قال بعد مبايعته بالخلافة: «إنما أنا متبع ولست بمبتدع»، فجمع إسلامه أجمع صفة وأحسنها في هذه الكلمات.
وربما عرض له من الأمر ما ليس يتضح فيه طريق الاتباع، فيخرج إلى الناس يسألهم ثم يقول: «الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا سنة نبينا.»
فلا يبتدع إلا بعد استقصائه كل مرجع من مراجع الاتباع.
وفي هذا هو شديد غاية الشدة، بعيد من اللين والهوادة غاية البعد، وهو الرجل الذي اتسم في حياته كلها باللين والهوادة.
فتصديق المؤمن وإعجاب المعجب ببطله العزيز عليه، هما تفسير كل شدة يشتدها الصديق الحليم الودود.
هو شديد في تسيير جيش أسامة؛ لأن النبي عليه السلام ولاه وأمر بتسييره، وما يكون له أن ينزع رجلا استعمله رسول الله «ولو تخطفته الذئاب ولم يبق في القرى أحد غيره.»
وهو شديد في حرب الردة؛ لأنه لا يترك عقالا كان رسول الله يأخذه من المرتدين.
وإذا رأيناه يتردد بين الهوادة والشدة في محاسبة بعض الناس، فالشدة التي مرجعها التزام جادة الرسول والاقتداء بقدوته في كل شيء هي أقرب التفسيرين إلى فهم عمله، وهي أغلب في طبعه من اللين والهوادة، على اشتهاره بهما في كل ما عدا ذاك.
فالهوادة ليست هي التي تفسر لنا عمله في ترك جزاء خالد بن الوليد على البناء بامرأة مالك بن نويرة، والبناء ببنت مجاعة في حرب بني حنيفة وتوزيع الأموال وتأخير الحساب، وإنما الذي يفسر لنا هوادته معه أنه سيف من سيوف الله، ولا يعزل أبو بكر من استعمله الرسول وله مندوحة عن عزله.
ويتبين لنا مناط الشدة واللين عنده في جناية واحدة استصغر فيها العقوبة على امرأة واستكبر العقوبة نفسها على امرأة أخرى، وذلك إذ كتب إليه المهاجر بن أبي أمية المخزومي يقول له: إن مغنيتين تغنت إحداهما بثلب رسول الله، وتغنت الأخرى بثلب المسلمين، فقطع يديهما ونزع ثناياهما لتكفا عن الغناء. فخطأه أبو بكر؛ لأن الأولى كانت أحق بالقتل، وأن الثانية كانت أحق بالصفح ... وأوصاه أن يقبل الدعة وأن يحذر المثلة «فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.»
Page inconnue