وكانت عذراء الهند بشرت بسرور الملك بقدومها وإظهاره مزيد الارتياح لرؤيتها في طيبة عاصمة مملكة الآلهة، فكان العزم معقودا على أنها لا تطيل بمنفيس المقام، أكثر من بضعة أيام، ثم تلبي دعوة ملك الأنام.
وفي الواقع لم تلبث الأوامر أن وردت على الضابط من ديوان الجيوش بمضاعفة الانتباه، ودوام السهر على حفظ الأميرة أولا، وبالاستعداد لمرافقة ركابها في سفرها القريب إلى طيبة ثانيا، فأبلغ مضمون ذلك إلى الأميرة فسرت كثيرا، وباتت تنتظر بصبر نافد ساعة القدوم على الملك الأعظم ملك طيبة ومنفيس.
إلا أنه لم يمض يوم أو يومان على ورود هذه الأوامر، حتى جاءت من القائد «رادريس» رئيسه الحقيقي في هذا المركز رسالة بتوقيعه يقول فيها:
بناء على الأوامر الخصوصية أدعوك لتخلي القصر والمعسكر توا فتنتقل بكل جندك إلى النمرة الثالثة؛ حيث بانتظار أوامر جديدة.
رادريس
فتلقى الضابط هذه الإشارة بواجب الطاعة الجندية فأخلى للحين القصر والمعسكر، وسار يؤم بفرقته النمرة الثالثة التي هي نقطة في الخلاء تبعد عن القصر مسيرة نحو سبع ساعات، وكان ذلك في أول يوم دخول الليل، فما هو إلا أن ساد الظلام واطمأن بملك الدنى والعوالم جائرا مباحة في حماه الجرائم حتى تلبس القصر بشر حال، فامتلأت ساحته بالرجال، وكانت الأميرة خلف نافذة تنظر، وكانت لا يزال بها روع من رواح الجنود، فضاعفه هذا الاحتلال فاستغاثت عندئذ قائلة: يا للسماء، لهذه الخالدة الشقاء، الأبدية الإقصاء! ثم ترامت السلم، فنزلت هائمة متكسرة على درجه، وكان له باب فقامت خلف هذا الباب واستندت كالمختبئة، فلم تدر إلا بالجدار قد تزحزح ودخلت غير عالمة من أين ولا كيف؟ وأخذ الحائط على الأثر شكله الأصلي، فعاد بنيانا مرصوصا مستويا لا سبيل لمريب إليه، ولم يعد ممكنا للفتاة أن تزحزح من خلف، فتظهر من حيث اختفت؛ لأن للخروج كما للدخول سرا كانت تجهله، ولا تطمع من الصدفة أن تهديها إليه.
وفي الواقع كان تخوف عذراء الهند في موضعه، فإن الرجال ما مكثوا أن صعدوا إلى القصر، فأوسعوه بحثا وتنقيبا، وعاثوه جسا وتقليبا، معاينين جهاته ونواحيه، معرضين عن كل ثمين فيه، لا طلبة لهم إلا الأميرة، يريدون ليأخذوها أسيرة، فلما لم يلقوا لها عيانا، ولا كشفوا لها مكانا، هموا بالخروج من حيث دخلوا، وكان فيهم ذاك اللص، لص ليلة المعبد ولم يكن منهم، ولكن رآهم يدخلون فادخل في زمرتهم فعرف من هم، ووقف على حقيقة مشروعهم وما جاءوا يرومون، وإذ تحقق عدم وجود الأميرة بالقصر سبق القوم إلى الأبواب فغلقها، ثم أضرم في الدار، حتى إذا ألحقها ومن فيها الدمار، تركها فحمة تتوقد وسار، وهو يردد بملء شدقيه قائلا: أنا «طوس» ولي السعود والنحوس، المنتقم للنفوس، من طائفة القسوس.
الفصل الثامن
بيداء الذئاب
كان على بعض الدروب المفضية إلى طيبة ببيداء يقال لها بيداء الذئاب، نزل صغير بطبقة واحدة، يديره رجل وامرأته، وكانا متوسطين في العمر لا يتجاوزان الخمسين، وكانا ربعتين مملئتين، وكانت السذاجة منهما بمكان لطول ما عاشا في الوحدة، ولزما البيت، وسكنا الخلاء، وكان درب الذئاب قليل الطراق من الأفراد، فلا يسير عليه إلا الجند شراذم، أو القوافل قددا؛ ولهذا كان النزل قليل العمل، قليل أسباب الكسب، ولم يكن صاحباه أخوي دنيا فيبكيان من تغيض موارد الرزق، أو يشكوان من صعوبة المحيا، بل كان معنى الدنيا ونضرتها عندهما أنهما لا يعدمان القوت.
Page inconnue