ولقد كان من سعد الفتى الهندي أن الزوجين خرجا بعد قليل يحملان بعض الأواني والقدور، وأغلقا خلفهما باب النزل فاطمأن بذلك قلبه، ورأى أن تمام الحيلة وكمال التدبير، يقتضيان الصبر والكمون، حتى يرحل الأمير. وكذلك كان؛ حيث لم تمض ساعة من الزمان، حتى زالت الخيام عن المكان، وعاد الزوجان مسرورين يلعبان بالأصفر الرنان، وكانت الفتاة قد خرجت تتمشى في فناء الخان فرآها الرجل في دخوله فصاح بها، والذهب يلمع على بطن راحته: تعالي أيتها الهندية، انظري في أمرائكم من يجود بمثل هذا القدر من النقود؟ فأضحكت بساطة الرجل الفتاة غصبا، فمشت نحوه والفتى خلفها، وهي لا تراه فلما صارت أمامه، ورأت ما في يده قالت: حقا أيها الرجل لقد أعطاك الكاهن فأجزل. قال: لا تقولي الكاهن يا ممسوخة الهند، وقولي الأمير، فاضطرب وجدان الفتاة لذكر هذا اللقب، وسألت الرجل قائلة: وأي الأمراء ذاك فهم كثيرون؟ قال: رب منفيس الأمير «آشيم» ولي عهد جلالة الملك، فعند سماع ذلك لم تزد الفتاة على أن صرخت قائلة: يا للسماء، لهذه الخالدة الشقاء، الأبدية الإقصاء!
ثم غشيها إغماء طويل فأوقعت الرجل وامرأته في حيرة شر حيرة لا يدريان ماذا يصنعان، فلما رآهما الفتى خائفين يتعوثان دنا منهما فقال: لا تخافا يا سيدي ولا تقلقا، فلا أحسب هذه إلا صرعة عصبية تقوم منها الفتاة بعد لحظة. قالا: وإن هي لم تقم أقامت علينا قيامة الحكومة. قال: إذن فسلماها إلي وأنا المسئول عنها. قالا: خذها ولا تعودا وأنتما مسامحان في الأجرة. قال: بل هذا العقد من اللؤلؤ لكما، عن الفتاة وعني، فخذاه مباركا لكما فيه، ودفع إليهما العقد، ثم إنه حمل الفتاة على ظهره وانطلق ذاهبا.
الفصل التاسع
«هاموس» في القفار يهيم
لما حمل الفرسان الثلاثة «هاموس» إلى أبيه، وكان غضب الشيخ في غايته، جذب إلى شفتيه الغلام وهمس ثلاثا: يا ابن الزناء يا ابن الزناء يا ابن الزناء، وكان إلى هذه الصيغة ينتهي السباب عند المصريين الأولين، آباء الأخلاق، فلما قذف بها من أبيه شر قاذف في هذا المقام، أقسم لا جاور بعد ذلك بلدا، ولا عاشر من الناس أحدا، ولا عاش إلا في الصحاري والقفار، ولا مات إلا ممزقا بالأنياب والأظفار، فرحل من فوره عن منفيس وخرج هائما يترامى الخلوات، ويتنقل من فلاة إلى فلاة. كأنما خرج من الحياة.
فبينما هو ذات يوم في هيامه، يسير على بيداء الذئاب، بدا له من بعد شخصان، وكانا ثابتين لا يتحركان، فأخذ وجهتهما، حتى تمكن نظره منهما، وإذا هو بجريمة من مثل ما كان بدأ فيه وشرع، وقد أوشكت هذه الجريمة أن تقع، فتشمر الغلام يعدو وهو يقول في نفسه: أما وأبي الذي لا أعرف سواه ليكونن عند ابن الزناء، كما عند سائر المصريين نجدة، حتى إذا صار ثالث ثلاثة رأى قاتلا وما قتل، ولكن هم فمسك يده المطمئنة بالخنجر، ثم نزعه منها فتركه أعزل لا يملك للجناية إتماما.
والتفت بعد ذلك إلى الفريسة، فأجفل بغتة وابتعد، واضطرب وارتعد، فنظرت إليه الفتاة نظرة ردت إليه الجلد، فدنا إليها فأخذ بيديها، ثم جثا لديها. فقال: الآن يا مولاتي محا الإساءة الإحسان، ولم يبق إلا التجاوز والغفران. قالت: لقد غفر لك ما سلف يا «هاموس»، فلا تقتل غريمنا ولكن عجزه، إنه ليس بعيدا، إنه ابن عمي. قال: سمعا وطاعة يا مولاتي. فمريه أن يسير بين أيدينا أسيرا أو كأسير، حتى أتمم نوبتي بإيصاله إلى الأمير، فأشارت الأميرة حينئذ لثرثر أن يمشي فمشى، واندفع الثلاثة يسيرون.
الفصل العاشر
ظهور النمر حارس بعد الخفاء
كان قد بلغ «آشيم» في بداية قدومه للهند أن عشيقته اختطفت، وأن أباها يتهم رجلين من مصر رئيا تحت سماء مملكته، قبل اختفاء الأميرة بأيام، وأنه جاء من أجل ذلك على مصر، وملكها وصاحب عهدها، ولا يبرئ هذا الأخير أن له يدا في الشر وباعا، ووقوفا على دخيلة الأمر واطلاعا. إلى غير ذلك مما كاد الأمير يجن به سماعا.
Page inconnue