وكانت آمنة ترى نساء قريش ونساء بني هاشم من حولها، يبسمن للأيام ويبتهجن للحياة، فيعجبها ذلك منهن، ولا يداخلها حسد لهن أو ميل إلى مشاركتهن. كانت تحس إحساسا قويا، ولكنه غامض، بأن الأيام قد وفتها حظها من الغبطة وقسطها من النعيم في ذلك الوقت القصير، الذي قضته مع زوجها منذ لقيته بعد الفداء إلى الرحيل. وكانت تريد أن تسعد بالتفكير في هذا الجنين الذي تحسه يضطرب في أحشائها، ولكنها لا تلبث أن تذكر زوجها، وأنه قد حرم السعادة بهذه النعمة، فتكره أن تستأثر من دونه بالخير، وتتحدث إلى نفسها بأن الاستمتاع بالأبناء والبنات لذة لا يستبد بها الفرد، وإنما هي مشتركة بين اثنين، فإذا ذهب أحدهما ثقلت على الآخر وشق احتمالها عليه وكانت له مصدر ألم وحزن. ولكنها مع ذلك لم تكن تجد هذا الألم الممض الذي كانت تقدره وتنتظره، كأنما خلقت نفسها مذعنة، وكأنما فطر قلبها على الرضا، وكأنما استيقنت أن حياة الأحياء عبء يجب أن يحمل، رضي الناس أو سخطوا، وأن احتماله مع الرضا والاطمئنان خير من السخط الذي لا يجدي، والثورة التي لا تفيد.
على أن الأيام لم تكن تتقدم بآمنة نحو ذلك اليوم المشهود، حتى يغمرها شيء يشبه نسيان النفس والانصراف عن الشعور الواضح بالحياة والتفكير الجلي فيها. وكانت تنفق نهارها ذاهلة أو كالذاهلة، وتنفق ليلها في نوم هادئ حلو الأحلام. وما أكثر ما كان يزورها من حلم؛ وما أكثر ما كان يلم بها من طيف! وما أكثر ما كان يلقي إليها من حديث! حتى إذا كانت ذات ليلة تتهيأ للخروج من ذهول النهار والدخول في هدوء الليل، أحست بعض ما يحس النساء حين يدنو منهن المخاض.
هنالك دعت إليها من حضرها من نساء بني هاشم، فأسرعن إليها وقضين معها ليلة لا كالليالي، أنكرن فيها كل شيء وأعجبن فيها بكل شيء. أنكرن حتى أنفسهن؛ فقد رأين ما لم ير أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، وأحسسن ما لم يحس أحد. ولم تكن آمنة أقلهن إنكارا وإكبارا وإعجابا؛ فقد كانت ترى، وهي يقظة غير نائمة، أن نورا ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها ويزيل الحجب عن عينها. وكانت تنظر فترى قصور بصرى في أطراف الشام. وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى
2
في أقصى الصحراء. وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول، وأن يظنن بها الظنون. وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شيء حتى تراه نورا كله لا ظلمة فيه، وإنما هو مشرق مضيء، أو هو الإشراق الخالص. وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعة قوية نقية باهرة ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتقع عليها.
وكانت هذه الأخرى من صاحباتها ترى ظلمة مظلمة قاتمة، وتأخذها رعدة قوية ناهكة، ويلم بها شيء كأنه النوم، تسمع أثناءه صوتا مهيبا رهيبا يسأل: إلى أين ذهبت به؟ فيجيبه صوت مهيب رهيب: إلى المشرق. ثم ينجلي عنها ما ألم بها فتفيق. ثم يعاودها ما كانت فيه، فإذا ظلمة قاتمة، وإذا رعدة قوية ناهكة، وإذا غاش يغشاها كأنه النوم، وإذا هي تسمع الصوت المهيب الرهيب يسأل: أين ذهبت به فيجيبه صوت مهيب رهيب: إلى المغرب. ثم ينجلي عنها ما هي فيه فتفيق.
وكذلك لم تدن السماء من الأرض كما دنت في هذه الليلة. وكذلك لم ير الناس من الأعاجيب كما رأى هؤلاء النساء في هذه الليلة. ولم تكن آمنة على هذا كله تجد ألما قليلا أو كثيرا، إنما كشف عنها كل حجاب، ورفع عنها كل غشاء، وخلي بينها وبين عالم من الجمال الذي يرى ومن الجمال الذي يسمع لا عهد للناس بمثله. ثم ترى ويرى صاحباتها كأن شهابا انبعثت منها فملأ الأرض من حولها نورا يبهر الأبصار، ثم ترى فإذا ابنها قد مس الأرض يتقيها بيديه رافعا رأسه إلى السماء محدقا ببصره إليها كأنما يلتمس عندها شيئا. ثم تسرع صاحباتها إليه وإليها ليؤدين له ولها ما تحتاج إليه الأم حين تمنح الحياة، وما يحتاج إليه الابن حين يستقبل الحياة، فإذا هي لا تحتاج إلى شيء، وإذا هو لا يحتاج إلى شيء، وإذا هن يتناولن أجمل صبي، وأروع صبي، وأبرع صبي، وإذا قلوبهن قد امتلأت بأن الأرض قد استقبلت وليدا لا كالولدان.
ثم يشرق الفجر وتبسط الشمس رداءها النقي على بطحاء مكة وما يحيط بها من الجبال، ويرتفع الضحى، ويضطرب الناس في أمورهم وقد قضوا ليلا جاهلا غافلا، لم يشعروا فيه بشيء، كأن لم يكن فيه شيء. ولو قد كشف عنهم الغطاء، ولو قد أزيلت عن قلوبهم الحجب لرأوا وسمعوا. ولكن الله قد جعل لكل شيء قدرا؛ فهو يظهر آياته لمن يشاء، ويخفي آياته على من يشاء. وعبد المطلب جالس في الحجر وحوله أبناؤه وجماعة من قريش، قد أخذوا فيما كانوا يأخذون فيه من حديث. وهو يسمع إليهم بأذنيه ويعرض عنهم بنفسه، يفكر في فقيده الذي لا يستطيع أن ينساه. وإنه لفي ذلك وإذا البشير يقبل عليه مسرعا، حتى إذا انتهى إليه حياه وقال: لقد ولد لك غلام، فهلم فانظر إليه؛ فلا يسمع هذه البشرى حتى يحس أن الله قد أخلفه من فقيده ورفق به في مصابه، وادخر له عزاء عن محنته. فيسأل: أهو ابن عبد الله؟ فيجيبه البشير نعم. فينهض مسرعا وينهض معه بنوه، ويمضون لا يلوون على شيء حتى يبلغوا بيت آمنة. فإذا دخل الشيخ ورأى الغلام أحس كأن الله قد أنزل على قلبه السكينة وجلا عن قلبه الحزن، ورده إلى غبطة وسرور بعد عهده بهما.
ثم يسمع حديث النساء فلا ينكر منه شيئا، كأنما كان ينتظره، وكأنما كان منه على ميعاد. ثم يرفع الصبي إليه فيقبله ويقول: لأسمينه محمدا. قالت آمنة: لقد أتاني في النوم فأمرني أن أسميه أحمد. قال عبد المطلب: فهو محمد وهو أحمد، وما أرى إلا أنهما بعض أسمائه.
قلت لمحدثي: فقد زعموا أن عبد المطلب خرج بعد ذلك فنحر الإبل لأهل مكة، ونحر الإبل لأهل الشعاب، ونحر الإبل على رءوس الجبال، ليطعم الناس وليطعم الوحش. قال: وهل كان عبد المطلب إلا نعمة للناس ونقمة على الإبل!
Page inconnue