مقدمة
1 - نسمات الأصيل
2 - الحديث ذو شجون
3 - بين الحمام والحمام
4 - شهيد سرسنا
5 - في قصر الدوبارة
6 - بين الهلباوي وضميره
7 - بعد المعركة
8 - المحكمة المخصوصة
9 - القتل أنفى للقتل
10 - التنفيذ
مقدمة
1 - نسمات الأصيل
2 - الحديث ذو شجون
3 - بين الحمام والحمام
4 - شهيد سرسنا
5 - في قصر الدوبارة
6 - بين الهلباوي وضميره
7 - بعد المعركة
8 - المحكمة المخصوصة
9 - القتل أنفى للقتل
10 - التنفيذ
عذراء دنشواي
عذراء دنشواي
تأليف
محمود طاهر حقي
مقدمة
اللهم باسمك القاهر الرحيم أفتتح كتابي، وأسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن تعصمني من زلة القلم؛ لئلا تودي بي إلى عثرة القدم.
وبعد، فالكل يعلم ما هي مسألة دنشواي المشئومة، وما جرت على البلاد والعباد من المصائب والبلايا، وماذا كانت نتيجتها السيئة على المصريين أجمعين.
ويقيني أن المسألة كلها بنيت على أساس من سوء التفاهم الذي جعل للموضوع شكلا وأهمية، وزيادة على شكله وأهميته الحقيقيتين اللتين لبستهما، وكانت العاقبة المادية قصاص ما يربو على العشرين شخصا بين معدم ومجلود وسجين وطريد، وكانت العاقبة الأدبية تلك التهم الشنيعة التي ألصقت بنا ظلما وبهتانا، والتي نسبها إلينا في تصريحه المشهور أكبر ممثل لحكومة جلالة إدوارد السابع.
فالحادثة بشكلها، والأقوال باختلافها، والمحكمة المخصوصة بصبغتها، والعقاب بقسوته، والتنفيذ بفظاعته، كل ذلك حرك في نفسي وضع رواية تكون تاريخا لهذه الحادثة السيئة، وتكملة لما نقص من فظائع ديوان التفتيش أو أحكام نيرون.
وأظن أن القارئ أدرك - لأول وهلة - صعوبة الكتابة في هذا الموضوع بالشكل الذي كتبت به روايتي «عذراء دنشواي» وذلك لأسباب كثيرة: أولها وأهمها أن الأقوال ما زالت للآن مختلفة في كل شيء، في الحادثة وكيفيتها، والتحقيق وأسلوبه، والعقاب وتوقيعه، وأقول الحق: إن هذا السبب قد شوش على فكري، وكاد يكون عثرة في سبيل مشروعي، إلا أنني تغلبت على ذلك، ورأيت أن الاعتماد على أقوال الحكومة خير منفذ لي من هذا المضيق الوعر، فاتخذتها لي نبراسا وأنا غير راض عن نفسي.
وثاني الأسباب: أن الموضوع محفوف بالمخاطر، فقد تكون كلمة في غير موضعها تجني على نفسي ما أنا غني عنه، فعمدت إلى التلطف ما أمكنني، والتقهقر إلى خط الرجعة (دائما) ما وسعني، حتى لا أصير في صف الآثمين، ولا أكون آخر المنكوبين، أو تكملة لمعاقبي دنشواي.
وثالثا: أن الموضوع ضيق المنافذ؛ فلا يسع إلا النسيم العليل يدخل إليه بسكون، فرأيت أني لو أدخلت فيها شيئا من الغرام وقليلا من الفكاهات فلربما أرضيت القارئ الكريم، فاستعنت بالله فأعانني، وتوكلت عليه وكتبتها، ثم قدمتها إلى إدارة جريدة «المنبر» الغراء، فتقبلها صاحباها صديقاي العزيزان قبولا حسنا، وأوسعا لها بين أعمدة صحيفتهما مكانا فسيحا.
فالرواية خيالية أكثر من أن تكون حقيقية، والموضوع نفسه ألزمني التوسع في الكتابة، فابتكرت المحادثات المذكورة فيها، والغرام الذي جعلته أساسا لها، وإني أبرأ إلى الله من أن أخدع نفسي والقارئ وأتجاسر بالقول: إن المحادثات المذكورة حقيقية، وأظن أن ذلك ما فطن إليه القارئ اللبيب من قبل هذا التصريح.
ولدى ظهور أول جزء منها على صفحات «المنبر» أخذ العجب جماعة ممن يحسنون الظن بالناس، فدفعهم ذلك إلى تشجيع هذا الضعيف. وما أنا ممن يرتضي لنفسه التقريظ والإطراء لولا ثقتي بحسن نواياهم وشرف مقاصدهم، ولقد كان من بينهم من تفضل فانتقد لغة الرواية؛ لأنه مضيع - على زعمه - للغة «القرآن الشريف»، وغاب عن حضراتهم أني تعمدت الكتابة باللغة «العامية الريفية» لتكون أوقع في النفس، وعبارة «طبق الأصل» لمحادثة سكان القرى.
كتبت الرواية في «المنبر» - المتصل إن شاء الله بالجوزاء - وليس في نيتي أن أجمعها فيما يخلدها، ولكن إلحاح أصدقائي علي في طبعها على حدة لتكون أسهل في التناول، وأقصر للمطالعة، أرغمني على قبول حسن ظنهم بالشكر الجزيل؛ فلبيت طلبهم شاكرا فضلهم مثنيا على همتهم.
ومن جهة أخرى، رأيت أن قصدي من تأليف هذه الرواية كان العظة البالغة والتذكار المؤلم لهذه الحادثة، فشجعني طلبهم وطبعتها لتكون محفوظة في المكاتب يتناولها الابن عن الأب، وتحدث بها الأم ابنتها، وفي الحقيقة تكون قصاصا ممثلا أمام نظر الإنسان في كل وقت وزمان تفكرنا دائما بمركزنا الذي نحن فيه، وتكون أكبر رادع لنا وعبرة بالغة لأولادنا، فلا يقدمون على أمر يبكون من نتائج عقابه الفظيع.
ولقد خدمت - في الحقيقة - القابضين على أزمة أحكام البلاد بيد من حديد، فنقشت عقابهم الصارم على صفحات القرطاس، ودونته في بطون التاريخ حتى يغني عن كل عقوبة قد يجنها
1
ضمير المستقبل.
وقدمت أيضا خدمة لأبناء بلادي، فمثلت لهم شدة أحكام الحكام وقساوتهم في التنفيذ، حتى لا يقوم غر جاهل يجني على البلاد بمثل ما جنت أهالي دنشواي.
وجرم جره سفهاء قوم
فحل بغير جانيه العقاب
ط. حقي
السيدة زينب في 15 يوليو سنة 1906
الفصل الأول
نسمات الأصيل
ألقت الشمس بسكون أشعتها الذهبية في أصيل يوم يونيو سنة 1906 على «قفة» دقيق كانت فوق رأس فتاة تناهز العشرين من عمرها، طويلة القامة، ممتلئة الجسم، مفتولة الساعدين، مقرونة الحاجبين، يميل لون بشرتها إلى الصفرة أكثر منها إلى السمرة، وكان في أسفل شفتها السفلى شجرة صغيرة مرسومة بالوشم الأخضر مما زادها جمالا! ولقد راعت الشمس عواطف القرويين، وهي أمهم التي يقدرون مقامها، ويكادون يعبدونها؛ لأنها سر حياتهم، وسبب من أكبر أسباب معاشهم، فأبت أم الكون أن تفارق سماء «دنشواي» بدون أن تودع وتحيي أرق وأطهر فتاة تحتها، فعمدت إلى أشعتها فألقتها على وجه العذراء في سيرها كما يلقي المحب يده على وجنة محبوبته في مداعبتها!
وبعد غروب الشمس تماما ظهرت سماء الغرب بلون العاشق المفارق، فجلست الفتاة بردائها الأسود القذر وبقلبها الأبيض النقي على أكمة من التراب، بعد أن وضعت قفتها بجانبها، وصارت تلعب بيديها في قليل من الحصى وبعض «كوالح الذرة» ... وكان منظر جلوسها وهيئتها وسكونها يدل على أنها في انتظار إنسان، وبعد لحظة رأت عن بعد شبحا يقوم يقعد، فلما تأملته جيدا أفتر ثغرها عن لؤلؤ منظوم تمنت ابنة الذوات أن تكون هي المتحلية به، ثم قالت: آه ... هو هو محمد العبد بيصلي المغرب.
ولم يخب ظنها، فإن الشبح تقدم بعد هنيهة منها حتى ظهر لها تماما أنه محمد العبد بعينه. وكان شابا طويل القامة، قوي البنية، نحيف الجسم، أسمر اللون، يناهز السابعة عشرة من عمره، خفيف الروح رغما عن جحاظة عينيه!
ولما صار منها مثل قيد الرمح، خفق فؤادها بشدة وأسلبت جفونها حياء، أما الشاب فقال لها: ازيك يا ست الدار؟ - الله يسلمك يا محمد. - فين مدللة؟ - رجعت قبلي من البابور. - كنت ناوي آجي البابور بعد صلاة المغرب. - يا سلام يا محمد! يخلصك قعادي بعد المغرب في البابور؟ - ليه؟ - إنت موش عارف إيه اللي بيحصل هناك من الحاجات المسخرة بين النسوان والطحان؟ وزيادة على كده جه أحمد زايد وقعد يناكف فينا طول النهار. - أحمد زايد كلمك؟ - لأ، ولكن كان بيحدف علي الكلام، وقال لست أبوها إنه رايح يتجوزني غصب عن أبويه وعنك! - إزاي رايح يتجوزك وأنا مكتوب كتابي عليك! - شوف بقه! - طيب وانت ماقلتيش حاجه؟ - لأ. - قومي بقى يا اختي روحي أحسن يتمسى عليك الوقت. - حاضر.
ثم قامت وأخذت القفة بين يديها فساعدها خطيبها على وضعها فوق رأسها، ثم قالت له: اتمسه بالخير يا محمد. - يسعد مساك يا ست الدار.
وبعد هذه المحادثة سارت الفتاة إلى بيتها فرأت محمدا عبد النبي وزوجته يضعان النورج فوق الجرن، فسلمت عليهما فردا عليها السلام، وقال لها محمد عبد النبي أن أباها حسن علي محفوظ ذهب إلى بابور الطحين للبحث عنها، فتركتهما ودخلت بيتها تمني النفس بقرب اجتماع شملها بخطيبها وحبيبها.
الفصل الثاني
الحديث ذو شجون
من عادة القرويين أن يقضوا شطرا من ساعات لياليهم في المسامرة مع بعضهم، وفي تلك البرهة يتباحثون في المسائل الزراعية، ويتناقشون في الموضوعات التي تعنيهم، وفي بعض الأحيان يتسلون بقصص عنترة وأبي زيد الهلالي، ويتفكهون بنكات (عم) أبي نواس و(الحاج) جحا، وإن كان لأحدهم ظلامة أو شكاية رفعها إلى هذا المجلس فيصلحون ما بينهم، وإذا تعذر عليهم الحل رفعوها إلى العمدة، إلى غير ذلك مما يسمح لنا القارئ بأن نسمي مجلسهم «بالنادي» بكل معانيه، إذ أعضاؤه من طبقة واحدة، ومن فكر واحد، وفي بلدة واحدة، ويشتغلون بمهنة واحدة. وللقرويين حرية في الفكر والمناقشة، فللابن أن يحاج أباه، وللأخ أن يناقش أخاه، وليس بعيب إذا جادل الولد الشيخ، وللمرأة حظ الاجتماع والمناقشة كالرجل سواء بسواء كما يتمنى سعادة صاحب «تحرير المرأة» ويود!
فعلى هذه العادة المحمودة اجتمع أهالي دنشواي في ليلة 7 يونيو تحت أشعة القمر الفضية بجانب جرن هناك لمحمد زهران، وأخذوا يتحدثون في أمور شتى، وكان بين المجتمعين حسن علي محفوظ وابنته - موضوع روايتنا - ست الدار، وخطيبها محمد العبد، وأخته مدللة، ومحمد زهران صاحب الجرن، وامرأته مباركة بنت حسن، ومحمد أحمد السيسي، وسليمان الفرماوي، والسيد العوفي، ومحمد علي سمك، وأحمد زايد، وغيرهم، وبعد حديث طويل، قال محمد أحمد السيسي: إنت يا حسن يا محفوظ حوش الحمام بتاعك من أجران الناس. - ليه يا ابني؟ - أحسن بينزل يلقط الحب. - يعني ما فيش حمام في البلد غير حمامي بينزل على جرنك؟ - موش شغلي. - طيب واشمعنى بتقول لي وما بتقولش لمحمد زهران اللي حمامه جنب جرنك؟ - أنا بقول لك وباسمع غيرك.
فشد محمد زهران من لفافة تبغه نفسا ثم رماها بقوة، وقال، بعد أن تنهد: هو محمد زهران بقى عنده حمام من السنة اللي فاتت؟ مصطادوه الإنجليز كله!
فقالت مدللة: من حق يا عم زهران؛ عملت إيه مع العمدة محمد الشادلي على شان الحمام؟ - ولا حاجة يا بنتي، أنا لما رحت عند محمد الشادلي، وقلت له إني رايح أروح مصر، واشتكي عند باشة الإنجليز عمل الخواجات في الحمام وتخريب الأبراج، قال لي إنه رايح هو يشتكي للمديرية ... وحلف لي بمقام السيد البدوي إنه يجيب لي منهم تعويض. - وبعدين؟ - وبعدين راحت نومة.
فقال محمد علي سمك: أهو طبع الشادلي كده ما يسألش في أهل بلده.
فقالت مباركة: يا ترى رايحين ييجو السنادي؟
فسكت الجميع لهذه الجملة؛ لأنها نزلت عليهم نزول الصاعقة، وبعد سكوت طويل قال زهران: اللي عنده حمام يخاف عليه!
فقال محمد العبد: وإن جم رايحين نعمل لهم ايه؟
فقال حسن محفوظ: نعمل إيه يا محمد؟! نفوض أمرنا لله. - ليه ما نحوشوهمش؟ - وحد يقدر يحوشهم وهم لهم البر والساحل؟ - خليهم يموتوا حتى فينا، فالأمر لله. - يعني ما نقدرش نقدم بلاغ من دلوقتي؟ - نقدم لمين؟ ومين يقدر يقول لهم تلت التلاتة كام؟
فقال أحمد زايد: أهو نسيبوهم زي كل سنة يعرفم شغلهم. فانتبه حسن محفوظ لصوت المتكلم وقال: يعني يا أحمد يا زايد كنت في وابور الطحين بتعمل إيه النهاردة؟ - وانت شغلك إيه يا عم محفوظ، إنت مالكش كلام عندي. - شغلي إيه ازاي؟ بلاش مسخرة، وأوعى تاني مرة تخطي البابور أحسن أكسر رجلك. - الله يسامحك يا عم محفوظ.
فقال زهران: إيه اللي حصل يا عم محفوظ؟ - حصل إيه؟ فيه كام واد هنا مالهمش شغلة غير البابور، يروحم يهارشو البنات ويعملو مسخرة.
فقال زايد: مين قال لك كده يا عم محفوظ؟ موش بنتك ست الدار؟ - أيوه هي اللي قالت لي. - بنتك تهماني بالزور. - طيب ومتختشيش تقول إنك رايح تتجوزها غصب عني وعنها؟ - وحياة ربنا والسيد البدوي إنه كدب.
فقالت ست الدار: يا باي! يا باي!
ثم التفتت إلى مدللة وقالت: وحياة أخوكي وشبابك وإلا تفقدي عينيكي، هو موش قال كده؟ - فقالت مدللة: إيوه يا عم محفوظ، إيوه يا عم محفوظ، بالحق قال كده قدام كل اللي كانوا هناك.
فقال محفوظ: بقا إيه.
ثم التفت وقال لزايد: إذا كانت البنت مكتوب كتابها على محمد العبد، إزاي رايح تتجوزها؟ - طيب ومحمد العبد أحسن مني في إيه حتى تجوزها له؟ - أهو اللي كان كان، ودي قسمة.
فعض أحمد زايد بأسنانه على شفتيه الغليظتين، ونظر إلى العبد نظرة وعيد وتهديد.
وبعد هذه المناقشة قام كل إلى بيته.
الفصل الثالث
بين الحمام والحمام
- أف كورس! يمكننا أن نلهو بالصيد في الحقول، خصوصا صيد الحمام مما يقصر علينا مشقة السفر. - ول! ولكن هل صيد الحمام مباح؟ - نعم؛ لأنه بري وسبق أن صدته هناك.
جرت هذه المحادثة بين رجلين من أبناء التاميز جالسين في ردهة من ردهات فندق «شبرد» الفخيمة، متحليين بالملابس السوداء الرسمية الملكية، وكان في يد كل منهما كأس «وسكي بالصودا!»
قال الأول - واسمه الميجر بن كوفين - بعد أن حسا بقية كأسه: إني أؤكد لك كل سرور في هذه الرحلة الجميلة.
فأجابه الثاني - وكان اسمه اللفتننت سميث ويك - ألا يلزم أن نأخذ تصريحا من الجنرال؟ - كلا، لا لزوم للتصريح وغيره؛ لأننا سنجد هناك مساعدات فوق العادة، وإكراما من الأعيان كبيرا! - يظهر أن المصريين يحبون الإنجليز؟ - المصريون يخافون من الإنجليز خوف الجبان من بأس الشجاع، ولم أر في حياتي شعبا متملقا كهذا الشعب الغريب الأخلاق. - يقال إنهم لينو العريكة، وديعو الأخلاق. - إن ما تسميه لينا ووداعة هما في الحقيقة ضعف وجبن؛ ولذلك فإننا لا نحترم هذا الشعب المتملق أبدا ولا نحفل بآرائه المتطرفة! - إذن الحال هنا كما في الهند؟ - وكما في كل الشرق!
فضحك اللفتننت وقال: أظنك تستثني اليابان من هذه الأوصاف اللطيفة؟ - وهل عندك شك في إجلالي لقدر هذا الشعب الحي الباسل؟!
وعند آخر هذه الجملة قاما وركبا عربة سارت بهما إلى حيث لا ندري! •••
أشرقت شمس يوم 13 يونيو المشئوم، فألقت أشعتها الذهبية الجميلة على خيام متفرقة هنا وهناك عسكرت فيها فصيلة الدراجون
Dragon
من جيش الاحتلال، فأنفذت أشعتها إليهم لتحيي أبناءها البررة الذين بذلوا النفس والنفيس حتى لا تغيب عن بلادهم. فنادى الميجر بن كوفن عبد العال صقر (المترجم) وأمره بأن يخبر الأونباشي أحمد حسن زقزوق بأنهم سيذهبون للصيد عند ناحية دنشواي في الساعة الأولى، فرفع المترجم يده اليمنى ووضعها لحظة بجانب جبهته، وبهذه الحركة أدى التحية العسكرية وخرج. وكان الميجر جالسا على كرسي هزاز أمام مائدة، وكان بالقرب منه شاب جميل الطلعة بهي المنظر اسمه المستر بورتر، يحادث شابا آخر، يشابهه في الهيئة والقوام، اسمه اللفتننت سميث ويك، وكان بعيدا عنهم رجل يناهز الثلاثين من عمره، ويظهر على ملامحه الضعف، ومن عينيه تلوح البساطة، اسمه الكبتن بول، وكان هذا الكابتن ينظف بندقية صيد، وفي أثناء عمله كان يصفر بشفتيه أنشودة غرام، وكان بالقرب من الكبتن بول رجل قصير القامة جالسا فوق كرسي، وواضعا رجله على كرسي آخر، وهو يقرأ في كتاب باهتمام كبير واسمه الكبتن بوستك، وبالقرب منه جلس رجل قصير اسمه اللفتننت هارجريفس ساكنا .
وكانوا جالسين تحت خيمة جميلة، وبعد أن خرج المترجم التفت الميجر إلى الكبتن بول وقال له: ألم تنته للآن من عملك يا كبتن؟ - نو. - كان يمكنك أن تكلف جنديا بأداء هذه المهمة التي أشغلتك عن محادثتنا. - أجد في عملي هذا أكبر لذة يا قومنداني العزيز. - وأنت يا بوستك ... أتجد في روايتك لذة بول في تنظيف بندقيته؟ - كلا يا قومنداني الصغير، فلا لذة أكبر من محادثتكم.
ثم طوى الكتاب واعتدل أمامهم.
فقال اللفتننت: وهل في الجهة التي سنذهب إليها حمام كثير؟ وهل سيكون معنا هارجريفس؟
فقال الميجر: نعم يوجد حمام كثير، أما هارجريفس فسيحرم من هذه الفسحة الجميلة ليكون هنا في المعسكر. - وكيف يكون ذهابنا يا سيدي الميجر؟ - هذا من اختصاص الحكومة المصرية، وليس من شأني أن أفكر في ذلك! وسترى الآن الاستعداد الهائل والولائم الفاخرة التي تقام لنا كما رأيت قبل اليوم!
فقال الكبتن بول: سنرى ...
وقضى هؤلاء الضباط وقتهم إلى الساعة الأولى بعد ظهر ذلك اليوم في محادثة ولعب ورق وغير ذلك مما يقطع الوقت.
وفي الساعة الأولى تماما نادى الميجر عبد العال (المترجم) وقال له: هل قلت للأومباشي؟ - نعم يا سيدي، وقال لي: إنه أخبر ملاحظ بوليس نقطة الشهداء بذلك، فأمره بأن يذهب معكم ويترك العسكري هنا، ويحضر لنا ركائب من عند كبير من كبراء الأعيان، اسمه عبد المجيد بك سلطان.
فقال الميجر: ولكن هذا لا يكفي، فقل للأومباشي أن يذهب فيسبقنا هو ويخبر العمدة بمجيئنا.
فوضع عبد العال يده على جبهته وخرج.
وبعد ربع ساعة ناداه ثانية وقال: ألم تحضر العربات للآن؟ - لا يا سيدي. - إذن فاستعد؛ لأننا نسير على الأقدام حتى نقابلها.
فأدى «المترجم» حركة السلام وخرج وهو يلعن الساعة التي جاء فيها دليلا لهؤلاء الجن، الذين يريدون السير على الأقدام في ذلك الحر الشديد.
وبينما كان عبد العال في أشد همومه، إذ رأى فجأة الضباط واقفين أمامه وسمع صوتا جهوريا يصرخ: «أبدا لآل»، فجرى المسكين حتى وقف أمام الميجر الذي كان يناديه، وأدى السلام «العسكري » فقال له الميجر: هيا بنا وأمسك هذا الحصان ...
فسار الخمسة ضباط يتكلمون ويضحكون ويمنون النفس بأكلة حمام لذيذة وشرب قزازة وسكي بالصودا معها، بعد رجوعهم من تلك الرياضة البدنية! أما صديقنا عبد العال فقد كان سائرا خلفهم على مهل، يلعن هذا المزاج الإنجليزي الذي يخرج للعب والصيد في حر شمس يكاد يقتل الجمل.
وبعد مسير برهة لاح لهم خيال أسود، فتنفس «الدليل» الصعداء، وحمد الله وشكره؛ لأنه تأكد بأن هذا الخيال هو خيال العربات، وحقيقة فإن ما ظهر لهم كانت العربات التي طلبها الأومباشي، وبعد هنيهة ركب الميجر بن كوفين وعن يساره الكبتن بوستك في عربة، وركب في أخرى الكبتن بول، وعن يمينه المستر بورتر. أما اللفتننت سميث ويك فامتطى جواده وسار بجانب العربة الأولى. •••
وبعد مسير ساعة وقفت العربات أمام دنشواي، فنزل عبد العال ووقف أمام عربة الميجر، وأدى السلام العسكري في حالة نزوله.
فقال الميجر: أين الأومباشي؟ - هو هنا يا سيدي. - انظر، انظر خلفك، فإني أرى رجلا يتقدم، وأظنه العمدة، فاسأل لنا منه الإذن.
فسار عبد العال حتى صادف شيخا في حدود السبعين شيبت السنون شعره، وكان اسمه حسن محفوظ يسير في طريقه، فأوقفه وقال له: يا عم، يا عم، السلام عليكم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. - يا ترى ممنوع الصيد هنا والا لأ؟ - ممنوع الصيد بين المساكن والأجران، وإنما إذا كانوا عاوزين يصطادوا يبعدوا حبة. - طيب احنا شيعنا لكم الأومباشي، جه والا لأ؟ - مانيش عارف.
ثم سار الشيخ في طريقه حتى صادف ابنته ست الدار فقال لها: فين محمد العبد؟ - في الغيط؟ - طيب وانت واقفة هنا ليه؟ - جيت أشوف مين دول. - واحنا مالنا يا بنتي؟ احنا مسلمين أمرنا لله! روحي روحي يا ست الدار في البيت. - وانت رايح فين يا أبويه؟ - أنا يا بنتي رايح الغيط. - أبقه أجيب لك الغدا هناك؟ - أيوه يا بنتي في صلاة العصر هاتيه لي هناك. - طيب والإنجليز دول رايحين يعملم زي كل سنة؟ - واحنا ملنا يا ست الدار، اللي يعجبهم يعملوه. - طيب ما تقول لهم إنهم مايصطادوش هنا. - اخرصي يا بنت الكلب عاوزة توديني في داهية؟ دول لو سلموا علي أنا ماردش عليهم السلام لحسن يتهموني بأني أشتمهم، وبعدين أروح في نايبة.
وبعد هذه المحادثة القصيرة سار حسن محفوظ إلى غيطه وسارت ست الدار إلى بيتها.
وفي أثناء هذه المحادثة كان عبد العال سائرا مع الضباط حتى ابتعدوا عن البلدة قليلا، فقال القومندان: لننقسم فرقتين، فاذهب يا مستر بورتر مع اللفتننت سميث جهة الشمال، وأنا سأكون مع الكبتن بول والكبتن بوستك هنا.
فسار الشابان إلى الجهة التي عينها الميجر لهما.
وفي أثناء سيرهما قال بورتر لزميله: هل تراهنني يا صديقي على أني سأصيد أكثر منك؟ - نعم أراهن بزجاجة وسكي. - ولقد قبلت. - إذن فاستعد.
وكانا قد بلغا المكان المعين.
فأطلق اللفتننت الخرطوش، فأصيبت حمامة كانت تطير فنزلت إلى الأرض تهوي، فصرخ: بورتر انظر ... ترك ... ها هي حمامة أخرى. - نحن متساويان الآن، فهيا. - ... ترك ... ترك. - ... ترك ... ترك. - كف، كف يا لفتننت عن الطلق، فإن الأهالي مقتربون منا وأخاف أن يصاب إنسان بضرر.
فهز اللفتننت كتفيه وأطلق طلقة، وفي الحال لاح لهما عن بعد دخان ونار مشتعلة.
فصرخ بورتر وقال: لقد حرقت شيئا بنار بندقيتك يا لفتننت، انظر إلى الدخان، كف، كف عن الطلق. - ... ترك ... ترك. - كف كف فإن الأهالي قد اجتمعوا عند النار. - وماذا يهمني؟ وكيف أترك هذه الحمامة الطائرة تفر مني؟ ثم أطلق بندقيته مرة ثالثة.
فنظر بورتر فرأى أن بعض الأهالي اجتمع حول النار يطفئونها والبعض جاء إليهما! •••
نترك هذين الصيادين قليلا، ونذهب بالقارئ إلى المكان الثاني حيث القومندان ورفيقاه يصيدون هناك، ونبدأ بقصة صيدهم.
قال الكبتن بول: سنرى يا قومنداني العزيز من منا يصيد أكثر.
أتظن أن تنظيفك لبندقيتك سيكون سبب ذلك يا كبتن؟ - أظن، اسمع ... ترك ...! ها قد اصطدت حمامة. - ... ترك ... وأنا أيضا يا بول. - لقد أخطأت يا قومنداني! - ... ترك ... ترك ... لم أخطئ هذه المرة! - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ما هذا الحمام الكثير يا قومندان؟ - ألم أعدك بذلك يا بول؟! - إذن فعشاؤنا هذه الليلة لذيذ. - جدا! جدا.
كم أنا جوعان وأتمنى أن يأتي الليل لنذهب إلى المعسكر فنتمتع بهذه الأكلة اللذيذة. - ... ترك ... ترك ... تمب ... - ... ترك ... ترك. - لقد أخطأت. - ... ترك ... ترك ... تمب. - ولكنني لم أخطئ هذه المرة. - انظر! يا قومندان ما هذه النار المشتعلة أمامنا؟ - لا أدري، وأخاف أن تكون نتيجة نارنا. - بالحق إني خائف من ذلك. - إني أؤكد يا قومندان بأنها من نار أحد رفقائنا الذين هما في الجهة الثانية. - وأظن ذلك. - انظر، كيف اجتمع الأهالي لإطفاء الحريق؟ - هيا، ولنسرع لنعلم الخبر.
فجرى بسرعة الميجر ومن معه خلف عبد العال نحو اللفتننت ورفيقه بورتر. •••
نظر الأهالي فرأوا الإنجليز قادمين عليهم بخيلهم ورجلهم ليصطادوا حمامهم الذي يقتاتون منه، فسكتوا وسلموا أمرهم لله، وكمش كل إنسان في مكانه بدون أن ينبس ببنت شفة.
وكان محمد عبد النبي وامرأته مبروكة في جرنهما ينظران إلى عمل النار في حمامهما ويتحسران، وبينما هما في حسرتهما إذ جاءت رصاصة فأصابت مبروكة فوقعت من على النورج تتخبط في دمها، وسرى هذا الدم الأحمر القاني إلى القش الأبيض الناصع فكان المنظر مؤثرا، فقام محمد عبد النبي وأكب على وجهها وهو يبكي بكاء مرا، وفي أثناء بكائه نظر فإذا النار مشتعلة في جرنه، فازدادت مصيبته وصرخ بأعلى صوته على الصيادين: يا ناس حرام عليكم، يا ناس موش كده، موتوا مراتي وحرقتم جرني.
وفي أثناء صياحه وقعت حمامة مقتولة على رأسه فاستولى على قلبه الحزين الرعب «فنط» من الجرن وأخذ يعدو من الخوف، وترك امرأته مضرجة بدمائها.
فالتف حول جرنه الأهالي، وأخذوا يطفئون النار، أما هو فسار مسرعا جهة الصيادين باضطراب عظيم وصرخ فيهما: حرام يا ناس.
فانتهره اللفتننت وقال غاضبا: جود ديمن بلاد فول!
ثم أراد أن يهجم عليه ويضربه، فخاف محمد عبد النبي من الإنجليزي لئلا يقتله، فمسك منه البندقية بقوة شديدة، فاستاء اللفتننت من ذلك وأخذ يضربه بجزمته بقوة على قصبة رجله.
والرجل يصرخ ويستغيث، فجاء على صياحه بعض الأهالي وفي مقدمتهم شيخ الخفر وخفيران، فظن المستر بورتر أنهم جاءوا لقتالهما، فضرب بندقيته وأطلقها عليهم فأصابت ثلاثة أشخاص منهم.
فهاج لذلك الأهالي وهجموا على الضابطين ليأخذوا منهما سلاحهما، فضرب الضابطان الأهالي بأرجلهما. وفي تلك اللحظة قدم الميجر ومن معه فرأى الخطب جسيما والمصاب كبيرا، فجاء إلى اللفتننت - وعلامة الغضب بادية على وجهه - وقال له: سلم لهم البندقية، ثم حانت منه التفاتة؛ فرأى الكبتن بول محاطا بكثير من الأهالي قابضين على بندقيته، فصاح عليه بأن يسلم هو أيضا.
ولما رأى أن الأهالي لم تكتف بذلك، عمد إلى تسليم بندقيته، وأمر الباقي بذلك، فسلم الضباط سلاحهم العسكري ورفعت الراية البيضاء علامة التسليم، ثم قبض الميجر بيده اليمنى على يد بورتر وباليسرى على يد اللفتننت إتماما للحيلة؛ تظاهرا بأنهما سجناء، ثم ساروا جهة العربات فسارت الأهالي من خلفهم، وكان الكبتن بول متخلفا عن رفقائه قليلا.
فنظر الميجر يمنة ويسرة يبحث عن الأومباشي فلم يجده إلا على بعد خمسين ياردة، واقفا ينظر إليهم من على جواده، ولما رأى الضباط ينظرون إليه عمل «حازطور» وهو بعيد عنهم على ظهر الحصان! فعض الميجر على شفتيه من الغيظ.
ثم التفت إلى عبد العال فلم يجده، ولكن رأى الكبتن بول يصرخ في الأهالي ويتوعدهم بكل مصيبة، ولم يكتف بذلك بل ضرب أحدهم على وجهه، فأراد الميجر أن يجري إليه ليمنعه، ولكن رأى على فجأة الضباط يضربون الأهالي والأهالي تضرب الضباط.
فجرى حتى دخل وسط المعمعة، وأراد أن يفصل بينهم، ولكن لم يشعر إلا وقد وقعت على رأسه ضربة أذهلته فغاب عن صوابه، فرجع الضباط القهقرى، ولكن الأهالي لم تمهلهم، فتقدموا إليهم وضرب كل واحد منهم واحدا فتشتت شملهم، فصرخ الكبتن بول: آه يا قومندان ... لماذا سلمنا سلاحنا؟ فلم يجبه إنسان على سؤاله! فأخذ المسكين يعدو والأهالي من خلفه تقذفه بالحجارة والطوب، فأراد اللفتننت أن يساعده فأخذ يجري خلفه حتى رأى طوبة صدمت رأس الكبتن بول فشجتها وسال الدم، فرجع هاجما على الأهالي ليضربهم، ولكن أحدهم ضربه بطوبة على أنفه، ثم رأى الميجر يضرب أحد الفلاحين ويرفسه برجله فجرى ليساعده، ولكن وقف بغتة على أثر رؤية ضربة من أحد الفلاحين كسرت ذراع الميجر، فاصطكت أسنانه من الرعب، خصوصا عندما رأى القومندان على الأرض مغشيا عليه.
الفصل الرابع
شهيد سرسنا
ثم صرخ الكبتن بوستك بأعلى صوته: الهرب، الهرب، يا بول! أين الأومباشي؟ أين عبد العال؟ - لا أدري أين هذا العسكري الجبان! اذهب يا بوستك جهة الشمال إلى أقرب نقطة وأخبر الخفر بهذه الواقعة.
فدار بوستك حول نفسه دورتين وقال: إلى أين أذهب؟ - إلى الشمال! إلى الشمال! - وأنت؟ - إلى اليمين!
فجرى الكبتن بوستك جهة الشمال بهيئة مضحكة؛ لأن ملابسه كانت كلها ممزقة، وعلاوة على ذلك فإن حمالة البنطالون كانت قطعت فنزل (البنطالون) إلى ركبتيه - مما أعاقه عن العدو قليلا - فوقف وشده إلى بطنه والتفت فلم ير الكبتن بول، فقوى نشاطه وجرى مسرعا، ولكن نزول بنطالونه ثانية إلى ركبتيه أعاقه؛ فخلع البنطالون بسرعة ووقف حائرا لا يدري أين يذهب، ولكن خطر في فكره الذهاب إلى المعسكر، فرجع ثانية يعدو جهة اليمين بهيئة مضحكة، فإنه كان مرتديا ملابسه العسكرية الجميلة، ونياشينه اللامعة، ولكن بدون بنطالون! وكان جسمه ظاهرا؛ لأن من عادة الإنجليز عدم لبس السروال! وفي منتصف الطريق رأى الكبتن بول مطروحا على الأرض فجس نبضه، ثم وضع يده على قلبه فرآه في حالة خطرة، فنسي الرجل خطورة موقفه، فركع على ركبتيه، وضم يديه على صدره، وصلى صلاة صغيرة، وطلب من السماء أن تنجي صديقه من الموت، ففتح بول عينيه، فقال بوستك: تجلد يا صديقي!
فتمتم بول: إلى أين ذاهب؟ - إلى الأمام، إلى المعسكر.
ثم تركه وجرى حتى وقف على شاطئ الباجورية وتأمل في النهر قليلا، ولكنه تشجع وقذف بنفسه في الماء، وسبح حتى وصل الشاطئ الثاني، وتابع العدو وهو بهيئته المضحكة، وفوق ذلك كان الماء يقطر من الجاكتة!
أما الكبتن بول فنظر جهة اليمين والشمال بصعوبة زائدة وهو مطروح على الأرض، ولما لم ير إنسانا قال: آه ... أين أنا؟ إني ظمآن أريد قليلا من الماء، أريد قليلا من الوسكي! لا أريد أن أموت ظمآنا! أنا إنجليزي لا أموت ظمآنا.
ثم أبصر عن بعد فلاحا يقصده فخفق فؤاده، وضم يديه على صدره يصلي على نفسه صلاة الموت!
أما هذا الفلاح التعيس - وكان اسمه سيد أحمد سعيد - فاقترب من الكبتن، ولما رأى حالته المحزنة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، أنت من السابقين ونحن من اللاحقين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله!
ففتح الكبتن عينيه لأنه كان أغمضهما لئلا يرى بهما عصاة الفلاحين تأخذ بقية حياته، ولما شعر بتأثر الفلاح قال له: أيها الإنسان، إني أناشدك بالشفقة أن ترحمني وتسقيني قليلا من الماء، فلم يفهم الفلاح قوله بل ظل يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ففطن بول إلى جهل الفلاح بلغته، فأشار له بأنه يريد أن يشرب، فأسرع الفلاح إلى قناة وأخذ في راحتيه قليلا من الماء ثم وضعه في فمه، فقال الكبتن في نفسه: يا ربي، إن الماء قذر ويديه قذرتان فكيف أشرب؟ ألا يوجد عندهم (فلتر) مرشح؟
ولكنه أحس بانتعاش فأشار بأن يعطيه أيضا قليلا من الماء، فهرول الفلاح يلبي الطلب.
ولكن كان الكبتن وصل إلى نقطة الموت، فأخرج من جيبه صليبا صغيرا وضمه إلى صدره ثم قال: آه يا أمي العزيزة، إلى اللقاء في السماء! إلى اللقاء هناك.
ثم اغرورقت عيناه بالدمع وقال: يا إلهي كيف أموت هذه الميتة الشنيعة؟ وفاضت روحه وهو قابض على الصليب وشفتاه تتحركان باسم أمه العزيزة.
أما الفلاح فأخذ يقلب كفيه ويردد دائما: إنا لله وإنا إليه راجعون، أنت من السابقين ونحن من اللاحقين!
وبعد لحظة رأى غبارا يتعالى، فوقف على رأس الجثة ينظر هذا الغبار، ثم تبينه؛ فإذا هو جنود الاحتلال قادمين بسرعة البرق.
فارتبك المسكين في نفسه، وخاف أن يتهموه بقتله، ففر إلى مغارة أخفته عن العيون، إلا أن أحد الجنود شاهده وهو يلجها فاقتفى أثره، ولما رآه ضربه بقبضة البندقية ضربة هائلة على رأسه، ولم يكتف بذلك بل جرد «السنكة» وطعنه بها طعنات كثيرة، فمات الرجل شهيد مروءته وهو يصيح: مظلوم يا مسلمين والنبي مظلوم. أما باقي الجند فقد كانوا وصلوا إلى مكان الكبتن بول بقيادة الكبتن بوستك وهو بهيئته المتقدمة المضحكة، ولما رأوه ميتا رفعوا قبعاتهم باحترام، وركعوا على ركبهم بخشوع، وصلوا بحرقة صلاة طويلة. ثم ترك بوستك جنديين لحراسة الجثة، وواصل السير حتى جمع الضباط وهم في أسوأ حالة وعاد بهم وبالجثة إلى المعسكر.
الفصل الخامس
في قصر الدوبارة
دخل خادم إنجليزي إلى مكتب اللورد كرومر وقال له: مولاي اللورد، إن المستر متشل يريد مقابلتك حالا.
فانقبض فؤاد اللورد من هذه المفاجأة، وقال له: أدخله هنا.
وكان اللورد جالسا يقرأ في كتاب.
وبعد لحظة دخل المستر متشل بهيئة مريعة، ووجهه أصفر بلون الموتى، فارتاع من منظره وسأله: ماذا جد يا سيدي؟ - مصيبة يا مولاي. - تقول مصيبة؟! أخبرني بسرعة. - لقد أهين شرفنا العسكري؛ لأن الأهالي هجمت على ضباط الدراجون فقتلوا الكبتن بول وجرحوا بقية الضباط بجروح بليغة. - وماذا فعلت؟ - جئت أستشيرك يا مولاي.
فقطب اللورد حاجبيه وقال: الويل لهم! أرسل يا مستر المضخات في الحال واملأها غازا إلى هذه البلدة، فأحرقها بأهلها ومواشيها، أو أرسل البطريات المدفعية فدك البلدة دكا! ولكن أين هذه البلدة؟ - في مديرية المنوفية واسمها دنشواي. - من مديرها؟ - محمد باشا شكري. - اذكر لي المسألة بالتفصيل.
فأخذ المستر متشل يسرد له وقائع الواقعة، وبعد أن انتهى منها قرب اللورد كرسيه منه، وأخذا يتحدثان مقدار ساعتين، ولم نعلم ما دار بينهما من الحديث ... ولكن عند الوداع ضغط اللورد على يد المستر «متشل»، وقال له بغيظ: لا تنس أن تضرب الأمة المصرية بهاتين الضربتين: ضربة تعيين الهلباوي في وظيفة المدعي العمومي، وشدة الحكم حتى تقشعر منه الأبدان، وسآمر حالا نظار الحكومة المصرية بتشكيل المحكمة المخصوصة.
وبعد خروج المستر متشل تمتم اللورد: أريد ألا يراق دم إنجليزي بسهولة وبساطة!
الفصل السادس
بين الهلباوي وضميره
لم هذا التردد يا هلباوي وأنت قادر على كل شيء؟! وما هذا الضعف؟! بل ما هذا الجنون؟ أتترك هذه الفرصة تفوتك وتدوس المستقبل إكراما للماضي؟ إن هذا هو البله بعينه! إن أبواب المستقبل الزاهر مفتوحة أمامي، وبخطوة واحدة ألجها، فهل أوصدها بيدي؟ كلا، كلا، فلن يكون ذلك أبدا.
نطق هذه الجملة الطويلة إبراهيم بك الهلباوي على أثر وصول كتاب إليه من الحكومة المصرية بتعيينه مدعيا عموميا أمام المحكمة المخصوصة التي تقرر انعقادها لمحاكمة الدنشاويين.
ولكنه أعاد تلاوة الكتاب مرة ثانية فاقشعر بدنه وصرخ: يا لهول موقفي! ماذا أفعل يا إلهي؟ كلا، كلا، فإن للوطن حقوقا مقدسة يجب أن تراعى، وللضمير صوتا لا بد وأن يسمع، وللشرف طريقا لا بد وأن يسلك فيه، فمن الجبن أن أدوس على كل ذلك بقدمي حبا في الفخفخة والظهور! ألأجل وظيفة أطمع في نيلها أجني على نفسي جناية تسود تاريخ حياتي، وتكون إكليل عار وشنار لأولادي؟ كلا ... فأنا بحمد الله، غني، فلم هذه الدناءة والتطوح في وهدة الموت الأدبي؟! أأكون خائنا؟! أأغير مبدئي؟! ألم أكن أنا عدو سياسة الإنجليز الألد؟! ألم أكن أنا صاحب مقالات «إلى أي طريق نحن مسوقون»؟! أأقف في الغد أطلب إراقة دماء أبناء وطني المهضومي الحقوق المظلومين؟! أأطلب سحقهم؟! أأستخدم قوتي وما آتانيه الله من المواهب العقلية لسحق أبناء بلادي؟! إن موقفي يحتم علي وصفهم أمام أعدائهم بأقبح الصفات، فهل أفعل ذلك؟! أأنسى لمجرد أملي في الحصول على وظيفة سامية واجبات وطني؟ كلا، كلا! فماذا كنت يا هلباوي وماذا أنت اليوم؟! ألم أكن فقيرا معدما؟! ألم أكن فلاحا من صميم الأرياف؟! ألم أصل إلى ما أنا فيه من الاحترام واليسار إلا بأبناء وطني؟! أأكافئهم على ذلك بأن أخرج عليهم؟! أأكون سهما داميا في أحشائهم؟! إن ذلك لن يكون أبدا.
وبينما كانت الحرب قائمة بين الهلباوي وضميره بمثل ما قدمنا، إذ دخل عليه خادم وأعطاه كتابا، فتناوله وفض غلافه، فألفاه من عظيم من عظماء الإنجليز، فقرأ ما تعريبه:
صديقي الأستاذ هلباوي بك
أهنئك على الثقة الكبيرة التي نلتها بانتدابك لموقف المدعي العمومي، فكتبت إليك هذه التهنئة ليكون لي شرف أول مهنئ لك، وأتعشم بأن أهنئك ... قريبا بغير ذلك.
الإمضاء (...)
وبعد أن أتم الهلباوي قراءة الجواب وضعه على مكتبته وجلس خلفها ساكنا يفكر في موقفه، وبعد ذلك تبسم وقال: إن من العقل أن يلبس الإنسان لكل موقف لبوسه؛ فلا أدع هذه الفرصة تفوتني لمجرد وهم تجسم حتى خلته حقيقة، فسأقبل هذه الوظيفة بانشراح تام، وماذا علي لو صممت عن سماع كلام الناس وضربت بما سيكتبونه عرض الحائط.
وبهذا التعليل تغلبت المطامع على الضمير. قبل الهلباوي الوظيفة، ثم أخذ يسهر الليل ويشتغل النهار منقبا في القوانين ومشاهدا آثار الحادثة، حتى استنتج ما أراده وفاه به في الجلسة كما سيجيء.
الفصل السابع
بعد المعركة
وبعد المعركة تماما قفلت أهالي دنشواي راجعة إلى بلدتهم فجسلوا بجانب جرن هناك منهوكي القوى، وكانت علامات الغيظ بادية على وجوههم السمراء.
وبعد أن جلسوا قليلا، قال محمد يوسف: أعوذ بالله، دا شيء يطلع الإنسان من دينه، ده غلب إيه ده؟!
فأجاب محمد زهران قائلا: دي إيه المصايب دي؟ إحنا كنا فين والإنجليز فين؟!
فقال محمد أحمد السيسي: وعلي الطلاق بالتلاتة ما انا إلا دابح كل الحمام اللي عندي وستين سنة.
فلطم حسين سليم بيديه وقال: إحنا موش في كده، قطع الحمام وأصحابه، إحنا دي الوقت في مسألة ضرب الإنجليز.
فقال السيد عيسى سالم: تفتكر إنه ما فيش عدل في البلد ...؟ ده كلام إيه ده، هي البلد سايبة من غير حاكم؟! - عدل مين يا عم؟ هو فيه عدل في البلد؟ كل شيء ماشي اليوم بالعافية والدراع، وبكرة تشوف رايحين يعملوا إيه فينا.
فقال السيد العوفي: يعملوا إيه بس يا مسلمين يا خلق هوه، بقه ييجوا يهجموا على حمامنا اللي بنتعيش منه، ويصطادوه، ويقتلوا نسوانا، ويحرقوا زرعنا، وبرضه نسكت لهم؟ يا هوه، اتكلم، ما تتكلم يا أحمد يا عبد العال. - أتكلم إيه وأقول إيه ومين يقرأ ومين يسمع؟
فقال محمد يوسف: بلاش لخمة يا جماعة ومتطببوش قلبنا بالكدب وقولوا نعمل إيه؟
قال محمد الغباشي: ما فيش حاجة، يالله نهرب ونسيب البلد مدعوءة على اللي فيها. - وفاكر إنهم ما يظبطناشي وتبقى داهيتنا كبيرة؟ - لأ، يالله نهرب في مديرية الجيزة، وفين على ما يحصلونا ويضورم علينا. - يا شيخ ما تقولشي الكلام ده. - أمال نعمل إيه؟ - أحسن شيء إننا نجتهد في أن نقول لهم الحقيقة، ونقول: إننا كنا بندافع عن حمامنا، والدفاع عن الحق واجب. - ما حدش يسمع لنا كلام. - أمال نعمل إيه؟ - نرمي تكالنا على الله وهو اللي يدبرها. - يا شيخ تكالنا مين؟
فقال حسن محفوظ: إذا كنتم خايفين كده، بتعملوا العملة دي ليه؟ - أهو يا محفوظ المقدر كده. - ما كنش عندكم عقل ساعتها؟!
فأجابه عبد النبي سليم قائلا: أنهي عقل بس اللي عاوزه؟ حد يكون في غيظه ويكون عنده عقل؟ إيه الكلام ده؟
فقال محمد يوسف: يا جماعة قولوا لي بس كنا يا ترى نسيبوهم يعملوا زي ما هم عاوزين والا إيه؟ ما ندافعوشي عن حاجتنا؟
فرفع محمد زهران لبدته من على رأسه، ونظر إلى السماء بعينين ملء جفونهما الدمع وصرخ: الله يخرب بيتك يا محمد يا شادلي، وييتم أولادك، ولا توعى تقوم من مطرحك، لإنك السبب في ده كله.
ثم خبأ وجهه في كفيه، وأخذ يبكي كالأطفال.
وفي هذه اللحظة أدرك الفلاحون خطورة موقفهم.
فقال محمد عبد النبي: آه ... يا خراب بيتي! مراتي بتطالع في الروح يا جماعة اعذروني ... يا ناس اعذروني.
فخرج من صدر كل من كان حاضرا تنهد عميق وسكتوا كأن على رءوسهم الطير.
فقال - بعد هنيهة - حسن محفوظ: يا جماعة دبرونا رايحين نعمل إيه؟ - نعمل إيه يا عم محفوظ؟ عملنا أسود على راسنا، بكرة يودونا في داهية.
فاقشعر بدن الجميع لهذه الجملة.
وكان بين المجتمعين شيخ في حدود التسعين من عمره مقعد، فقال لهم: اسمعوا يا ولادي كلامي واقبلوا نصايحي.
فصرخ الجميع: اتكلم يا عم الحاج عمران.
فاعتدل الشيخ وتربع جيدا ثم قال: اللي فات مات، وأنتم معذورين قدام الدنيا كلها، ولكن لو خدوا رأيي لكنت أول شيء أحكم على محمد الشادلي بالحرق؛ لأنه هو السبب، على شان لو كان قال للمديرية من السنة اللي فاتت عن شكوتكم ما كنش حصل اللي حصل النهاردة، ولكن كل شيء مقدر واللي مكتوب على الجبين تراه العيون، فأحسن حاجة تنقوا عشر تنفار منكم يسافروا بكرة في المديرية، ويقولوا على المسألة من طأطأ لسلامو عليكم.
وما كاد الشيخ ينتهي من كلامه؛ حتى قدم رجل وقال لهم: يا ويلنا ... يا ويلنا ... إنتم ما سمعتوش الخبر؟
فارتجفت أعضاء المجلس وتطاولت أعناقهم وقالوا كلهم: لأ، خير خير، قول قول! - واحد من الإنجليز اللي ضربناهم مات.
ولما سمعوا كلامه نزلت أعناقهم على صدورهم وسكتوا. فقال عم الحاج عمران: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! كل شيء بإرادته، كل شيء بحكمه.
فصرخ محمد زهران وقال: اتكلم يا حاج عمران، نعمل إيه، قول لنا العمل إيه؟ - المسألة أكبر من الأول، والمصيبة رايحة تنزل على دماغنا كلنا.
وكان لعم الحاج عمران منزلة كبيرة عند أهل بلده؛ فهم يحترمونه ويعتمدون على أفكاره وآرائه، فلما قال جملته الأخيرة اسودت الدنيا في أعينهم، فبكت الرجال، وولولت النساء، وحكموا على أنفسهم بأنهم كانوا غلطانين، وتندموا على ذلك كثيرا، وأعقب هذا الانفعال النفساني سكوت كبير.
وبعد هنيهة تحرك الحاج عمران من مجلسه قليلا ثم تنهد وقال لهم: مافتكرتوشي يا ولادي في النتيجة؟ ليه تعملوا كده ليه؟
فقال محمد المؤذن: نعمل إيه يا عم عمران إزاي؟ بقى لهم خمس سنين بييجو يقتلوا الحمام ويحملوه في زكايب وبعدين نعيش منين؟ أنه عدل يقول كده؟ هم حكام مصر ما فيش في عينهم نظر؟ بكرة لما يسمعوا حكايتنا يرأفوا بحالنا ويبرءوا ساحتنا.
فضحك عم الحاج عمران وقال: اللي بتقوله ده في المنام يا محمد، فين العدل اللي في مصر! إذا كان فيه عدل - زي ما بتقول - كان تهجم على بلدك الإنجليز ويصطادوا حمامكم، ويموتوا نسوانكم، ويحرقوا جرنكم، كان العدل زمان يا ابني زمان. - وتفتكر إيه اللي يعملوه فينا؟ - يعملوا كل شيء يقدروا عليه. - مين هم؟ - الإنجليز. - طيب وحكامنا رايحين يسيبوهم يعملوا فينا اللي عاوزينه؟
فتبسم الشيخ وتنهد وقال بعد أن هز رأسه (أيضا): والله علمي علمك يا ابني.
فقال حسن محفوظ: يالله كل واحد يروح بيته واللي في علم الله يكون، فقاموا بدون أن يسلموا على بعضهم خلافا للعادة. •••
وبينما كان الجمع في المحادثة المتقدمة، كانت «ست الدار» جالسة بجانب أحمد زايد في الجهة الثانية، وجرت بينهما المحادثة الآتية بدون أن يلتفت إلى غيابهما أحد؛ لانهماكهم في تقرير ما سيجيء به غدهم.
قالت ست الدار: عاوز مني إيه يا أحمد يا زايد؟ بس قول عاوز إيه؟ - أنا عاوز حاجة كبيرة، أنا عاوز أتجوزك على شان أني بحبك جوي! جوي! جوي! - بس إزاي أتجوزك وأنا مكتوبة الكتاب؟ - اسمعي بقه: تقولي لأبوك إنك منتش عاوزة محمد العبد. - إزاي وأنا عاوزاه؟! - تعرفي شغلك. - بس إيه العداوة دي يا أحمد؟
فتبسم الخبيث وقال لها: بقه إحنا في الجد ... وإن ماكنتيشي رايحة تتجوزيني أنا رايح أبلغ اسم أبوك في المديرية وأقول: إنه هو اللي ضرب الإنجليز. - يا دهوتي! منك لله! عاوز توديه في داهية! يا شيخ خاف من ربنا واتقي الله ده كان في الغيط. - أخاف ما اخافشي ده موش شغلك، أنا عاوز أتجوزك وشاوري عقلك. - في عرضك يا زايد ... في طولك يا أحمد ماتخربشي بيتنا ... - أهو إذا كنت عاوزة إنه يتخرب عانديني. - لأ لأ! أتجوزك واعمل معروف ما تبلغش عن اسم أبويه. - اتفقنا. - خلاص. - بس رايحة تقولي إيه؟ - أقول لأبويه إني عاوزة أتجوزك. - بس قولي كده، وأنا علي الباقي. - طيب.
وفي هذه اللحظة انفض اجتماع الأهالي، فقام حسن محفوظ وقال: يا ست الدار ... يا ست الدار ... - عاوز إيه يا أبويه؟ - يالله ندخل.
فهمس أحمد زايد في أذنها: يالله نقرا الفاتحة ...
فقرآ الفاتحة، ثم اتجهت جهة أبيها ودخلت معه، وقصت عليه هناك كل ما دار بينها وبين أحمد زايد من الحديث، فقال لها: أوعي تقولي لي كده وإلا موتك، ده ابن كلب خاين ولا تخافيشي علي، وبكرة أوريه شغله.
ثم أطبق الليل بظلامه على بلدة دنشواي، فجرى النوم في عيون أهلها كما جرى الشقاء عليهم، فناموا بليلة الملسوع.
الفصل الثامن
المحكمة المخصوصة
في الساعة العاشرة من صباح يوم 25 يونيو رفع الستار عن هيئة المحكمة المخصوصة، فتطلع إلى مشاهدة تمثيل هذا الفصل المضحك المبكي عشرة ملايين مصري، ونادى رجل غليظ الجسم قصير القامة بصوت جهوري: المحكمة المخصوصة، فقام كل الحاضرين على أقدامهم إجلالا واحتراما، فدخل سعادة بطرس باشا غالي وجلس على كرسي الرئاسة بعظمة وأبهة، ثم جلس إلى يمينه المستر هينز النائب عن المستشار القضائي، ثم فتحي بك زغلول، وإلى يساره المستر بوند وكيل الاستئناف، فجناب المستر لادلو بملابسه العسكرية وكان خالعا قبعته، وجلس إلى يسار الجميع الهلباوي بك المدعي العمومي، وبجانبه سعادة مدير المنوفية، وجناب مستشار الداخلية بصفة خارجة عن هيئة الجلسة الرسمية، وعلى اليمين جلس عثمان بك مرتضى على كرسي الكتابة.
ولما استوى الرئيس على كرسيه أجال نظره يمنة ويسرة فسره النظام، ثم حانت التفاتة فرأى أصحاب الجرائد ومكاتبيها جالسين بهيئة مضحكة؛ لأنهم كانوا متبايني الخلقة والوضع، وجميعهم قد مدوا أعناقهم كأنهم يريدون التهام أعضاء المحكمة بأنظارهم، ولما رآهم الرئيس قطب حاجبيه وظهر أنفه أكبر من حالته الطبيعية! أما المستر بوند فنظر إليهم وتبسم تبسما خفيفا، والغريب أن جناب المدعي العمومي لم يرفع نظره إليهم، بل اكتفى بالنظر في وجه المستر بوند كأنه يؤكد له في كل نظرة إخلاصه وولاءه.
وكان عثمان بك يهز رأسه من آن لآخر، ثم ينظر في الأوراق التي على مكتبته، ثم يجيل نظره في الحاضرين ويبتسم تارة، ويقطب تارة أخرى.
وبعد لحظة من جلوس الأعضاء نودي على المتهمين وهم اثنان وخمسون متهما، فكانوا حاضرين إلا سبعة.
والغريب أن اسم حسن محفوظ ومحمد العبد كانا ضمن أسمائهم، وذلك يدلنا على أن أحمد زايد هو الذي اتهمهما حينما أدرك خيبة مسعاه في زواجه بست الدار، والحق يقال: إن ثلثي المتهمين كانوا أبرياء، وما أدخلوا في موقفهم هذا إلا بوشاية أعدائهم الذين هم من جنسهم، وذلك كما أدخل أحمد زايد حسن محفوظ ومحمد العبد في التهمة.
وبعد ذلك قام كاتب المحكمة، وتلا قرار نظارة الحقانية بصوت عال، وجلس بعد أن ألقى بنظره إلى وجوه أصحاب الصحف ومكاتبيها.
وبعد جلوسه قام إبراهيم بك الهلباوي، وطلب من هيئة المحكمة أن تكلف أحد حجابها بمشترى لترين من الكولونيا ورشهما في أرض المكان لمنع رائحة القرويين المتهمين، ولأنه عصبي المزاج فلا يمكنه أن يتحمل شمها.
فقال له أحد الأعضاء: وأي جنس تريده؟
فقال الهلباوي بفصاحة: أتكنسون.
وعندما نطق بهذه الكلمة ضجت الناس بالضحك وخيل للمتهمين أن كلمة «أتكنسون» بند في القانون للعفو.
فاضطر سعادة الرئيس أن يطلب حفظ النظام.
ثم التفت إلى الهلباوي وقال له: ألا تعلم يا جناب المدعي العمومي بأنه لا يوجد في شبين الكوم «أتكنسون». - غريب، ألا يوجد عند الفلاحين روائح عطرية! - يوجد عند الفلاحين روائح، ولكنها غير المطلوب.
فقال أحمد بك حبيب عمدة الناعورة: عندنا يا حضرات الأعضاء رائحة اسمها «سنبل وخزامه» فهل توافقون على إحضارها؟
فأشار الرئيس برأسه إشارة الإيجاب، أما النائب العمومي فتضجر؛ لأنه لم يسمع بهذا الاسم في حياته! ولأنه من طفولته متعود على الأتكنسون.
وبعد ذلك وقف الهلباوي بعد أن أقسم بأن ينزل الصواعق على رءوس المتهمين؛ لأن رائحتهم سببت له عسر الهضم، فقال: أطلب من المحكمة سحق هؤلاء المتهمين أجمعين؛ لأنهم هجموا على الضباط وقتلوا الكبتن بول، وأصابوا باقي الضباط بجروح بليغة، وحيث إن هذا الجرم من الجرائم الفظيعة، فأرجو وأتوسل أن يكون الحكم عليهم بأشد عقوبة بعد سماع شهادة الشهود.
ولقد أثر هذا الطلب المخيف في المتهمين، حتى إنهم «عرقوا» من قسوته، فازدادت رائحتهم وازداد لذلك عسر هضم الهلباوي.
وبعد جلوس المدعي العمومي بدأت المحكمة في سماع شهادة الشهود، فجاء الشاهد الأول وهو الميجر بن كوفين قومندان الفرقة، وساعده الأيسر مرفوع إلى صدره، ولما وقف بين أيدي القضاة نظر في وجوههم قليلا وطلب أن يجلس؛ لأنه مريض، ولما جلس أمر الرئيس أن يعرض عليه المتهمون ، فعرضوا عليه واحدا بعد واحد، فكاد يضحك؛ لأنه لم يتذكر أنه رأى شبها من هذه الأشباه، وأوشك أن يقول ذلك لولا أن نظرة من نظرات أحد الجالسين على منصة الحكم أجمدت الكلمة بين شفتيه.
فقال الميجر في نفسه: وأي شيء يهمني؟ ومصر - كما قال عميدنا - بلاد العجائب والغرائب، فلا غريبة إن كانت أحكامها عجائب وغرائب.
ثم نظر بعظمة إلى المتهمين وقال في نفسه: أنا الحاكم المطلق في أرواحكم؛ فبكلمة مني أذهب بكم جميعا، وبكلمة مني أعيد لكم الحياة.
فسأله الرئيس بعد أن حلف اليمين: من تتهم بالتعدي عليكم؟ فسار الميجر بين صفوف المتهمين كما كان يسير بين صفوف جنده متأملا في وجوههم، فأول ما وقع نظره على عبد المنعم محفوظ رأى ذقنه كبيرة، فقال في نفسه: لأبلغن عن هذا الرجل عقابا له عن عدم حلقه ذقنه، ثم رأى محمد مصطفى محفوظ فبلغ عنه لأنه كان كبير البطن، وبعد ذلك نظر إلى محمد العبد فأعجبه قوامه فقال: إن هذا الشخص لم يكن موجودا، ثم نظر إلى محمد علي محمد وقال: ولا هذا الشخص ... لأنه كان طويل القامة ينفع أن يكون من عساكر الدراجون، ثم نظر إلى محمد درويش زهران فرأى وجهه كئيبا فأبلغ عنه أنه كان موجودا، وهكذا أخذ يسير بينهم، وحياة المتهمين بين شفتيه، حتى أبلغ عن الذين لم ترق هيئتهم في عينه وعفا عن الآخرين.
فقال له سعادة الرئيس: ماذا حصل لك يوم 13 يونيو؟ - خرجت أنا وباقي الضباط إلى الصيد في بلدة دنشواي، وما كدنا نصطاد حتى هجم علينا الأهالي وضربونا، وسلبونا، وقتلوا الكبتن بول. - ألم يكن لهذه العصابة رئيس؟
ففكر الميجر قليلا وقال: نعم كان لها رئيس. - أيمكنك أن تعينه لنا من بين المتهمين؟
فمشى الميجر بين صفوف المتهمين إلى أن وقف أمام محمد درويش زهران صاحب الوجه الكئيب وقال: هو هذا يا سعادة الرئيس.
فتبسم الرئيس وقال له: ثنكس.
ثم ذهب الميجر وجاء بعده اللفتننت سميث ويك، فحلف اليمين القانونية بغيظ شديد، ثم سأله الرئيس قائلا: ماذا حصل لك يوم 13 يونيو؟ - ذهبت مع الضباط للصيد، وفي أثناء ذلك هجم الفلاحون هؤلاء المتوحشون علينا وأخذوا سلاحنا وسلبونا وقتلوا الكبتن بول. - تتهم من بالتعدي عليكم؟ انظر في وجوه هؤلاء الأشرار.
فاضطرب اللفتننت وخفق فؤاده لأنه قادم على أمر جلل، فقال: أظن أني لا أعرف المتهمين لأنهم كلهم يشبهون بعضهم، وفي هذه المدة تغيرت هيئتهم وطالت ذقونهم.
فقطب أحد القضاة حاجبيه وقال له: قل بالتقريب.
فصدع اللفتننت بالأمر، وسار يمر على المتهمين، وعندما وقف أمام درويش زهران قال له أحد القضاة وقد خاف أن يمر عليه دون أن يخرجه: ألم يكن هذا رئيس العصابة؟ - نعم ... وزيادة على ذلك فهو الذي خطف مني البندقية، وكان يظهر على ملامحه ما يفيد أنه من رؤساء العصابة.
ثم سكت، ولما رأى البشر على وجوه القضاة قال: وإنه أيضا كان يحرض الناس على التعدي على الضباط. - فيري جود، تمم بحثك في باقي المتهمين.
فارتبك مرة ثانية، ولكنه أغمض عينه وأخذ يخرج من بين المتهمين ما شاء، وكان كلما أخرج واحدا يصف تهمته وصفا جليا كأنه يعرفه من سنين، والمدهش أن الشاهد لم يعرض عليه أحد من المتهمين وقال إنه لا يعرفه.
فتبسم له الرئيس ابتسامة أكبر من ابتسامة الضابط الأول، وقال له: ثانكيو.
ثم ذهب اللفتننت، وجاء بعده الكبتن بوستك فحلف اليمين، فسأله الرئيس: ماذا حصل لك يوم 13 يونيو؟ - فقال: كل إهانة، فإنهم ضربونا وسلبونا، وقتلوا الكبتن بول. - وتتهم من في هذا التعدي؟ - أتهم كل الموجودين. - بلا استثناء؟ - نعم، أعرفهم لو رأيتهم.
فعرضت عليه المحكمة المتهمين، فحذا حذو رفيقه فأخرج السيد العوفي، ومحمد إبراهيم عبد الحق، وسيد أحمد محمد موسى، وغيرهم ممن أوقعهم سوء الطالع بين يديه، ثم مر على زهران ولم يخرجه، فتضايق أحد القضاة وأشار له عليه وقال: ألم يكن هذا الشخص موجودا؟ - نعم كان موجودا.
ثم أشار على عبد الرازق وقال له: وهذا الشخص؟ - لا أعرفه، ولكنني أعتقد أن جميع المتهمين أهانونا، إلا أنني لا أتذكر إهانة كل واحد.
الرئيس: وإذا لم تتذكر عمل كل واحد فكيف تتذكر عمل المتهمين؟ - لا أدري.
فقطب أحد القضاة حاجبيه، ولكنه سكت كاظما غيظه، فأدرك الرئيس ذنبه، فقال له: لك العذر في ذلك.
ثم خرج وجاء بعده المستر بورتر، فحلف اليمين وسكت منتظرا سؤاله، فسأله الرئيس: ماذا حصل لك يوم 13 يونيو؟ - خرجنا للصيد فهجم علينا الأهالي فضربونا وسلبونا، وقتلوا الكبتن بول. - هل يمكنك تعيين المتهمين؟ - تعيين المتهمين هذا ليس في إمكان إنسان يا سيدي الرئيس. - لماذا؟ - لأنه لا يمكن معرفة المعتدين لطول الزمن، ولأن بعضهم تغيرت سحنتهم وطالت لحاهم. - ولكن فكر.
ثم نادى بالمتهمين المحصورة التهمة فيهم، فكاد يقول: إنه لا يعرفهم، إلا أن نظرة من منصة القضاء أوقفت الكلمة بين شفتيه، فهز المستر بورتر رأسه وشهد حتى قال: إنه واثق بأن الأهالي كانوا مصممين على الجناية.
فسأله الرئيس بلهفة: وما دليلك؟
فارتبك بورتر، ولكنه تشجع وقال: دليلي؟ دليلي؟ عدم وجود أطفال ونساء في الحادثة.
فهمس أحد مكاتبي الجرائد في أذن رفيقه وقال له: إذن كانت امرأة محمد عبد النبي في الجرن، وإن الإصابة حقيقة أصابتها وهي هناك، فالحريق إذن من نار الضباط.
فقال له الثاني: اسكت وإلا يأمر الرئيس بأن يأتي بورتر إلينا فيخرج منا من لا تعجبه هيئته، ويضمونا في عداد المتهمين.
فضحكا.
ثم التفت الرئيس إلى بورتر وقال له: هل انتهت أقوالك؟ - نعم.
ثم خرج ... وجاء بعده عبد العال صقر مترجم ودليل الضباط، ولما دخل هذا الشاهد لم ينس أبدا أن يؤدي التحية العسكرية، فجمع رجليه بجانب بعضهما ورفع يده بجانب جبهته، وقال باللغة الإنجليزية بدون أن يسأله أحد: وي لفت أون ثرتين جيون (أي خرجنا يوم 13 يونيو).
فصرخ فيه المستر بوند: ما هذا؟ ماذا تقول؟ أجب. - إني أشهد بالذي رأيته. - أتشهد بالإنجليزي؟ ولماذا؟ - لأن الضباط شهدوا بالإنجليزي. - ألا تعرف العربية؟ - أعرفها. - إذن احلف اليمين وتكلم باللغة العربية.
وفي أثناء هذه المحادثة ضج الحاضرون بالضحك، فطلب الرئيس حفظ النظام.
ثم التفت إليه الرئيس بعد أن حلف اليمين وقال له: قل ماذا رأيت؟ - رأيت كثيرا يا سعادة الأفندي، رأيت أن الأهالي هجمت على الضابط بورتر، وكان معهم شيخ الخفر والدنيا كلها، وأخذوا منه البندقية، وكانت المرأة معهم.
فارتاب المستر بوند في هذه الشهادة، فنادى المستر بورتر وقال له: حقيقة أن المرأة وشيخ الخفر هجمت عليك وأخذت البندقية منك؟ - كلا فهذا كذب، وزيادة على ذلك فإن عبد العال هرب وتركنا، ولم نعد نراه بعد الواقعة.
فاغتاظ عبد العال وقال: إني لم أهرب، ولكن بيني وبين جناب الضابط ضغائن حتى قال هذا الكلام.
فسأله المستر بوند عن هذه الضغائن فقال له: إنه مدين لي بعشر شلنات، وأبى أن يردها بحجة أنني كسرت اللمبة، ودائما يتهمني بأني أسرق الويسكي وأشربه، وهذه تهمة باطلة.
فتضجر الرئيس من هذه الشهادة وأمر بإخراجه، وعند ذلك طلب المستر بوند من الرئيس تأجيل الجلسة إلى منتصف الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي.
الفصل التاسع
القتل أنفى للقتل
وفي صباح اليوم التالي انعقدت الجلسة بهيئتها المتقدمة، فنودي على الأومباشي أحمد حسن زقزوق الذي كان مرافقا للضباط كحارس لهم، فدخل «يزيق» بجزمته مما استلفت أنظار الحاضرين، وبعد أن أدى التحية العسكرية حلف اليمين القانونية، فقال له الرئيس: ماذا حصل يوم 13 يونيو؟ - أنه 13 وونوه ده يا أفندي؟
فتبسم الرئيس وقال: ذلك اليوم الذي خرجت فيه مع الضباط للصيد. - الصيد يا سعادة الأفندي! وحياة النبي وراس سيدك السيد البدوي إني ما خرجت للصيد، ولا عمري ضربت البندجية. - إنت ما نتاش فاهم؟ - جول يا حضرة سعادة الأفندي. - يوم ما ضربوا أهالي دنشواي ضباط الإنجليز. - إيوه، إيوه جلت لي! يعني يوم ما ضربت الإنجليز الأهالي والأهالي الإنجليز؟ بجه صل على النبي، جت لنجليز هاجمة على البلد وداخلين «سرعتلي يورو» وجم يموتوا الناس، أنا كنت واجف «سلاح دمتلنه» ومستعد لخدمتهم، جمت شفت ضابط راح عامل «إيكي أدم إيللر» ومفرغ بندجيته، جامت طارت حريجة في البلد، جمت أنا صارخ فيهم «صاقك أول كاري آل» جام ما فهموش ندايا، جمت عملت «صوله باق» رأيت الخلج ماسكين في بندجية واحد من الضباط ، جمت زعيط من علصان، وعملت «حاز طور وسلام طور» وبعدين راسي وميت ألف سيف ما اسيبشي البندجية، فخلصتها من إيدين الفلاحين وردتها لأصحابها! - ومتى حصل الضرب والتعدي على الإنجليز؟ - إنت بتصدج سعادة حضرتك جول الناس الكدابين؟ دول كانوا بيهزرم مع بعض وعملوا المرماح وطأشوا بالخشب مع بعضهم. - قال حضرات الضباط إنك هربت وقت الحادثة، ويتضح من أقوالك الكذب، فأصدقنا بالحقيقة. - جالوا إني هربت وإنت حضرة سعادتك تجول إني كداب! وحياتك وفداها رجبتي أنا ما هربت، بالك تفتكر محمد سعيد السوداني اللي كان جاطع الجسر على الناس ومسكته الحكومة؟ أنا أكلت معاه إيدي بإيده، إزاي بجه أهرب النهارده؟
فضحك الرئيس واستغنى عن شهادة هذا الأومباشي فأمره بالخروج، ولما خرج تطاولت الأعناق إلى كرسي جناب المدعي العمومي، وأصغوا إلى ما سيقوله بتمام الإصغاء، أما جنابه فنظر في الحاضرين يمنة ويسرة، ثم استهل مرافعته قائلا: لا أدري أن شخصا يقف في مركزي الهائل العظيم لا يتمايل عجبا من هذه الثقة التي شرفتموني بها، فمكافأة على ثقتكم بي؛ أطلب لأبناء وطني وأولاد بلادي أشد عقوبة يتصورها العقل يا حضرات القضاة! وإذا قلت لحضراتكم: ارفعوا من قلوبكم كل رحمة؛ فلا أكون مبالغا حيال أخلاق أبناء وطني الشريرة، ومهاجمة أهالي دنشواي لسادتي ضباط الجيش الإنجليزي! الظروف غريبة يا حضرات القضاة، ووجودي في هذا المكان العظيم أغرب؛ رغما عن توبيخ ضميري لي مدة من الزمن، ولكنني تغلبت على هذه الفكرة، ولبيت مطامعي، وجئت لأكون آخر سهم ينفذ في أحشاء هذه الأمة الشريرة فتموت أبديا فنستريح وتستريحون، المسألة بسيطة أكثر مما تتوهمون حضراتكم؛ عن للميجر كوفين أن يذهب مع رفقائه إلى بلدة دنشواي لعلمه بوجود أبراج للحمام كثيرة هناك؛ فيلهوا بالصيد والقنص مدة ساعة أو ساعتين لا لطمع في لحمها أو شيء آخر، بل لمجرد اللهو فقط وصيد مائة أو مائتي حمامة، فهل تتجاسر الأهالي على إقلاق راحتهم ولو بكلمة واحدة؟! أيتجاسر فلاح جاهل على أن يتعالى ويكلم سيدا إنجليزيا؟ إن الكلام البسيط أعده - يا حضرات القضاة - جرما ، فما بالكم لو ضرب فلاح إنجليزيا؟ إني لا أكاد أصدق هذا أبدا. هل يتجاسر عبد النبي على القول في التحقيق بأنه لما رأى امرأته مضرجة بدمائها غلى الدم في عروقه فمسك البندقية رغما عنه! ما هذا الكلام! وهل قتل امرأة فلاحة وعشرة من أمثالها تستوجب أن يمسك البندقية في يد ضابط عظيم؟ إن ذلك ذنب كبير لا يغتفر! وافرضوا يا حضرات القضاة أن الضباط قتلوا جميع الأهالي، وأحرقوا جميع الأجران، وضربوا كل الحمام، فهل في ذلك ذنب عليهم؟ ألم تكن فكرة خروجهم إلى الصيد فقط لا القتل؟ ولقد جاء ذلك عرضا في لهوهم فعملوه ليزداد سرورهم! أفي سرور سادتنا كدر لنا؟ كلا وألف ألف مرة كلا.
قالوا: إن السبب الأول لهذه المعركة حريق الجرن، والثاني إصابة امرأة محمد عبد النبي والآخرين، وهذا كذب يا حضرات القضاة ظاهر؛ لأنه يتضح من تقرير نظارة الداخلية: أن حريق الجرن كان عمدا، وإصابة المرأة كانت بلا قصد من الضباط، وهب أنه كان يقصد، أيضرب الإنجليز لذلك؟ إن هذا منتهى الفظاعة! اغسلوا الدم بالدم يا حضرات القضاة! إن الكشف الطبي أثبت ثبوتا جليا أن موت الكبتن بول كان بضربة الشمس، إلا أن ذلك لا ينفي أنه أهين وضرب.
أنتم لا تعرفون المصريين يا حضرات القضاة، هم أشر قوم جبلوا على الشرور وإتيان كل منكر، قوم لا يستحقون الرحمة أو الشفقة، قوم سود الله وجوههم من الكذب والنميمة! خذوني مثالا يا حضرات القضاة واحكموا!
أنا نشأت فقيرا معدما، فلاحا قرويا من عائلة كأمثال حسن محفوظ ومحمد عبد النبي، فقدر الله لي الدخول في الأزهر، فتعلمت ما جعلني مرموقا من رفقائي، ولا أنسى أني طالما أمضيت الأيام أنحت الخشب من الجوع، ثم رفعني الله إلى الهيئة الاجتماعية فبهرتني رؤيتها، وقليلا قليلا اشتهر اسمي بين أبناء بلادي، فساعدوني المساعدات الجمة، فصرت ألبس الحرير بعد الخيش، وآكل «العيش الفينو» بعد «الحندويل»، وكل ذلك بعناية مواطنين وثقتهم بوطنيتي وحبي لبلادي، انظروا يا حضرات القضاة إلى موقفي الآن، وخذوا بذلك مثالا ، انظروا كيف قبلت هذا الموقف بسرور، ومرقت بسهولة عن وطنيتي، واحتقرت مبدئي، وصرت نارا حامية على بلادي أطلب لأبنائها الإعدام والسحق، فكيف حكمكم على شعب أنا واحد منه؟ أتحترمونه بعد أن سمعتم قصتي، وعرفتم مقدار شعوري وإحساسي نحو هذه البلاد التعيسة! وبدون طويل دفاع: أطلب من المحكمة سحق بلدة دنشواي بأجمعها، والحكم بإعدام جميع المتهمين ذوي الرائحة الكريهة.
ثم ختم مرافعته بتمجيد المحتلين، والمدح والإطراء الشديد في الضباط، ووصفهم بما لا يصف الإنسان الملائكة، ثم قعد مزودا بنظرات التذمر والاشمئزاز.
وبعد دقيقة، قام محمد بك يوسف المحامي عن بعض المتهمين وقال: المصري يفتخر يا حضرات القضاة بأن يكون قواصا أو مستخدما عند إنجليزي، فما بال القوم تجاسروا وضربوا الإنجليز، وقتلوا واحدا من أشهر ضباطه؟! المسألة عظيمة وكبيرة، ولا أرى لموقفي لزوما غير أني مجبر على طلب البراءة لهم أجمعين، والأمر مفوض، أفندم.
ثم قعد وقام بعده أحمد لطفي بك السيد وهز كتفيه مرتين وقال: إن هذه الحادثة لا تعتبر يا حضرات القضاة جريمة قتل بعمد أو ضربا أفضى إلى الموت، بل اعتبروها سرقة بإكراه، وطبقوها على مواد القانون لينالوا جزاء ما جنت أيديهم، ثم قعد بعد أن فوض الأمر للمحكمة! فقال أحد القضاة متهكما: لقد نسي حضرة المحامي أنه في موقف الدفاع عن المتهمين ففكرنا بعقوبة غابت عنا، ولم يتذكرها المدعي العمومي، ثم التفت إليه وقال له: ميرسي.
وبعد ذلك وقف إسماعيل بك عاصم، ورفع يديه وقال بصوته الجهوري الجميل: بول! بول! رحمة الله عليك يا مستر بول، وعوض الله الأمة الإنجليزية فيك خيرا، يا مستر بول عليك الرحمة والرضوان، فإلى الجنة، إلى الجنة يا خير الضباط أجمعين، اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، أدخل عبدك وابن عبدك الخواجة بول ابن آدم وحواء في جنات خلدك، إنك على كل شيء قدير.
ثم التفت إلى المحكمة وطلب براءة المتهمين!
فغطى أحد القضاة وجهه بمنديله، وأخذ يضحك من هذا الدفاع ... وانتهى الدفاع بمثل ما قدمنا.
ثم جلس حضرته، وبعد ذلك أخذ الرئيس يسأل كل متهم عن تهمته حتى أتم سؤال جميع المتهمين في مدة نصف ساعة كانت في أسئلة ومدافعة.
وبعد ذلك دخلوا في غرفة المداولة.
ولما استووا هناك على كراسيهم، وضع أحدهم صورة الحكم وأنواع العقاب، وأعطاها للرئيس فأخذها ثم عرضها على الباقين، وبدون أدنى مناقشة وافقوا عليها ...
وبعد ذلك خرجوا من الغرفة إلى الجلسة، وهناك قرأ الرئيس صورة الحكم بصوت جهوري، ولكن العرق كان يتصبب من وجهه فقال: وحيث ... وحيث ... وحيث ... وحيث ... وحيث ... وحيث ... وحيث ... وحيث إن المحكمة قضت ثلاثة أيام تسمع فيها هذه الدعوى، وشهادة الشهود، وأقوال المتهمين والدفاع عنهم، وقد ثبت لها أن المجرمين في هذه الحادثة هم: فلان وفلان وفلان ... إلخ.
فلهذه الأسباب.
وبعد الاطلاع على المواد 4 و5 و6 من الأمر العالي الرقيم يوم 25 فبراير سنة 1895.
حكمت المحكمة حضوريا حكما لا يقبل الطعن ولا الاستئناف.
أولا:
على كل من حسن محفوظ، ويوسف حسين سليم، والسيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران، بالإعدام شنقا بقرية دنشواي.
ثانيا:
بالأشغال الشاقة المؤبدة على كل من: محمد عبد النبي المؤذن، وأحمد عبد العال محفوظ.
ثالثا:
بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة على أحمد أحمد السيسي.
رابعا:
بالأشغال الشاقة لمدة 7 سنوات على كل من: علي سمك، وعبده البقلي، وعلي علي شعلان، ومحمد مصطفى محفوظ.
خامسا:
بالأشغال الشاقة لمدة سنة، وبالجلد خمسين جلدة على كل من: حسن إسماعيل السيسي، وإبراهيم حسنين السيسي، ومحمد السيسي، وأن يكون الجلد بقرية دنشواي.
سادسا:
براءة بقية المتهمين.
وبعد أن فاه الرئيس بالحكم ضجت المحكمة من شدته، وخرج المتهمون يطلبون العدل بعد أن كانوا يناشدونهم الشفقة!
وكان محمد العبد ضمن المتهمين، فأفرج عنه فخرج وهو لا يصدق بالنجاة، وأول شخص صادفه كانت ست الدار.
فسألته بلهفة: إيه اللي حصل يا محمد؟ فين أبويه؟ - آه يا ست الدار ... اللي حصل ما يتعاد. - قول لي يا محمد عملوا إيه في أبويه. - اصبري يا أختي. - حبسوه؟
فاغرورقت عيناه بالدمع وقال لها: يا ريت يا أختي . - آه يا خويه، إيه اللي عملوه فيه؟ - حكموا عليه بالشنق. - الشنق؟ يموتوه؟ يا دهوتي يا بويه! آه يا جملي يا بويه! يا خراب بيتنا من بعدك يا بويه! آه يا بويه! يا مظلوم يا بويه!
ثم وقعت الفتاة مغشيا عليها.
فوقف على رأس خطيبته - وهي ملقاة على الأرض - وأخذ يقلب كفيه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله إنهم مظلومين، ونص المحكوم عليهم كانوا غايبين.
وبينما كان الشاب غريقا في همومه إذ فتحت الفتاة عينيها، وجالت بنظرها يمنة ويسرة ثم صرخت: يا دهوتي ... ووقعت على الأرض ثانية وهي في حالة الموت.
الفصل العاشر
التنفيذ
الرحمة فوق العدل.
هيجو
أيتها السماء ... أوحي إلى الشمس أن تقف في موقفها فلا تتحرك، وإلى البحار أن تسكن، وإلى النسيم فلا يهب، وإلى الطيور فلا تغرد، ويأيتها الكواكب انظري، وأنت أيتها الأرضين اشهدي كيف يكون تفنن الإنسان في إزهاق روح أخيه الإنسان!
كأن الشمس قد ألقت على بلدة دنشواي التعيسة في يوم 28 يونيو أشعة من نار وجحيم فوق مستطيل كبير محاط بجنود المحتلين شاهرة السلاح، وعلم الموت الأحمر مرفرف عليه.
هناك في هذا المستطيل المحددة أركانه بالباس الشديد الماحق، وذلك المكان المشئوم الذي حصلت فيه المعركة الأولى، رفعت آلة الموت الجهنمية (المشنقة) بمنظرها البشع، وبتركيبها المرعب، ناطقة بحروف حمراء موضوعها «القتل أنفى للقتل» والدم يغسل الدم، وليس فيه للرحمة مجال.
هناك في هذا المستطيل المغطاة أرضه بالقسوة، والمحددة أركانه بالشدة والصرامة، أقيمت آلة الصلب والتعذيب.
هناك في هذا المستطيل المخيف، وضعت ثلاث خيام جعلوا إحداها لتغسيل وتكفين المشنوقين، والثانية بمثابة سجن مؤقت للمعدمين، والثالثة للمحكوم عليهم بالجلد.
ففي الساعة الأولى بعد ظهر ذلك اليوم المشئوم جاء المتهمون يرسفون في السلاسل والأغلال، ومن حولهم جنود «الدراجون» يخفرونهم، كانوا يحملون البنادق خلف ظهورهم، والسيوف مسلولة في أيديهم. فكان منظر الموكب يدل على الرغبة في التمثيل بأولئك المساكين.
وفي الساعة الواحدة والنصف تماما، وقفت عربة على باب المستطيل، فنفخ «البروجي» في بوقه، فأدت الجند التحية للقادمين.
وهنالك في تلك الساعة في وسط المتسع بين آلة الموت وآلة التعذيب، وقف أولو الأمر بغير اكتراث يضحكون ويتسامرون، كأنهم في حفلة «سينما توجراف» والذي سيشاهدونه خيال في خيال!
هنالك على بعد خمسين مترا من المشنقة، وقفت النساء والرجال، والعذارى والأولاد فوق بيوتهم، فجذبت تلك الآلة الجهنمية إليها أنظارهم وحواسهم، فجمدت أبصارهم وتشنجت أعصابهم، فلم يكونوا أن يحولوا نظرهم عنها.
هنالك في تلك اللحظة تجلت الطبيعة بأبهة الجلال على بلدة دنشواي لتنظر إلى عمل الإنسان!
رب ما أحوج الإنسان إلى رحمة الإنسان!
ثم نودي على أول مشنوق وهو حسن علي محفوظ، فغصت الأفواه بريقها، واضطربت النفوس في جوانبها خوفا وفزعا من رؤية التمثيل الشنيع، وأديرت الأنظار هربا من مشاهدة ذلك العذاب الأليم.
فسار الرجل بقدمين ثابتتين، وهو تارة ينظر إلى المشنقة، وأخرى إلى آلة التعذيب بذهول كبير، فضحك أكبر الحاضرين مقاما وقتئذ من ذهول الرجل الذي هو على حافة القبر، وشر البلية ما يضحك!
ولما مثل بين أيديهم قرأ مدير المنوفية عليه حكم الإعدام، فتقدم إلى أولي الأمر شاب، خافض الرأس، معفر الوجه بالتراب، مقرح العينين، وطلب منهم بتذلل أن يسمحوا له بمقابلة أبيه المعدم؛ ليسمع وصيته الأخيرة، وينال رضاه وبركته، فانتهروه وطردوه، وأبوا عليه هذه الأمنية المقدسة، فرجع الولد مكسور القلب باكيا لاطما وجهه بيديه، وفي أثناء ذلك سمعت ولولة وبكاء وصياح فتطلع الرجل فرأى، ويا هول ما رأى! رأى امرأته واقفة فوق بيته تحدق فيه النظر بعينين ملؤهما الدمع المحبوس، ثم صرخت - عندما نظر إليها - صرخة اتصلت بعنان السماء وقالت: ارحمونا يا ناس يرحمكم الله!
ثم رأى بجانبها ست الدار حاثية التراب على رأسها مسودة به وجنتيها، وكانت عيناها الجميلتان مقروحتين، وقد جذبتهما تلك الآلة الجهنمية بمغناطيس الحب الأبوي، ثم رأى بين زوجته وابنته ثلاثة أطفال لا يزيد عمر أكبرهم عن الأربع سنوات يبكون ويصيحون بدون أن يعرفوا سبب هذا الحزن، وبجانبهم ولد صغير يبلغ الثامنة من عمره يبكي بكاء مرا.
ولما نظر حسن محفوظ إلى عائلته - وهم في تلك الحالة التعيسة - أحنى رأسا لم تحنه الأيام، ودمعت عيناه ولم تكن تدمعهما الرزايا، ثم حول وجهه نحو باقي المساكن فشاهد الحال واحدة والمصاب عاما، فكاد يجن من اليأس.
وفي تلك اللحظة سمع عواء شديدا، فلفت وجهه وقد حن قلبه إلى هذا العواء، فرأى كلبه «سبع الليل» يجري ويخبط رأسه في قوائم ذلك المستطيل المنكود، ولقد دمعت عين الحيوان ولم تأخذ الرحمة قلب الإنسان!
ولما انتهى المدير من قراءة الحكم استلم المشنوق جنديان، وكان لون وجههما أصفر كلون الموتى، والتأثير باد على محياهما وهما يبكيان، فسلماه إلى عشماوي، فأوثق يديه وصعد به إلى المشنقة.
وهنالك في تلك اللحظة تعالت الأصوات بالعويل والبكاء حتى ضجت ملائكة السماء، وصرخت الأرض بما فيها من حيوان ونبات وجماد: إلهنا إلهنا! ارحم المظلوم وأشفق على أولاده، فالرحمة فوق العدل!
ولما استوى المظلوم فوق المشنقة ورأته زوجته عيانا، صرخت صرخة دوت في ذلك السكون الرهيب وقالت: آه يا زوجي، آه يا جملي، آه يا خراب بيتك يا محفوظ، رايح فين وسايب أولادك وأولاد ولادك لمين؟
فاقشعر بدن الرجل من هذا الصوت الحنون المؤثر.
ثم سمع ابنته ست الدار تصرخ بصوت يفتت الكبد ويدمي القلب وتقول: آه يا بويه، يا خراب بيتك يا بويه، يا مظلوم يا بويه، آه يا معدوم! يا جملنا رايح فين وسايبنا لمين؟!
فغشيت الرجل غمامة من اليأس، وصعد الدم إلى وجهه، وأظلمت الدنيا أمام عينه.
ثم سمع ولده الصغير وهو يقول: ما لك يا امه بتعيطي على بويه وهو واقف أهو قدامنا على الخشبة دي، أنا باحسبه إنه سافر، شوفي شوفي أهو قدامنا، ورايح يجي لنا دي الوقت.
ثم صرخ يخاطب أباه قائلا: تعال يا بويه تعال سكت أمي أحسن بتعيط عليك، تعال يا بويه تعال احنا عاوزينك رايح فين؟ وليه واقف كده؟
فاندك قلب الرجل لهذا الصوت العذب المؤثر، وضج الحاضرون بالعويل والبكاء، حتى إن عشماوي مسح عينه بكمه.
ولما سمعت امرأته صوت ابنها اليتيم وقعت أمام أعين زوجها مغشيا عليها كأن رؤية عميد بيتها وزوجها المحبوب على المشنقة لم تؤثر فيها تأثير تلك الكلمات!
فلطمت ست الدار وجهها الذي كان مسودا بالنيلة والتراب، وأكبت على أمها تقول: آه يا امه إوعي تموتي! وبعدين تسيبونا لمين؟
وكان بجانبها خطيبها محمد العبد، فضمها إلى صدره والدموع الغزيرة تنهمل من عينيه، وأخذ يعزيها على هذه المصيبة.
فوقف شعر حسن محفوظ من هول هاتيك المناظر، ثم التفت إلى بيته العزيز، وعائلته التعيسة، وكلبه الأمين، وقال مشيرا إليهم بيد مرتعشة ولسان قوي: الوداع، الوداع يا أولادي الوداع، الوداع يا بيتي ويا بلدتي، الوداع يا ست الدار، الوداع يا كلبي الأمين، ولكم رب اسمه الكريم، ولكن أحلف لكم وأنا على المشنقة أني مظلوم الله، يخرب بيتك يا أحمد يا زايد الله يخرب بيتك. ثم خنقته العبرات عندما رأى ست الدار وقعت مغشيا عليها بين ساعدي خطيبها، ففتح فاه ليشجعها، ولكن في هذه اللحظة هبط عزرائيل بجيوشه فاستقبله عشماوي، وكانت يده أسرع من لسان حسن محفوظ، فحرك اللولب ... فهوى الرجل ميتا وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله.
وعند ما هوى، صرخ ابنه صرخة قوية: أبويه وقع! أبويه وقع!
ففتحت امرأة المشنوق عينيها، فرأت زوجها مدلى بين الأرض والسماء، ووجهه جهتها، ولسانه تدلى فوق لحيته البيضاء، ومنظره رهيب مخيف، فأغمضت المرأة ثانية عينيها، وراحت في إغماء شديد.
وعند ذلك ارتفعت الأصوات بالبكاء، وتأثر كل من كان حاضرا بهذا المنظر المؤلم.
وبعد دقيقة جيء بإسماعيل السيسي، فقرأ عليه المدير حكم الجلد بخمسين جلدة وهو لاه عن سماع العقاب بالنظر إلى جثة المشنوق، وكانت فرائصه مرتعدة تأثرا من فظاعة هذا العمل، ثم تناوله الجنود وجردوه من ملابسه، ثم صلبوه على آلة التعذيب، وجعلوا ظهره وجهة المساكن لتتمكن الأهالي من رؤية الضرب كما تمكنوا من رؤية الشنق، وبعد ذلك أخذ الضارب يلهبه بسوط ذي خمس شعب مجدولة، وفي نهاية كل شعبة عقدة من نار، فكانت كل ضربة تجمع الدم في موضعها متجمدا مكمدا ، وكان يبدأ بالضرب مما يلي؛ قفاه وهو نازل على العمود الفقري، ثم فصاعدا إلى مبدأ الضرب، وبعد عشرين جلدة جهنمية أخذ جسم المعذب يرتعش بشدة ارتعاشا هائلا ثم خمدت أنفاسه، وأغمي عليه إغماء الموت. وبعد الخمسين جلدة أنزلوه من فوق الآلة، وأخذه الجند إلى رفقائه في الخيمة ليروه فيتضاعف بذلك العذاب.
وبعد لحظة جيء بإبراهيم حسنين السيسي، وأول ما وقع نظره على شيء رأى المشنوق «عم حسن محفوظ» مكمد الوجه ومعلقا في حبال المشنقة، فطأطأ رأسه أمام القوة القادرة وقال في نفسه: والله مظلوم يا عم محفوظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبينما كان سارحا في بيداء الأفكار إذ سمع صوت المدير يتلو عليه صورة الحكم بالجلد، فامتثل المسكين صاغرا، وكما مثلوا بالأول مثلوا بالثاني حرفا بحرف وضربة بضربة.
وبمثل هذه الشدة وفظاعة التمثيل نفذت الأحكام على المتهمين أمام نظر أهاليهم بحال فظيعة سودت تاريخ القرن العشرين. وفي الساعة الثانية والنصف من ظهر ذلك اليوم المنحوس أسدلت الستارة الأخيرة على هذه الرواية المدهشة بعد أن تركت في كل بيت من بيوت بلدة دنشواي مأتما يندبون فيه ميتا أو سجينا أو مجلودا.
دنشواي! دنشواي! لقد صار اسمك مخيفا، وذكرك مرعبا، فسامحيني إذا ودعتك الوداع الأخير.
دنشواي ... دنشواي ... لا تظني أيتها البلدة التعيسة أن المصري ينسى نكبتك وما تحملته من ضروب الشقاء، ولكن ماذا يعمل هذا المسكين؟
دنشواي، دنشواي، ليكن اسمك مخلدا، ولكن أي تخليد؟ ولا تنسي أن تقصي على أبنائك في الأجيال الآتية ما حل بك، ليعرفوا مبلغ تمدن القرن العشرين تحت سيطرة الإنجليز.
دنشواي، دنشواي، لا قدرة لي على عزائك، ولا شيء عندي أهديه إليك تذكارا مؤلما لهذه الكارثة غير مداد قلم كاتب سطر حوادثك في قالب قصة جعلها هدية إلى «عشماوي» جلاد مصر الذي قبض أربعا من أرواح أبنائك ببساطة وسهولة.
دنشواي، دنشواي، إني أتجاسر فأقف تحت سمائك، وأركع بين أجرانك يرفرف علي حمامك الذي سبب إلى الأبد أحزانك، وأطلب من الله لك العزاء، ولأهلك الرحمة والرضوان.
Page inconnue