ثم عاد وهو لا يكاد يبصر قدامه من ضغط الهموم وزحمة الأفكار، ولكنه ما نصف الغرفة حتى صادفت رجله جسما صلبا دفعته أمامها، فأخذه من الأرض وتأمله، فإذا هي مجموعة أوراق واردة على تلك الشقية من كثيرين من كهنة طيبة، وأعضاء مجلس المملكة الأعلى، وهي صنفان منها ما يختص بقضيته ويشير إلى تلفيق تهمته، وبعضها يتعلق بخطبة عذراء الهند ويتناول الدسائس التمهيدية لحمل المجلس الأعلى على الحكم برفضها، فلما رآها «رادريس» قد فرجت من كل الجهات، ورحبت بعد أن كانت ضيقة مستحكمة الحلقات، لم يتمالك أن خر ساجدا لتلك القدرة التي تجر الظالم للقصاص بقدمه، وتوقعه في شر أعماله بخط قلمه، ثم رفع عينيه إلى السماء، ولسان حاله ينطق مفصحا بهذا الدعاء (الخفيف):
رب إن شئت فالفضاء مضيق
وإذا شئت فالمضيق فضاء
وقام بعد ذلك فحمل الأوراق على عظم صدره من شدة الضن بها، ثم أطفأ المصباح، وجاء سريره، فرقد على فراش وطيء من الراحة والأمان، والصفو والاطمئنان، وكانت له ليال لم يعرف الغمض، ولم يطق الراحة، فما صدق تلك الليلة أن دخل السرير حتى راح في العريض الطويل من النوم (البسيط):
كم ساهر خائف والدهر في سنة
وراقد آمن والدهر في سهر
فلا تبيتن محتالا ولا ضجرا
إن التدابير لا تغني من القدر
هذا ما كان من أمر «رادريس»، أما ما كان من أمر «آرا» فإنها لما برحت غرفة السجن انثنت عائدة إلى مسكنها في المعسكر، وكانت العائلة في انتظارها للعشاء إلا كبير الحرس، الذي لم يكن يعرف غير مائدة الملك، فجلست فتعشت، وما هو إلا أن غسلت يدها من الطعام، حتى جاءها رسول من الملك يدعوها للتوجه إلى القصر.
فقامت من فورها فدخلت غرفتها الخاصة، فبدلت ثوب الكتان الذي كان عليها بثوب آخر من التيل الأرجواني المزركش، كانت الملكة أهدته إليها، وكان لها مشط من العاج، مصنوع من نحو ألف سنة حتى اكتسب صفرة الذهب ونعومة الحرير، وكان أيضا خارجا من خزانة الملك هدية إليها لمناسبة دخولها في العشرين، فحملته في رأسها بعد أن مسحت شعرها أحسن مسح، وزينته تزيينا، ثم اتخذت لصدرها زينة، قلادة من اللؤلؤ ذات سلوك سبعة، في كل سلك خمس عشر حبة من أكبر وأجمل ما تنبت الأصداف، وكانت هذه القلادة مشهورة في عصرها تضرب بها الأمثال، إذا ذكر الغنى والمال، وكانت لها أيضا مروحة من ريش النعام الأبيض العوام، بيد عاجية بيضاء نقية، وسلوك دقاق، من الذهب الخالص البراق، مرصعة باليواقيت المستطيلات الرقاق، فأخذتها في يدها، ثم التفتت نحو خادمتها الخصوصية فلقنتها بعض الأوامر، وبعد ذلك خرجت مستعجلة الخطو تطوي المعسكر، فالميدان، فالشارع الملوكي إلى القصر العامر.
Page inconnue