بيد أن المرأة لم تكن وصلت إلى دور تثقيف نفسها. بل كانت راتعة في انقطاعها وجهلها شأن من اعتاد الهواء الفاسد يضيق منه النفس ويعتل إذا هو انتقل إلى حيث الهواء نقي. وإنما هي الأقلية المتنورة من الرجال التي كانت تطلب في الزوجة شريكة وصديقة، وللأبناء التربية المنزلية الصالحة، وللبيت ذلك الجو المفرح الذي تخلقه المرأة بعذوبة حبها إذا هي قرنت بالحصافة والمعرفة. وكان أولئك الرجال يتشاكون الغم فيما بينهم، وليس من يقتحم مصادرة الرأي العام. حتى انبرى قاسم لا يبالي بتطعين الحراب، هادئا كمن جس مقاتل الخصم وتسلح بصارم الحق واليقين.
الحياة المنزلية
نحن حوالي منتصف القرن التاسع عشر، في مدينة القاهرة عاصمة الديار المصرية قبل أن تبدل معالمها يد الهدم والبناء. وقبل أن تصقل بعض جوانبها يد التحسين الجديد. مدينة شرقية توالت عليها نوائب التاريخ واختلطت فيها أجناس الشعوب وهي لسرها الطويل كتوم توزعت في مختلف الجهات، منها البقايا الأثرية والجوامع البديعة الفائقة على الثلاثمائة، والحمامات والأسواق و«السبل» المرمرية المقدمة ماءها العذب لكل ظمآن يرتوي وفوق المدينة الجاثمة ترتفع تلك المآذن بقاماتها الهيفاء فيخيل أحيانا أن الإنسانية أعلت هياكلها في الهواء الأزرق ليس ليصل صوت المؤذن إلى المؤمنين على مسافة بعيدة فحسب، بل ليكون المبتهل في صلاته أقرب إلى باريه وأرسخ في الثقة بالاستجابة. وطورا تبدو تلك المآذن كأنها حراب أرسلتها أيادي الإسلام تنبئ الجائب بأنها على دوام الاستعداد لدفع الطوارئ عن الذمار.
في الشوارع والساحات تبصر أخلاطا من الثروة والفقر، أناسا يرتدون الأثواب النفيسة وعليهم دلائل النعمة والرخاء، وآخرين يرتدون الأطمار البالية وعليهم دلائل الذل والشقاء. ولكن «رغم مشهد الفقر والمرض عند الشعب فإن شوارع القاهرة ليست لتوحي الأسف والخيبة اللذين يشعر بهما المسافر في الأستانة ذات المنظر الفخم من الخارج، المحزن في الداخل. نعم إن أكثر هذه الشوارع مظلمة ملتوية متشابكة الواحد في الآخر كأنها مجاهل التيه، يعترضها هنا وهناك ممرات خفية وغاية ما يسع عابرها أن يستسلم لحكمة دابته وثقافتها. على أنها نظيفة يتعهدونها بالكنس والرش المنظم وبدلا من بلاط الأستانة الشنيع وتلك السلالم الحجرية في غلطة وبيرا، لا تجد هنا إلا أرضا مستوية صلبة تسير فوقها بلا عناء. أما المنازل القائمة على جانبي الشارع فهي في الغالب أشهق من بيوت عاصمة تركيا وأتقن صنعة، ففي كل وقت تبصر العين الواجهة المزخرفة بالنقش العربي، أو النافذة ذات المشبك الخشبي الدقيق الفن الأنيق التفاصيل، فيكاد المرء يغتفر لأجلها الغيرة التي أقامت هذا الحاجز بين داخل المسكن وتطلع السابلة.»
10 •••
كاتب أجنبي يجيئنا بهذا القول لا يرى في ذلك «الحاجز» سوى رمز «للغيرة». كأن الغيرة من واردات الشرق التي يتفرج عليها الغرب ولا يكابدها. ولكن هلم نقف أمام أحد هذه المنازل، أمام المنزل الذي نتطلع الآن نحو الماضي لأجله. هلم نستعين بالخيال حين لا وسيلة سواه، فنخترق جانبا من الحديقة الحافلة بالورد والرياحين تحت رعاية الأشجار ذات الظل الوارف. هو ذا الآغا يسير بنا إلى دار الحريم حيث تلقانا طغمة من الجواري والخادمات وتدعونا إلى الجلوس في الفسحة الواسعة الموفورة النور والهواء أرضها تختفي وراء البسط العجمية والطنافس الفاخرة. والمقاعد والأرائك تدور في جوانبها، تتخللها الطاولات الصغيرة وعليها أدوات التدخين من علب اللفائف وأطباق صغيرة للرماد (منافض). وعلى جدرانها تتألق مياه المرايا العميقة الصافية. وقام في وسطها خوان كبير من الخشب المموه بالذهب، تتدلى فوقه الثريا العديدة الشموع المنحدرة من السقف المصنوع من خشب الجوز المجمل بالنقش والزخرف بل هي هبطت من صميم رسم مثل وردة كبيرة تناوب فيها الحفر والتخريم بنتوء مستدير وسيم. فكان النور خلال تلك التخاريم من جهة إلى جهة نفيذا.
هذه هندسة أكثر منازل الطبقة العليا وما دونها قليلا في ذلك العهد وما بعده حتى أوائل القرن العشرين. أما البذخ والترف في بيوت الكبراء فيبدو في اتساع الغرف والردهات، وفي تعدد المقاعد والمرايا ونفاسة الأقمشة والثريات والطنافس. ولا بد من قاعة أو قاعات للاستقبال. على أن السيدات يقابلن عادة في هذه «الفسحة» فسحة الدار، كل شهور الصيف الطويلة. وهنا تنعقد اجتماعات الأسرة سواء في الليل والنهار.
اقتبس هذا الوصف من كتاب الزوجة الأولى لصاحب الدولة حسين رشدي باشا. كانت السيدة فرنسية ووضعت كتابين بلغتها وقعتهما باسم «نية سليمة» المستعار فوصفت فيهما المجتمع المصري وعاداته على ما أدركته في أواخر القرن الماضي. وإنما استندت على هذا الكتاب
11
لأن هدى هانم شعراوي التي تفضلت فأعارتنيه مع الكتاب الآخر
Page inconnue