وكان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وهذه حقيقة لو لم يؤيدها لسان المقال لأيدها ما يسمونه بلسان الحال. فإن أبا بكر كان ألزم الناس للنبي وأعرفهم بسره وجهره وأقربهم إلى ثقته وحسن رأيه، وكان النبي عليه السلام يسمر عنده في شئون المسلمين ويركن إلى مشورته في كثير من الأحايين، وإذا بلغ من شأن رجل أن يكون أحب الناس إلى النبي عليه السلام فهو أهل لحبه وأهل لثقته لا مراء؛ لأن هذا الحب في النفوس العظيمة قرين الثقة والتقدير لا يخلو منهما ولا ينفصل عنهما، فمن استحق منها الحب الراجح فقد استحق عندها الثقة الراجحة في آن.
فلم يكن حب النبي أبا بكر حب الرجل يجزي به من يحبه ويخلص له ويوليه الجميل من ذات نفسه وماله ثم لا مزيد. ولكنه كان كذلك حب الرجل من يستحق منه الحب لفضيلته وكفايته واقتداره على معونته فيما تجرد له من عمل عظيم لا يضطلع به كل معين.
وحين قدمه للإمامة من بعده لم تكن وسيلته إليها حب الإخلاص والجزاء، بل كانت وسيلته إليها حب الثقة والروية وحب الدعوة التي تجرد لها وحب المسلمين الذين آمنوا بتلك الدعوة. فإن نبيا كمحمد عليه السلام لا يجعل مستقبل دينه مكافأة لصداقة إنسان، وإنما يكل هذا المستقبل لمن هو أهل لأمانته وأقدر على صيانته، وهو من أجل ذلك أهل للحب وأهل للبقيا والادخار.
أما حب أبي بكر محمدا فهو كما قدمناه حب الإيمان والإعجاب والولاء، وهو الحب الذي تهون فيه على المرء نفسه وماله وذووه، وينزعه من ماضيه ليستولي على حاضره كله وما هو أعز عليه من الحاضر وما فيه، وهو الأمل فيما يشهد والأمل فيما وراء الغيب، بل الأمل في حياة لن تبيد.
فمنذ اللحظة التي انعقدت فيها الصداقة بينهما رضي الصديق الأمين أن يسخو في سبيل هذه الصداقة بكل نفيس عنده وكل أثير لديه وأنفق ماله وفارق وطنه وأبناءه وهاجر من مكة مخاطرا بحياته، فما همه وهو محفوف بالخطر في طريقه إلا صاحبه الذي معه يفديه بما وسعه من فداء؛ ليسبقه تارة ويخلفه تارة أخرى ليدرأ عنه الشر من حيثما توقعه واتقاه، ثم يقيم على هذا العهد ما أقام في دنياه، غير باخل بعزيز، ولا ناكص عن محذور ولا نادم على مبذول أو مفقود.
ومن فضول القول أن يقال: إنه أقام على عهده هذا بعد موت النبي، كما أقام عليه طوال حياته، فكل حركة تحركها وكل كلمة قالها شهيد بذلك له عند من ينصف ويعقل، بل عند من يعقل ولو لم يكن من المنصفين.
إذ ليس من العقل أن يقدح قادح في ولاء الصديق للنبي بما حرم فاطمة رضي الله عنها من ميراث أبيها. فلئن حرمها لقد حرم عائشة مثلها؛ لأن الأنبياء في شرعة محمد لا يورثون، وما أراد أبو بكر أن يضن بميراث محمد على وارثيه ومنهم بنته وأحب الناس إليه، ولكنه أراد أن يضن بدينه ويضن بوصاياه، وهي أولى أن تصان من المال ومن البنين، كذلك لا يقال: إنه حرم عليا رضي الله عنه حقا في الخلافة، فما كان في وسعه أن يحرمه شيئا لو كان عليه السلام قد وصى له بشيء، وما كانت فاطمة بغائبة عن سرير أبيها في مرض موته فيقال: إنهم قد كتموا عن النبي بعض ما قال، ولا كان علي بالذي يعوزه المنطق لو أنه أراد البرهان من القرآن الكريم أو أراد الحجة من الحديث الشريف. ومن أين لأبي بكر تلك القوة التي ينتزع بها الخلافة انتزاعا من آل النبي ومن الأنصار والمهاجرين بغير حجة وبغير برهان؟ لئن استطاع ذلك غير محتال ولا مغتال ولا سافك دم لكفى بذلك آية له أنه أحق المسلمين بولاية أمر الإسلام وأقدرهم عليها، وما استطاعه بعد ذلك من تثبيت الدين وقمع الفتنة وافتتاح الدولة لهو الآية بعد الآية والتمكين فوق التمكين.
لقد حدث بعد النبي ما لا بد أن يحدث، وما ليس بكثير أن يحدث في موقف مقتضب لم يمهد له بسابق متبوع ولا بقدوة مأمومة، فتأخر علي على المبايعة أشهرا وقيل: إنه لم يتأخر غير أيام بل ساعات، فلا هو ولا أبو بكر صنعا ما يعاب في هذه الفترة طالت أو قصرت؛ لأن أبا بكر كان يندب عليا للمهمات في حراسة المدينة وعلي كان يلبي ندبة أبي بكر تلبية الصدق والنجدة. ولو صح أن أبا بكر أخفى حقا يشينه إخفاؤه لما أقر علي له ببيعة، ولا رضي له ولا لمن بعده بصحبة، فكيف لو صح ما تهوس به بعض المتهوسين من إخفاء آيات من القرآن أو كلمات من الحديث؟
Page inconnue