وقلبك القاسي على حاله
هيهات بل قسوته لي تزيد
ثار الدم في رأسه، وغلبه جنون الغضب على حسه، فنفر كالأسد المجروح عند غايات يأسه، يصول كل مصال في الوعيد، ويجول في كل مجال من التهديد، وهي لا ترجو لغضبه وقارا، ولا تزيده إلا جفوة واحتقارا. فلم يكن منه حينئذ إلا أن جذب إليه الهودج بعنف، فمال ومالت معه الأميرة، فسقطت على وجهها، متعفرة مهانة، ونفر الجواد الذي كانت تركبه، فلم يكن أشد منها جماحا في وجه هذا المغتصب، ولا نفارا عن كفه، وهو قد انقض عليها مستلا خنجره يخيرها بين أن تبذل العرض، أو تسامح في الروح.
فبينما الفتاة على هذا الحال الأنكد الأسوأ تحت أحد الخطرين العار أو الموت، وهي تستغيث وتضرع، وتسأل أن يسبق الثاني الأول، لم تشعر إلا بجواد قد وقف بغتة عند رأسها، ثم بفارس قد نزل عن الجواد، وهو يصرخ قائلا: من هذا المتهجم على الأمن المستبيح الحرمة تحت سماء منفيس، فاضطرب لصرخته الغلام وسقط الخنجر من يده، ثم خار لا يبدي حراكا، ولا يملك عن الأرض فكاكا، فتقدم الفارس عندئذ إليه يسأله: من أنت؟ تكلم يا فتى، لا تخف ثب إلى نفسك والغلام واقف وقفته لا يرفع العين، ولا يأتي جوابا، فتركه الفارس وتقدم نحو الفتاة يسألها قائلا: أنا الأمير فمن ربة الهودج التي أنقذناها من يد هذا الباغي؟ فنهضت الأميرة وقد تأثرت بسماع لفظة الأمير، ثم ضاعف تأثرها أنها عرفت الصوت الذي لم يكن تغير، ولكن شب كما شب صاحبه، فرفعت عينيها تنظر وكان الفارس قد زحزح اللثام، فإذا هي بأعطاف «آشيم» ومناكبه، فدنت تزيده نظرا، فإذا الوجه بعينه وصفاته ولونه، حتى إذا لم يبق في نفسها شك مريب، أنه الأمير وأنه الحبيب، هاج الموقف لها وجدها فمالت فألقت بغصن قوامها الناعم بين ذراعيه، فتلقاها الأمير ولكن ببطن راحتيه وهو مغض حياء يلعثم قائلا: لقد أخذتني أيتها الأميرة مكان شقيقي «آشيم» فغضي عليك قناع الحشمة، واعلمي أنني كما أمثل «آشيم» خلقة إلى هذا الحد، فقد أحكيه كرم أعراق، وعظم أخلاق، وأحفظ له في القلب كما تحفظين الأعلاق، وهو الآن غائب، ثم تكون له إليك أوبة مشتاق، ما بعدها بإذن الآلهة فراق.
فاستأخرت الأميرة عندئذ مجفلة، ثم قالت بصوت يقطعه البكاء، وترققه الاستغاثة والاشتكاء: يا للسماء لهذه الخالدة الشقاء الأبدية الإقصاء! وأين «آشيم» الآن أيها الأمير؟ وبأي مكان؟ قال: بالهند يا مولاتي، يطفئ نار الثورة فيها. قالت: لقد رأينا في مجيئنا سفنا تحمل أعلام جلالة الملك وهي تترامى بجنودها آفاق الهند فعسى «آشيم» فيها، ولعله هو حاميها. قال: نعم مولاتي، فإن الأسطول الذي عارضته قادمة هو أسطول فتاح الذي ليس على المياه الأجنبية في هذه الأيام غيره، و«آشيم» هو أميره الذي بيده زمامه، فعادت الفتاة حينئذ فبكت واستغاثت واشتكت، ثم رددت: يا للسماء لهذه الخالدة الشقاء الأبدية الإقصاء!
وفي هذه الأثناء أقبل ثلاثة من الفرسان متلثمون وعليهم أردية حمر وسلاح، فترجلوا دون الأمير، ثم تقدم أحدهم فقبل مواطئه، فسأله الأمير قائلا: من الرجال؟ وما حاجتكم؟ قال: من أصحاب الرئيس «طوس» يا مولاي، أرسلنا لنأخذ «هاموس» ابنه هذا المسحور. قال: ومن سحره ومتى؟ وأنا قد عهدته من لحظة خالصا سليما يشرع في الجناية وكنت أحسبه مأخوذا بهيبتي؟ قال: لا بل بإرادة من الرئيس خفية يا مولاي. ولعله كان ينظر إليه في تلك اللحظة بمنظار من روحانياته كشاف.
فلما رآه وقد هم بهذا الملك المطهر حبسه كما يرى مولاي، ثم أرسلنا لنأتي به. قال: ولكن «طوس» رجل قاس، وأخاف إن أنا أذنت لكم بأخذ غريمي أن يقتله، أو أن يسومه من العذاب ما هو أشد من القتل. قال: ليطمئن قلب مولاي من هذه الجهة، فليست عقوبة «هاموس» عند أبيه في كل مقترف إلا كلمة يقولها له همسا، هي أشد عليه مضضا من وقع الحسام المهند، فأطرق الأمير عندئذ برهة ثم رفع رأسه فسأل الرجل قائلا: ألهذا الفتى أم؟ قال: لا يا مولاي. قال: إذن فقد ماتت فمن كانت؟ قال: هذا ما أجهل يا مولاي، ويجهله سائر أصحاب «طوس». قال: إذن فخذوا ابن الزناء فقد فهمت.
الفصل السادس
حزب الأحرار
كان أول من ألقى أساس هذا البناء المعارض لبناء الكهانة، السور المناهض لأسوار الديانة، في أوائل حكم «رمسيس الثاني سيزوستريس» فرعون ملك مصر، وكان الملك نفسه هو روح ذلك العصر الجديد الذي قام به، ونظم عقد هاتيك المبادئ الحديثة، وهل عقد بغير نظام، وإن كان لم يصدر منه بدء بعمل أو اشتراك أو ارتياح لإتمام، وإنما أصاب به عقلاء الأمة يومئذ ملكا فتى ذكيا جريئا، مربى كما يربى أبناء الأفراد بين حياة الشعب العامة وبين الحوادث والأحوال، فاستقبلوا دولته حق استقبالها وعلقوا بأيامه الآمال.
Page inconnue