بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي على منوال إرادته تنسج مقاطع الأمور، ومن ينبوع قضائه إلى لجج قدره يجري تيار الأعصار والدهور أذاق بعض بني آدم بأس بعض ليبلوهم أيهم أحسن عملًا وهو العزيز الغفور، وأرسل عليهم في القرن الثامن من الهجرة بحار فتن أقبلت كقطع الليل المظلم لم يدر أحد ما هي فإذا هي تمور أحمده حمد من كان على شفا جرف من نارها فأنقذه منها، وأشكره شكر من ورطه فيها عدله فأنجته أيادي فضله عنها وأشهد أن لا إله إلا الله الحكم العدل، الذي يقتص للمظلوم من الظالم يوم الفصل وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله رحمة للعالمين وجعله رسول
1 / 2
الله وخاتم النبيين، فأخبر ﷺ عن السر المصون، ونبأ بما كان في الأزل وبما يكون إلى يوم يبعثون، واستعاذ من غلبة الدين وقهر الرجال، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال صلى الله عليه صلاة تذكي المسك الأذفر في صدور الكتب والتواريخ، وتدني لقائلها في يوم الجزاء ثمرات الحسنات من أعلى الشماريخ وعلى آله وصحبه الذين أفاضوا سيول الفتح في الأقاليم فغمروها، وشيدوا أركان الإسلام وأثاروا الأرض بالإيمان، وعمروها بالعدل والإحسان أكثر مما عمروها وسلم تسليمًا غزيرًا دائمًا أبدًا كثيرًا أما بعد فلما كان في التواريخ عبرة لمن اعتبر، وتنبيه لمن افتكر، وإعلام أن فاطن الدنيا على سفر، وإحضار لصورة حال من مضى وغبر، كيف قدر واقتدر، ونهى وأمر، وبنى وعمر، وختل وختر وغلب وقهر، وكسر وجبر، وجمع وادخر، وتكبر وفجر،، وكيف عبس وبسر، وضحك واستبشر، وتقلب في أطواره من الطفولية إلى الكبر، إلى أن قلبته أيدي العبر، واختطفته وهو آمن ما يكون مخاليب القضاء والقدر، فخالط
1 / 3
ما صفا من عيشه الكدر، وتنغص حتى ذهب عنه ما حلا ومر إن في ذلك لعبرة لمن اعتبر وتذكرة لمن ادكر وتبصرة لمن استبصر وكان من أعجب القضايا بل من أعظم البلايا، الفتنة التي يحار فيها اللبيب، ويدهش في دجى حندسها الفطن الأريب ويسفه فيها الحليم، ويذل فيها العزيز ويهان الكريم قضية تيمور، رأس الفساق، الأعرج الدجال الذي أقام الفتنة شرقًا وغربًا على ساق أقبلت الدنيا الدنية عليه فتولى وسعى في الأرض فأفسد فيها وأهلك الحرث والنسل وتيمم حين عمته النجاسة الحكمية صعيد الأرض، فغسل بسيف الطغيان كل أغر محجل فتحققت نجاسته بهذا الغسل أردت أن أذكر ما رأيته، وأقص في ذلك ما رويته إذ كانت إحدى الكبر وأم العبر والداهية التي لا يرضى القضاء في وصفها بذا القدر والله أسأل إلهام الصدق وسلوك طريق الحق إنه ولي الإجابة ومسدد سهم المرام إلى غرض الإصابة وهو حسبي ونعم الوكيل
فصل في ذكر نسبه وتدريج
استيلائه على الممالك وسببه
اسمه تيمور بتاء مكسورة مثناة فوق وياء ساكنة مثناة تحت وواو
1 / 4
ساكنة بين ميم مضمومة وراء مهملة هذه طريقة إملائه وفي التصريف زنة بنائه، لكن كرة الألفاظ الأعجمية إذا تداولها صولجان اللغة العربية خرطها في الدوران على بناء أوزانها، ودحرجها كيف شاء في ميدان لسانها، فقالوا في هذا تارة " تمور " وأخرى " تمرلنك " ولم يجر عليهم في ذلك حرج ولا ضنك وهو بالتركي الحديد ابن ترغاي بن أبغاي ومسقط رأس ذلك الغدار قرية تسمى خواجة إيلغار وهي من أعمال كش فأبعدها الله من حش وكش مدينة من مدن ما وراء النهر عن سمرقند بنحو من ثلث عشر شهر قيل رؤى ليلة ولد كأن شيئًا شبيه الخوذة تراءى طائرًا في عنان الجو ثم سقط إلى فناء الدو ثم انبث على الأرض وانتشر وتطاير منه مثل الجمر والشرر، وتراكم حتى ملأ البدو والحضر وقيل لما سقط إلى الأرض ذلك السقيط كانت كفاه مملوءتين من الدم العبيط فسألوا عن أحواله الزواجر والقافة وتفحصوا عن تأويل ذلك من الكهنة وأهل العيافة فقال بعضهم يكون شرطيًا وقال بعض ينشأ لصًا حراميًا، وقال قوم بل يكون قصابًا سفاكًا،
1 / 5
وقال آخرون بل يصير جلادًا بتاكًا وتظافرت هذه الأقوال، إلى أن آل أمره إلى ما آل، وكان هو وأبوه من الفدادين ومن طائفة أوشاب لا عقل لهم ولا دين، وقيل كان من الحشم الرحالة والأوباش البطالة، وكان ما وراء النهر مأواهم، وتلك الضواحي مشتاهم، وقيل كان أبوه إسكافًا فقيرًا
جدًا، وكان هو شابًا حديدًا جلدًا، ولكنه لما كان به من القلة يتجرم، وبسببه تلك الأصرام تتضرر وتتضرم ففي بعض الليالي سرق غنمة واحتملها فضربه الراعي في كتفه بسهم فأبطلها، وثنى عليه بأخرى في فخذه فأخطلها، فازداد كسرًا على فقره، ولؤمًا على شره، ورغبة في الفساد، وحنقًا على العباد والبلاد، وطلب له في ذلك الأضراب والنظراء، وعشا عن ذكر الرحمن فقيض له من الشياطين القرناء، مثل عباس وجاهنشعاه، وقماري وسليمان شاه، وأيدكو تيمور وجاكو وسيف الدين، نحو أربعين لا دنيا لهم ولا دين، وكان مع ضيق يده وقلة عدده وعدده، وضعف بدنه وحاله وعدم ماله ورجاله يذكر لهم أنه طالب الملك ومورد
1 / 6
ملوك الدنيا موارد الهلك، وهم في ذلك يتناقلون عنه هذا النقل وينسبونه إلى كثرة الحماقة وقلة العقل، ويدنونه منهم ويقبلون إليه ليسخروا منه ويضحكوا عليه
إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم
فشرع فيما يقصده والقضاء يرشده والقدر ينشده
لا يؤيسنك من مجد تباعده ... فإن للمجد تدريجًا وترتيبًا
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمو فتنبت أنبوبًا فأنبوبا
وكان في بلد كش شيخ يسمى شمس الدين الفاخوري، وهو معتقد تلك البلاد وعليه لكل من قصد شيئًا من أمر الدين والدنيا والاعتماد، فذكر أن تيمور وهو فقير عاجز بين عز موهوم وذل ناجز، لم يكن له سمى ثوب قطن وأنه باعه واشترى بثمنه رأس ماعز وقصد الشيخ المشار إليه وعول فيما قصده عليه، وقد ربط بطرف حبل عنق ذلك العناق وربق عنق نفسه بالطرف الآخر من ذلك الرباق
1 / 7
وجعل يتشحط على عصى من جريد حتى دخل على ذلك الشيخ المفيد فصادفه هو والفقراء مشغولين بالذكر مستغرقين فيما هم فيه من الوجد والفكر، فلا زال قائمًا حتى أفاقوا من حالهم وسكتوا عن قالهم فلما وقع نظر الشيخ عليه سارع إلى تقبيل يديه، وأكب على رجليه، فتفكر الشيخ ساعة، ثم رفع رأسه إلى الجماعة وقال كأن هذا الرجل بذل عرضه وعروضه واستمدنا في طلب مالا يساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، فنرى أن نمده ولا نحرمه ولا نرده فأمدوه بالدعاء إسعافًا لما طلبه فأشبهت قصته قضية ثعلبة ورجع من عند الشيخ وخرج، وعرج بعدما عرج إلى ما عرج وقيل إنه كان في بعض تجرماته فضل الطريق صورة، كما ضلها معنى وسيرة، وكاد يهلك عطشًا وجوعًا، وسار على ذلك أسبوعًا فوقع في أثناء ذلك على خيل السلطان فتلقاه الجشاري باللطف والإحسان وكان تيمور ممن يعرف خصائص الخيل بسماتها ويفرق بين هجانها وهجينها بمجرد النظر إلى هيآتها، فأطلع الجشاري على ذلك منه وأخذ علم ذلك عنه وزاد فيه رغبة، وطلب منه
1 / 8
دوام الصحبة وجهزه إلى السلطان مع أفراس له طلبها منه وأخبره بفضيلته وما شاهده عنه فأنعم السلطان عليه ووصى به الجشاري ورده إليه، فلم ينشب الجشاري أن مات فتولى تيمور وظيفته ولا يزال يترقى عند السلطان حتى تزوج شقيقته ثم أن غاضبها في بعض مكافحاته ومقاله فعيرته بما كان عليه من أول أمره وحاله فسل السيف ونحاها على أنها تفر من بين يديه فلم تكترث به ولم تلتفت إليه فضربها ضربة أزهق بها نفسها وأسكنها رمسها ثم لم يسعه إلا الخروج والعصيان والتمرد والطغيان إلى أن كان من أمره ما كان وكان السلطان اسمه حسين، وهو من بيت الملك ونافذ الكلمتين، وتخت ملكه مدينة بلخ وهي من أقصى بلاد خراسان، ولكن كانت بحار أوامره جارية في ممالك ما وراء النهر إلى أطراف تركستان وقيل كان أبوه أمير مائة عند السلطان المذكور، وهو بالجلادة والشهامة بين أضرابه مشهور ويمكن الجمع بين هذه الأقاويل باعتبار اختلاف الزمان وتنقل الأحوال والحدثان والأصح أن أباه ترغاي المذكور كان
1 / 9
أحد أركان دولة السلطان ورأيت في ذلك تاريخ فارسي يدعى " المنتخب " وهو من بدء الدنيا إلى زمان تيمور وهو شيء عجب، نسبًا يتصل منه تيمور إلى جنكيز خان من جهة النساء حبائل الشيطان ولما استولى تيمور على ما وراء النهر وفاق الأقران، تزوج بنات الملوك فزادوه في ألقابه كوركان، وهو بلغة الموغول الختن لكونه صاهر الملوك وصار له في بيتهم حركة وسكن وكان للسلطان المذكور من الوزراء أربعة عليهم مدار المضرة والمنفعة هم أعيان الممالك، وبرأيهم يقتدي السالك
والترك لهم قبائل وشعب، تكاد توازي قبائل العرب، وكل واحد من هؤلاء الوزراء كان من قبيلة لسراج آرائه في بيوت تعميرها فتيلة طويلة، قبيلة أحدهم تسمى ارلات، وقبيلة الثاني تدعى جلائر، وقبيلة الثالث يقال لها قاوجين، وقبيلة الرابع اسمها برلاس، وكان تيمور ابن رابعهم في الناس فنشأ شابًا لبيبًا، مصراعًا همامًا حازمًا؟ جلدًا أريبًا، وكان يصاحب نظراءه من أولاد الوزراء ويعاشر أضرابه من فتيان الأمراء، إلى أن قال لهم في بعض الليالي وقد اجتمعوا
1 / 10
في مكان خال وأخذت منهم العشرة والنشاط وارتفعت أستار الأسرار وامتد للبسط بساط أن جدتي فلانة وكانت من ذوي العيافة والكهانة رأت منامًا ما ذاقت منه أحلامًا وعبرته بأنه يظهر لها من الأولاد والأحفاد من يدوخ البلاد ويملك العباد ويكون صاحب القران ويذل له ملوك الزمان، وذاك هو أنا وقد قرب الوقت ودنا، فعاهدوني أن تكونوا لي ظهرًا وعضدًا وجناحًا ويدًا وأن لا تستحيلوا عني أبدًا، فأجابوه إلى ما دعاهم إليه وتقاسموا أن يكونوا في السراء والضراء معه لا عليه، ولم يزالوا يتجاذبون أطراف هذا الكلام في كل مقام ويتفاوضون فيض غدير هذا الغدر من غير احتشام واكتتام حتى آنس برقه قاطن كل مصر وشام وخاض في حديثه كل قديم هجره من خاص وعام وشعر به السلطان وعلم أن خلافه في دوح المملكة بان فأراد أن يرد كيده في نحره ويريح الدنيا من شره والعباد والبلاد من عاره وعره ويعمل بموجب ما قيل
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
1 / 11
فأخبره بذلك بعض الناصحين فخرج وهوى إلى حضيض العصيان وهو سالم فعرج ويمكن أنه في بعض هذه الأوقات وأثناء هذه الحالات توجه إلى الشيخ شمس الدين المشار إليه واستمده كما ذكر فيما عول عليه فإنه كان يقول جميع ما نلته من السلطنة وفتحته من مستغلقات الأمكنة، إنما كان بدعوة الشيخ شمس الدين الفاخوري وهمة الشيخ زين الدين الخوافي، وما لقيت بركة إلا بالسيد بركة وسيأتي ذكر زين الدين وبركة ثم قال تيمور ما فتحت أبواب السعادة والدولة علي ولا ضحكت عروس فتوحات الدنيا إلا من سهام سجستان ومن حين أصابني ذلك النقصان أنا في ازدياد إلى هذا الأوان والظاهر أن بدو أمره وخروجه في تلك الفئة كان فيما بين الستين والسبعين والسبعمائة وقال لي شيخي الإمام العالم العامل الكامل المكمل الفاضل فريد الدهر وحيد العصر علامة الورى أستاذ الدنيا علاء الدين شيخ المحققين والمدققين قطب الزمان مرشد الدوران أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد البخاري نزيل دمشق أدام الله تعالى أيام حياته، وأمد الإسلام والمسلمي
1 / 12
ن بميامن بركاته في شهور سنة ست وثلاثين وثمانمائة أن تيمور قتل السلطان حسينًا المذكور في شعبان سنة إحدى وسبعين سبعمائة ومن ذلك الوقت استقل بالملك وكانت وفاته في شعبان سنة سبع وثمانمائة على ما سيأتي فمدة استيلائه مستقلًا ست وثلاثون سنة وذلك خارجًا عن مدة خروجه وتجرمه إلى حين استيلائه ولما خرج صار هو ورفقاؤه، يتجرمون في بلاد ما وراء النهر ويعاملون الناس بالعدوان والقهر فتحرك لدفعهم كل ظاعن وساكن وضيقوا عليهم تلك المغاني والأماكن فقطعوا جيحون وصفر منهم ذلك المكان فاشتغلوا بالتجرم في بلاد خراسان، خصوصًا في ضواحي سجستان ولا تسأل عما أفسد في فدافد خراسان ومفاوز باورد وماخان فذهب بعض الليالي وقد أضر بهم السغب واشتعل فيهم من الجوع اللهب فدخل حائطًا من حوائط سجستان قد أوى إليه بعض رعاء الضأن، فاحتمل منها رأسًا وأدبر فشعر به الراعي وأبصر فأتبعه للحين للحين وضربه بسهمين أصاب بأحدهما فخذه وبالآخر كتفه فلله دره ساعدا إذ أبطل بهذا الضرب الموزون نصفه ثم أدركه واحتمله، وإلى سلطان هراة المسمى بملك
1 / 13
حسين أوصله فبعد ضربه أمر بصلبه، وكان للسلطان ابن رأيه غير متين يدعى ملك غياث الدين، فشفع فيه واستوهبه من أبيه فقال له أبوه إنه لم يصدر عنك ما يدل على صلاحك ويسفر عن نجابتك وفلاحك، وهذا جغتائي حرامي مادة الفساد لئن أبقى ليهلكن العباد والبلاد
فقال ابنه وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أصيب بالدواهي ورمى، ولا شك أن أجله قد اقترب فلا تكونن في موته السبب، فوهبه إياه فوكل به من داواه إلى أن اندمل جرحه وبرئ قرحه، فكان في خدمة ابن سلطان هراة من أعقل الخدم وأضبط الكفاة، فتوفرت عنده حرمته وارتفعت درجته وسمعت كلمته، فعصى من نواب السلطان نائبه المتولي على سجستان، فاستدعى تيمور أن يتوجه إليه فأجابه إلى ذلك وعول عليه وأضاف إليه طائفة من الأعوان، فوصل إلى سجستان وقبض على نائبها المتمادي في العصيان واستخلص أموال تلك البلاد، وأخذ من أطاعه من الأجناد، وتلا آية العصيان بالجهر، وارتحل بمن معه إلى ما وراء النهر وقيل
1 / 14
بل كان في خدمة ابن السلطان إلى أن ودع أبوه الحياة وانتقل، واستقر ولده في الملك واستقل فعند ذلك هرب تيمور إلى ما وراء النهر وقد قوي منه الرأس والظهر وكان إذ ذاك قد اجتمع عليه رفقاؤه وانحاز إليه أصحابه المتجرمون وعشراؤه فأرسل غياث الدين الطلب وراءهم وقصد أن يكفي المسلمين شرهم وعناءهم وهيهات فقد كان سبق العذل السيف وضيع اللبن في الصيف
ذكر عبوره جيحون على فترة
وما أجرى من عبرات بهذه العبرة
فوصل تيمور وجماعته إلى جيحون وكان إذ ذاك مثلهم طاغيًا ولم يمكنهم التواني لأن الطلب كان شبيههم باغيًا فقال تيمور لأصحابه النجاء النجاء ليتعلق كل منكم بعنان فرسه ومعرفته وليلق نفسه في الماء وتواعدوا إلى مكان، وقال توجهوا من غير توان فمن لم يأت الموعد يعلم أنه قد فقد فتهافتوا هم وخيولهم في ذلك الماء العجاج والتيار الزخار والأمواج تهافت الفراش على السراج ولم يعلم واحد منهم حال الآخر، ولا اطلع من تقدم منهم على أمر
1 / 15
من تأخر، وكابدوا أحوال الموت وشاهدوا أهوال الفوت، فنجوا ولم ينقص منهم واحد، واجتمعوا إلى ذلك الموعد، وذلك بعد أن أمنت منهم البلاد، واطمأن في مسالكها كل رائح وغاد، فجعلوا يتجسسون الأخبار، ويتتبعون الآثار، ويحاربون الله ورسوله، ويؤذون عباده ويقطعون سبيله، ولم يزل على ذلك يجري ويمشي إلى أن وصل مدينة قرشي
ذكر ما جرى من خبطه في دخوله إلى قرشي
وخلاصه من تلك الورطة
فقال يومًا لأصحابه، وقد أضر به الدهر وأضرى به، وأخصب منهم ربع الفساد وأعشب أن بالقرب منا مدينة نخشب مدينة أبي تراب النخشبي رحمة الله عليه، مدينة مصونة، مسورة مكنونة لئن ظفرنا بها لتكونن لنا ظهرًا وملاذًا وملجأ ومعاذا، وإن حاكمها موسى لو حصلناه وأخذنا ماله وقتلناه، لتقوينا بما له من خيول وعدة، ولحصل لنا الفرج بعد الشدة، وأنا أعلم لها من ممر الماء دربًا هين الوصول واسعًا رحبًا فشمروا ذيلهم وتركوا في مكان خيلهم واستعملوا في نيل مرادهم ليلهم ودخلوا حبس
1 / 16
المدينة وقصدوا بيت الأمير، ورفعوا أيديهم فصادفوا يدهم والحصير وكان الأمير في البستان خارج البلد، فأخذوا ما وجدوا له من أسلحة وعدد وركبوا خيله، وقتلوا من وجدوا من الأكابر غيلة، فاجتمع عليهم أهل البلد وأرسلوا إلى الأمير فأدركهم بالمدد، فتراكم عليهم البلاء باطنًا وظاهرًا فلم يجدوا لهم سوى الاستسلام ناصرا فقال له أصحابه لقد ألقينا بأنفسنا إلى حقيقة الهلاك من هذا المجاز فقال لا عليكم ففي مثل هذه المواطن يمتحن الرجل ويراز، فأجمعوا كيدكم ثم إئتوا صفًا واندفعوا نحو باب المدينة يدًا واحدة زحفًا، حاطمين على العدو، من غير توان ولا هدو، فإني أظن أنه لا يثبت لكم شيء، ولا يقف أمامكم حي، فامتثلوا أمره ورفعوا الصوت، وقصدوا الباب خائضين غمار الموت، وهجموا على العساكر هجوم الليث واندفقوا ولا اندفاق الغيث، ففتح لهم عند فتح الباب، لأمر يريده مسبب الأسباب فلم يلو أمامهم أحد على أحد ولا نفعه ما هو فيه من العدد والعدد ثم انثنوا إلى مكانهم سالمين ولم يزالوا على ذلك عائثين عابثين
1 / 17
واجتمع عليهم أصحابهم، وانحاز إليهم في الفساد أضرابهم، فصاروا نحو من ثلاثمائة، ولمن يتحيز إليهم من أهل الشر فئة فأرسل السلطان إليهم عسكرًا غير مكترث بهم فكسروه، واستولوا على حصن من الحصون فجعلوه معقلًا لكل ما ادخروه
قلت لا تحقرن شأن العدو وكيده ... فلربما صرع الأسود الثعلب
وقيل إن البعوضة تدمي مقلة الأسد وقيل ولربما قمرت بالبيدق الشاه
ذكر من استرقه ذلك الجاف واستعبده
من أحرار ملوك الأطراف
وأرسل تيمور إلى ولاة بلخشان، وكانت الولاية بها لأخوين وهما بها مستقلان تلقيا ذلك عن أبيهما وكان السلطان نزعها من أيديهما ثم أقرهما فيه على أن يكونا من تحت أمره، واسترهن أولادهما عنده، فصارا أسيري قهره، فلما راسلهما تيمور على طاعته أجاباه ودخلا تحت كلمته
ذكر نهوض المغل على السلطان
وكيف تضعضعت منه الأركان
ثم إن الموغول نهضت من جهة " الشرق " على السلطان حسن فاستعد لهم
1 / 18
وقطع جيحون، ووقع الحرب بين الجهتين، فانكسر السلطان فراسلهم أيضًا ذلك الجان واسم حاكمهم قمر الدين خان فأجابوه مراده واقتفوا ما أراده وسلطوه على السلطان ليستخلص من يده البلاد وواعدوه بمصاهرتهم وأمدوه بمظاهرتهم ورجعوا إلى بلادهم وقد أسلموه زمام قيادهم، فقويت بذلك شوكته وسكنت القلوب هيبته فلم يسع السلطان إلى بذل الجهد والامكان في إطفاء ثائرته وقطع دابرته فجعله نصب عينيه وتوجه بنفسه إليه، بعسكر جرار كالبحر الزخار حتى انتهى إلى مكان يسمى قاغلغا وهو صدفان بينهما مضيق هو الجادة العظمى والطريق، يسير المار في ذلك مقدار ساعة وفي وسط الدرب باب إذا أغلق وأحمى فلا شيء مثله في المناعة، وحواليه جبال كل منها عرنينه قد شمخ وقدمه قد غاص ثبوتًا ورسخ فصح أن يقال فيه أنف في السماء واست في الماء فأخذ العسكر فم ذلك الدربند من جهة سمرقند وتيمور على الجانب الآخر وهو كالمضايق والمحاصر
1 / 19
ذكر الحيلة التي صنعها
والخديعة التي ابتدعها
فقال تيمور لأصحابه إني أعرف هنا جادة خفية مسالكها أبية لا تطؤها الخطا ولا يهتدي إليها القطا، فهلم نسري ليلنا ونقود في المسرى خيلنا فنصبحهم من ورائهم وهم آمنون، فإن أدركناهم ليلًا فنحن الفائزون فأجابوه إلى ذلك وشرعوا في قطع تلك الوعور والمسالك، وساروا ليلهم أجمع وبلغ الفجر المطلع فأدركهم الصباح ولم يدركوا الجيش، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتنكد لهم العيش ولم يمكنهم الرجوع وأذنت الشمس بالطلوع، فوصلوا إلى العسكر وقد أخذ في التحميل وعزم على الرحيل فقال أصحابه بئس الرأي فعلنا في قبضة العدو حصلنا، لقد وقعنا في الأشراك وألقينا بأيدينا أنفسنا إلى الهلاك فقال تيمور لا ضرر، توجهوا نحو العسكر وانزلوا بمرأى منهم على خيلكم واتركوها ترعى، واقضوا من ورد النوم والراحة ما فاتكم في ليلكم، فتراموا عن خيلهم كأنهم صرعى وتركوا خيولهم ترعى
وإذا السلامة أحرستك عيونها ... نم في المخاوف كلهن أمان
1 / 20
واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
فجعل العسكر يمر بهم ويخال أنه منم حزبهم حتى إذا استراحوا ركبوا خيولهم وصاحوا ووضعوا السيف في أعدائهم راكبين أكتافهم من ورائهم، فقتلوهم قتلًا ذريعًا وغادروهم جريحًا وصريعًا، وعم الخطب المدلهم ولم يعلم أحد البلاء كيف دهم واتصل الخبر بالسلطان وقد خرج التلافي عن حيز الإمكان، فهرب إلى بلخ وقد سلخ من المملكة إي سلخ وشرع تيمور في النهب والغارات والسلب ثم ضبط الأثقال وجمع الأموال ولم رعاع الناس والمداره وأطاعوه وهم ما بين راض وكاره واستولى على ممالك ما وراء النهر وتسلط على العباد بالغلبة والقهر، وأخذ في ترتيب الجنود والعساكر واستخلاص الحصون والدساكر وكان نائب سمرقند وأحد الأركان شخصًا يدعى علي شير من جهة السلطان، فكاتبه تيمور على أن تكون الممالك بينهما نصفين ويكون معه على السلطان حسين فرضي علي شير بذلك وقاسمه الولايات والممالك، وتوجه إليه وتمثل بين يديه، فزاد في إكرامه
1 / 21