ولكن خديجة تملك نفسها وتضبط أمرها، وتقول لمولاها في هدوء وحزم: «لقد رأيت بعض ما رأيت، وأبصرت هذين الشخصين يظللان على محمد حين أقبل علي منذ حين. ولقد أنبأني بربح تجارتي ونماء مالي، فسمعت منه وأثنيت عليه، ولكني لم أعرف له ذلك كما قدرت. اذهب إلى ابن عمي ورقة بن نوفل، فأنبئه بأني أود لو أراه، ثم أخرج للفقراء والبائسين حقهم من هذا المال الذي رجعت به من الشام.»
4
وكان ورقة بن نوفل حازما عازما رجل صدق! قد شهد مواطن قريش، وشارك في مفاخرها ومآثرها. ولكنه أنكر في نفر من قومه أولي حزم وعزم، وأصحاب فقه وبصر بالأمور، ما كانت عليه قريش من باطل وجهل، وما كانت تمعن فيه من عبادة هذه الأوثان التي لا تملك لها نفعا ولا ضرا، ولا تغني عنها من الله شيئا. وكان قد أجمع مع أصحابه أن يعرضوا عن غي قريش وباطلها، وأن يلتمسوا الخير لأنفسهم ما وجدوا إليه سبيلا. وكان قد رحل مع صديقيه زيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث إلى بلاد الروم يلتمسون فيها الدين الصحيح، ويبغون فيها لأنفسهم خيرا.
فلما تحدثوا إلى الأحبار والرهبان وسمعوا منهم، مال ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث إلى دين المسيح فآمنا، وشك زيد بن عمرو.
ولكن ورقة بن نوفل إن أحب النصرانية وأمعن فيها فقد كان لقومه محبا، ولوطنه مؤثرا، وعلى ما ألف من عاداته المحمودة وسننه الكريمة حريصا؛ فلم يمعن مع صاحبه عثمان بن الحويرث في بلاد الروم، ولم يذهب إلى قسطنطينية، وإنما حفظ من النصرانية ما حفظ، ووعى من علم الأحبار والرهبان ما شاء الله أن يعي، ثم عاد بهذا كله إلى مكة، فأقام فيها آمنا وادعا، فارغا لدينه ونفسه، لا يعرض لأحد، ولا يحب أن يعرض له أحد. وعرفت قريش ذلك فأحبته وآثرته بالكرامة، واستشارته فيما كان يحزبها من أمر، وأطاعته فيما كان يعرض عليها من رأي. وكان أصفياؤه وذوو خاصته يقدرونه ويكبرونه، ولا يكادون يصدرون في تدبير أمورهم إلا عن مشورته.
فلا غرابة في أن تفكر ابنة عمه خديجة في أن تسأله عما رأت وما سمعت من هذه الأحداث العظام والآيات الكبار، وهو الذي انتهى إليه علم أهل الكتاب في مكة. ولعل خديجة كانت تريد أن تسأله في أكثر من ذلك لو أنها تعمقت دخيلة نفسها الطاهرة، وعرفت أسرار قلبها الكريم! ولكنها حين أرسلت تستزيره لم تكن تريد إلا أن تعلم منه علم هذه الآيات.
وقد أقبل عليها ورقة مع الليل معتذرا من إبطائه عليها بما كانت تعلم من اشتغال قريش بعودة العير، وانصراف أهل مكة إلى ما كانوا ينصرفون إليه في هذا اليوم من ألوان الفرح والمرح والابتهاج، وما كان يجب على المقيمين في مكة من الإلمام بالعائدين إليها.
فلما استقر المجلس بورقة قالت له خديجة: «إن عندي أنباء قد أهمتني أمرها، وما أرى إلا أنه يهمك كما أهمني، ولعله يعنيك أكثر مما عناني.»
قال ورقة: «وما ذاك؟»
قالت: «فإنك تعلم أني أرسلت في تجارتي هذا العام محمد بن عبد الله.»
Page inconnue