ...»
فسأله الهمجي وهو عابس، قال: «ماذا تريد؟» ورد عليه المراسل بابتسامة تنم عن العطف.
ومال برأسه جانبا وداعبه بابتسامته قائلا: «إن قراءنا بالطبع يشوقهم كثيرا أن ... يسمعوا بضع كلمات عنك أيها الهمجي.» وفك سلكين مرتبطين ببطارية خفيفة مشدودة إلى خصره على عجل، مؤديا بحركاته سلسلة من الطقوس، ثم وضع السلكين في آن واحد في جانبي قبعته الأليومنيمية، ومس زنبركا في قمتها فانتشر في الهواء كقرني الاستشعار في الحشرة، ثم مس زنبركا آخر في مؤخرة حافة القبعة، فقفز إلى الخارج كالصاروخ ميكروفون وبقي معلقا في الفضاء، يهتز على بعد ست بوصات من أنفه، ثم أرخى على أذنيه سماعتين، وضغط على زر على الجانب الأيسر من القبعة، فصدر من الداخل صوت خافت يشبه طنين الدبور، وأدار عقدة على اليمين، فقاطع الطنين أزيز السماعة وطقطقتها، وصوت فواق وصرير مباغت، فقال في الميكرفون: «هلو، هلو ...» ورن داخل قبعته أحد الأجراس بغتة: «هل هذا هو أنت يا أدزل؟ أنا بريمو ملن أتكلم، نعم لقد قبضت عليه، وسيتناول الهمجي الميكرفون الآن ويقول بضع كلمات، أليس كذلك أيها الهمجي؟» ورفع بصره نحو الهمجي وعلى شفتيه إحدى تلك الابتسامات الظافرة، وقال: «أخبر قراءنا لماذا أتيت هنا، ما الذي حدا بك إلى الهجرة من لندن بغتة كما فعلت (استمع يا مستر أدزل)، وحدثهم بالطبع عن ذلك السوط.» فذعر الهمجي، وتعجب كيف جاءهم نبأ السوط، ثم قال: نحن جميعا شديدو الشغف بأن نعرف شيئا عن السوط، ثم قل لنا شيئا عن الحضارة، وأنت تعلم ما يقال في مثل هذه الموضوعات: رأيي في الفتاة المتمدنة، قل لنا كلمات قلائل جدا ...»
فأطاعه الهمجي حرفيا وهو في حيرة شديدة، وتفوه بخمس كلمات فقط، خمس كلمات كتلك التي ذكرها لبرنارد عن كبير منشدي كانتربري حينما قال: «هاني! سونز أسو تسينا.» ثم أمسك المراسل من كتفه ودار به عدة دورات (وظهر أن الشاب مدثر دثارا مغريا)، وركله ركلة قوية محكمة، كأنه بطل من أبطال المصارعة في قوته ودقته.
وبعد ثماني دقائق صدرت طبعة جديدة من «راديو الساعة»، وعرضت للجميع في شوارع لندن، وجاء في عناوين الصفحة الأولى «الهمجي العجيب يركل مراسل «راديو الساعة» في العصعص، الهياج في سري».
ولما عاد المراسل إلى لندن وقرأ هذه الكلمات قال لنفسه: «الهياج في لندن ذاتها» وكان هياجا مؤلما، ثم ماذا؟ لقد جلس يتناول غداءه بحرص شديد.
ولم يرتدع أربعة آخرون من المراسلين يمثلون نيويورك تيمز، وحوادث فرانكفورت للأبعاد الأربعة، ومستشار علم فورد، ومرآة «ء»، لم يرتدعوا بما أصاب زميلهم في العصعص من جرح بليغ، فتوجهوا عصر ذلك اليوم إلى الفناء، واستقبلوا استقبالا بالغا في العنف.
وصاح ممثل «مستشار علم فورد» وهو آمن على بعد ولا يزال يمسح عجزه قائلا: «يا لك من أحمق جاهل، لماذا لا تتناول السوما؟»
وهز الهمجي معصمه وقال: «اغرب عني.»
فتراجع الآخر بضع خطوات، ثم التفت ثانية وقال: «إن الشر يتلاشى لو تناولت جرامين.»
فقال الهمجي: «كوهاكوا أيا ثتكيا» بنغمة التهديد والازدراء. - «الألم وهم.»
قال الهمجي: «نعم إنه.» والتقط عصا رفيعة من شجر البندق، وخطا خطوات واسعة إلى الأمام.
وانطلق مندوب «مستشار علم فورد» نحو الطائرة.
وبعدئذ بقي الهمجي آمنا لفترة من الزمن، ثم جاءت بضع طائرات وحلقت حول البرج متطلعة مستكشفة، وأطلق الهمجي سهما صوبه نحو أقرب الطائرات وأشدها تطلعا، فاخترق قاع الغرفة المصنوع من الأليومنيم، وسمع صياحا أجش، وانطلقت الطائرة مسرعة إلى أعلى في الفضاء ، بأقصى سرعة يستطيع أن يمدها بها محركها الكبير؛ ولذا فقد حرص الآخرون فيما بعد على أن يحلقوا على بعد كاف، وتجاهل الهمجي طنين الطائرات المزعج، ولبث يفلح الأرض التي أراد أن تكون له حديقة (وقد شبه نفسه في خياله بأحد خطاب ماتسكا العذراء، الذين يثبتون للحشرات ذات الأجنحة ولا يتزعزعون) ولا شك أن الحشرات تحل بعد فترة ثم تطير، وبقيت السماء فوق رأسه فارغة ساعات متواصلات، وساكنة لا تسمع فيها غير صوت القنابر.
وكان الجو حارا لا يكاد يتنفس المرء فيه، وأرعد الهواء، وقد فلح الحديقة طيلة الصباح، وكان الآن يستريح، متمطيا فوق الأرض، ثم مثلت ذكرى ليننا حية أمام ناظريه فجأة، وتصورها عارية تلمس وهي تقول: «حبيبي!» وتقول: «طوقني بذراعيك!» - وهي معطرة ترتدي الحذاء والجوارب، يا لها من عاهرة وقحة! ولكنه ذكر ذراعيها تطوق بهما عنقه، وذكر ارتفاع ثدييها، وذكر فمها! إن الخلود في شفاهنا وعيوننا، ليننا ... كلا، كلا، كلا! ثم نهض على قدميه وخرج من البيت يعدو وهو نصف عار، وكانت عند حافة حقول الخلنج مجموعة من شجيرات العرعر البيضاء، فارتمى عندها، وعانق ملء ذراعيه من الأشواك الخضراء، بدلا من أن يعانق الجسم الناعم الذي يشتهيه، ووخزته الأشواك المدببة في ألف موضع، وحاول أن يتذكر ليننا المسكينة، وهي منقطعة الأنفاس بكماء، ويداها مقبوضتان، وفي عينيها فزع شديد، لندا المسكينة التي أقسم أن يتذكرها، وما برحت صورة لندا تلازمه، ليننا التي وعد أن ينساها، وقد أحس بوجودها، وكانت حقيقة لا مفر منها حتى من خلال طعنات أشواك العرعر ووخزاته التي جعلت لحمه يجفل ويفزع، «ما أحلى هذا، ما أحلاه ... وإن أردتني أيضا فلماذا؟ ...»
وكان السوط معلقا على مسمار بجانب الباب، قريب المنال إذا جاءه المراسلون، وفي نوبة جنون كر الهمجي عائدا إلى البيت، وأمسك به، وأداره في يده، وآلمت الحبال المعقدة لحمه ألما شديدا.
وعند كل ضربة كان يصيح: «عاهرة! عاهرة!» كأنها ليننا، (وكم كان يتمنى أن تكون، دون أن يعلم بذلك!)، كأنها ليننا البيضاء الحارة المعطرة المفضوحة التي كان يلهبها، «يا لها من عاهرة !» ثم قال بصوت البائس: «أي لندا، سامحيني، اعف عني يا إلهي، أنا سيئ، أنا شرير، أنا ... كلا، كلا، أيتها العاهرة!»
وكان داروين بونابرت أعظم المصورين الخبراء في شركة الصور المحسة، يرقب كل ما كان يجري من مخبئه في الغابة، الذي أحكم تشييده على بعد ثلاثمائة متر، وقد لقي جزاء صبره ومهارته، أنفق ثلاثة أيام جالسا داخل جذع إحدى أشجار البلوط الصناعية، وثلاث ليال يزحف على بطنه فوق الخلنج، يخفي الميكروفونات في الشجيرات الشائكة، ويدفن الأسلاك في الرمال الناعمة الرمادية، فقضى اثنين وسبعين ساعة في تعب شديد، والآن واتته اللحظة الكبرى - كان يحسبها أعظم لحظة في حياته، وقد طرأت له هذه الفكرة على مهل، وهو يتحرك بين آلاته، أعظم لحظة منذ تصويره المجسم لعرس الغورلا - تلك الصورة المجسمة الشهيرة الصارخة، فقال لنفسه عندما بدأ الهمجي عمله العجيب: «عظيم، عظيم.» وصوب آلات التصوير المقربة نحوه بعناية، وجعلها تلازم هدفها المتحرك، وتعلق بقوة كبرى كي يصور وجه الهمجي المعتوه الشائه «يا للعجب!» وتحرك ببطء نحو نصف دقيقة (وقد تعشم أن يحصل على صورة مثيرة للضحك)، ثم أصغى في أثناء ذلك للضربات والأنات وللهذيان الوحشي، وهي تسجل في الشريط الصوتي عند طرف قلمه، وجرب أثر المبالغة القليلة (وكان ذلك من غير شك تحسينا ملموسا)، وسره أن يسمع - في فترة من الهدوء - غناء القنبرة المرتفع، وتمنى أن يلتفت الهمجي حتى يستطيع أن يصور الدماء التي كانت على ظهره - وفي الحال (لحسن حظه العجيب) جاد الهمجي بالتفاتة واستطاع أن يصوره صورة دقيقة.
ولما انتهى كل شيء قال لنفسه: «كان ذلك أمرا عظيما حقا!» ومسح وجهه، وكان يأمل أن تظهر الصور عند عرضها في دار الصور بمظهر رائع، إنها سوف تبلغ من الجودة - في رأي داروين بونابرت - «مبلغ حياة الحب عند القيطس»، وتالله إن هذا لنجاح باهر!
وبعد اثنى عشر يوما أخرجت قصة «الهمجي في سري»، وأمكن للناس رؤيتها وسماعها والإحساس بها في كل دار ممتازة للصور المحسة في غرب أوروبا .
وكان تأثير فلم داروين بونابرت مباشرا وعظيما، ففي عصر اليوم التالي لإخراجه، حلقت مجموعة من الطائرات فوق رأس جون فقطعت عليه عزلته الخلوية فجأة.
وكان يفلح حديقته! ويفلح كذلك ذهنه مقلبا مادة فكره بهمة ونشاط، فكر في الموت، وهوى بفأسه مرة ثانية، ثم ثالثة، ثم رابعة، إن كل أيامنا السوالف قد أنارت للحمقى الطريق التي تؤدي إلى الموت في التراب، وجلجل الرعد القاصف خلال هذه الكلمات وهي تجول بخاطره، ثم هوى بالفأس في التراب مرة أخرى، لماذا ماتت لندا؟ لماذا سمح لها أن تقل تدريجا عن الإنسان، وأخيرا ... لقد ارتعدت فرائصه، إنها جيفة تحسن التقبيل، ثم وضع قدمه فوق الفأس وضغط عليه بشدة في الأرض القوية، إننا عند الآلهة كالذباب عند الأولاد الطائشين،
1
إنهم يتلهون بقتلنا،
2
ثم قصف الرعد ثانية، إنها كلمات تزعم لنفسها الصدق، بل أصدق من الصدق، وقد قال جلستر عينه عن الآلهة: «إنها رحيمة في كل حين،
3
وفوق ذلك فإن خير أوقات الراحة هو النوم، وذلك ما تدعيه في أغلب الأحيان، ومع ذلك فأنت تخشى أشد ما تخشى الموت، وهو لا يزيد عن النوم في شيء. إنه النوم، وربما مازجه الحلم الجميل،
4
ووقعت فأسه على حجر، فتوقف عن العمل كي يلتقطه، وتساءل: «أية أحلام تلك التي في نوم الموت ...؟»
وأصبح طنين الطائرات المحلقة فوق رأسه زئيرا، وألفى نفسه في الظل بغتة، فقد كان هناك شيء يحول بينه وبين الشمس، ورفع بصره إلى أعلى مذعورا، وتنبه من فلاحته ومن أفكاره، رفع بصره متحيرا مذهولا، وما برح ذهنه يسبح في ذلك العالم الآخر الأصدق من الصدق، وما فتئ مركزا في محيط الموت والآلهة الفسيح، رفع بصره فرأى قريبا منه مجموعة الطائرات المحلقة، وقد أقبلت كالجراد، ثم بقيت معلقة متزنة، ثم هبطت حوله فوق الخلنج من جميع الجهات، وخرج من بطون هذه الجنادب الضخمة رجال يرتدون الفانلة اللزجة، ونساء يرتدين البيجامات الحمضية الخفيفة (لأن الجو كان حارا) أو سراويل المخمل القصيرة، والقمصان التي بغير أكمام، نصف مفتوحة، وخرج من كل طائرة زوج، وبعد بضع دقائق تجمع منهم عشرات، ووقفوا في حلقة واسعة حول الفنار، يحملقون ويضحكون، مطقطقين بآلات التصوير، يرمون له - كأنه قرد - الفول وحزما من لبان الهرمونات الجنسية وزبد إفرازات الغدد جميعا، وأخذ عددهم يتزايد كل لحظة، وتدفق منهم تيار لا ينقطع عبر هجزباك، وأصبحت آحادهم عشرات، وعشراتهم مئات - وكأنه في حلم مفزع مريع.
وتراجع الهمجي متخفيا، ووقف وقفة الحيوان الآمن المطمئن، ظهره مستند إلى الفنار، ينقل بصره من وجه إلى وجه وهو في فزع، لا ينطق بكلمة كأنه رجل فاقد الرشد.
وأيقظه من هذه الغفوة زيادة إحساسه المباشر بالحقيقة، عندما التصقت بخده ربطة من اللبان أحكم تصويبها، وقد أذهله الألم فاهتزت له أعصابه، فتيقظ يقظة شديدة وثار غاضبا.
وصاح قائلا: «ابعدوا!»
لقد نطق القرد، فانفجروا ضاحكين مصفقين، وقالوا: «مرحبا بك أيها الهمجي العزيز.» وسمع صياحهم: «السوط، السوط!» من خلال الجلبة واللغط.
وعمل الهمجي بما أوحت به هذه الإشارة، فأمسك بطاقة الحبال المعقدة من المسمار الذي كان خلف الباب، وهزها أمام معذبيه.
وكانت هناك صيحة تدل على الاستحسان التهكمي.
وتقدم نحوهم مهددا إياهم، فصاحت إحدى النسوة في جزع شديد، وتخلخل الصف في الموضع الذي تعرض للتهديد المباشر، ثم استقام ثانية، وثبت الواقفون، وقد اكتسب هؤلاء المتفرجون من إحساسهم بالقوة الساحقة شجاعة لم يتوقعها منهم الهمجي، فذعر ووقف ساكنا ثم تلفت حواليه.
وقال: «لماذا لا تتركوني وحدي؟» وكانت في غضبه نغمة تنم عن الشكاة.
وقال له الرجل الذي لو تقدم الهمجي لكان أول من يهاجم: «خذ قليلا من اللوز المملح بالمغنزيوم» وقدم له ربطة قائلا: «إنها فعلا حسنة جدا.» وابتسم ابتسامة استعطاف عصبية، ثم قال: «وأملاح المغنزيوم تعينك على الاحتفاظ بالشباب.»
وتجاهل الهمجي ما عرض عليه وسأل قائلا: «ماذا تريدون بي؟» متلفتا من وجه عابس إلى آخر: «ماذا تريدون بي؟»
فأجابه مائة صوت مختلطة: «السوط، اعرض علينا كيف تضرب نفسك بالسوط، ودعنا نشاهدك.»
وصاحت شرذمة عند طرف القصف، وقالوا بصوت واحد وبنغمة بطيئة ثقيلة: «نحن، نريد، السوط.»
وأخذ عنهم آخرون هذه الصيحة في الحال، وكرروا هذه العبارة كالببغاوات مرة بعد أخرى، وأخذ صوتهم يضخم تدريجا حتى كان الترديد السابع أو الثامن، لم ينطق أحد بكلمة أخرى غير: «نحن - نريد - السوط».
وكانوا جميعا يصيحون بصوت واحد، وربما ظلوا كذلك ساعات لا نهاية لها، وقد أسكرهم الضجيج والإجماح والإحساس بالتفكير الموسيقي النغم، وعندما كرروا العبارة للمرة الخامسة والعشرين تقريبا كفوا عن الصياح مذعورين، ذلك أن طائرة أخرى وصلت من هجزباك، وحلقت متزنة فوق الجمهور الحاشد، ثم أسقطت في الفضاء بين صف المتفرجين والفنار، على بعد أذرع قليلة من موقف الهمجي، وتلاشى الصياح لحظة وسط زئير اللوالب الهوائية، ولما لمست الطائرة الأرض وأوقفت المحركات، انفجر الجميع مرة أخرى بصوت واحد مرتفع مصرين كما كانوا من قبل، قالوا: «نحن، نريد، السوط».
وفتح باب الطائرة وخرج منها أولا شاب أبيض اللون متورد الوجه، وعقبته شابة في سروال قصير من المخمل، وقميص أبيض وقبعة راكب خيل السباق.
وذعر الهمجي لمرأى الشابة، وانكمش وشحب لونه.
ووقفت الشابة مبتسمة له ابتسامة تردد والتماس بل وذلة، وانقضت بضع ثوان تحركت بعدها شفتاها ونطقت ببضعة ألفاظ، ولكن صوتها تلاشى وسط صياح المتفرجين المتكرر المرتفع. - «نحن، نريد، السوط! نحن، نريد، السوط!»
وضغطت الشابة بكلتا يديها على جانبها الأيسر، وظهرت على وجهها الخوخي اللون، الذي يشبه في جماله جمال الدمى، ملامح غريبة متناقضة تدل على الغم والاهتمام، وكأن عينيها الزرقاوين قد زادتا اتساعا وبريقا، وانحدرت على خديها فجأة دمعتان، وتحدثت مرة أخرى حديثا غير مسموع، ثم مدت ذراعيها نحو الهمجي بحركة سريعة عاطفية، وتقدمت إلى الأمام. - «نحن، نريد، السوط! نحن، نريد ...»
وأجيبوا فجأة إلى ما طلبوا. «عاهرة!» واندفع الهمجي نحوها كالمجنون، «يا لك من هرة وحشية!» وشرع كالمجنون يضربها بسوطه المصنوع من الحبال الصغيرة.
فجزعت وأرادت الفرار، ولكنها تعثرت وسقطت فوق الخلنج، وصاحت «هنري، هنري!» لكن زميلها المتورد كان قد فر من وجه الأذى خلف الطائرة.
وانفرط عقد الصف هاتفين بصيحات تنم عن السرور والاضطراب، وخطوا جميعا متجمعين في نقطة واحدة، كأن مركزا مغناطيسيا يجذبهم، لقد كان الألم فزعا يأخذ الألباب.
وجن الهمجي وضرب بسوطه ثانية وهو يقول: «يا لك من عاهرة فاجرة!»
وتجمعوا مشغوفين، وهم يتدافعون ويزحفون، كأنهم الخنازير حول حوض العلف.
وضغط الهمجي على أسنانه وقال: «تبا للحم! اقتله، اقتله!» ونزل السوط على منكبيه هذه المرة.
وجذب المشاهدين الجزع من الألم الذي يأخذ بالألباب، ودفعتهم من الباطن عادة التعاون والشغف بالإجماع، والتكفير الذي ثبتته في نفوسهم ثبوتا ملازما طريقة تكييفهم، فبدءوا يقلدون حركاته الجنونية، يضرب أحدهم الآخر كلما ضرب الهمجي بدنه العاصي، أو ذلك الجسم البدين الذي يتجسد فيه الدنس، والذي كان يتلوى فوق الخلنج عند قدميه.
واستمر الهمجي يصيح: «أقتله، أقتله ...»
ثم بدأ أحد الأشخاص فجأة يغني: «شولم، شولم.» وبعد لحظة ردد الجميع هذه العبارة، وبدءوا يرقصون وهم يغنون، ولبثوا يدورون دورة بعد أخرى مرددين: «شولم، شولم.» يضرب أحدهم الآخر ضربات موزونة «شولم، شولم».
ولم ترحل آخر طائرة إلا بعد منتصف الليل، واستلقى الهمجي فوق الخلنج ونام بعد ما أذهلته السوما، وأنهكه الانهماك الطويل في جنون المتع الحسية، ولم يستيقظ إلا بعد ما ارتفعت الشمس في السماء، فاستلقى لحظة يطرف بصره في الضوء، وكأنه بومة لا يفقه شيئا، ثم تذكر فجأة كل شيء.
فستر عينيه بيده وقال: «إلهي، إلهي!»
كان سرب الطائرات التي جاءت تئز عبر هجزباك ذلك المساء كالسحابة المظلمة، يمتد على طول عشرة كيلومترات، وذكرت الصحف جميعا وصف صلاة التكفير التي تمت في المساء السابق.
ونادى الأشخاص الذين وصلوا أولا، وهم ينزلون من الطائرة قائلين: «أيها الهمجي! أيها الهمجي!»
ولم يظفروا بجواب.
وكان باب الفنار على مصراعيه، فاقتحموه ودخلوا في ضوء كالشفق تحجبه النوافذ، واستطاعوا من خلال قبو في الجانب الآخر من الغرفة، أن يروا قاع سلم يؤدي إلى الطوابق العليا، وتحت قمة القبو تماما تدلت قدمان. - «أيها الهمجي.»
واتجهت القدمان ببطء شديد جدا - كأنهما إبرتا بوصلة تسيران على مهل - يمينا، فشمالا، فناحية الشمال الشرقي، فشرقا فناحية الجنوب الشرقي، فجنوبا، فناحية الجنوب الغربي، ثم توقفتا، وبعد بضع ثوان اتجهتا عائدتين على مهل كذلك يسارا، ثم إلى ناحية الجنوب الغربي، فالجنوب، فالجنوب الشرقي، فالشرق ...
Page inconnue