قال الرومي: «ولكنهم لم يفعلوا شيئا.»
قال صفوان: «فمن حقهم ألا يفعلوا، كما أن من حقهم أن يفعلوا.»
قال الرومي: «فإذا أتممتم بناءكم وبدا لكم ألا تردوا آلهتكم إلى أماكنها، أفتراها ترتد إليها على رغمكم؟»
قال صفوان: «ما أدري وما يعنيني من ذلك شيء. انتظر حتى يتم البناء؛ فإن رأيت الآلهة قد ارتدت من تلقاء نفسها إلى أماكنها فقد ظهرت لك جلية الأمر. وإن رأيتنا نحن نردها إلى أماكنها كما حولناها عنها، فاعلم أنها قد أخذتنا بذلك وأرادتنا عليه. وإن رأيتها قائمة حيث وضعناها ورأيتنا نتركها حيث هي فاعلم أنها تريد ذلك، وتطمئن إلى أماكنها الجديدة. وأرح نفسك كما نريح أنفسنا من التفكير في الآلهة، واشغل نفسك كما نشغل أنفسنا عن أمور الآلهة بأمور الناس، وعن حركات الآلهة بحركات هؤلاء الإماء الثلاث اللاتي يوقعن ويغنين فيكلفننا من أمرنا شططا.»
وتفرق هؤلاء الفتيان من قريش عن صاحبهم الرومي آخر الليل، وإن بعضهم ليقول لبعض: ويلكم! لقد فطن هذا الرومي لما فطنتم له. ولئن جاز لنا نحن أن نشك في آلهتنا أو نسخر منها، فما ينبغي أن يجوز ذلك لرومي يسقينا الخمر ويسمعنا الغناء. ويلكم! ارفعوا ذلك إلى الملأ من قريش! ليدبروا أمرهم وأمر الآلهة! فإنه في حاجة إلى التدبير، وليحتاطوا أن يشيع هذا الشك في عامة الناس وضعفائهم، وفي هؤلاء الأجانب الذين يملئون مكة من الفرس والحبش والروم.
ولكنهم راحوا على صاحبهم الرومي من الغد ليستأنفوا عنده لهوهم ولذتهم، فلم يجدوه ولم يجدوا إماءه الثلاث، وإنما وجدوا حانوتا خاليا إلا من دنان وزقاق كان فيها فضل من شراب.
3
واستقر حديث الرومي في نفوس هؤلاء الفتيان، وما أدري أتحدثوا به إلى الملأ من قريش أم أخفوه عليهم، ولكنهم لم ينسوه على كل حال، وإنما جعلوا ينتظرون أن يتم بناء البيت، ويتساءلون إذا التقوا، كما يسأل كل واحد منهم نفسه منفردا: ماذا عسى أن يصنع الآلهة ليعودوا إلى أماكنهم؟ أيسعون إلى هذه الأماكن ليستقروا فيها، أم ينقلون إلى هذه الأماكن محمولين على الأيدي والأعناق كما حولوا عنها محمولين على الأيدي والأعناق حين أخذت قريش في هدم البيت؟
وليس من شك في أن الملأ من قريش قد فكروا في هذا الأمر كما فكر فيه الشباب، وانتظروا من الآلهة مثل ما انتظر الشباب. ولكن شيوخ قريش كانوا أمكر وأمهر من أن يظهروا من تفكيرهم شيئا. وكانوا أضبط لأمورهم وأملك لعواطفهم من أن يظهروا الشباب وضعاف الناس على ما خالط قلوبهم من ريب، وشاع في نفوسهم من شك، حين رأوا آلهتهم ينقلون كما ينقل المتاع، ويرصون في أماكنهم الجديدة كما يرص الأثاث. ومهما يكن من شيء فقد أتمت قريش بناء البيت، وانتظرت بالآلهة يوما ويوما، فلما لم تجد منها إرادة ولا حركة ولا تحولا إلى أماكنها ردتها إلى تلك الأماكن ردا، وحملتها إليها حملا. واستقر في نفوس الشيوخ والشباب شك عظيم. وربما ظهر الأمر ببعض أولئك الشيوخ والشباب إلى ما هو أبعد من الشك والريب، وأدنى إلى الجحود والإنكار.
ولكن محنة قريش في آلهتها لم تقف عند هذا الحد الذي قد يفطن له أذكياء القلوب، وأصحاب العقول النافذة والأحلام الراجحة، ولكنه يخفي عادة على الدهماء ويجل عن أن تعرفه عامة الناس، وإنما جاوزته إلى شيء خطير رأت فيه قريش خطبا عظيما وافتضاحا منكرا لما لم يكن ينبغي أن يفتضح من أمر الآلهة. فقد أسندت قريش من آلهتها إلى البيت ما أسندت، وأقامت قريش من آلهتها حول البيت ما أقامت، وخيل إليها أن قد فرغت من هذا الجهد الشاق، وخلصت من هذا العناء الثقيل. ثم اجتهد الأشراف والسادة في أن شغلوا عامة الناس ودهماءهم عن التفكير في جمود الآلهة وقصورهم، فأقاموا الأعياد، وأكثروا من التقريب للآلهة، وأسرفوا في أموالهم ليطعموا الفقراء والبائسين، وألحوا في ذلك وقاموا عليه حتى تجاوز كرمهم أهل مكة إلى من كان يضرب حولها من الأعراب الذين جعلوا يقدمون على مكة، يلتمسون فيها حظوظهم من هذه الإبل والشاء التي كانت تقرب إلى الآلهة في غير انقطاع. ولكن قريشا تصبح ذات يوم فتغدو على البيت فترى، ويا هول ما ترى! ترى آلهتها مجدلين قد صرعوا حول البيت تصريعا، منهم المستلقي على ظهره، ومنهم المنكب على وجهه، ومنهم المضطجع على أحد جنبيه وما أصف لك شيئا مما ملأ قلوب قريش من الروع والهلع! فأنت قادر على تصور ذلك إذا قدرت إعظام العامة لآلهتها، وحرص الخاصة على ما ينبغي لهؤلاء الآلهة من جلال ووقار.
Page inconnue