صلى الله عليه وسلم
كان يعطي قرابته. وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع. وأما ما تريدونه من الفتنة أو الخلع فإنكم قد أسرعتم فيما عزمتم، ووالله لئن فارقتكم لتتمنون أن لو كان عمري عليكم مكان كل يوم سنة! لما سترون من الدماء المسفوكة والإحن، والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة.»
وكان علي في أثناء الخطاب مطرقا مصغيا لا يبدي حراكا، حتى أتى عثمان على الفقرة الأخيرة فحرك علي حاجبيه وحنى رأسه تصويبا لقوله: «لما سترون من الدماء المسفوكة ... إلخ.»
وأما أسماء فلا تسل عن قلقها ومللها، وكان رفيقها واقفا إلى جانبها وقد شغل عنها بما ثار من عواطفه عند سماعه كلام عثمان، ومال إلى إفهام رفيقه الملثم جلية الخبر تشفيا من عثمان. ولكنه أراد قبل ذلك أن يعرف من هو، ثم تنسم من لهجتها صوتا نسائيا ولكنه استبعد أن يظهر في النساء مثل هذه الهمة، فصبر حتى انتهى عثمان من خطبته وقال لها: «أراك يا سيدي خالي الذهن من مغزى كلام الخليفة، ولكي تتفهمه أوضحه لك باختصار: إن خليفتنا هذا هو ثالث الخلفاء الراشدين، تولى الخلافة منذ بضع عشرة سنة، وحالما تولاها عزل الولاة الذين كانوا قبله ممن ولاهم الخليفة عمر، وولى مكانهم رجالا من بني أمية أي من أقاربه، ووسع أبواب الرزق لأهله وضيقها على سواهم، فثار المسلمون في الأعمال (الولايات)، وهم أهل مصر والكوفة والبصرة. أما أهل الشام فإنهم على دعوة عثمان، لأن عاملهم هو معاوية بن أبي سفيان من أقرباء الخليفة، وأما أهل الأمصار الثلاثة الباقية فنقموا على هذا الرجل وجاءوا في رجالهم يطلبون خلعه وتولية غيره مكانه، ولا يليق بالخلافة بعده إلا علي بن أبي طالب فإنه ابن عم النبي
صلى الله عليه وسلم
ووصيه. ولكن بين الذين يطمعون في الخلافة الآن اثنين من الصحابة هما طلحة والزبير. فالخلافة إذا خلع عثمان بين الثلاثة علي وطلحة والزبير، ووفد مصر يريدونها لعلي، ووفد الكوفة يريدونها للزبير، ووفد أهل البصرة يريدونها لطلحة، ولكنهم متفقون جميعا على خلع عثمان. وأما علي فلا رغبة له في الخلافة، ولكنه يخاف الفتنة بين المسلمين بسبب ذلك الخصام.»
وكانت أسماء تسمع كلام رفيقها وهي لا تفهم منه شيئا لعظم اضطرابها، ولكنها لم تر بدا من الصبر لأنها رأت عثمان عاد يتكلم. وما أتم عثمان كلامه حتى ضج الناس فعلمت أنهم خارجون، فحمدت الله على فراغه، فتنحت ريثما يخرج الجمع وقد زاغت عيناها وهي تتفرس في الجماهير لعلها ترى عليا خارجا معهم فخرج الكل ولم تره بينهم، فتحولت نحو الجامع وكان رفيقها قد سبقها إليه فوقفت تنتظره، فعاد وحده فلما استقبلها سألها: «هل رأيت عليا؟» فذكرت أنها لم تره، فجعل يبحث بين الناس ولكنه لم يجده. •••
عاد إلى الجامع وقد خلا من المصلين وأخذ الخدم في إطفاء المصابيح، فخافت أسماء أن يمنعوها من الدخول، ولكنهم لما رأوا رفيقها وسعوا لهما فعلمت أنه من كبار القوم. فدخلا إلى المسجد فرأت المكان خاليا، ووقف الرجل ووقفت وجعلا يفكران، وبعد برهة قال الرجل: «أظنه دخل حجرة امرأته فاطمة بنت النبي
صلى الله عليه وسلم
فإنها مدفونة في حجرة بإزاء هذا المسجد، وكثيرا ما كنا نراه يدخلها لزيارة ذلك الأثر الشريف، فلا بد من الانتظار ريثما يخرج.»
Page inconnue